اطلاق السهام على من كفر الأبوين الشريفين وادعى أنهما ماتا على غير ملة الإسلام
اطلاق السهام على من كفر الأبوين الشريفين وادعى أنهما ماتا
على غير ملة الإسلام
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد
الأولين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد
لقد ساءني مارأيت من أحد أفراخ الوهابية الدواعش الذي قال
عن الأبوين الشريفين أنهما ماتا على الكفر والعياذ بالله
فرأيت أن أجمع بعض الأدلة على عجالة سائلاً الله سبحانه وتعالى
القبول وأن يخلصنا منهم ويقطع دابرهم ويفرق جمعهم ويشتت شملهم إنه سميع قريب مجيب
الأدلة على نجاة أبوي المصطفى صلى الله عليه وسلم من الكتاب
والسنة
أ- القرآن - أدلة على نجاة أهل الفترة
أولاً: قوله تعالى:" ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الإسراء أية (15)
فالآية عامة وصريحة في أن الله تعالى لا يعذِّب أحداً حتى
يرسل الرسل قال الألوسي صاحب روح المعاني في تفسيره عند شرح هذه الآية:"
وما صح وما استقام بل استحال في السنة الإلهية المبنية على
الحكم البالغة أو في قضائنا السابق أن نعذب أحداً بنوع من أنواع التعذيب دنيويا أو
أُخروياً
على فعل شيء أو ترك شيء أصلياً كان أو فرعياً حتى نبعث إليه
رسولاًً يهدي إلى الحق ويبين الشريعة " أ هـ، مع وجوب العلم انه يجوز عقلاً على
الله تعالى
أن يعذب من يشاء من عبيده بذنب أو بغير ذنب مصداقاً لقوله
تعالى :" لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وهُم يُسئَلُونَ " سورة الأنبياء آية
(23)
إلا أنه سبحانه وتعالى
ببالغ حكمته وكمال عدله وبمحض فضله قد منَّ علينا بإبطال هذا الحكم العقلي بحكمٍ شرعي
" ويسمى بالمستحيل العَرَضي "
أى لا يعذب أحد إلا بعد إرسال الرسل.
ثانياً: قوله تعالى:" ولَولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ
بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ ونَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ " سورة القصص آية (47)
أي أن الحامل على
إرسال الرسل تعللهم بهذا القول واحتجاجهم به.
ثالثاً:" ومَا كَانَ رَبُكُّ مُهلِكَ القُرَى حَتَّى
يَبعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُواْ عَلَيهِم ءَايَاتِنَا " سورة القصص آية
(59) قال ابن جُزَيْ في تفسيره " التسهيل لعلوم التنزيل "
أُمُّ القرى مكة لأنها أوَّل ما خلق الله من الأرض ولأنَّ
فيها بيت الله، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى بأن بعث سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم
في أمِّ القرى فإن
كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم.
رابعاً:" قوله تعالى:" ولَو أَنَّا أَهلَكَنهُم
بِعَذَابٍ مِّن قَبلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
ءَايَتِكَ مِن قَبلِ أَن نَّذِلَّ ونَخزَى " سورة طه آية (134).
خامساً: قوله تعالى:" ومَا أَهلَكنَا مِن قَريَةٍ إِلا
لَهَا مُنذِرُونَ، ذِكرَى ومَا كُنَّا ظَالِمِينَ " سورة الشعراء آية (208،209).
سادساً: قوله تعالى:" وهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخرِجنَا نَعمل صَالِحاً غَيرَ الَّذِى كُنَّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ
" سورة فاطر آية (37).
سابعاً: قوله تعالى:" أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ بَل
هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوماً مَّا أَتَهُم مِّن نَّذِيرٍ مّن قَبلِكَ
لَعَلَّهُم يَهتَدُونَ " سورة السجدة آية(3)
ثامناً: قوله تعالى:" وهَذَا كِتَابَ أَنزلنَاهُ مُبَارَكٌ
فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُواْ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ، أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزلَ الكِتَابُ
عَلَى طَائِفَتَينِ مِن قَبلِنَا وإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِم لَغَافِلينَ، أَو تَقُولُواْ
لَو أَنَّا أُنزلَ عَلَينَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهدَى مِنهُم فَقَد جَاءَكُم بَيِّنَةٌ
مِّن رَّبِّكُم وهُدًى ورَحمةٌ " سورة الأنعام آية (155،156،157) والآيات في هذا
الباب كثيرة جداً لمن أراد أن يتبصر فعليه بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه.
ب - الأدلة على طهارة نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم
1 - قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 127 - 128].
2 - وحكى الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام قوله {رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129].
3 - وحكى الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام أيضًا:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}
[إبراهيم: 35].
4 - وحكى الله تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام: {اجْعَلْنِي
مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].
يدل قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ} [البقرة: 128]
قال السيوطي في «الحاوي»: ((كل ما ذكر عن ذرية إبراهيم عليه
السلام فإن أولى الناس به سِلْسِلَة الأجداد الشريفة الذين خُصُّوا بالاصطفاء وانتقل
إليهم نور النبوة واحدًا بعد واد فهم أولى بأن يكونوا هم البعض المشار إليه في قوله:
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، ولما وضح
أن المخصوص بالدعاء هم آباؤه وأجداده - صلى الله عليه وسلم - دون عموم الذرية .. قال
سُفْيَان بن عُيَيْنَةَ لما سُئِلَ: هل عَبَدَ أحدٌ من ولد إسماعيل الأصنام؟ قال: لا
ألم تسمع قوله تعالى {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:
35]. كما رواه ابن أبي حاتم.
وكذلك أخرج ابن جرير في تفسيره عن مجاهد أنه قال: ((استجاب
الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحدا من ولده صنمًا بعد دعوته))
روى عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28]. قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، والتوحيد لا
يزال في ذريته من يقولها بده.
ونقل عبد الرزاق في «تفسيره» عن ابن معين عن قتادة في الآية
قال: ((الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده)).
وأخرج ابن المنذر، قال ابن جريج: ((الآية في عقب إبراهيم
لم يزل في ذريته من يوحد الله ويعبده بقوله: لا إله إلاّ الله)).
قال ابن المنذر وقول آخر: ((فلم يزل ناس من ذريته على الفطرة
يعبدون الله حتى تقوم السّاعة))
ب - السنة
أدلة على طهارة النسب الشريف
أولاً: ما أخرجه مسلم في كتاب المناقب ما نصه: حدَّثنا محمد
بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم جميعاً عن الوليد قال ابن مهران حدثنا
الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار شدَّاد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنَّ الله عزَّ وجلَّ اصطفى كِنانة من ولد
اسماعيل واصطفى قريشاً من كِنانة واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
" ووجه الدليل من الحديث أن الإصطفاء يشعر بالنجاة والقرأن يشهد لذلك الإصطفاء
بآياتٍ كثيرة إذ أنَّ الله لا يصطفي المشركين الأنجاس، إنما يصطفي الموحدين الطاهرين
فعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إصطفاه الله.
ثانياً: روى أبو نعيم في دلائل النبوة:" أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:" لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة
مصفَّى مهذَّبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما " فوصف رسول الله صلى الله
عليه وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك قال تعالى يصف
المشركين:" إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسُ " سورة التوبة آية(28).
ثالثاً: أخرج البخاري في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم
من كتاب المناقب حدثنا قتيبة بن سعد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو عن سعيد المقبري
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" بعثت من خير
قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " ووجه الدليل من الحديث
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القرون التي سبقته وقرنه الذي بعث فيه بالخيرية
والمراد بالقرون أهله الذين عاشوا قبله ومعه وهم أصوله وذلك بصريح الحديث.
قال الحافظ زين الدين العراقي في مورده الهني ومولده السني:
حفظ الإله كرامةً لمحمدٍ ءاباءهُ الأمجادُ صوناً لاسمهِ
تركوا السفاح فلم يصيبهم عارهُ من ادمٍ وإلى أبيهِ وأمهِ
رابعاً: ما ذكره القسطلاني في كتابه المواهب اللدنية قال:
"روى الزهري عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت:" شهدت آمنة أمَّ النَّبي صلى
الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها ومحمد صلى الله عليه وسلم يفع له خمس سنين عند
رأسها فنظرت إلى وجهه وقالت أبيات شعر ثم قالت كل حيٍّ ميِّت وكل جديد بال وكل كثير
يفنى وأنا ميِّتة وذكري باقٍ وقد تركت خيراًَ وولدت طهراً ثم ماتت فكنَّا نسمع نوح
الجنِّ عليها، أخرج الإمام أحمد وصححة الحاكم من حديث العرباض ابن سارية السلمى قال
" ورؤيا أمى التى رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين
يرين " بمعنى أى يلهمن.
أفمن كان آخر كلامه هذه الحكم الدالة على سلامة فطرته ومن
يبشر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كانت الجن تنوح عليه أسفاً على فراقه
يُقال فيه أنَّه من أصحاب النَّار.
فصل
روى البيهقي في كتابه دلائل النبوة بسنده المتصل إلى الإمام
الشافعي أنه قال: ما من معجزةٍ كانت لنبيٍ من الأنبياء إلا وكان لنبينا مثلها.
قال القرطبي في التذكرة: إنَّ فضائله صلى الله عليه وسلم
وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته فلا يمتنع أن يكون إحياءُ والديه ممَّا
فضَّله به وأكرمه قال: وليس إحياؤهما وإماتتهما ممتنعا عقلاً وشرعاً فقد ورد في الكتاب
العزيز إحياءُ قتيل بني اسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى
وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيى الله على يديه جماعة من الموتى مثل ما روي عن
الحسن بن عليَّ رضي الله عنهما قال: اتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح
بنَّية له في وادي كذا فانطلق معه الى الوادي وناداها باسمها: " يا فلانة، أجيبي
بإذن الله " فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك: فقال لها:" إنَّ أبويك قد أسلما،
فإن أحببت أن أردك عليهما ؟ قالت: لا حاجة لي فيهما وجدت الله خيرا منهما. وروي عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر شاةً مصلية
سمَّمتها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم فقال:" ارفعوا أيديكم
فإنها أخبرتني أنها مسمومة " وروى هذا الحديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما
وفيه:" أخبرتني هذه الذراع " رواه أبو داود فمِمَّا أكرم به الله رسوله صلى
الله عليه وسلم أن وهب على يده الحياة والإدراك حتى للجمادات الخالية من مقومات الحياة،
انتهى كلام القرطبي
قلت: وروى مسلم في كتابه الفضائل عن جابر بن سمرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لأعرف حجراً كان يسلم علي قبل أن أبعث إني
لأعرفه الآن " وكذلك كلام الشجر رواه الدارمي وحديث الذئب رواه أحمد وحديث العذق
رواه أحمد أيضا والترمذي وكلام الجمل رواه أبو نعيم في الدلائل وحنين الجزع رواه البخاري
وشهادة الضب رواه أبو نعيم أيضا في الدلائل وشهادة زيد بن خارجة الأنصاري بعد ما مات
لنبينا صلى الله عليه وسلم بالرسالة رواه البيهقى وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة
أخرجه أبو داود في الدِّيِّات وغير ذلك كثير مما يصعب تتبعه في هذه العجالة مع التنبيه
أن كلام الموتى معهود ومعروف أما كلام الشجر والحجر والجمل وغير ذلك فإنه لعمري غير
معهودٍ ومألوف ولله در البوصيري حيث يقول:
إن كان موسى سقى الأسباط من حجر
فإن في الكف معنىً ليس في الحجر
إن كان عيسى برا الأعمى بدعوته
فكم براحته قد ردَّ من بصر
قال الإمام فخر الدين الرازي: إن جميع آباء محمد صلى الله
عليه وسلم كانوا مسلمين ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" لم أزل أنقل
من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " رواه أبو نعيم في الدلائل وقد قال تعالى:"
إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ" سورة التوبة أية (28) فوجب أن لا يكون أحد من أجداده
مشركاً فكيف بأبائه انتهى كلام الرازي، وقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي
حيث قال:
حبا الله النبي مزيد فضلٍ على فضلٍ وكان به رؤوفا
فأحيا أمَّه وكذا أباه لإيمانٍ به فضلاً لطيفا
فسلم فالقديم بذا قديرٌ وإن كان الحديث به ضعيفا
قال القاضي ابن العربي المالكي: ((ولا أذى أعظم له - صلى
الله عليه وسلم - من أن يقال أن أبويه في النار)). والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}
[الأحزاب: 57]
ب - طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث
1 - روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بُعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا حتّى كنت في
القرن الّذي كنت فيه)).
2 - وأخرج مسلم والترمذي وصححه عن واثلة بن الأسقع رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل،
واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كِنَانَةَ قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم،
واصطفاني من بني هاشم)).
قال ابن تيمية: قضية الخبر أن إسماعيل وذرّيته صفوة ولد إبراهيم.
3 - وفي «ذخائر العقبى» للمحب الطّبري من حديث واثلة بلفظه:
((إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واتّخذه خليلاً، واصطفى من إبراهيم إسماعيل، واصطفى
من مُضَرَ كِنَانَةَ وقريشًا، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطّلب، ثم اصطفاني من
بني عبد المطّلب)).
4 - روى التّرمذي وحسّنه عن العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله خَلَقَ الخلقَ فجعلني
في خير فرقهم، ثم تخيَّر القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم تخيَّر البيوت فجعلني في
خير بيوتهم، فأنا خيرُهم نفسًا وخيرهم بيتًا)).
5 - أخرج البيهقي في «دلائل النّبوّة» عن أنس رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب
بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهرْ بن مالك
بن النّضر بن كنانة بن خُزيمَة بن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وما افترق النّاس فرقتين إلاَّ جعلني الله في خيرهما فأخرجت
من بين أبوي فلم يصبني شيء من عُهر الجاهليّة، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن
آدم حتّى انتهيت إلى أبي وأمّي فأنا خيركم نسبًا وخيركم أبًا)).
6 - وأخرج أبو نعيم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((لم يلتقِ أبواي قطُّ على سفاح، ولم يزل الله ينقلني من الأصلاب
الطيّبة إلى الأرحام الطّاهرة مصفًّى مهذّبًا لا تتشعّب شعبتان إلاَّ كنت في خيرهما)).
7 - وروى الطبراني عن ابن عمر أنّه - صلى الله عليه وسلم
- قال: ((إنَّ الله تعالى اختار خلقه، واختار منهم بني آدم، ثم اختار منهم العرب، فاختار
منهم قريشًا، فاختار منهم بني هاشم، ثم اختار بن هاشم، فاختارني، فلم أزل خيارًا من
خيار. ألا من أحب العرب فبحبي أحبّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم)).
8 - وروى الطبراني وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل عليه السّلام، قال: ((قلبت مشارق الأرض ومغاربها
فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم)).
قال ابن حجر: ((لوائح الصّحة ظاهرة على صفحات هذا المتن)).
يريد - والله أعلم - أن الأحاديث الكثيرة تؤيّده في أفضليّته
- صلى الله عليه وسلم -، وفي أفضليّة بني هاشم على سائر القبائل.
9 - وأخرج ابن مردويه: ((قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: {لقد جاءكم .. أنفسكم}] التوبة: 128 [. ثم قال: أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا وحسبًا
ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلّنا نكاح)).
10 - وقال السيوطي: أورد المحب الطّبري في «ذخائر العقبى»
والبزّار في «مسنده» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل ناس من قريش على صفية بنت
عبد المطلب فجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت صفية بنت عبد المطّلب: منا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا: تنبت النخلة أو الشجرة في الأرض الكساد فذكرت
ذلك صفيَّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضب فقام على المنبر، فقال: ((يا أيها
الناس: من أنا؟)) قالوا: أنت رسول الله. قال: ((أنسبوني)) قالوا: محمد بن عبد الله
بن عبد المطلب. قال: ((فما بال أقوام ينزلون أَصْلِي، فوالله إني لأفضلهم أصلاً وخيرهم
موضعًا)).
11 - وأخرج الحاكم عن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه قال:
بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن أقوامًا نالوا منه، فقالوا: إنما مثل محمد كمثل
نخلة نبتت من كناس، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إنَّ الله خلق خلقه
فجعلهم فرقتين: فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلاً، ثم
جعلهم بيوتًا فجعلني من خيرهم بيتًا، ثم قال: أنا خيركم قبيلاً وخيركم بيتًا)).
12 - وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج قال: ((ليس
آزر أبا إبراهيم، وإنّما هو إبراهيم بن تيرخ، أو تاريخ بن شاروخ بن فاخور بن فالخ.
قال: والعرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقًا شائعًا كما قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ}] البقرة: 133 [.
13 - وأخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عبّاس رضي الله
عنهما قال: ((إنّ أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنّما اسمه تارخ)).
14 - وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر بأسانيد من طرق بعضها
صحيح عن مجاهد قال: ((ليس آزر أبا إبراهيم)).
قال السّيوطي: (اعلم أنّ الأحاديث يصرح أكثرها لفظًا وكلها
معنًى أن آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهاته آدم وحواء مطهّرون من دنس الشِّرك
والكفر، ليس فيهم كافر؛ لأنه لا يقال في حق الكافر أنّه مختار ولا طاهر ولا مصفًى،
بل يقال نجس. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}] التوبة: 28 [. فوجب أن
لا يكون في أجداده مشرك، فما زال منقولاً من الأصلاب الطّاهرة إلى الأرحام الطّاهرة،
وما زال ينتقل نوره من ساجد إلى ساجد كم قال تعالى {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}] الشعراء: 218 - 219 [، فالآية تدلُّ على أنّ جميع
آبائه - صلى الله عليه وسلم - كانوا مسلمين وحينئذ وجب القطع بأن والد إبراهيم ما كان
من الكافرين وإنّما كان ذلك عمّه). اهـ.
قال ابن حجر المكّي: الأحاديث مصرّحة لفظًا ومعنى أنَّ آباءه
وأمّهاته - صلى الله عليه وسلم - إلى آدم مختارون كرام، وأن أمهاته طاهرات، والكافر
لا يقال في حقه مختار ولا كريم ولا طاهر بل نجس.
ج - إيمان أجداده - صلى الله عليه وسلم -
دلَّت الآثار السّابقة على أن كل أصل من أصوله - صلى الله
عليه وسلم - من آدم عليه السّلام إلى أبيه عبد الله هو من خير قرنه وأفضله أو خيره
وأفضله.
كما وردت آثار كثيرة أن الأرض من عهد آدم إلى بعثة النبي
- صلى الله عليه وسلم - وإلى قيام السّاعة لا تخلو من ناس على الفطرة يعبدون الله ويوحّدونه،
وبهم تحفظ الأرض، ولولاهم لهلكت ومَنْ عليها، فهذه وتلك تدل على أنَّ أصول الرسول
- صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيهم مشرك وإلاَّ لما صحَّ أن يكون كل أصل منهم من خير
أهل قرنه أو خيرهم إذ المشرك لا يكون خيرًا من المسلم بأي حال من الأحوال.
والآثار الدّالة على أنّ الأرض لم تخلُ من مسلم في كل القرون
كثيرة:
1 - منها: ما رواه عبد الرزّاق في «مصنّفه» بإسناده على شرط
الشيخين عن ابن جريج قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: ((لم يزل على وجه الدّهر
في الأرض سبعة مسلمون فصاعدًا فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها)).
ومثل هذا لا يقال بالرّأي فله حكم المرفوع.
2 - ومنها: ما رواه الإمام أحمد في «الزّهد» والخلاَّل من
«كرامات الأولياء» بسند صحيح على شرط الشّيخين عن ابن عبّاس قال: ((ما خلت الأرض من
بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض)) وله حكم الرّفع أيضًا.
وقوله: ((من بعد نوح)) لأنه من قبله كان الناس كلّهم على
الهدى
3 - ومنها: ما رواه البزّار في «مسنده» وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم في «تفاسيرهم» والحاكم في «المستدرك» وصححه عن ابن عباس في قوله تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}] البقرة: 213 [. قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون
كلّهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيّين.
وفي «الحاوي» للسّيوطي قال ابن أبي حاتم في «تفسيره»: ((بين
النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين آدم تسعة وأربعون أبًا)).
4 - وفي «الحاوي» أيضًا: ((إن سام بن نوح مؤمن بالإجماع))
لأنّه كان مع أبيه في السّفينة ولم ينج فيها إلاَّ مؤمن، قال تعالى {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ
هُمُ الْبَاقِينَ}] الصّافّات: 77 [.
ثم ساق السيوطي آثارًا يُعلَم من مجموعها أنَّ أجداد الرّسول
- صلى الله عليه وسلم - من آدم إلى زمن نمروذ كانوا مؤمنين بيقين، قال: ثم استمر التّوحيد
في ولد إبراهيم وإسماعيل.
قال الشهرستاني في «الملل والنّحل»: (كان دين إبراهيم قائمًا،
والتّوحيد في صدر العرب شائعًا، وأوّل من غيره واتّخذ عبادة الأصنام عمرو بن لحي).
وقال ابن كثير في «تاريخه»: (كانت العرب على دين إبراهيم
إلى أن وليَ عمرو بن عامر الخزاعي مكة فأحدث عبادة الأصنام، وشرع للعرب الضلالات من
السّوائب وغيرها وزاد في التّلبية).
وقال السّهيلي في «الروض الأنف»: (كانت العرب قد جعلت عمرو
بن لُحي مُطاعًا لا يبتدع لهم بدعة إلاَّ اتخذوه شرعة لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم
في الموسم). اهـ.
فهو أوَّل من غَيَّر دين إبراهيم ونَصَبَ الأوثان وبَحر البحيرة،
وسيَّب السّائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وأوّل من أدخل في التلبية: ((لبيك لا
شريك لك إلاَّ شريكًا هو لك تملكه وما ملك))، وتبعته العرب ومع ذلك بقيت بقايا من دين
إبراهيم وظلت خزاعة على الحرم إلى أن انتزع منهم قصي ولاية البيت.
قال السّيوطي: وهذا يثبت أنَّ آباء النبي - صلى الله عليه
وسلم - من عهد إبراهيم إلى زمان عمرو المذكور كلّهم مؤمنون حيث لم يدخل التّبديل والتّغيير
في شريعة إبراهيم إلاَّ في زمن عمرو بن لحي الخزاعي.
ثم أخرج السّيوطي روايات عن ابن عبّاس والطبري وابن سعد في
«طبقاته»، والسّهيلي في «الروض الأُنف» ووكيع في كتاب «الغرر من الأخبار» يدل مجموعها
على بقاء كل من عدنان ومعه مضر وإلياس وكعب بن لؤي وولده مُرَّة، وغيرهم من العرب كربيعة
وخزيمة وأسد وتميمًا وضبة وقسًا، على الإيمان.
ونقل عن الماوردي في «دلائل النّبوّة» وأبي نعيم في «دلائل
النّبوّة» أنّ كعب بن لؤي كان يخطب قريشًا يوم العَروبة، وهو يوم الجمعة، فيذكّرهم
بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعلمهم أنّه من ولده، ويأمرهم باتّباعه والإيمان
به.
ويبقى بعد مُرَّةَ من آبائه - صلى الله عليه وسلم -: كلاب،
وقُصَيّ، وعبد مناف، وهاشم وعبد المطّلب، وعبد الله والده - صلى الله عليه وسلم -،
وما ذكرناه من دعوات إبراهيم عليه السلام لذريّته من إسماعيل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * ... رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي}] إبراهيم: 35، 40 [، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}]
الزّخرف: 28 [.
يدل على أنَّ من ذريّته من بقي على الإيمان وأولادهم به سلسلة
الأجداد والآباء الشريفة الذين خُصُّوا بالاصطفاء، وانتقل إليهم نور النّبوّة واحدًا
بعد واحد، فهم أولى بأن يكونوا هم البعض المشار إليهم في دعاء إبراهيم عليه السلام
في الآيات السّابقة.
وقد دل ما سبق من دلائل على إيمانهم وحسبك ما رأوا من دلائل
نبوّته التي نقلت عنهم.
قال أبو الحسن الماوردي في كتابه «أعلام النبوّة»: ((إن الله
استخلصَ رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم - من أطيب المناكح، وحماه من دَنَس الفواحش،
ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزّهة، وقد قال ابنُ عبّاس في تأويل قوله تعالى:
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}] الشعراء: 219 [: أي تقلّبك من أصلاب طاهرة من أب
بعد أب إلى أن جعلك نبيًّا. فكان نور النبوّة ظاهرًا في آبائه، ثم لم يشركه في ولادته
من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصًّا بنسبٍ
جعله الله للنبوة غاية، ولتفرده نهاية فيزول عنه أن يشارك فيه، ويماثل فيه، فلذلك مات
عنه أبواه في صغره، فأمّا أبوه فمات وهو حمل، وأما أمّه فماتت وهو ابن ست سنين، وإذا
خَبِرتَ حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام، ليس في آبائه مسترذل
ولا مغمور مستبدل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النّسب وطهارة المولد من شروط النبوّة))
اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم يومًا محالك
وانصر على آل الصّليب وعابدين اليوم آلك
قال السّيوطي: وينضمُّ إلى هذا أنَّ النّبي - صلى الله عليه
وسلم - قد انتسب إليه يوم حنين، فقال:
((أنا النّبي لا كذب ... أنا ابن عبدالمطّلب))
وهذا من أقوى ما يقوى به القول أنّه كان على دين إبراهيم،
لأنَّ الفخر بالانتساب إلى الآباء الكفّار منهيٌّ عنه، فروى البيهقي عن ابن عبّاس أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية،
فو الذي نفسي بيده لما يدحرج الجعل بأنفه خيرٌ من آبائكم الذين ماتوا في الجاهليّة)).
وروى البيهقي أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّ الله أذهب عنكم عَبيَّة الجاهليّة وفخرها بالآباء،
لينتهينَّ أقوام يفتخرون برجال، إنّما هم فحم من فحم جهنّم، أو ليكونن أهون على الله
من الجُعْلان التي ترفع النّتن بأنفها)).
وأورد البيهقي في «شعب الإيمان» حديث مسلم: ((أنَّ في أمتي
أربعًا من أمر الجاهليّة ليسوا بتاركين: الفخر في الأحساب .. )). الحديث.
وإشارته - صلى الله عليه وسلم - إلى اصطفاء آبائه ليس من
باب الفخر، وإنّما هو من باب التحدّث بنعمة الله عليه.
وفي حديث البزّار الذي أوردناه فيما سبق من قوله - صلى الله
عليه وسلم -: ((ما بال أقوام ينزلون أصلي فوالله لأفضلهم أصلاً وخيرهم موضعًا))، وأحاديث:
((ما افترق فرقتين إلاَّ وجعلني الله في خيرها)) أتم الدلالة على سلامة أصوله من الشّرك.
د - إيمان أمّهاته - صلى الله عليه وسلم -
وبعد ذكر أجداده وسلامتهم من الشرك نأتي على ذكر سلسلة أمّهاته
وسلامتهن من الشّرك وطهارتهن من السّفاح.
قال السّيوطي في «الحاوي»: استقرأت أمّهات الأنبياء عليهم
السلام فوجدتهن مؤمنات، فأمُّ إسحاق، وموسى، وهارون، وعيسى، وحواء أم شيث، مذكورات
في القرآن، بل قيل بنبوّتهن.
ووردت الأحاديث بإيمان هاجر أم إسماعيل، وأم يعقوب، وأمّهات
أولاده، وأم داود، وسليمان، وزكريّا، ويحيى، وشمويل، وشمعون، وذي الكفل.
ونص بعض المفسّرين على إيمان أم نوح، وأم إبراهيم، ورجّحه
أبو حيّان في «تفسيره».
وقد تقدّم عن ابن عبّاس أنّه لم يكن بين نوح وآدم والد كافر
ولهذا قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}]
نوح: 28 [. وقال إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}] إبراهيم: 41 [. ولم يعتذر من استغفار إبراهيم في القرآن
إلاَّ لأبيه خاصّةً دون أمّه تدل على أنّها كانت مؤمنة، وقد دلّت الأخبار السّابقة
على أنّ آزر الّذي استغفر له لم يكن إلاَّ عمّه.
وأخرج الحاكم في «المستدرك» وصححه عن ابن عبّاس قال: ((كانت
الأنبياء من بني إسرائيل إلاَّ عشرة: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وإبراهيم، وإسماعيل،
وإسحاق، ويعقوب، ومحمد -عليهم السّلام-)).
وبنوا إسرائيل كلّهم كانوا مؤمنين لم يكن فيهم كافرًا إلى
أن بعث عيسى فكفر به من كفر، فأمّهات الأنبياء الذين من بني إسرائيل كلّهن مؤمنات.
وأيضًا فغالب أنبياء بني إسرائيل كانوا أولاد أنبياء أو أولاد
أولادهم، فإنَّ النبوّة كانت تكون في سبط منهم يتناسلون كما هو معروف في أخبارهم.
وأمّا العشرة المذكورون من غير بني إسرائيل، فقد ثبت إيمان
أم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وبقي أم هود، وصالح، ولوط، وشعيب، فالظّاهر
- إن شاء الله - إيمانهن - أي أسوة بالآخرين -.
فكذلك أم النّبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنَّ السّر في
ذلك ما يرينه من النّور، كما ورد في حديث أحمد والبزّار والطبراني والحاكم والبيهقي
عن العرباض بن سارية أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّي عبد الله وخاتم
النبيّين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى
ورؤيا أمّي التي رأت)). وكذلك أمّهات النبيّين يرين.
وإنّ أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأت حين وضعته
نورًا أضاءت له قصور الشّام، ولا شك أنَّ الذي رأته أم النبي - صلى الله عليه وسلم
- في حال حملها وولادتها له من الآيات أكثر وأعظم مما رآه سائر أمّهات الأنبياء كما
سبق في كتب السّيرة.
وقال السّيوطي أيضًا: أخرج أبو نعيم في «دلائل النبوّة» بسند
ضعيف من طريق الزّهري عن أم سماعة بنت أبي رهم، عن أمّها قالت: شهدت آمنة أم رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في علّتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يقع له خمس سنين عند رأسها
فنظرت إلى وجهه، ثم قالت:
باركَ فيك اللهُ من غلام ... يا ابنَ الذي من حومه الحمام
نجا بعونِ الملكِ المنعام ... فودي غداة الضرب بالسّهام
بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت في المنام
فأنت مبعوث إلى الأنام ... من عند ذي الجلال والإكرام
تبعث في الحِلِّ وفي الحرام ... تبعث بالتّحقيق والإسلام
دين أبيك إبراهام ... فالله نهاك عن الأصنام
أن لا نواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة
وذكري باق، وقد تركت خيرًا وولدت ظهرًا.
قال السّيوطي: وما أحسن قول الحافظ شمس الدين بن ناصر الدّين
الدّمشقي:
تنقل أحمد نورًا عظيمًا ... تلألأ في جباه السّاجدينا
تقلَّب فيهم قرنًا فقرنًا ... إلى أن جاء خير المرسلينا
وقال أيضًا:
حفظَ الله كرامةً لمحمدًا ... آباءه الأمجادَ صونًا لاسمه
تركوا السّفاح فلم يصبهم عارةً ... من آدم حتّى أبيه وأمّه
وقال الشّرف البوصيري صاحب البردة:
لم تزل في ضمائر الغيب ... تختار لك الأمّهات والآباء
ما مضت فترةً من الرّسل إلاَّ ... بشَّرت قومها بك الأنبياء
تتباهى بك العصور وتسمو ... بك عليا، بعدها علياءُ
وبدا للوجود منك كريم ... من كريم آباؤه كرماء
نسب تحسب العلا بحلاه ... قلدتها نجومها الجوزاء
وقد ورد حديث آحاد في صحيح مسلم
أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي قال: في النار فلما قضى
دعاه فقال:" إن أبي وأباك في النار "
قال الإمام النووي في شرح المهذب متى خالف خبر الآحاد نص
القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره والقاعدة عند علماء أهل السنة والجماعة من الأشاعرة
والماتُريدية
بل وجميع العقلاء أن خبر الآحاد متى عارض الكتاب والسنة المتواترة
أو الإجماع المعتبر لفظا ومعنى مع عدم امكانية الجمع بحال سقط الاستدلال به،
وكذلك اتفقوا على العمل به في العمليات دون الاعتقاديات،
بمعنى أن مسائل العقائد مبنية على القطعيات التي تفيد العلم اليقيني والتي يكفر منكرها.
بخلاف الآحاد الذي
لا يفيد إلا الظن وبالتالي ما ينبني عليه من الاحكام لأن غالبه محل خلاف بين العلماء
إلا ما أجمعوا عليه فيرتفع فيه الخلاف لأجل الإجماع
وليس لذات الدليل
ومن أراد الزيادة فليرجع إلى رسائل للإمام الحافظ جلال الدين
السيوطي في نجاة والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنها أحسن ما كتب في هذا الباب
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والحمدلله رب العالمين . أهـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق