الغش وعدم الإتقان
الغش وعدم الإتقان
الدكتور : وهبة الزحيلي
المسلم ترجمان الوحي الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم والسنّة المشرفة، وهو الظل الوارف الذي يتفيَّأ الناس به، ويطمئنون لعمله ومعاملته، لانسجامه مع أصالة الفطرة، بل هو في نظر الناس رمز الحضارة الخالدة القائمة على ملازمة الروح والمادة، والإيمان بالله والآخرة، ورعاية متطلبات الجسد ونوازع النفس والأخلاق.
والمسلم في هذا التصور مؤتمن على شرع الله ودينه وهديه وأصوله، وهو في تقدير المجتمع الإنساني كالشمس المشرقة في رابعة النهار أو القمر في ليلة البدر، تشع منه كل معاني البر والخير والحكمة والفضل، والإحسان والعدل، والإتقان والعفة والقناعة، فلا يفرِّط في واجب، ولا ينغمس في منكر، ولا يسلك في انحراف ... يتمثل آداب الدين وأحكام الشرع الإلهي ليضيء للناس الحيارى ظلمات الطريق، يرشدهم بقوله وفعله إلى الحق، ويعاملهم بالعطف والرحمة فلا يظلمهم ولا يغشهم، ولا يتلبس بالحرام، ولا يستجيب لدافع الجشع والطمع البتة.
والمسلم الذي نتحدث عنه، لا يعمل في مجال ضيق، بل يشتغل في جميع مجالات الحياة ... ولكننا هنا نقتصر بحديثنا على المسلم التاجر الذي يطبق الصورة العملية لمبادئ الإسلام وأخلاقه، إنه يضع بين عينيه خوف الله، ويملأ قلبه بالحب للناس والترفع عن الدنايا، ويميّز بين الحلال والحرام ولا يطمع ما دام يؤمن بأن الرزق محدود ومقدر، لا يزيد ولا ينقص ... ويعلم أنه إن أحسن العمل بارك الله له في رزقه وصحته وعمره وأهله وذريته، وإن أساء عمله بإفساد أو غش حوسب حساباً دقيقاً في يوم لا ينفعه فيه مال ولا بنون.
وينبغي هنا أن نعلم أن الإسلام الذي هو شرع الله ودينه لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق خلافاً لبعض الأنظمة، وخصوصاً النظام الرأسمالي الذي يجعل الربح المادي هدف التاجر الأول، والمحرك الذي لا قيود فيه.
أما الإسلام فقد وضع قيوداً وضوابط دينية وأخلاقية في كل بيع أو معاملة مدنية وحِرفية، أو فنية حتى ترسّخَ في عقيدة المسلم الحق أنّ "الدين معاملة" وأن على كل تاجر رعاية تلك القيود وإحسان المعاملة، وإلا كان منغمساً في الحرام أو آكلاً له، أو راتعاً في الشبهات.
وأمام مغريات المال والميل للتفوق والتسلط كان لا بدّ لكل تاجر مؤمن من أن يجاهد نفسه، ملتزماً آداب الشرع وتقوى الله متزيناً بالعفة والقناعة، لا تسيطر عليه الأهواء وشهوات الدنيا فتنسيه آخرته وتبعده عن ربه ... وهذا هو المراد بالزهد وليس المراد بالزهد التخلي عن الدنيا لقول النبي r : « نعم المال الصالح للرجل الصالح ».
وبما أن المسلم مؤتمن على شرع الله فهو يعيش في مظلة الدين المنظِّم للحقوق والواجبات الذي تتلازم فيه أصالة العقيدة، ونقاء العبادة، وشرف الأخلاق، وحسن المعاملة التي هي الثمرة الطيبة والغاية الكريمة للعمل الصالح، ومقتضى الاستخلاف الإلهي في إدارة المال وتنميته بالطرق المشروعة المتميزة بالإيثار والسماحة والإحسان إلى الآخرين في المعاملة، والبعد عن الظلم والغش، ومجانبة الاحتكار والخيانة، والحرص على إتقان العمل للحصول على الكسب المعقول الذي يبارك الله فيه.
إن أنواع المكاسب المختلفة من زراعة وصناعة وتجارة وخبرات مهنية كالهندسة والطبابة والمحاماة والتعليم وسائر أنواع الوظائف قد حضَّ فيها الشرع على الإحسان في المعاملة، والإحسان إنما يكون باجتناب كل ظلم، وغبن وغش، ومنع حق، وحرم فيها حلف الأيمان الكاذبة، ومنع بيع المحرمات كالخمر والخنـزير، وأوعد بالعقوبة مَن تعامل بالربا والقمار أو غير ذلك من المكاسب المحرمة، كي يطيب المكسب ويبتعد عن السحت (المال الحرام).
وهنا لا بدّ من التنويه بأن الكسب الطيب يبارك الله تعالى فيه، ويحمي صاحبه هو وأهله من جميع الآفات والمصائب والأمراض هذا غير جزاء الله ومكافأته له في الآخرة؛ قال النبي r : «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء » [الترمذي والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن].
وقال أيضاً: « من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر » [رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة].
أما المكاسب الحرام فقد نهى عنها الإسلام، وهي وإن أدت إلى ثراء كان موقوتاً، وسرعان ما يتبدد ويزول؛ ومن قواعد شرعنا أنه "من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه".
ومن أخطر الطرق المحظورة في الإسلام اقتران المكاسب بالغش وهو ظاهرة تؤدي إلى تدمير السمعة، وتهز الثقة، وتسيء إلى الاقتصاد العام، وتخلّ بمبدأ سلامة المعاملات.
وغالباً ما تكون أهم دوافع الغش أو نوازعه تصريف البضاعة السيئة، أو التوصل لشهرة واسعة، أو تحقيق ربح عاجل وذلك ظلم بيّن لا تغفل عين الله عن فاعله، بل هو ضرر محقق للمسيء ذاته في صنعته أو تجارته أو معاملته الفنية، ينجم عنه ارتفاع البركة في الرزق، واضطراب النفس وإساءة السمعة واهتزاز التجارة وفقدان الزبائن والوقوع في الخسارة المحققة في نهاية الأمر، فضلاً عن الاعتداء على حقوق الآخرين سواء أكانوا إخوة في الدين أم في الإنسانية.
على المسلم ألا ينسى وهو يعمل في أي مهنةٍ، جليلة كانت أم حقيرة أنّ الله تعالى رقيب على أعماله وأقواله كلها، وأن الإسلام أمره بالعدل والأمانة، وحرّم عليه الظلم والخيانة، وأن الكون لا يصلح إطلاقاً من غير وجود ظاهرة الثواب للمحسن والعقاب للمسيء، وأن الجزاء من جنس العمل إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فمن واجب المسلم ملازمة النصيحة للآخرين والإخلاص في العمل والبعد عن الغش أياً كان نوعه، وتقديم النصيحة لكل أحد وإتقان كل عمل مادياً أم فيناً.
وأداء الأمانات في كل أمر فرض لازم، سواء أكان في العمل الخاص أم العمل العام. أم في رعاية المصالح ودرء المفاسد والضرر النفس والغير الضرار (مقابلة الضرر بالضرر).. وهو كله من أصول الشرائع الإلهية جميعها، ومن أوَّليات كل دين ومن مقتضيات الأخلاق والآداب، وضوابط الأنظمة وجميع المعاملات.
وتحريم الغش لا يتنافى مع حق الحرية؛ لأن كل حرية ذات ضوابط وقيود، وتقوم على احترام النظام العام والأعراف الحميدة والمصالح المتبادلة ... وكل حق يقابله واجب، ولا قيمة لحرية تقترن بالفوضى والفساد، والإخلال بالثقة ومس قانون العدل والإنصاف واقتراف الظلم.
ولقد أجمع العلماء على تحريم الغش، وذكروا أنه من كبائر الذنوب سواء أكان بالقول أم بالفعل أم بكتمان العيب بالبضاعة أو الثمن أم بالكذب، أم بالتقصير في أداء واجب المهنة، من طبابة وعلاج، وإجراء عملية جراحية، أو بيع دواء، وإقامة بناء ورسم خريطة.
ومن الغش أن يقدم المهندس خبرة ناقصة أو مشوهة، وأن يهمل المحامي مستلزمات الدفاع عن الموكل، أو يتواطأ مع خصومه، وأن يضلل الموظف من يلتمس منه النصح، أو أن يسيء توجيه المراجعين، أو أن يتلكأ في واجب من أجل رشوة، أو أن ينقص الحق، أو أن يزور الوثائق، أو أن يفرض الضرائب الظالمة.
إن الإتقان والإحسان سمة أهل الخير ... أما الخيانة والغش بجميع أنواعه فذلك سمة الفجار والجبارين والعصاة، ولذا أمر الله تعالى أن يأخذ عباده بالسمة الأولى فقال: ( إنَّ الله َ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ ) [النحل 16/90] وفي الأخبار : « إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » [رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها].
هذا والشواهد التي تحذر من الغش وتحث على الإتقان كثيرة، يشملها قول النبي r : « من غشَّ فليس منا » [رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي].
أي إن كل غاش لا يعد مهتدياً بهدي النبي r ، ولا مقتدياًً بعمله وحسن طريقته، وكأنه خارج عن الأمة، عدو لها.
ويترتب على الغش مسؤولية الغاش عن فعله في الدنيا والآخرة، وأهم هذه الأمثلة:
1- (الإخلال بما تقتضيه الخبرة المعتادة):كالخلل في تصميم المهندس، وتنفيذ المقاول، وتقصير الطبيب، وإهمال المحامي، وإساءة الموظف.
2- (خيانة الأمين): سواء بالتعمد أو التقصير أو الإهمال، كترك الوديع حفظ الوديعة وصونها بنفسه أو بمن يحفظ ماله عنده عادة، والتفريط بكيفية الحفظ، ومثله المستعير وإهمال الوكيل والشريك مصلحة الموكل والشريك الآخر.
3- (تدليس العيب):أي كتمان العيب الخفي في المبيع و العين المؤجرة عن العاقد الآخر.
4- (التغرير):بمعنى الإغراء بوسيلة قولية أو فعلية كاذبة لترغيب أحد العاقدين في العقد وحمله عليه. وهو نوعان:
التغرير في السعر أو الأجر، كالإخبار بعوض معين أكثر من الحقيقة، فإذا صحبه غبن فاحش جاز للمغبون طلب فسخ العقد في رأي بعض الفقهاء.
والتغرير في الوصف، وهو تزوير وصف في المعقود عليه يوهم المتعاقد بوجود مزية مصطنعة، كوضع البضاعة الجيدة في الأعلى والرديئة في الأسفل.
5- (الخلابة في العقد):وهي الخديعة بوسيلة موهمة قولية أو فعلية، تحمل المشتري على الرضا بالعقد، بما لم يكن ليرضى به لولاها.
6- (الغش مع الغبن الفاحش): بما لا يدخل تحت تقويم المقومين من أصحاب الخبرة كنصف العشر (5٪) في العروض التجارية، والعشر (10٪) في الحيوانات، والخمس أكثر في العقار من أرض أو بناء أو نحوهما.
7- (التناجش):أي الزيادة في الثمن من غير قصد الشراء، وإنما لتغرير الآخرين ليزيدوا في الأسعار ويرسو المزاد عليهم.
8- (غش المفقود أو تزوير العملة):وذلك لإضراره بمصلحة الاقتصاد، وإساءته للمجتمع والأفراد.
9- (غش المنتجات): الطبيعية كاللبن واللحم والسمك، والصناعية كالمعلبات والمنسوجات، وذلك بخلط الجيد بالرديء والجديد بالقديم أو الفاسد.
10- (الغش في الأخبار العامة أو الخاصة):كزيادة سعر السلعة عند بيعها للآخرين. وقد يقترن الخبر باليمين الكاذبة لتضليل المشتري واستيفاء ثمن زائد عن الواقع، مما يتنافى مع مبدأ الثقة، ويتصادم مع الصدق. قال النبي r : « كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً، هو لك مصدق وأنت له به كاذب » [أبو داود]. وإشاعة الأخبار الكاذبة والإشاعات في السلم أو الحرب من أخطر ألوان الغش، لما يترتب على ذلك من البلبلة العظيمة وقلب المعايير، وإضاعة الجهود، وإهدار المال والوقت، وتشويه المعلومات, ولذا ذمّ الله تعالى المنافقين المرددين للشائعات المغرضة أو المزيفة، فقال: ( لَّئِن لَّم يَنتَهِ المنافِقونَ والذينَ في قُلُوبِهِم مرضٌ والمُرجِفُونَ في المدينةِ لَنُغرِيَنَّكَ بهم ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فيها إلا قليلاً ). [الأحزاب 33/ 60].
وقال النبي r : « كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع » [البخاري ومسلم عن أبي هريرة t ].
ويحرم الغش في النصح أو المشاورة؛ لأنّ المفترض أن يبنى ذلك على الإخلاص والصدق ورعاية المصلحة ومنع الضرر والإضرار؛ قال النبي r : « المستشار مؤتمن » [الترمذي عن أبي هريرةt . قال: حديث حسن صحيح غريب].
وهكذا فقد حرَّم الإسلام الغشَّ, ونبّه على تحريم صوره المنوعة في كل الميادين تأكيداً على خطورة صور الغش على مسيرة تقدم الأمة, ونهضتها, ولخطورة ضرره الخاص والعام
من مضار الغش:
1- الغش طريق موصل إلى النار.
2- دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفسٍ هانت عليه فأوردها مورد الهلاك والعطب.
3- البعد عن الله وعن الناس.
4- أنه طريق لحرمان إجابة الدعاء.
5- أنه طريق لحرمان البركة في المال والعمر.
6- أنه دليل على نقص الإيمان.
7- أنه سبب في تسلط الظلمة والكفار، قال لابن حجر الهيثمي: "ولهذه القبائح- أي الغش- التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والبضائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم ، بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً.
الدكتور : وهبة الزحيلي
المسلم ترجمان الوحي الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم والسنّة المشرفة، وهو الظل الوارف الذي يتفيَّأ الناس به، ويطمئنون لعمله ومعاملته، لانسجامه مع أصالة الفطرة، بل هو في نظر الناس رمز الحضارة الخالدة القائمة على ملازمة الروح والمادة، والإيمان بالله والآخرة، ورعاية متطلبات الجسد ونوازع النفس والأخلاق.
والمسلم في هذا التصور مؤتمن على شرع الله ودينه وهديه وأصوله، وهو في تقدير المجتمع الإنساني كالشمس المشرقة في رابعة النهار أو القمر في ليلة البدر، تشع منه كل معاني البر والخير والحكمة والفضل، والإحسان والعدل، والإتقان والعفة والقناعة، فلا يفرِّط في واجب، ولا ينغمس في منكر، ولا يسلك في انحراف ... يتمثل آداب الدين وأحكام الشرع الإلهي ليضيء للناس الحيارى ظلمات الطريق، يرشدهم بقوله وفعله إلى الحق، ويعاملهم بالعطف والرحمة فلا يظلمهم ولا يغشهم، ولا يتلبس بالحرام، ولا يستجيب لدافع الجشع والطمع البتة.
والمسلم الذي نتحدث عنه، لا يعمل في مجال ضيق، بل يشتغل في جميع مجالات الحياة ... ولكننا هنا نقتصر بحديثنا على المسلم التاجر الذي يطبق الصورة العملية لمبادئ الإسلام وأخلاقه، إنه يضع بين عينيه خوف الله، ويملأ قلبه بالحب للناس والترفع عن الدنايا، ويميّز بين الحلال والحرام ولا يطمع ما دام يؤمن بأن الرزق محدود ومقدر، لا يزيد ولا ينقص ... ويعلم أنه إن أحسن العمل بارك الله له في رزقه وصحته وعمره وأهله وذريته، وإن أساء عمله بإفساد أو غش حوسب حساباً دقيقاً في يوم لا ينفعه فيه مال ولا بنون.
وينبغي هنا أن نعلم أن الإسلام الذي هو شرع الله ودينه لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق خلافاً لبعض الأنظمة، وخصوصاً النظام الرأسمالي الذي يجعل الربح المادي هدف التاجر الأول، والمحرك الذي لا قيود فيه.
أما الإسلام فقد وضع قيوداً وضوابط دينية وأخلاقية في كل بيع أو معاملة مدنية وحِرفية، أو فنية حتى ترسّخَ في عقيدة المسلم الحق أنّ "الدين معاملة" وأن على كل تاجر رعاية تلك القيود وإحسان المعاملة، وإلا كان منغمساً في الحرام أو آكلاً له، أو راتعاً في الشبهات.
وأمام مغريات المال والميل للتفوق والتسلط كان لا بدّ لكل تاجر مؤمن من أن يجاهد نفسه، ملتزماً آداب الشرع وتقوى الله متزيناً بالعفة والقناعة، لا تسيطر عليه الأهواء وشهوات الدنيا فتنسيه آخرته وتبعده عن ربه ... وهذا هو المراد بالزهد وليس المراد بالزهد التخلي عن الدنيا لقول النبي r : « نعم المال الصالح للرجل الصالح ».
وبما أن المسلم مؤتمن على شرع الله فهو يعيش في مظلة الدين المنظِّم للحقوق والواجبات الذي تتلازم فيه أصالة العقيدة، ونقاء العبادة، وشرف الأخلاق، وحسن المعاملة التي هي الثمرة الطيبة والغاية الكريمة للعمل الصالح، ومقتضى الاستخلاف الإلهي في إدارة المال وتنميته بالطرق المشروعة المتميزة بالإيثار والسماحة والإحسان إلى الآخرين في المعاملة، والبعد عن الظلم والغش، ومجانبة الاحتكار والخيانة، والحرص على إتقان العمل للحصول على الكسب المعقول الذي يبارك الله فيه.
إن أنواع المكاسب المختلفة من زراعة وصناعة وتجارة وخبرات مهنية كالهندسة والطبابة والمحاماة والتعليم وسائر أنواع الوظائف قد حضَّ فيها الشرع على الإحسان في المعاملة، والإحسان إنما يكون باجتناب كل ظلم، وغبن وغش، ومنع حق، وحرم فيها حلف الأيمان الكاذبة، ومنع بيع المحرمات كالخمر والخنـزير، وأوعد بالعقوبة مَن تعامل بالربا والقمار أو غير ذلك من المكاسب المحرمة، كي يطيب المكسب ويبتعد عن السحت (المال الحرام).
وهنا لا بدّ من التنويه بأن الكسب الطيب يبارك الله تعالى فيه، ويحمي صاحبه هو وأهله من جميع الآفات والمصائب والأمراض هذا غير جزاء الله ومكافأته له في الآخرة؛ قال النبي r : «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء » [الترمذي والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن].
وقال أيضاً: « من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر » [رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة].
أما المكاسب الحرام فقد نهى عنها الإسلام، وهي وإن أدت إلى ثراء كان موقوتاً، وسرعان ما يتبدد ويزول؛ ومن قواعد شرعنا أنه "من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه".
ومن أخطر الطرق المحظورة في الإسلام اقتران المكاسب بالغش وهو ظاهرة تؤدي إلى تدمير السمعة، وتهز الثقة، وتسيء إلى الاقتصاد العام، وتخلّ بمبدأ سلامة المعاملات.
وغالباً ما تكون أهم دوافع الغش أو نوازعه تصريف البضاعة السيئة، أو التوصل لشهرة واسعة، أو تحقيق ربح عاجل وذلك ظلم بيّن لا تغفل عين الله عن فاعله، بل هو ضرر محقق للمسيء ذاته في صنعته أو تجارته أو معاملته الفنية، ينجم عنه ارتفاع البركة في الرزق، واضطراب النفس وإساءة السمعة واهتزاز التجارة وفقدان الزبائن والوقوع في الخسارة المحققة في نهاية الأمر، فضلاً عن الاعتداء على حقوق الآخرين سواء أكانوا إخوة في الدين أم في الإنسانية.
على المسلم ألا ينسى وهو يعمل في أي مهنةٍ، جليلة كانت أم حقيرة أنّ الله تعالى رقيب على أعماله وأقواله كلها، وأن الإسلام أمره بالعدل والأمانة، وحرّم عليه الظلم والخيانة، وأن الكون لا يصلح إطلاقاً من غير وجود ظاهرة الثواب للمحسن والعقاب للمسيء، وأن الجزاء من جنس العمل إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فمن واجب المسلم ملازمة النصيحة للآخرين والإخلاص في العمل والبعد عن الغش أياً كان نوعه، وتقديم النصيحة لكل أحد وإتقان كل عمل مادياً أم فيناً.
وأداء الأمانات في كل أمر فرض لازم، سواء أكان في العمل الخاص أم العمل العام. أم في رعاية المصالح ودرء المفاسد والضرر النفس والغير الضرار (مقابلة الضرر بالضرر).. وهو كله من أصول الشرائع الإلهية جميعها، ومن أوَّليات كل دين ومن مقتضيات الأخلاق والآداب، وضوابط الأنظمة وجميع المعاملات.
وتحريم الغش لا يتنافى مع حق الحرية؛ لأن كل حرية ذات ضوابط وقيود، وتقوم على احترام النظام العام والأعراف الحميدة والمصالح المتبادلة ... وكل حق يقابله واجب، ولا قيمة لحرية تقترن بالفوضى والفساد، والإخلال بالثقة ومس قانون العدل والإنصاف واقتراف الظلم.
ولقد أجمع العلماء على تحريم الغش، وذكروا أنه من كبائر الذنوب سواء أكان بالقول أم بالفعل أم بكتمان العيب بالبضاعة أو الثمن أم بالكذب، أم بالتقصير في أداء واجب المهنة، من طبابة وعلاج، وإجراء عملية جراحية، أو بيع دواء، وإقامة بناء ورسم خريطة.
ومن الغش أن يقدم المهندس خبرة ناقصة أو مشوهة، وأن يهمل المحامي مستلزمات الدفاع عن الموكل، أو يتواطأ مع خصومه، وأن يضلل الموظف من يلتمس منه النصح، أو أن يسيء توجيه المراجعين، أو أن يتلكأ في واجب من أجل رشوة، أو أن ينقص الحق، أو أن يزور الوثائق، أو أن يفرض الضرائب الظالمة.
إن الإتقان والإحسان سمة أهل الخير ... أما الخيانة والغش بجميع أنواعه فذلك سمة الفجار والجبارين والعصاة، ولذا أمر الله تعالى أن يأخذ عباده بالسمة الأولى فقال: ( إنَّ الله َ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ ) [النحل 16/90] وفي الأخبار : « إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » [رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها].
هذا والشواهد التي تحذر من الغش وتحث على الإتقان كثيرة، يشملها قول النبي r : « من غشَّ فليس منا » [رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي].
أي إن كل غاش لا يعد مهتدياً بهدي النبي r ، ولا مقتدياًً بعمله وحسن طريقته، وكأنه خارج عن الأمة، عدو لها.
ويترتب على الغش مسؤولية الغاش عن فعله في الدنيا والآخرة، وأهم هذه الأمثلة:
1- (الإخلال بما تقتضيه الخبرة المعتادة):كالخلل في تصميم المهندس، وتنفيذ المقاول، وتقصير الطبيب، وإهمال المحامي، وإساءة الموظف.
2- (خيانة الأمين): سواء بالتعمد أو التقصير أو الإهمال، كترك الوديع حفظ الوديعة وصونها بنفسه أو بمن يحفظ ماله عنده عادة، والتفريط بكيفية الحفظ، ومثله المستعير وإهمال الوكيل والشريك مصلحة الموكل والشريك الآخر.
3- (تدليس العيب):أي كتمان العيب الخفي في المبيع و العين المؤجرة عن العاقد الآخر.
4- (التغرير):بمعنى الإغراء بوسيلة قولية أو فعلية كاذبة لترغيب أحد العاقدين في العقد وحمله عليه. وهو نوعان:
التغرير في السعر أو الأجر، كالإخبار بعوض معين أكثر من الحقيقة، فإذا صحبه غبن فاحش جاز للمغبون طلب فسخ العقد في رأي بعض الفقهاء.
والتغرير في الوصف، وهو تزوير وصف في المعقود عليه يوهم المتعاقد بوجود مزية مصطنعة، كوضع البضاعة الجيدة في الأعلى والرديئة في الأسفل.
5- (الخلابة في العقد):وهي الخديعة بوسيلة موهمة قولية أو فعلية، تحمل المشتري على الرضا بالعقد، بما لم يكن ليرضى به لولاها.
6- (الغش مع الغبن الفاحش): بما لا يدخل تحت تقويم المقومين من أصحاب الخبرة كنصف العشر (5٪) في العروض التجارية، والعشر (10٪) في الحيوانات، والخمس أكثر في العقار من أرض أو بناء أو نحوهما.
7- (التناجش):أي الزيادة في الثمن من غير قصد الشراء، وإنما لتغرير الآخرين ليزيدوا في الأسعار ويرسو المزاد عليهم.
8- (غش المفقود أو تزوير العملة):وذلك لإضراره بمصلحة الاقتصاد، وإساءته للمجتمع والأفراد.
9- (غش المنتجات): الطبيعية كاللبن واللحم والسمك، والصناعية كالمعلبات والمنسوجات، وذلك بخلط الجيد بالرديء والجديد بالقديم أو الفاسد.
10- (الغش في الأخبار العامة أو الخاصة):كزيادة سعر السلعة عند بيعها للآخرين. وقد يقترن الخبر باليمين الكاذبة لتضليل المشتري واستيفاء ثمن زائد عن الواقع، مما يتنافى مع مبدأ الثقة، ويتصادم مع الصدق. قال النبي r : « كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً، هو لك مصدق وأنت له به كاذب » [أبو داود]. وإشاعة الأخبار الكاذبة والإشاعات في السلم أو الحرب من أخطر ألوان الغش، لما يترتب على ذلك من البلبلة العظيمة وقلب المعايير، وإضاعة الجهود، وإهدار المال والوقت، وتشويه المعلومات, ولذا ذمّ الله تعالى المنافقين المرددين للشائعات المغرضة أو المزيفة، فقال: ( لَّئِن لَّم يَنتَهِ المنافِقونَ والذينَ في قُلُوبِهِم مرضٌ والمُرجِفُونَ في المدينةِ لَنُغرِيَنَّكَ بهم ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فيها إلا قليلاً ). [الأحزاب 33/ 60].
وقال النبي r : « كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع » [البخاري ومسلم عن أبي هريرة t ].
ويحرم الغش في النصح أو المشاورة؛ لأنّ المفترض أن يبنى ذلك على الإخلاص والصدق ورعاية المصلحة ومنع الضرر والإضرار؛ قال النبي r : « المستشار مؤتمن » [الترمذي عن أبي هريرةt . قال: حديث حسن صحيح غريب].
وهكذا فقد حرَّم الإسلام الغشَّ, ونبّه على تحريم صوره المنوعة في كل الميادين تأكيداً على خطورة صور الغش على مسيرة تقدم الأمة, ونهضتها, ولخطورة ضرره الخاص والعام
من مضار الغش:
1- الغش طريق موصل إلى النار.
2- دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفسٍ هانت عليه فأوردها مورد الهلاك والعطب.
3- البعد عن الله وعن الناس.
4- أنه طريق لحرمان إجابة الدعاء.
5- أنه طريق لحرمان البركة في المال والعمر.
6- أنه دليل على نقص الإيمان.
7- أنه سبب في تسلط الظلمة والكفار، قال لابن حجر الهيثمي: "ولهذه القبائح- أي الغش- التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والبضائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم ، بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق