المنــدوب
المنــدوب:
تعريفـــه:
الندب في اللغة الدعاء إلى الفعل، والأصل أن يقال المندوب إليه، ولكن حذفت الصلة منه لفهم المعنى وكثرة الاستعمال
والمندوب في اصطلاح الأصوليين: ما طلب الشارع فعله طلبا غير حتم، أو غير لازم، هذا من حيث دليله، وأما من حيث حكمه، فهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، أو ما يمدح فاعله ولا يذم في الشرع تاركه
والمندوب عند الأصوليين يسمى سنة ويسمى تطوعاً، كما يسمى مستحباً، أحيانا فهذه الألفاظ الثلاثة مرادفه في الاصطلاح للمندوب عند الأصوليين، وتطلق كلها على معرَّف واحد
أما الفقهاء، فإن المندوب عندهم أدنى من السنة المؤكدة، وقد يطلق على السنة غير المؤكدة فحسب، فلا يعتبر مرادفها للسنة عندهم.
أنواعــه:
للمندوب درجات ثلاثة يلي بعضها بعضاً من حيث قوة التأكد في الطلب، وهي:
1ـ المندوب المؤكد أو السنة المؤكدة: وهي الأعمال والأقوال التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها مع التنبيه على عدم وجوبها لفظاً أو فعلا، وإن كان يتركها أحيانا، من ذلك ركعتا سنة الفجر، وركعتان بعد الظهر، وأربعا قبلها ـعند الحنفية- وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها إلا قليلاً.
2ـ المندوب غير المؤكد: وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله أحيانا دون أن يداوم عليه، كصلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر، وأربع قبل صلاة العشاء، وغيرها، فانه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مواظبته على ذلك.
3ـ المندوب الزائد: ويقصد به الأفعال العادية والجبلية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها بصفته البشرية لا بصفته التشريعية، من ذلك لون ملابسه صلى الله عليه وسلم، ونوع طعامه، وطريقته في نومه، وطريقته في مشيته … فإنها إذا فعلت من المسلم بنية التأسي كانت عبادة مأجورا عليها وألحقت بالسنة غير المؤكدة في الحكم، وإذا فعلت منه لا على سبيل التأسي لم يكن له فيها أجر، لأنها أفعال عادية ليست مأمورا بها من الشارع مطلقاً، فتكون داخله في حد المباح، وهذا هو حكمه، ولكنها عند فعلها على سبيل التأسي تكون عبادة مأجوراً عليها لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، ولما يدل عليه هذا الفعل من انقياد تام للنبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يفترق عن السنة المؤكدة،حيث إن السنة المؤكدة مطلوبة من الشارع بالجملة بخلاف هذه، ولذلك فالأجر متحقق للمكلف بفعل الأولى دون نية التأسي، بخلاف الثانية، إذ لا يكون فيها أجر إلا بهذه النية.
طرق ثبوت المندوب:
يثبت المندوب بطلب فعله من الشارع طلباً غير حتم، أو غير لازم، وعدم الحتم هذا لابد من إقامة دليل عليه، لأن الطلب في أصله موضوع للوجوب، ولا ينحرف عنه إلا بقرينه واضحة، كما علم في الباب الواجب.
والقرائن الصارفة للطلب عن الإيجاب متنوعة، فمنها قرائن لفظية، ومنها قرائن غير لفظية، فالقرائن اللفظية ما كان مصرحاً بها في لفظ الأمر نفسه أوفي غيره، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمه، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فالغسل أفضل) قرينة لفظية دالة على أن طلب النبي صلى الله عليه وسلم الاغتسال يوم الجمعة إنما هو للندب لا للوجوب.
ومن القرائن غير اللفظية قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور:33)، فإنه للندب، بدلالة القواعد الشرعية المتفق عليها لدى الفقهاء، القاضية بإطلاق يد المالك في ملكه، ومنها أيضا تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً على عدم الوجوب، مع المواظبة على الفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، ومنها تركه صلى الله عليه وسلم فعله في أكثر الأحيان، وغيره.
هل المندوب مأمور به؟
والكلام في طرق ثبوت الندب يضطرنا إلى الكلام على عد المندوب مأموراً به أولا، فقد اختلف في ذلك الأصوليون على مذهبين، هما:
1ـ مذهب جمهور الحنفية: وهو أن المندوب مأمور به مجازاً لا حقيقة.
2ـ مذهب جمهور الشافعية والقاضي الباقلاني ومعهم المالكية والحنبلية: وهو أن المندوب مأمور به حقيقة
أي إن الأمر موضوع للوجوب والندب قصداً على وجه الاشتراك.
الأدلــــــة:
استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:
أ) الأمر حقيقة في قول: (افعل)، وافعل حقيقة في الإيجاب دون غيره، وعلى ذلك يكون الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يكون حقيقة في غيره وهو الندب.
ب) لو كان المندوب مأموراً به لكان تركه معصية، لأن فيه مخالفة الأمر، مع أن الاتفاق على عدم تأثيم تارك المندوب، فلا يكون مأموراً به لذلك.
ج) قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، والسواك عند الوضوء مندوب بالاتفاق، وهو غير مأمور به بنص الحديث، فكان المندوب غير مأمور به لذلك.
واستدل الشافعية لمذهبهم:
أ) المندوب طاعة وعبادة من العبادات التي يثاب الإنسان على فعلها بالإجماع، والطاعة إنما هي الامتثال للأمر، فكان المندوب مأموراً به لذلك.
ب) أن أهل اللغة قسموا الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب، وهو إقرار منهم بأن المندوب قسم من المأمور به، فيكون كذلك، لأن علم اللغة أحد مصادر علم الأصول كما تقدم.
مناقشة دليل الحنفية:
رد الشافعية على دليل الحنفية الأخير بأن نفي الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر في الحديث خاص بأمر الإيجاب دون غيره، ونحن معكم في نفي هذا الأمر، والمدعى غير ذلك، فلم يكن في الحديث دليل لكم.
مناقشة دليل الشافعية:
رد الحنفية على الدليل الأول، بأننا لا نسلم أن الطاعة إنما هي المأمور به فقط، بل هي فعل المأمور به والمندوب إليه، ذلك أنه لم يقم دليل على حصرها بذلك.
وردوا على الدليل الثاني، بأن علماء اللغة أدخلوا الإباحة في المأمور به أيضا، مع أنها ليست منه باتفاق جمهور الأصوليين، ولم يخالف في ذلك إلا الكعبي، فدل ذلك على أن إدخالهم المندوب في المأمور به اصطلاح لغوي صرف ليس فيه حجة علينا.
وردوا على جواب الشافعية عن الحديث الشريف بأن نفي الأمر جاء مطلقاً، فشمل كل أمر، ولا يجوز تقييده بأمر الإيجاب، لعدم ورود المقيد.
الترجيــح:
من استعراض ما تقدم من أدلة الطرفين ومناقشتها يتبين لنا أن مذهب الحنفية في اعتبار المندوب مأمورا به مجازاً لا حقيقة أرجح من مذهب الشافعية، فيكون الأمر حقيقة في الإيجاب فقط ولا يصرف عنه إلا لقرينه كما تقدم، فإذا توفرت القرينة الصارفة عن الإيجاب إلى الندب انصرف إليه، لأنه مجاز فيه، وعلى كل فالخلاف بين الأصوليين على النحو المتقدم يكاد يكون لفظياً فقط، ولا يترتب عليه كبير أهمية في تفريع الأحكام
انتهى من كتاب بحوث في علم الأصول للأستاذ أحمد الحجي الكردي
تعريفـــه:
الندب في اللغة الدعاء إلى الفعل، والأصل أن يقال المندوب إليه، ولكن حذفت الصلة منه لفهم المعنى وكثرة الاستعمال
والمندوب في اصطلاح الأصوليين: ما طلب الشارع فعله طلبا غير حتم، أو غير لازم، هذا من حيث دليله، وأما من حيث حكمه، فهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، أو ما يمدح فاعله ولا يذم في الشرع تاركه
والمندوب عند الأصوليين يسمى سنة ويسمى تطوعاً، كما يسمى مستحباً، أحيانا فهذه الألفاظ الثلاثة مرادفه في الاصطلاح للمندوب عند الأصوليين، وتطلق كلها على معرَّف واحد
أما الفقهاء، فإن المندوب عندهم أدنى من السنة المؤكدة، وقد يطلق على السنة غير المؤكدة فحسب، فلا يعتبر مرادفها للسنة عندهم.
أنواعــه:
للمندوب درجات ثلاثة يلي بعضها بعضاً من حيث قوة التأكد في الطلب، وهي:
1ـ المندوب المؤكد أو السنة المؤكدة: وهي الأعمال والأقوال التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها مع التنبيه على عدم وجوبها لفظاً أو فعلا، وإن كان يتركها أحيانا، من ذلك ركعتا سنة الفجر، وركعتان بعد الظهر، وأربعا قبلها ـعند الحنفية- وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها إلا قليلاً.
2ـ المندوب غير المؤكد: وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله أحيانا دون أن يداوم عليه، كصلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر، وأربع قبل صلاة العشاء، وغيرها، فانه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مواظبته على ذلك.
3ـ المندوب الزائد: ويقصد به الأفعال العادية والجبلية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها بصفته البشرية لا بصفته التشريعية، من ذلك لون ملابسه صلى الله عليه وسلم، ونوع طعامه، وطريقته في نومه، وطريقته في مشيته … فإنها إذا فعلت من المسلم بنية التأسي كانت عبادة مأجورا عليها وألحقت بالسنة غير المؤكدة في الحكم، وإذا فعلت منه لا على سبيل التأسي لم يكن له فيها أجر، لأنها أفعال عادية ليست مأمورا بها من الشارع مطلقاً، فتكون داخله في حد المباح، وهذا هو حكمه، ولكنها عند فعلها على سبيل التأسي تكون عبادة مأجوراً عليها لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، ولما يدل عليه هذا الفعل من انقياد تام للنبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يفترق عن السنة المؤكدة،حيث إن السنة المؤكدة مطلوبة من الشارع بالجملة بخلاف هذه، ولذلك فالأجر متحقق للمكلف بفعل الأولى دون نية التأسي، بخلاف الثانية، إذ لا يكون فيها أجر إلا بهذه النية.
طرق ثبوت المندوب:
يثبت المندوب بطلب فعله من الشارع طلباً غير حتم، أو غير لازم، وعدم الحتم هذا لابد من إقامة دليل عليه، لأن الطلب في أصله موضوع للوجوب، ولا ينحرف عنه إلا بقرينه واضحة، كما علم في الباب الواجب.
والقرائن الصارفة للطلب عن الإيجاب متنوعة، فمنها قرائن لفظية، ومنها قرائن غير لفظية، فالقرائن اللفظية ما كان مصرحاً بها في لفظ الأمر نفسه أوفي غيره، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمه، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فالغسل أفضل) قرينة لفظية دالة على أن طلب النبي صلى الله عليه وسلم الاغتسال يوم الجمعة إنما هو للندب لا للوجوب.
ومن القرائن غير اللفظية قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور:33)، فإنه للندب، بدلالة القواعد الشرعية المتفق عليها لدى الفقهاء، القاضية بإطلاق يد المالك في ملكه، ومنها أيضا تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً على عدم الوجوب، مع المواظبة على الفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، ومنها تركه صلى الله عليه وسلم فعله في أكثر الأحيان، وغيره.
هل المندوب مأمور به؟
والكلام في طرق ثبوت الندب يضطرنا إلى الكلام على عد المندوب مأموراً به أولا، فقد اختلف في ذلك الأصوليون على مذهبين، هما:
1ـ مذهب جمهور الحنفية: وهو أن المندوب مأمور به مجازاً لا حقيقة.
2ـ مذهب جمهور الشافعية والقاضي الباقلاني ومعهم المالكية والحنبلية: وهو أن المندوب مأمور به حقيقة
أي إن الأمر موضوع للوجوب والندب قصداً على وجه الاشتراك.
الأدلــــــة:
استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:
أ) الأمر حقيقة في قول: (افعل)، وافعل حقيقة في الإيجاب دون غيره، وعلى ذلك يكون الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يكون حقيقة في غيره وهو الندب.
ب) لو كان المندوب مأموراً به لكان تركه معصية، لأن فيه مخالفة الأمر، مع أن الاتفاق على عدم تأثيم تارك المندوب، فلا يكون مأموراً به لذلك.
ج) قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، والسواك عند الوضوء مندوب بالاتفاق، وهو غير مأمور به بنص الحديث، فكان المندوب غير مأمور به لذلك.
واستدل الشافعية لمذهبهم:
أ) المندوب طاعة وعبادة من العبادات التي يثاب الإنسان على فعلها بالإجماع، والطاعة إنما هي الامتثال للأمر، فكان المندوب مأموراً به لذلك.
ب) أن أهل اللغة قسموا الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب، وهو إقرار منهم بأن المندوب قسم من المأمور به، فيكون كذلك، لأن علم اللغة أحد مصادر علم الأصول كما تقدم.
مناقشة دليل الحنفية:
رد الشافعية على دليل الحنفية الأخير بأن نفي الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر في الحديث خاص بأمر الإيجاب دون غيره، ونحن معكم في نفي هذا الأمر، والمدعى غير ذلك، فلم يكن في الحديث دليل لكم.
مناقشة دليل الشافعية:
رد الحنفية على الدليل الأول، بأننا لا نسلم أن الطاعة إنما هي المأمور به فقط، بل هي فعل المأمور به والمندوب إليه، ذلك أنه لم يقم دليل على حصرها بذلك.
وردوا على الدليل الثاني، بأن علماء اللغة أدخلوا الإباحة في المأمور به أيضا، مع أنها ليست منه باتفاق جمهور الأصوليين، ولم يخالف في ذلك إلا الكعبي، فدل ذلك على أن إدخالهم المندوب في المأمور به اصطلاح لغوي صرف ليس فيه حجة علينا.
وردوا على جواب الشافعية عن الحديث الشريف بأن نفي الأمر جاء مطلقاً، فشمل كل أمر، ولا يجوز تقييده بأمر الإيجاب، لعدم ورود المقيد.
الترجيــح:
من استعراض ما تقدم من أدلة الطرفين ومناقشتها يتبين لنا أن مذهب الحنفية في اعتبار المندوب مأمورا به مجازاً لا حقيقة أرجح من مذهب الشافعية، فيكون الأمر حقيقة في الإيجاب فقط ولا يصرف عنه إلا لقرينه كما تقدم، فإذا توفرت القرينة الصارفة عن الإيجاب إلى الندب انصرف إليه، لأنه مجاز فيه، وعلى كل فالخلاف بين الأصوليين على النحو المتقدم يكاد يكون لفظياً فقط، ولا يترتب عليه كبير أهمية في تفريع الأحكام
انتهى من كتاب بحوث في علم الأصول للأستاذ أحمد الحجي الكردي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق