صفحة من حياة الإمام أبي الحسن الأشعري
صفحة من حياة الإمام أبي الحسن الأشعري
بقلم الإمام الأكبر السيد محمد الخضر حسين التونسي
شيخ الجامع الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أورث الناس دينا ساطع الحجج، محكم الآيات، فساروا في ضوئه أمة واحدة، لا يختلفون في شيء يرجع إلى العقائد حتى آخر خلافة عثمان رضي الله عنه حيث حميت تلك المناقشات السياسية، واتخذها مرضى القلوب أمثال (عبدالله بن سبأ) ذريعة إلى فتنة يكيدون بها الإسلام، ففتحوا بابها بقتل الخليفة، ونشأت خلافة علي كرم الله وجهه، وغبار الفتنة ثائر، فتولدت تحت مثاره آراء سياسية، ثم جعلت تلك الآراء تتحول إلى مذاهب دينية، ودب في النفوس مرض الاختلاف، ومن هذا الاختلاف ما يرجع إلى أصول العقائد، فيحل عروة الإيمان، ومنه ما يرجع إلى فروعها، فلا يزيد على أن يسمى انحرافا عن الصواب.
كثرت الفرق، وتعددت الألقاب، فوهن حبل الاتحاد الإسلامي، ولولا هذا التفرق لبلغ الإسلام من القوة فوق ما بلغ، وارتقى في السيادة ذروة فوق التي ارتقى.
ومن هذه الفرق فرقة يغالون في (التشيع) للإمام علي كرم الله وجهه، ومن أبعدهم في هذا الغلو السبئية أتباع (عبدالله بن سبأ)، الذي ادعى لعلي عليه السلام وصف الإلهية، فنفاه علي إلى المدائن، ويقال : إنه كان يهوديا، فتظاهر بالإسلام ليكيد له بمثل هذه الدعوى.
ويقابل هذه الفرقة فرقة يدينون بكراهة علي رضي الله عنه، وهم (الخوارج)، ونشأ هذا المذهب من جماعة كانوا مع علي في حرب صفين، ثم خرجوا عليه عقب قضية التحيكم.
ومن هذه الفرق فرقة يبالغون في إثبات الوعد، حتى قال بعضهم : لا يضر مع الإيمان معصية، وهم (المرجئة).
أما الإرجاء الذي ينسب إلى بعض فضلاء التابعين كالحسن بن محمد بن الحنفية، فمعناه عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين من العلويين والأمويين بكونها مخطئة أو مصيبة، وإرجاء أمرهما أي تأخيره وتفويضه إلى الله تعالى، وهو بهذا المعنى لا يمس جانب الإيمان، ولا يعد صاحبه عند أهل السنة موضعا للعيب.
ومن هذه الفرق فرقة يبالغون في إثبات القدرة للإنسان، وينكرون إضافة الخير والشر إلى القدر، وهم (القدرية)، وأول من تكلم بهذا (معبد بن عبدالله الجهني) الذي خرج مع ابن الأشعث، ووقع في يد الحجاج فقتله سنة 80هـ.
ومن هذه الفرق فرقة لا يثبتون للعبد قدرة على الفعل لا مؤثرة ولا كاسبة، وهم (الجبرية)، وأول من ظهر بهذا المذهب (جهم بن صفوان) الذي خرج مع الحارث بن سريج على بني أمية في أواخر دولتهم، ووقع في قبضتهم بعد انهزام الحارث وقتل سنة 128 أو 131 هـ.
ومن هذه الفرق فرقة يشَبِّهُون الله ـ وهو واجب الوجود ـ ببعض مخلوقاته، وهم (المشبهة)، وممن تعزى إليه هذه البدعة (الجعد بن درهم) مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
ومن غلاة المشبهة (الكرامية) أتباع (محمد بن كَرَّام( وهو شيخ نشأ في سجستان، ثم دخل نيسابور، وباح بالتجسيم، فحبسه عبدالله بن طاهر، ثم أطلقه فتخلص إلى القدس الشريف، وهناك توفي سنة 256هـ.
ومن هذه الفرق فرقة يؤولون القرآن والسنة على غير ما يراد منها، مكرا بالدين وصرفا للناس عن هدايته، وهم (الباطنية)، وائتمار من أصلهم المجوسية بالكيد للإسلام وقع ـ على ما يقصه أبو بكر بن العربي ـ في عهد البرامكة، ولكن تأويل الظاهر على وجوه تعطل أحكام الشريعة وتذهب ببهاء حكمتها ظهر فيما بعد، ومن زعماء هذه النحلة (حمدان قرمط) المتوفى سنة 264هـ، ومنه أخذ الباطنية لقب (القرامطة.(
ومن أذناب هذه الفرقة اليوم الطائفة المسماة بـ(البابية) أو (البهائية)، وكانت قبل هذا تعمل في خفاء، فسرى وباؤها في نفوس كثير من المسلمين الغافلين، حتى أخذ بعض زعمائها الغرور، فجاهروا بشيء مما يسرون، فانكشفت للناس سريرتها، وافتضح أمرها، فلا تقوم لدعايتها بعد هذا ـ إن شاء الله ـ قائمة.
ومن هذه الفرق فرقة (المعتزلة)، ومن رؤوسها (أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزَّال)، وصاحبه (عمرو بن عبيد)، وكانا يجالسان الحسن البصري المتوفى سنة 116هـ، ثم اعتزلاه في نفر كانوا على رأيهما، وظهر بعد هؤلاء طبقة أخرى، من زعمائها (إبراهيم بن يسار النَّظَّام) المتوفى سنة 221هـ، و(محمد بن الهذيل العلاّف) المتوفى سنة235هـ، و(أحمد بن أبي دؤاد) المتوفى سنة 240هـ، و(بشر المريسي) المتوفى سنة 218هـ، ثم عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 250هـ.
وظهر بعد هؤلاء طبقة ، من رجالها (أبو علي محمد الجبائي) المتوفى سنة 303هـ، وهو أستاذ أبي الحسن الأشعري، و(أبو القاسم عبدالله الكعبي) المتوفى سنة 317هـ، وإليه تنسب الفرقة (الكعبية(، و(أبو هاشم عبدالسلامبن أبي علي الجبائي) المتوفى سنة 321هـ، وإليه تنسب الفرقة )البهشمية)، فالكعبي وأبو هاشم كانا معاصرين لأبي الحسن الأشعري.
وظهر مذهب الاعتزال لذلك العهد، إذ كان لكثير من زعمائه البراعة في البيان والوجاهة عند رجال الدولة، فعمرو بن عبيد كان رفيع المنزلة عند المنصور، وكان المجلس الذي يعقده البرامكة لأصحاب المقالات ينتظم من أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب، وثمامة بن أشرس، وجعفر بن بشر، وكلهم من زعماء الاعتزال.
وأحمد بن أبي دؤاد كان وجيها لدى المأمون، وتولى قاضي القضاة في خلافة المعتصم، وهو الذي امتحن الإمام أحمد بن حنبل وحاول إلزامه القول بخلق القرآن الكريم، وكذلك كان ابن أبي دؤاد في عهد الواثق، ولما تقلد المتوكل الخلافة أصيب ابن أبي دؤاد بفالج، فخلفه في القضاء ابنه محمد بن أحمد، ثم صرفه المتوكل عن القضاء، وولّى مكانه يحيى بن أكثم، وكان يقتدي بمذهب أهل السنة.
ومن أسباب ظهور الاعتزال أن بعض زعمائه كانوا يتصدون للرد على الخارجين عن الملة من نحو الكلاحدة والطبيعيين، كما رد واصل الغزال على المانوية، ورد أبو هاشم بن أبي علي الجبائي على القائلين بالطبائع، ورد أبو الحسين بن أبي عمر الخياط على ابن الراوندي في كتاب )الانتصار)، وكانوا يدرسون الفلسفة، ويتناولون آراء رجالها بالنقض، فلأبي هاشم هذا كتاب (النقض على أرسطاليس في الكون والفساد)، ومما نقرؤه في ترجمة النظام أن جعفر بن يحي البرمكي ذكر أرسطاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال جعفر: كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه! فقال النظام: أيهما أحب إليك: أن أقرأه من أوله إلى آخره، أمن آخره إلى أوله؟ ثم أخذ يذكره شيئا فشيئا، وينقض عليه، فتعجب جعفر منه.
ودراسة المعتزلة للفلسفة أفادت في ردهم على بعض الفلاسفة والملاحدة، ولكن انحرفت ببعض آرائهم عن قصد السبيل، فتعسفوا في نقض نصوص من الكتاب والسنةظنا منهم أن الفلسفة تتعاصى عن قبول ما تدل عليه هذه النصوص، ولم يكن المعتزلة في المسائل التي تعزى إليهم على رأي واحد، بل كانوا يختلفون في بعض الآراء، وقد ينتصب بعضهم لتفنيد آراء بعض، كما ألف جعفر بن حرب في الرد على أبي الهذيل العلاّف كتابا سماه )توبيخ أبي الهذيل) وبالغ في الرد عليه حتى أشار إلى تكفيره.
وزاد مذهبَ الاعتزال في القرن الثاني والثالث رواجا أن أهل السنة كانوا لا يعنون بمجادلتهم على طريقة نظرية يرخي فيها الخصم لخصمه العنان، ثم يدفع شيهه شبهة بعد أخرى، وينقض أدلته دليلا بعد دليل، وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وحكى عنه الغزالي في كتاب (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على المبتدعة فرض، فقال أحمد: نعم، ولكن حيث حكيت شبهتهم أولا، ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظرإلى الجواب، ولا يفهم كنهه، قال الغزالي: وما ذكره أحد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
كان أهل السنة من ناحية التفقه في الدين وتقرير أصول الأحكام يبسطون القول إلى أبعد غاية، أما موقفهم أمام الفرق التي تتكلم في العقائد وما يتصل بها، فيشبه موقف من يستخف بقوة خصمه، فلا يعد لهم ما استطاع من قوة، أو لا يُعمل في دفاعهم ما لديه من سلاح، حتى يجوسوا خلال أرضه، وينقصوها من أطرافها.
سادت في القرن الثالث الآراء المخالفة لمذهب السلف، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأحسن التعبير عن مذهب أهل السنة، وانقلب علم الكلام إلى هيئة غير هيئته التي خلعها عليه المعتزلة والمرجئة والمشبهة والقدرية، والذي يستطيع ان يجاهد فيقلب أمما كثيرة من جهة إلى أخرى، جدير بأن يعد في أعاظم الرجال، فإذا عرضنا عليك صحيفة من حياة أبي الحسن الأشعري، فإنما نعرض عليك شيئا من سيرة رجل كان له في إصلاح النفوس وتقويم العقول جهاد أي جهاد.
نسب أبي الحسن الأشعري ومولده:
هو علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن ابي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشعري نسبة إلى (أشعر) قبيلة باليمن، فنسبه عربي صريح، ومولده بالبصرة سنة ستين ومائتين.
نشأته العلمية:
نشأ الأشعري بالبصرة، وهي يومئذ زاهية بالعلوم الدينية والعربية وفن الكلام، فأخذ السنة عن: الحافظ زكريا بن يحيى الساجي، وأبي خليفة الجمحي، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب المقرئ، وعبدالرحمن بن خلف الضبي، وقد أكثر في تفسيره من الرواية عن هؤلاء،ثم رحل إلى بغداد، وأخذ عمن لقيه فيها من علماء الحديث.
ودرس علم الكلام على مذهب المعتزلة، فكان يتلقى على طائفة من كبارهم مثل أبي علي الجبائي، والشحام، والعطوي، وكان متقدما في هذا العلم على أقرانه، وسنحدثك قريبا عن براءته من مذهب المعتزلة، ورجوعه إلى مذهب أهل السنة.
وإذا لم يذكر الأشعري في طبقات المحدثين، فلأن همته لم تكن مصروفة إلى الإكثار من الرواية، وإنما كان يبذل جهده في تعرف آراء الفرق، والغوص على الحجج التي تنقض شبههم، وتدمغ باطلهم، فلا بأس عليه مما وصفه به بعض الحنابلة من أن خبرته بمقالات أهل الكلام أوسع من خبرته بمذاهب أهل الحديث، وكثير ممن عاصروه أو تلقوا عنه قد شهدوا له بغزارة العلم، وحسن التصرف فيما يعلم، وقال الأستاذ (أبو إسحق الإسفرائيني): كنت في جنب الشيخ (أبي الحسن الباهلي) كقطرة في جنب البحر، وسمعت الباهلي يقول: كنت في جنب الأشعري كقطرة في جنب البحر.
وهذه الشهادة وإن كانت صادرة عن تواضع من أبي الحسن الباهلي، لا تخلو من إيماء إلى عظم منزلة أبي الحسن الأشعري في العلم.
مذهبه في أصول الدين:
كان أبو الحسن الأشعري في مبدأ أمره على مذهب الاعتزال، ولزم أبا علي الجبائي سنين كثيرة، ثم اهتدى إلى أن الحق في جانب أهل السنة، وأراد أن يكون رجوعه عن الاعتزال علانية، فأتى المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقي كرسيا، ونادى بأعلى صوته قائلا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه ألأبصار ـ يعني في الدار الآخرة ـ وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة.
والواقع أنه لم يأت بمذهب جديد، وإنما صار إلى مذهب السلف وما كان عليه الأئمة الراشدون، فقام بتأييده والنضال عنه، وإنما يُنسب إليه المتمسكون بمذهب أهل السنة لأنه زاد المذهب حججا، وألف فيه كتبا كثيرة، وقد صرح في كتاب (الإبانة) بأنه على طريق السلف فقال: ((وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون)). وعوده إلى إلى مذهب أهل السنة بعد الاعتزال شاهد ـ كما قال القاضي عياض في (المدارك) ـ على ثبات قدمه، وصحة يقينه في الالتزام بالسنة، إذ لم يلزمها لأنه نشأ عليها، ولا اعتقدها تقليدا.
مذهبه في الأحكام العملية:
تنازع بعض أصحاب المذاهب أبا الحسن الأشعري، كل ينسبه إلى مذهبه، ذكره ابن السبكي في (طبقات الشافعية) وقال: قد زعم بعض الناس أن الشيخ مالكي المذهب، وليس بصحيح، وإنما كان شافعيا تفقه على أبي إسحق المروزي، نص على ذلك الأستاذ (أبو بكر بن فورك) في (طبقات المتكلمين)، والأستاذ (أبو إسحق الإسفرائيني) فيما نقله عنه الشيخ (أبو محمد الجويني) في (شرح الرسالة.)
وذكره القاضي عياض في كتاب (المدارك) على أنه من فقهاء المالكية، وقال: ذكر محمد بن موسى بن عمران أن الأشعري كان مالكيا وقال: ذكر لي بعض الشافعية أنه كان شافعيا، حتى لقيت الشيخ الفاضل الفقيه رافعا الحمال الشافعي فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن كان مالكيا، وكان مذهب مالك رحمه الله تعالى في وقته شائعا في العراق، أيام إسماعيل بن إسحق.
والذي يظهر أن أبا الحسن الأشعري لم يؤلف كتابا في الأحكام يستفاد منه أنه مستقل النظر في الأحكام، أو أنه مقتد بأحد الأئمة.
قوته على المناظرة:
تمرن الأشعري على المناظرات منذ كان على مذهب الاعتزال، حتى إن أستاذه أبا علي الجبائي كان إذا حضرت مناظرة، قال له: نُبْ عني، وكان الجبائي صاحب قلم، ولم يكن قويا على المناظرة في المجالس.
وكان رحمه الله يقصد إلى مواطن المعتزلة ليناظرهم، فقيل له: كيف تخالط أهل البدع، وتقصدهم بنفسك، وقد أمرت بهجرهم؟ فقال: هم أولو رئاسة: منهم الوالي والقاضي، ولرئاستهم لا ينزلون إليّ، فإذا كانوا هم لا ينزلون إليّ، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصرا بالحجة! .
وكان لا يبتدئ مناظريه بالسؤال، بل يقف موقف المجيب المدافع، حضر الأستاذ أبو عبدالله بن خفيف مناظرة بين الأشعري وبعض مخالفيه، فقضى العجب من علمه وفصاحته، وقال له: لم لا تسأل أنت ابتداء؟ فقال الأشعري: أنا لا أكلم هؤلاء ابتداء، ولكن إذا خاضوا في ذكر ما لا يجوز في دين الله، رددنا عليهم بحكم ما فرض الله سبحانه وتعالى علينا من الرد على مخالفي الحق.
وجرت مناظرات بين أبي الحسن الأشعري والجبائي، منها مناظرة في قول الجبائي كسائر معتزلة البصرة: إنه يجب على الله تعالى مراعاة الأصلح بمعنى الأنفع للعبد، فسأل الأشعريُّ أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة عاش أحدهم في الطاعة، وأحدهم في الكفر والمعصية، والآخر مات صغيرا، فقال له الجبائي: يثاب الأول ويعاقب الثاني، ولا يعاقب الثالث ولا يثاب، فقال الأشعري: إن قال الثالث: يارب هل عمرتني، فأصلح، فأدخل الجنة كما دخلها أخي المؤمن! فأجاب الجبائي بأن الرب يقول: كنت أعلم أنك لو عشت لفسقت فدخلت النار، ثم قال الأشعري: فإن قال الثاني: يارب لِمَ لَمْ تُمِتني صغيرا حتى لا أعصي فلا أدخل النار كما أمَتَّ الثالث! فانقطع الجبائي.
فمعتزلة البصرة هم الذين يرون وجوب مراعاة الأصلح بمعنى الأنفع للعبد، أما معتزلة بغداد فيذهبون في تفسير الأصلح الذي يجب على الله مراعاته إلى معنى الأوفق في الحكمة والتدبير، وليس هذا المذهب بموضع المناظرة السالفة، لأن الحكمة لا تتبع جلب المنفعة أو درء المفسدة الشخصية، وإنما تقوم على ما يقتضيه حسن النظام العام للخليقة.
أخلاقه وتقواه:
كان في أبي الحسن دعابة، وكان له مع هذه الدعابة غيرة على الحق حامية، وتلك الغيرة هي التي تدفعه إلى مقارعة مخالفيه غير مبال بما كان لهم من جاه أو رئاسة، قال أحد أصحابه: ((إنه كان حضر معه مجلسا في جماعة من المبتدعة، فقام فيه لله مقاما حسنا، وكسر حجتهم، فلما خرج قلت له: جزاك الله خيرا، قال: وما ذاك؟ قلت: لمقامك هذا لله تعالى ونصر دينه، فقال: يا أخي إنا ابتلينا بأمراء سوء أظهروا بدع المخالفين، ونصروها، فوجب علينا القيام لله، والذب عن دينه حسب الطاقة، فمسألة من معرفة ربك، وما تطيعه به وتتقرب به إليه أجدى عليك من هذا)).
وهذه القصة تدلك على أنه كان يؤثر الحق على رضى الأمراء، وأنه كان من التواضع بحال من يذكر أن الازدياد من معرفة الله والإقبال على فعل الطاعات يفضل ما كان يشتغل به من مقارعة الابتداع على طريقة علم الكلام.
وفي أبي الحسن خصلة يعِزُّ في أهل العلم وجودها، وهي الرجوع عن الرأي عندما يستبين الحق، وشاهد هذا أنه نفض يده من مذهب الاعتزال علانية عندما استبان أن الحق في جانب أهل السنة، وكان قد صنف في أيام اعتزاله كتابا كبيرا نصر فيه مذهب الاعتزال، وقد يقول في بعض مؤلفاته: ألفنا كتابا في مسألة كذا، رجعنا عنه، ونقضناه، فمن وقع إليه فلا يُعَوِّلَن عليه.
وكان رحمه الله متجملا بالحياء والورع، قال أحمد بن علي الفقيه: خدمت الإمام أبا الحسن بالبصرة سنتين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي، فلم أجد أورع منه، ولا أغض طرفا، ولم أر أحدا أكثر حياء منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة.
وكان ينفق من غلة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة.
خصومه:
خصوم الرجل على قدر عظم شأنه، فكلما ارتفع الرجل درجة، أو ظهرت له مزية، تألم لهامن أحسوا من أنفسهم العجز عن أن يبلغوا شأوه، فليس من العجيب أن يكون لمثل الأشعري خصوم يناوءونه، ويَعْزُون إليه من المقالات ما لم ينطق به لسانه، ولم يخطر على قلبه، وليس من المعقول أن يقف الأشعري لطوائف مختلفة المذاهب والآراء وقفة من لا يعرف ذلك الذي يسميه الناس رهبة أو إحجاما، ويرجو مع هذا أن يمضي في سلامة من أن يتحدثوا عنه في غير أمانة.
ألصق به خصومه أقوالا لم تسمع منه في مناظرة ولا توجد له في كتاب، كما عزوا إليه أنه قال: إن المعجز هو كلام الله تعالى الذي لم يزل غير مخلوق، ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط، وقد ساق الأستاذ ركن الدين (أبو محمد عبدالله الجويني) في كتاب (عقيدة الإمام المطلبي) أشياء من هذه الأراجيف، وقال: ((قد تصفحت ما تصفحت من كتبه، وتأملت نصوصه في هذه المسائل، فوجدتها كلها على خلاف ما نسب إليه)) ثم قال: ((ولا عجب أن اعترضوا عليه واخترصوا، فإنه رحمه الله تعالى فاضح القدرية وعامة المبتدعة، وكاشف عوراتهم، ولا خير فيمن لا يعرف حاسده)).
وتحدث القاضي عياض في كتاب (المدارك) عمن يناوئون الأشعري فنسب طائفة منهم إلى الغلو في ترك التأويل حتى وقعوا في التشبيه، ثم قال: ((وأكثر من شنع عليه بالأندلس ابن حزم، فإنه ملأ كتابه وعلى أئمة أصحابه كذبا وتشانيع باطلة، وذلك في كتابه المسمى بـ((النصائح والفضائح)).
ولأبي العباس أحمد بن محمد بن عبدالمنعم القرطبي رسالة ردَّ بها على شخص تورط في هجو الأشعري، تسمى ((زجر المفتري على أبي الحسن الشعري)) قال في مطلعها:
أسير الهوى ضلت خطاك عن القصد فها أنت لا تُهدَى لخير ولا تَهْدِي
سللت حساما من لسانك كاذبا على عالم الإسلام والعَلَم الفرد
تمرست في أعراض بيت مقدس رمى الله منك الثغر بالحجر الصلد
ومما قال في وصف الأشعري:
وسل حساما من بيان فهومه فرد سيوف الغي مغلولة الحد
وأبدى علوما ميزت فضل فضله كتمييز ذي البردين والغرس والورد
فجاءت مجيء الصبح، والصبح واضح وسارت مسير الشمس والشمس في السعد
سللن سيوف الحق في موطن الهدى فغادرن صرعى الملحدين بلا لحد
وأيدن دين الله في أفق العلا بلا منصل عضب، ولا فرس نهد
وأمضين حكم النقل والعقل فاحتوى كلام إمام الحق مجدا على مجد
أنصاره:
قلنا فيما سلف: إن الأشعري لم يبتدع مذهبا جديدا، وإنما هو مقرر لمذهب السلف المبني على الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، وترك تأويلها حيث لم يعارضها قاطع من معقول أو محسوس، فمزية الأشعري أنه بسط البحث والمناضلة عنها بالحجج النظرية، أي على طريقة علم الكلام، وهي الطريقة التي مكنته من الظهور على من يدرسون أو يدعون الفلسفة، ويتعلقون في الجدال عن مذاهبهم بشيء من آرائهم، ولأخذه بظاهر الكتب والسنة، وتصديه لمدافعة كل فرقة شاذة أو ضالة بمثل سلاحها، كان لمؤلفاته الوقع الحسن في نفوس أكثر أهل العلم من أتباع الأئمة، قال القاضي عياض في كتاب (المدارك): ((فلما كثرت تآليفه وانتُفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذَبُّه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذَبِّ عن السنة وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة)).
وقد ينساق أبو الحسن الأشعري في مجادلة الخصوم إلى آراء لا تمس أصول العقائد، ولا ترجع إلى صريح القرآن أو السنة، وأكثر ما يخالفه فيه بعض علماء السنة الذين يجلونه كإمام الحرمين وغيره من الراسخين في العلم عائد إلى هذا القبيل.
أنكر بعض أهل العلم على الإمام الرازي مناقشته للأشعري في بعض مؤلفاته، فقال ابن السبكي: والإمام الرازي لا ينكر عظمة الأشعري، كيف وهو على طريقته يمشي، وبقوله يأخذ! ولكن لم تبرح الأئمة يعترض متأخرُها على متقدمها، ولا يشينه ذلك، بل يزينه.
ومن معاصري الأشعري محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي المتوفى سنة 333هـ وهو من أئمة أهل الحق، وبينه وبين الأشهري خلاف في مسائل يعذر كل منهما صاحبه في الاجتهاد فيها، ولا يراه حائدا بها عن مذهب أهل السنة.
مؤلفاته:
لأبي الحسن مؤلفات كثيرة، حتى قيل إنها تزيد على مائتي مصنف، من هذه المؤلفات:
1ـ كتاب ((الفصول في الرد على الخارجين على الملة من الملحدين والفلاسفة والطبيعيين والدهريين وأهل التشبيه والقائلين بقدم الدهر على اختلاف مقالاتهم وأنواع مذاهبهم))، ثم رد على البراهمة واليهود والنصارى والمجوس، وهو كتاب كبير يشتمل على اثني عشر كتابا.
2ـ ومنه كتاب ((الموجز((وهو يشتمل على اثني عشر كتابا على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة والداخلين فيها، وآخره كتاب الإمامة.
3ـ ومنها تفسيره المسمى بـ((المختزن))، قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب (القواصم والعواصم): انتدب الأشعري إلى كتاب الله فشرحه في خمسمائة مجلد، وسماه بالمختزن، ومنه أخذ الناس كتبهم، ومنه أخذ عبدالجبار الهمداني كتابه في تفسير القرآن الذي يسمى بالمحيط في مائة سفر، ثم ذكر ابن العربي أن الصاحب ابن عباد بذل عشرة آلاف دينار لخازن الكتب في بغداد، فألقى النار في الخزانة، فاحترقت الكتب واحترق من بينها ((المختزن)) ولم تكن منه إلا نسخة واحدة، فنفدت من أيدي الناس، وكان الصاحب بن عباد على مذهب المعتزلة، ولأبيه عباد بن عباس كتاب أحكام القرآن ينصر فيه مذهب الاعتزال.
وليس بين أيدينا من مؤلفات أبي الحسن غير كتاب ((الإبانة))، وهو كتاب قرر فيه عقيدة السلف، ورَدَّ على ما يخالفها من آراء اعتزالية، ومنه يقف القارئ على طريقة الشيخ في الرد على مخالفيه، ويعرف كيف كان يجمع في الاستدلال بين السمع والعقل.
وفاته:
توفي أبو الحسن رحمه الله تعالى في بغداد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، قال أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي: لما قرب أجل أبي الحسن الأشعري دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف عبارات.
ومات في حجر أبي علي هذا، وكانوا يصفونه عند النداء لجنازته بناصر الدين، ودفن في تربة بين الكرخ وباب البصرة، قال أبو الحسن القابسي: لقد مات الأشعري يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مستريحون منه. أفاض الله على قبره رحمة ونورا.
بقلم الإمام الأكبر السيد محمد الخضر حسين التونسي
شيخ الجامع الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أورث الناس دينا ساطع الحجج، محكم الآيات، فساروا في ضوئه أمة واحدة، لا يختلفون في شيء يرجع إلى العقائد حتى آخر خلافة عثمان رضي الله عنه حيث حميت تلك المناقشات السياسية، واتخذها مرضى القلوب أمثال (عبدالله بن سبأ) ذريعة إلى فتنة يكيدون بها الإسلام، ففتحوا بابها بقتل الخليفة، ونشأت خلافة علي كرم الله وجهه، وغبار الفتنة ثائر، فتولدت تحت مثاره آراء سياسية، ثم جعلت تلك الآراء تتحول إلى مذاهب دينية، ودب في النفوس مرض الاختلاف، ومن هذا الاختلاف ما يرجع إلى أصول العقائد، فيحل عروة الإيمان، ومنه ما يرجع إلى فروعها، فلا يزيد على أن يسمى انحرافا عن الصواب.
كثرت الفرق، وتعددت الألقاب، فوهن حبل الاتحاد الإسلامي، ولولا هذا التفرق لبلغ الإسلام من القوة فوق ما بلغ، وارتقى في السيادة ذروة فوق التي ارتقى.
ومن هذه الفرق فرقة يغالون في (التشيع) للإمام علي كرم الله وجهه، ومن أبعدهم في هذا الغلو السبئية أتباع (عبدالله بن سبأ)، الذي ادعى لعلي عليه السلام وصف الإلهية، فنفاه علي إلى المدائن، ويقال : إنه كان يهوديا، فتظاهر بالإسلام ليكيد له بمثل هذه الدعوى.
ويقابل هذه الفرقة فرقة يدينون بكراهة علي رضي الله عنه، وهم (الخوارج)، ونشأ هذا المذهب من جماعة كانوا مع علي في حرب صفين، ثم خرجوا عليه عقب قضية التحيكم.
ومن هذه الفرق فرقة يبالغون في إثبات الوعد، حتى قال بعضهم : لا يضر مع الإيمان معصية، وهم (المرجئة).
أما الإرجاء الذي ينسب إلى بعض فضلاء التابعين كالحسن بن محمد بن الحنفية، فمعناه عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين من العلويين والأمويين بكونها مخطئة أو مصيبة، وإرجاء أمرهما أي تأخيره وتفويضه إلى الله تعالى، وهو بهذا المعنى لا يمس جانب الإيمان، ولا يعد صاحبه عند أهل السنة موضعا للعيب.
ومن هذه الفرق فرقة يبالغون في إثبات القدرة للإنسان، وينكرون إضافة الخير والشر إلى القدر، وهم (القدرية)، وأول من تكلم بهذا (معبد بن عبدالله الجهني) الذي خرج مع ابن الأشعث، ووقع في يد الحجاج فقتله سنة 80هـ.
ومن هذه الفرق فرقة لا يثبتون للعبد قدرة على الفعل لا مؤثرة ولا كاسبة، وهم (الجبرية)، وأول من ظهر بهذا المذهب (جهم بن صفوان) الذي خرج مع الحارث بن سريج على بني أمية في أواخر دولتهم، ووقع في قبضتهم بعد انهزام الحارث وقتل سنة 128 أو 131 هـ.
ومن هذه الفرق فرقة يشَبِّهُون الله ـ وهو واجب الوجود ـ ببعض مخلوقاته، وهم (المشبهة)، وممن تعزى إليه هذه البدعة (الجعد بن درهم) مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
ومن غلاة المشبهة (الكرامية) أتباع (محمد بن كَرَّام( وهو شيخ نشأ في سجستان، ثم دخل نيسابور، وباح بالتجسيم، فحبسه عبدالله بن طاهر، ثم أطلقه فتخلص إلى القدس الشريف، وهناك توفي سنة 256هـ.
ومن هذه الفرق فرقة يؤولون القرآن والسنة على غير ما يراد منها، مكرا بالدين وصرفا للناس عن هدايته، وهم (الباطنية)، وائتمار من أصلهم المجوسية بالكيد للإسلام وقع ـ على ما يقصه أبو بكر بن العربي ـ في عهد البرامكة، ولكن تأويل الظاهر على وجوه تعطل أحكام الشريعة وتذهب ببهاء حكمتها ظهر فيما بعد، ومن زعماء هذه النحلة (حمدان قرمط) المتوفى سنة 264هـ، ومنه أخذ الباطنية لقب (القرامطة.(
ومن أذناب هذه الفرقة اليوم الطائفة المسماة بـ(البابية) أو (البهائية)، وكانت قبل هذا تعمل في خفاء، فسرى وباؤها في نفوس كثير من المسلمين الغافلين، حتى أخذ بعض زعمائها الغرور، فجاهروا بشيء مما يسرون، فانكشفت للناس سريرتها، وافتضح أمرها، فلا تقوم لدعايتها بعد هذا ـ إن شاء الله ـ قائمة.
ومن هذه الفرق فرقة (المعتزلة)، ومن رؤوسها (أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزَّال)، وصاحبه (عمرو بن عبيد)، وكانا يجالسان الحسن البصري المتوفى سنة 116هـ، ثم اعتزلاه في نفر كانوا على رأيهما، وظهر بعد هؤلاء طبقة أخرى، من زعمائها (إبراهيم بن يسار النَّظَّام) المتوفى سنة 221هـ، و(محمد بن الهذيل العلاّف) المتوفى سنة235هـ، و(أحمد بن أبي دؤاد) المتوفى سنة 240هـ، و(بشر المريسي) المتوفى سنة 218هـ، ثم عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 250هـ.
وظهر بعد هؤلاء طبقة ، من رجالها (أبو علي محمد الجبائي) المتوفى سنة 303هـ، وهو أستاذ أبي الحسن الأشعري، و(أبو القاسم عبدالله الكعبي) المتوفى سنة 317هـ، وإليه تنسب الفرقة (الكعبية(، و(أبو هاشم عبدالسلامبن أبي علي الجبائي) المتوفى سنة 321هـ، وإليه تنسب الفرقة )البهشمية)، فالكعبي وأبو هاشم كانا معاصرين لأبي الحسن الأشعري.
وظهر مذهب الاعتزال لذلك العهد، إذ كان لكثير من زعمائه البراعة في البيان والوجاهة عند رجال الدولة، فعمرو بن عبيد كان رفيع المنزلة عند المنصور، وكان المجلس الذي يعقده البرامكة لأصحاب المقالات ينتظم من أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب، وثمامة بن أشرس، وجعفر بن بشر، وكلهم من زعماء الاعتزال.
وأحمد بن أبي دؤاد كان وجيها لدى المأمون، وتولى قاضي القضاة في خلافة المعتصم، وهو الذي امتحن الإمام أحمد بن حنبل وحاول إلزامه القول بخلق القرآن الكريم، وكذلك كان ابن أبي دؤاد في عهد الواثق، ولما تقلد المتوكل الخلافة أصيب ابن أبي دؤاد بفالج، فخلفه في القضاء ابنه محمد بن أحمد، ثم صرفه المتوكل عن القضاء، وولّى مكانه يحيى بن أكثم، وكان يقتدي بمذهب أهل السنة.
ومن أسباب ظهور الاعتزال أن بعض زعمائه كانوا يتصدون للرد على الخارجين عن الملة من نحو الكلاحدة والطبيعيين، كما رد واصل الغزال على المانوية، ورد أبو هاشم بن أبي علي الجبائي على القائلين بالطبائع، ورد أبو الحسين بن أبي عمر الخياط على ابن الراوندي في كتاب )الانتصار)، وكانوا يدرسون الفلسفة، ويتناولون آراء رجالها بالنقض، فلأبي هاشم هذا كتاب (النقض على أرسطاليس في الكون والفساد)، ومما نقرؤه في ترجمة النظام أن جعفر بن يحي البرمكي ذكر أرسطاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال جعفر: كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه! فقال النظام: أيهما أحب إليك: أن أقرأه من أوله إلى آخره، أمن آخره إلى أوله؟ ثم أخذ يذكره شيئا فشيئا، وينقض عليه، فتعجب جعفر منه.
ودراسة المعتزلة للفلسفة أفادت في ردهم على بعض الفلاسفة والملاحدة، ولكن انحرفت ببعض آرائهم عن قصد السبيل، فتعسفوا في نقض نصوص من الكتاب والسنةظنا منهم أن الفلسفة تتعاصى عن قبول ما تدل عليه هذه النصوص، ولم يكن المعتزلة في المسائل التي تعزى إليهم على رأي واحد، بل كانوا يختلفون في بعض الآراء، وقد ينتصب بعضهم لتفنيد آراء بعض، كما ألف جعفر بن حرب في الرد على أبي الهذيل العلاّف كتابا سماه )توبيخ أبي الهذيل) وبالغ في الرد عليه حتى أشار إلى تكفيره.
وزاد مذهبَ الاعتزال في القرن الثاني والثالث رواجا أن أهل السنة كانوا لا يعنون بمجادلتهم على طريقة نظرية يرخي فيها الخصم لخصمه العنان، ثم يدفع شيهه شبهة بعد أخرى، وينقض أدلته دليلا بعد دليل، وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وحكى عنه الغزالي في كتاب (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على المبتدعة فرض، فقال أحمد: نعم، ولكن حيث حكيت شبهتهم أولا، ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظرإلى الجواب، ولا يفهم كنهه، قال الغزالي: وما ذكره أحد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
كان أهل السنة من ناحية التفقه في الدين وتقرير أصول الأحكام يبسطون القول إلى أبعد غاية، أما موقفهم أمام الفرق التي تتكلم في العقائد وما يتصل بها، فيشبه موقف من يستخف بقوة خصمه، فلا يعد لهم ما استطاع من قوة، أو لا يُعمل في دفاعهم ما لديه من سلاح، حتى يجوسوا خلال أرضه، وينقصوها من أطرافها.
سادت في القرن الثالث الآراء المخالفة لمذهب السلف، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأحسن التعبير عن مذهب أهل السنة، وانقلب علم الكلام إلى هيئة غير هيئته التي خلعها عليه المعتزلة والمرجئة والمشبهة والقدرية، والذي يستطيع ان يجاهد فيقلب أمما كثيرة من جهة إلى أخرى، جدير بأن يعد في أعاظم الرجال، فإذا عرضنا عليك صحيفة من حياة أبي الحسن الأشعري، فإنما نعرض عليك شيئا من سيرة رجل كان له في إصلاح النفوس وتقويم العقول جهاد أي جهاد.
نسب أبي الحسن الأشعري ومولده:
هو علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن ابي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشعري نسبة إلى (أشعر) قبيلة باليمن، فنسبه عربي صريح، ومولده بالبصرة سنة ستين ومائتين.
نشأته العلمية:
نشأ الأشعري بالبصرة، وهي يومئذ زاهية بالعلوم الدينية والعربية وفن الكلام، فأخذ السنة عن: الحافظ زكريا بن يحيى الساجي، وأبي خليفة الجمحي، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب المقرئ، وعبدالرحمن بن خلف الضبي، وقد أكثر في تفسيره من الرواية عن هؤلاء،ثم رحل إلى بغداد، وأخذ عمن لقيه فيها من علماء الحديث.
ودرس علم الكلام على مذهب المعتزلة، فكان يتلقى على طائفة من كبارهم مثل أبي علي الجبائي، والشحام، والعطوي، وكان متقدما في هذا العلم على أقرانه، وسنحدثك قريبا عن براءته من مذهب المعتزلة، ورجوعه إلى مذهب أهل السنة.
وإذا لم يذكر الأشعري في طبقات المحدثين، فلأن همته لم تكن مصروفة إلى الإكثار من الرواية، وإنما كان يبذل جهده في تعرف آراء الفرق، والغوص على الحجج التي تنقض شبههم، وتدمغ باطلهم، فلا بأس عليه مما وصفه به بعض الحنابلة من أن خبرته بمقالات أهل الكلام أوسع من خبرته بمذاهب أهل الحديث، وكثير ممن عاصروه أو تلقوا عنه قد شهدوا له بغزارة العلم، وحسن التصرف فيما يعلم، وقال الأستاذ (أبو إسحق الإسفرائيني): كنت في جنب الشيخ (أبي الحسن الباهلي) كقطرة في جنب البحر، وسمعت الباهلي يقول: كنت في جنب الأشعري كقطرة في جنب البحر.
وهذه الشهادة وإن كانت صادرة عن تواضع من أبي الحسن الباهلي، لا تخلو من إيماء إلى عظم منزلة أبي الحسن الأشعري في العلم.
مذهبه في أصول الدين:
كان أبو الحسن الأشعري في مبدأ أمره على مذهب الاعتزال، ولزم أبا علي الجبائي سنين كثيرة، ثم اهتدى إلى أن الحق في جانب أهل السنة، وأراد أن يكون رجوعه عن الاعتزال علانية، فأتى المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقي كرسيا، ونادى بأعلى صوته قائلا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه ألأبصار ـ يعني في الدار الآخرة ـ وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة.
والواقع أنه لم يأت بمذهب جديد، وإنما صار إلى مذهب السلف وما كان عليه الأئمة الراشدون، فقام بتأييده والنضال عنه، وإنما يُنسب إليه المتمسكون بمذهب أهل السنة لأنه زاد المذهب حججا، وألف فيه كتبا كثيرة، وقد صرح في كتاب (الإبانة) بأنه على طريق السلف فقال: ((وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون)). وعوده إلى إلى مذهب أهل السنة بعد الاعتزال شاهد ـ كما قال القاضي عياض في (المدارك) ـ على ثبات قدمه، وصحة يقينه في الالتزام بالسنة، إذ لم يلزمها لأنه نشأ عليها، ولا اعتقدها تقليدا.
مذهبه في الأحكام العملية:
تنازع بعض أصحاب المذاهب أبا الحسن الأشعري، كل ينسبه إلى مذهبه، ذكره ابن السبكي في (طبقات الشافعية) وقال: قد زعم بعض الناس أن الشيخ مالكي المذهب، وليس بصحيح، وإنما كان شافعيا تفقه على أبي إسحق المروزي، نص على ذلك الأستاذ (أبو بكر بن فورك) في (طبقات المتكلمين)، والأستاذ (أبو إسحق الإسفرائيني) فيما نقله عنه الشيخ (أبو محمد الجويني) في (شرح الرسالة.)
وذكره القاضي عياض في كتاب (المدارك) على أنه من فقهاء المالكية، وقال: ذكر محمد بن موسى بن عمران أن الأشعري كان مالكيا وقال: ذكر لي بعض الشافعية أنه كان شافعيا، حتى لقيت الشيخ الفاضل الفقيه رافعا الحمال الشافعي فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن كان مالكيا، وكان مذهب مالك رحمه الله تعالى في وقته شائعا في العراق، أيام إسماعيل بن إسحق.
والذي يظهر أن أبا الحسن الأشعري لم يؤلف كتابا في الأحكام يستفاد منه أنه مستقل النظر في الأحكام، أو أنه مقتد بأحد الأئمة.
قوته على المناظرة:
تمرن الأشعري على المناظرات منذ كان على مذهب الاعتزال، حتى إن أستاذه أبا علي الجبائي كان إذا حضرت مناظرة، قال له: نُبْ عني، وكان الجبائي صاحب قلم، ولم يكن قويا على المناظرة في المجالس.
وكان رحمه الله يقصد إلى مواطن المعتزلة ليناظرهم، فقيل له: كيف تخالط أهل البدع، وتقصدهم بنفسك، وقد أمرت بهجرهم؟ فقال: هم أولو رئاسة: منهم الوالي والقاضي، ولرئاستهم لا ينزلون إليّ، فإذا كانوا هم لا ينزلون إليّ، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصرا بالحجة! .
وكان لا يبتدئ مناظريه بالسؤال، بل يقف موقف المجيب المدافع، حضر الأستاذ أبو عبدالله بن خفيف مناظرة بين الأشعري وبعض مخالفيه، فقضى العجب من علمه وفصاحته، وقال له: لم لا تسأل أنت ابتداء؟ فقال الأشعري: أنا لا أكلم هؤلاء ابتداء، ولكن إذا خاضوا في ذكر ما لا يجوز في دين الله، رددنا عليهم بحكم ما فرض الله سبحانه وتعالى علينا من الرد على مخالفي الحق.
وجرت مناظرات بين أبي الحسن الأشعري والجبائي، منها مناظرة في قول الجبائي كسائر معتزلة البصرة: إنه يجب على الله تعالى مراعاة الأصلح بمعنى الأنفع للعبد، فسأل الأشعريُّ أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة عاش أحدهم في الطاعة، وأحدهم في الكفر والمعصية، والآخر مات صغيرا، فقال له الجبائي: يثاب الأول ويعاقب الثاني، ولا يعاقب الثالث ولا يثاب، فقال الأشعري: إن قال الثالث: يارب هل عمرتني، فأصلح، فأدخل الجنة كما دخلها أخي المؤمن! فأجاب الجبائي بأن الرب يقول: كنت أعلم أنك لو عشت لفسقت فدخلت النار، ثم قال الأشعري: فإن قال الثاني: يارب لِمَ لَمْ تُمِتني صغيرا حتى لا أعصي فلا أدخل النار كما أمَتَّ الثالث! فانقطع الجبائي.
فمعتزلة البصرة هم الذين يرون وجوب مراعاة الأصلح بمعنى الأنفع للعبد، أما معتزلة بغداد فيذهبون في تفسير الأصلح الذي يجب على الله مراعاته إلى معنى الأوفق في الحكمة والتدبير، وليس هذا المذهب بموضع المناظرة السالفة، لأن الحكمة لا تتبع جلب المنفعة أو درء المفسدة الشخصية، وإنما تقوم على ما يقتضيه حسن النظام العام للخليقة.
أخلاقه وتقواه:
كان في أبي الحسن دعابة، وكان له مع هذه الدعابة غيرة على الحق حامية، وتلك الغيرة هي التي تدفعه إلى مقارعة مخالفيه غير مبال بما كان لهم من جاه أو رئاسة، قال أحد أصحابه: ((إنه كان حضر معه مجلسا في جماعة من المبتدعة، فقام فيه لله مقاما حسنا، وكسر حجتهم، فلما خرج قلت له: جزاك الله خيرا، قال: وما ذاك؟ قلت: لمقامك هذا لله تعالى ونصر دينه، فقال: يا أخي إنا ابتلينا بأمراء سوء أظهروا بدع المخالفين، ونصروها، فوجب علينا القيام لله، والذب عن دينه حسب الطاقة، فمسألة من معرفة ربك، وما تطيعه به وتتقرب به إليه أجدى عليك من هذا)).
وهذه القصة تدلك على أنه كان يؤثر الحق على رضى الأمراء، وأنه كان من التواضع بحال من يذكر أن الازدياد من معرفة الله والإقبال على فعل الطاعات يفضل ما كان يشتغل به من مقارعة الابتداع على طريقة علم الكلام.
وفي أبي الحسن خصلة يعِزُّ في أهل العلم وجودها، وهي الرجوع عن الرأي عندما يستبين الحق، وشاهد هذا أنه نفض يده من مذهب الاعتزال علانية عندما استبان أن الحق في جانب أهل السنة، وكان قد صنف في أيام اعتزاله كتابا كبيرا نصر فيه مذهب الاعتزال، وقد يقول في بعض مؤلفاته: ألفنا كتابا في مسألة كذا، رجعنا عنه، ونقضناه، فمن وقع إليه فلا يُعَوِّلَن عليه.
وكان رحمه الله متجملا بالحياء والورع، قال أحمد بن علي الفقيه: خدمت الإمام أبا الحسن بالبصرة سنتين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي، فلم أجد أورع منه، ولا أغض طرفا، ولم أر أحدا أكثر حياء منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة.
وكان ينفق من غلة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة.
خصومه:
خصوم الرجل على قدر عظم شأنه، فكلما ارتفع الرجل درجة، أو ظهرت له مزية، تألم لهامن أحسوا من أنفسهم العجز عن أن يبلغوا شأوه، فليس من العجيب أن يكون لمثل الأشعري خصوم يناوءونه، ويَعْزُون إليه من المقالات ما لم ينطق به لسانه، ولم يخطر على قلبه، وليس من المعقول أن يقف الأشعري لطوائف مختلفة المذاهب والآراء وقفة من لا يعرف ذلك الذي يسميه الناس رهبة أو إحجاما، ويرجو مع هذا أن يمضي في سلامة من أن يتحدثوا عنه في غير أمانة.
ألصق به خصومه أقوالا لم تسمع منه في مناظرة ولا توجد له في كتاب، كما عزوا إليه أنه قال: إن المعجز هو كلام الله تعالى الذي لم يزل غير مخلوق، ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط، وقد ساق الأستاذ ركن الدين (أبو محمد عبدالله الجويني) في كتاب (عقيدة الإمام المطلبي) أشياء من هذه الأراجيف، وقال: ((قد تصفحت ما تصفحت من كتبه، وتأملت نصوصه في هذه المسائل، فوجدتها كلها على خلاف ما نسب إليه)) ثم قال: ((ولا عجب أن اعترضوا عليه واخترصوا، فإنه رحمه الله تعالى فاضح القدرية وعامة المبتدعة، وكاشف عوراتهم، ولا خير فيمن لا يعرف حاسده)).
وتحدث القاضي عياض في كتاب (المدارك) عمن يناوئون الأشعري فنسب طائفة منهم إلى الغلو في ترك التأويل حتى وقعوا في التشبيه، ثم قال: ((وأكثر من شنع عليه بالأندلس ابن حزم، فإنه ملأ كتابه وعلى أئمة أصحابه كذبا وتشانيع باطلة، وذلك في كتابه المسمى بـ((النصائح والفضائح)).
ولأبي العباس أحمد بن محمد بن عبدالمنعم القرطبي رسالة ردَّ بها على شخص تورط في هجو الأشعري، تسمى ((زجر المفتري على أبي الحسن الشعري)) قال في مطلعها:
أسير الهوى ضلت خطاك عن القصد فها أنت لا تُهدَى لخير ولا تَهْدِي
سللت حساما من لسانك كاذبا على عالم الإسلام والعَلَم الفرد
تمرست في أعراض بيت مقدس رمى الله منك الثغر بالحجر الصلد
ومما قال في وصف الأشعري:
وسل حساما من بيان فهومه فرد سيوف الغي مغلولة الحد
وأبدى علوما ميزت فضل فضله كتمييز ذي البردين والغرس والورد
فجاءت مجيء الصبح، والصبح واضح وسارت مسير الشمس والشمس في السعد
سللن سيوف الحق في موطن الهدى فغادرن صرعى الملحدين بلا لحد
وأيدن دين الله في أفق العلا بلا منصل عضب، ولا فرس نهد
وأمضين حكم النقل والعقل فاحتوى كلام إمام الحق مجدا على مجد
أنصاره:
قلنا فيما سلف: إن الأشعري لم يبتدع مذهبا جديدا، وإنما هو مقرر لمذهب السلف المبني على الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، وترك تأويلها حيث لم يعارضها قاطع من معقول أو محسوس، فمزية الأشعري أنه بسط البحث والمناضلة عنها بالحجج النظرية، أي على طريقة علم الكلام، وهي الطريقة التي مكنته من الظهور على من يدرسون أو يدعون الفلسفة، ويتعلقون في الجدال عن مذاهبهم بشيء من آرائهم، ولأخذه بظاهر الكتب والسنة، وتصديه لمدافعة كل فرقة شاذة أو ضالة بمثل سلاحها، كان لمؤلفاته الوقع الحسن في نفوس أكثر أهل العلم من أتباع الأئمة، قال القاضي عياض في كتاب (المدارك): ((فلما كثرت تآليفه وانتُفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذَبُّه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذَبِّ عن السنة وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة)).
وقد ينساق أبو الحسن الأشعري في مجادلة الخصوم إلى آراء لا تمس أصول العقائد، ولا ترجع إلى صريح القرآن أو السنة، وأكثر ما يخالفه فيه بعض علماء السنة الذين يجلونه كإمام الحرمين وغيره من الراسخين في العلم عائد إلى هذا القبيل.
أنكر بعض أهل العلم على الإمام الرازي مناقشته للأشعري في بعض مؤلفاته، فقال ابن السبكي: والإمام الرازي لا ينكر عظمة الأشعري، كيف وهو على طريقته يمشي، وبقوله يأخذ! ولكن لم تبرح الأئمة يعترض متأخرُها على متقدمها، ولا يشينه ذلك، بل يزينه.
ومن معاصري الأشعري محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي المتوفى سنة 333هـ وهو من أئمة أهل الحق، وبينه وبين الأشهري خلاف في مسائل يعذر كل منهما صاحبه في الاجتهاد فيها، ولا يراه حائدا بها عن مذهب أهل السنة.
مؤلفاته:
لأبي الحسن مؤلفات كثيرة، حتى قيل إنها تزيد على مائتي مصنف، من هذه المؤلفات:
1ـ كتاب ((الفصول في الرد على الخارجين على الملة من الملحدين والفلاسفة والطبيعيين والدهريين وأهل التشبيه والقائلين بقدم الدهر على اختلاف مقالاتهم وأنواع مذاهبهم))، ثم رد على البراهمة واليهود والنصارى والمجوس، وهو كتاب كبير يشتمل على اثني عشر كتابا.
2ـ ومنه كتاب ((الموجز((وهو يشتمل على اثني عشر كتابا على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة والداخلين فيها، وآخره كتاب الإمامة.
3ـ ومنها تفسيره المسمى بـ((المختزن))، قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب (القواصم والعواصم): انتدب الأشعري إلى كتاب الله فشرحه في خمسمائة مجلد، وسماه بالمختزن، ومنه أخذ الناس كتبهم، ومنه أخذ عبدالجبار الهمداني كتابه في تفسير القرآن الذي يسمى بالمحيط في مائة سفر، ثم ذكر ابن العربي أن الصاحب ابن عباد بذل عشرة آلاف دينار لخازن الكتب في بغداد، فألقى النار في الخزانة، فاحترقت الكتب واحترق من بينها ((المختزن)) ولم تكن منه إلا نسخة واحدة، فنفدت من أيدي الناس، وكان الصاحب بن عباد على مذهب المعتزلة، ولأبيه عباد بن عباس كتاب أحكام القرآن ينصر فيه مذهب الاعتزال.
وليس بين أيدينا من مؤلفات أبي الحسن غير كتاب ((الإبانة))، وهو كتاب قرر فيه عقيدة السلف، ورَدَّ على ما يخالفها من آراء اعتزالية، ومنه يقف القارئ على طريقة الشيخ في الرد على مخالفيه، ويعرف كيف كان يجمع في الاستدلال بين السمع والعقل.
وفاته:
توفي أبو الحسن رحمه الله تعالى في بغداد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، قال أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي: لما قرب أجل أبي الحسن الأشعري دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف عبارات.
ومات في حجر أبي علي هذا، وكانوا يصفونه عند النداء لجنازته بناصر الدين، ودفن في تربة بين الكرخ وباب البصرة، قال أبو الحسن القابسي: لقد مات الأشعري يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مستريحون منه. أفاض الله على قبره رحمة ونورا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق