مشروعية الحركة اثناء الذكر
الحركة اثناء الذكر
لقد أجازها بعض العلماء الأفاضل منهم العلاَّمة ابن عابدين في رسالته ( شفاء العليل )
قال: ( ولا كلام لنا مع الصُّدَّق من ساداتنا الصوفية المبرئين من كل خصلة ردية ، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن أقواماً يتواجدون ويتمايلون ؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقتَ مذاقهم عذرتهم...
ثم قال: ( وبمثل ما ذكره الإمام الجنيد أجاب العلاَّمة النحرير ابن كمال باشا لمَّا استفتي عن ذلك حيث قال :
ما في التواجد إن حققتَ من حرج ولا التمايل إن أخلصتَ من باس فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وَحُقَّ لمن دعاه مولاه أن يسعى على الراس .
من هذا نرى أن ابن عابدين رحمه الله تعالى يبيح التواجد والحركة في الذكر، وأن الفتوى عنده الجواز، وأن النصوص المانعة التي ساقها في حاشيته المشهورة في الجزء الثالث تُحمل على ما إذا كانت في حِلَق الذكر منكرات: من آلات اللهو والغناء، والضرب بالقضيب، والاجتماع مع المرد الحسان، وإنزال المعاني على أوصافهم، والتغزل بهم، وما إلى ذلك من المخالفات.
ولا شك أن التواجد هو تكلف الوجد وإظهاره من غير أن يكون له وجد حقيقة، ولا حرج فيه إذا صحت النية كما قال العلامة ابن عابدين في حاشيته:
( ما في التواجد إن حققت مِنْ حرج ولا التَّمايلِ إن أخلصت من باس )
وقال العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: الذينَ يذكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهم
(وعليه فيُحمل ما حُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أمَا قال الله تعالى: يذكرون الله قياماً وقعوداً ؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أنّ مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها) [ روح المعاني للعلامة محمود الألوسي ج4/ص 140] .
ومن أدلة القوم : ( كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله ، ويقولون بكلام لهم: محمد عبد صالح، فقال صلى الله عليه وسلم: "ماذا يقولون ؟" فقيل: إنهم يقولون: محمد عبد صالح، فلما رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم، وأقرهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، فلما أقرهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبين أن هذا جائز.
وفي الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاهتزاز بالذكر لا يُسمى رقصاً محرماً، بل هو جائز لأنه ينشط الجسم للذكر، ويساعد على حضور القلب مع الله تعالى ؛ إذا صحت النية. فالأمور بمقاصدها، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى.
ولننظر إلى الإمام علي رضي الله عنه كيف يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو أراكة: ( صلّيتُ مع علي صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأنَّ عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً، بين أيديهم كأمثال رُكَب المَعْزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تَنْبَلَّ ـ والله ـ ثيابُهم) ["البداية والنهاية في التاريخ" للإمام الحافظ المفسر المؤرخ إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى 774هـ. ج8/ص6. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في "الحلية" ج1/ص 76].
أدلة الحركة في الذكر
أولاً: من كتاب الله تعالى
يقول الله تعالى : (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم )
وقول الله سبحانه و تعالى : (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً و قعوداً وعلى جنوبكم)
قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن :
] ذكر الله تعالى ثلاث هيآت لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره فكأنها تحصر زمانه , ومن هذا قول السيدة عائشة رضي الله عنها : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه". أخرجه مسلم ... إلى أن قال فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله. [
وقال الآلوسي في تفسيره روح المعاني عند قوله تعالى : (يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) بعد كلام طويل : ] وعليه فيحمل ماحكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما و عروة ابن الزبير و جماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى :( "يذكرون الله قياماً وقعوداً") فقاموا يذكرون الله الله تعالى على أقدامهم , على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها [ "فالاستدلال بعموم الآية الأولى والآية الثانية التي تنص على جواز ذكر الله تعالى (قياماً و قعوداً وعلى جنوبهم ) المراد من ذلك أنهم يذكرون الله على كل الأحيان والحالات كما ورد ذلك في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها : (كان يذكر الله على كل أحيانه ) وهذا من باب إطلاق النصوص و عموماتها , ولم يذكر نص آخر يخصص هذا العموم أو يقيد هذا الإطلاق , فيعمل بالمطلق على إطلاقه و بالعام على عمومه حتى يرد نص يخصصه . فإذا لم يرد نص يخصصه لا يجوز إخراج فرد من أفراد مدلوله إلا بدليل , وإخراج فرد من أفراده بدون دليل تحكم وتهجم على كتاب الله تعالى و تخصيص له بالرأي دون دليل ...للعلامة ابراهيم اليعقوبي..."
ويقول العلامة الكتاني : ]غاية الرقص عند القوم ذكر من قيام , وهو مشروع بنص القرآن الكريم (يذكرون الله قياماً وقعوداً) و تمايل واهتزاز ؛ وهو منقول عن الصحابة فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن الفضيل بن عياض : (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا الله تمايلوا كما تتمايل الشجرة بالريح العاصف إلى أمام ثم ترجع إلى وراء) [ "التراتيب الإدارية للعلامة عبد الحي الكتاني ج 2 ص 143".
ثانياً : من السنة المطهرة
الحديث الأول :
روى مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :"جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبيه أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم" .
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت :" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي و الحبشة يلعبون في المسجد ... إلى أن قالت : وهو صلى الله عليه وسلم يقول (دونكم يا بني أرفدة ) حتى إذا مللت قال :(حسبك ) قلت: نعم . قال :(فاذهبي) ."
أما رواية الإمام أحمد في مسنده و السراج وابن حبان برجال الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم و يقولون بكلام لهم : محمد رجل صالح . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ماذا يقولون ؟) فقيل : يقولون : محمد رجل صا لح .
آ-قال النووي في شرح صحيح مسلم عند شرح (جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد ): ]هو بفتح الياء وإسكان الزاي و كسر الفاء و معناه يرقصون . وحمله العلماء على التوثب بسلاحهم و لعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الراقص[ "شرح صحيح مسلم للنووي ج6 ص 186"
ب-وقال ابن حجر العسقلاني عند شرحه ( دونكم يا بني أرفدة ) : ]يقول دونكم بالنصب على الظرفية بمعنى الإغراء والمغرى به محذوف وهو لعبهم بالحراب . وفيه إذن و تنهيض لهم و تنشيط[ "فتح الباري ج2 -ص 444 . كما استنبط حكم جواز النظر إلى اللهو المباح حيث يقول : ]و في الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح["فتح الباري ج1 - ص549 ."
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأذن لهم و ينشطهم و يغريهم بلعبهم و لهوهم المباح , وهو الرقص في مسجده , فكيف بالذاكرين الله عز وجل ؟ فإنه جائز لهم من باب أولى لأنه جد و طاعة
ج-ونقل العلامة الكتاني بعد أن ذكر عدداً من الأحاديث منها حديث رقص الحبشة قوله : ]فيها دلالة على أنواع من الرقص :
الأول : اللعب ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب .
الثاني : فعل ذلك في المسجد .
الثالث : قوله عليه الصلاة والسلام : (دونكم يا بني أرفدة ) . وهذا أمر بالعب والتماس له فكيف يقرر كونه حراماً .
الرابع : منعه لأبي بكر و عمر رضي الله عنهما من الإنكار والتغير , وتعليله بأنه يوم عيد وسرور.
الخامس وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك و سماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها. ["التراتيب الإدارية ج 2-ص144-145 .وهو كلا م الإمام الغزالي في الإحياء" .
ونقل العلامة الكتاني من قوله القاضي عياض مانصه ]فيه أقوى دليل على إباحة الرقص , إذ زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن أغراهم . انتهى. نقله المواق "المواق هو محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي , أبو عبد الله المواق , فقيه مالكي . وكان عالم غرناطة و إمامها و صالحها في وقته. توفي عام 897" في سنن المهتدين , و الونشريسي "الونشريسي هو أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني أبو العباس . فقيه مالكي توفي عام 914 ه" في المعيار وأقراه.[
و قال العلامة الكتاني أيضاً : ]و حيث لم ينههم بل أقرهم و أغراهم فهو ذكر قصد به التعبد و الطاعة و إظهار الفرح بالله و برسوله صلى الله عليه وسلم , فلذلك أقرهم عليه الصلاة والسلام , و عجب من فعلهم و نالوا غاية الرضا منه[ "التراتيب الإدارية ج 2 ص 143 ." ...
د-و يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي : ] و الرقص سبب في تحريك السرور والنشاط . فكل سرور مباح يجوز تحريكه . ولو كان حراماً لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و هم يزفنون["إحياء علوم الدين ج 2 –ص 304".
الحديث الثاني :
أخرج أبو داوود من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : اختصم علي وجعفر و زيد بن حارثة في ابنة حمزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : (أنت مني و أنا منك ) فحجل علي . وقال لجعفر بن أبي طالب (أشبهت خلقي وخلقي ) فحجل جعفر . و قال لزيد بن حارثة : (أنت أخونا ومولانا ) فحجل زيد ..."الحديث ذكره ابن حجر في فتح الباري من رواية الإمام أحمد و خرجه العراقي بكتابه الغني عن حمل الأسفار في الأسفار بهامش الإحياء ج 2 ص 304 بإسناد حسن من رواية أبي داوود " .
آ-قال ابن حجر العسقلاني عند شرح الحديث : ]وحجل بفتح المهملة و كسر الجيم أي وقف على رجل واحدة وهو الرقص بهيئة مخصوصة .["فتح الباري ج 7 ص 507" .
ب-وقال العلامة الكتاني ]والحجل بحاء فجيم كسبب –رقص على هيئة مخصوصة["التراتيب الإدارية ح 2 ص 149 " .
ج-ويقول مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة العلامة الكبير أحمد زيني دحلان رحمه الله تعالى في كتابه الشهور في السيرة النبوية عند ذكر الحديث ما نصه ]فرقص –يعني جعفر- رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب, فلم ينكر عليه صلى عليه وسلم وجعل ذلك أصلاً لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع["السيرة النبوية والآثار المحمدية لزيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 2 ص 252".
الحديث الثالث :
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال و هو في قبة له يوم بدر : (أنشدك عهدك و وعدك , اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً ) . فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده و قال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج و هو يثب بالدرع , و هو يقول : (سيهزم الجمع و يولون الدبر .بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر )"كذا رواه البخاري و النسائي في غير موضع من حديث خالد بن مهران الحذاء به , كذا في تفسير ابن كثير ج 2 ص 266 " .
الشاهد فيه جواز قراءة كلام الله سبحانه و تعالى في حالة الوثب و هو الطفر و القفز , فجواز ذكر الله تعالى في هذه الحالة من باب أولى .
الحديث الرابع :
أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي أراكة يقول : صليت مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر فلما انفتل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة , حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قدر رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال : و الله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم , لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً , بين أعينهم كأمثال ركب المعزى , قد باتوا لله سجداً و قياماً , يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم و أقدامهم , فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح و هملت عيونهم حتى تبل ثيابهم ... الحديث "كذا في البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 6 , و أخرجه أبو نعيم في الحلية ج 1 ص 76 , و الدينوري و العسكري و ابن عساكر في الكنز ج 8 ص 219 كما في حياة الصحابة ج 1- ص 49" .
قال سيدي الشيخ عبد القادر عيسى حفظه الله تعالى : ]و يهمنا من عبارة الإمام علي رضي الله عنه قوله : مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح . فإنك تجده صريحاً في الإهتزاز , و يبطل قول من يدعي أنه بدعة محرمة و يثبت إباحة الحركة في الذكر مطلقاً .[ "(يقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام : (البدعة فعل مالم يعهد في عهد رسول الله صلى اله عليه وسلم . وهي مقسمة إلى: بدعة واجبة –و بدعة محرمة –و بدعة مندوبة –و بدعة مكروهة –و بدعة مباحة, ومعرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ) " قواعد الأحكام ج 2 ص "189 .
وقد استدل الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله بهذا الحديث في إحدى رسائله على ندب الإهتزاز بالذكر و قال : ]هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة في الذكر[ "حقائق عن التصوف ص 189".
الحديث الخامس :
أخرج أبو نعيم في الحلية عن الفضيل بن عياض : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذكروا الله تمايلوا يميناً و شمالاً كما تتمايل الشجرة بالريح العاصف إلى أمام ثم إلى وراء. "التراتيب الإدارية ج 2 ص 141".
الحديث السادس :
روى مسلم في صحيحه , والترمزي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه .
الحديث السابع :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (أكثروا ذكر الله حتى يقال مجنون ) . و في رواية( حتى يقال إنه مجنون)."رواه أحمد وأبو يعلى و البيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً و كذا ابن حبان , و الحاكم و صححاه . كما في كشف الخفاء ج 1-ص 187"
الشاهد فيه أن الذاكر لله تعالى إن كان ساكناً لا موجب لقول الناس عنه مجنون لو لم ير بحالة و هيئة تدفع غيره من الغافلين إلى إلقاء تهمة الجنون عليه .
الحديث الثامن :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة , فمر على جبل يقال له جمدان - بضم الجيم - .فقال : (سيروا هذا جمدان , سبق المَُفردون – بفتح الفاء و كسر و تشديد الراء -) . قالو: وما المُفرَدون يا رسول الله ؟ قال : (الذاكرون الله كثيرا ) . "رواه مسلم " و في رواية الترمزي : ( يا رسول الله وما المُفرَدون ؟ قال : (المستهترون
- بضم الميم وفتح التاء- بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا ً)
و المستهترون بصيغة اسم المفعول هم المولعون بالذكر المداومون عليه , لا يبالون ما قيل فيهم , و لا ما فعل بهم .
الدليل على
مشروعية التمايل في الذكر
حدثني العلامة الوجيه عبد الرحمن بن أبي بكر الأحسائي1 الشهير بالملا قراءة عليه لبعض سنن ابن ماجه القزويني وإجازة لباقيه وهو عن جماعة منهم محدث الحرمين الشريفين عمر حمدان المحرسي وحافظ الدنيا عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني2 وهما عن أبي النصر الخطيب3 عن الكزبري4 عن الرحمتي5 عن النابلسي6 عن النجم7 عن البدر8 عن المزي9 عن جده10 عن الحجار11 عن القبيطي12 عن أبي زرعة13 عن المقومي14 عن أبي طلحة15 عن القطان16 عن ابن ماجة القزويني (في سننه)17 قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ18 قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ19 حَدَّثَنِي أَبِي20 عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ21 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ221 قَالَ:
((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدِهِ وَقَبَضَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ قَالَ وَيَتَمَايَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))اهـ.
فهذا حديث صحيح، عال، مخرج في مسلم وغيره، ورجاله رجال الصحيحين ولا مطعن فيه، وفيه نفحات أقتصر منها على اثنتين:
الأولى: (نفحة صوفية):
في هذا الخبر أن النبي كان على المنبر، وكان يعظ أصحابه، ويتلوا عليهم القرآن ويخطب فيهم، وهذا من العبادات بلا ريب، ومن مجالس الذكر قطعا، وبينما كان صلى الله عليه وسلم على المنبر جعل يتلوا الآية الكريمة ويقبض يده ويبسطها ويتمايل تمايلا عن يمين وشمال، وكان تمايله من الوضوح بحيث أن سيدنا عبد الله بن عمر رأى المنبر تحت قدمي رسول الله يتحرك وخاف أن يسقط، وفي هذا مشروعية التمايل في أثناء الوعظ والذكر وتلاوة القرآن تفاعلا مع المعاني وعظمتها فمن رد هذا وأنكره فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا فعله وفي مجلس وعظ وذكر وتلاوة للقرآن، وهذا هو عين المراد من جهة الصحة والصراحة والوضوح.
الثانية: (نفحة تنزيهية):
قد أخرج هذا الحديث ابن ماجه تحت باب ما أنكرت الجهمية، وفي هذا الحديث أن الله يأخذ السماوات والأرض بيده، وهذا الأخذ بلا كيف ولا تشبيه، فهذا هو مقصود ابن ماجه من التبويب، وأما قبض النبي يده وبسطها فلم يكن للتشبيه وإثبات تجسيم كما توهمت المشبهة والعياذ بالله، وإنما كان لتقرير معنى العظمة بشيء حسي تدركه أفهام الناس، وكان من باب التواجد والتذوق الذي يفعله الصوفية، وأما من احتج بهذا الخبر على صفة القبض والبسط لله ـ من خلال هذا الخبر بعينه لا غيره ـ وأخذها من فعل النبي لزمه أن يضيف إليها صفة التمايل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأن النبي لو كان بما فعل حاكيا لفعل الرب لكان حاكيا التمايل أيضا كما كان حاكيا القبض والبسط، فإن قالت الحشوية لم يكن النبي حاكيا للتمايل والقبض وإنما فعل ذلك من نفسه تأثرا بالآيات فقد أقاموا على أنفسهم الحجة بجواز التمايل على المنابر وفي مجالس الذكر وهو ما يفعله القراء اليوم، والسلام.
لقد أجازها بعض العلماء الأفاضل منهم العلاَّمة ابن عابدين في رسالته ( شفاء العليل )
قال: ( ولا كلام لنا مع الصُّدَّق من ساداتنا الصوفية المبرئين من كل خصلة ردية ، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن أقواماً يتواجدون ويتمايلون ؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقتَ مذاقهم عذرتهم...
ثم قال: ( وبمثل ما ذكره الإمام الجنيد أجاب العلاَّمة النحرير ابن كمال باشا لمَّا استفتي عن ذلك حيث قال :
ما في التواجد إن حققتَ من حرج ولا التمايل إن أخلصتَ من باس فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وَحُقَّ لمن دعاه مولاه أن يسعى على الراس .
من هذا نرى أن ابن عابدين رحمه الله تعالى يبيح التواجد والحركة في الذكر، وأن الفتوى عنده الجواز، وأن النصوص المانعة التي ساقها في حاشيته المشهورة في الجزء الثالث تُحمل على ما إذا كانت في حِلَق الذكر منكرات: من آلات اللهو والغناء، والضرب بالقضيب، والاجتماع مع المرد الحسان، وإنزال المعاني على أوصافهم، والتغزل بهم، وما إلى ذلك من المخالفات.
ولا شك أن التواجد هو تكلف الوجد وإظهاره من غير أن يكون له وجد حقيقة، ولا حرج فيه إذا صحت النية كما قال العلامة ابن عابدين في حاشيته:
( ما في التواجد إن حققت مِنْ حرج ولا التَّمايلِ إن أخلصت من باس )
وقال العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: الذينَ يذكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهم
(وعليه فيُحمل ما حُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أمَا قال الله تعالى: يذكرون الله قياماً وقعوداً ؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أنّ مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها) [ روح المعاني للعلامة محمود الألوسي ج4/ص 140] .
ومن أدلة القوم : ( كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله ، ويقولون بكلام لهم: محمد عبد صالح، فقال صلى الله عليه وسلم: "ماذا يقولون ؟" فقيل: إنهم يقولون: محمد عبد صالح، فلما رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم، وأقرهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، فلما أقرهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبين أن هذا جائز.
وفي الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاهتزاز بالذكر لا يُسمى رقصاً محرماً، بل هو جائز لأنه ينشط الجسم للذكر، ويساعد على حضور القلب مع الله تعالى ؛ إذا صحت النية. فالأمور بمقاصدها، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى.
ولننظر إلى الإمام علي رضي الله عنه كيف يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو أراكة: ( صلّيتُ مع علي صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأنَّ عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً، بين أيديهم كأمثال رُكَب المَعْزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تَنْبَلَّ ـ والله ـ ثيابُهم) ["البداية والنهاية في التاريخ" للإمام الحافظ المفسر المؤرخ إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى 774هـ. ج8/ص6. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في "الحلية" ج1/ص 76].
أدلة الحركة في الذكر
أولاً: من كتاب الله تعالى
يقول الله تعالى : (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم )
وقول الله سبحانه و تعالى : (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً و قعوداً وعلى جنوبكم)
قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن :
] ذكر الله تعالى ثلاث هيآت لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره فكأنها تحصر زمانه , ومن هذا قول السيدة عائشة رضي الله عنها : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه". أخرجه مسلم ... إلى أن قال فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله. [
وقال الآلوسي في تفسيره روح المعاني عند قوله تعالى : (يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) بعد كلام طويل : ] وعليه فيحمل ماحكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما و عروة ابن الزبير و جماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى :( "يذكرون الله قياماً وقعوداً") فقاموا يذكرون الله الله تعالى على أقدامهم , على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها [ "فالاستدلال بعموم الآية الأولى والآية الثانية التي تنص على جواز ذكر الله تعالى (قياماً و قعوداً وعلى جنوبهم ) المراد من ذلك أنهم يذكرون الله على كل الأحيان والحالات كما ورد ذلك في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها : (كان يذكر الله على كل أحيانه ) وهذا من باب إطلاق النصوص و عموماتها , ولم يذكر نص آخر يخصص هذا العموم أو يقيد هذا الإطلاق , فيعمل بالمطلق على إطلاقه و بالعام على عمومه حتى يرد نص يخصصه . فإذا لم يرد نص يخصصه لا يجوز إخراج فرد من أفراد مدلوله إلا بدليل , وإخراج فرد من أفراده بدون دليل تحكم وتهجم على كتاب الله تعالى و تخصيص له بالرأي دون دليل ...للعلامة ابراهيم اليعقوبي..."
ويقول العلامة الكتاني : ]غاية الرقص عند القوم ذكر من قيام , وهو مشروع بنص القرآن الكريم (يذكرون الله قياماً وقعوداً) و تمايل واهتزاز ؛ وهو منقول عن الصحابة فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن الفضيل بن عياض : (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا الله تمايلوا كما تتمايل الشجرة بالريح العاصف إلى أمام ثم ترجع إلى وراء) [ "التراتيب الإدارية للعلامة عبد الحي الكتاني ج 2 ص 143".
ثانياً : من السنة المطهرة
الحديث الأول :
روى مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :"جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبيه أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم" .
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت :" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي و الحبشة يلعبون في المسجد ... إلى أن قالت : وهو صلى الله عليه وسلم يقول (دونكم يا بني أرفدة ) حتى إذا مللت قال :(حسبك ) قلت: نعم . قال :(فاذهبي) ."
أما رواية الإمام أحمد في مسنده و السراج وابن حبان برجال الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم و يقولون بكلام لهم : محمد رجل صالح . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ماذا يقولون ؟) فقيل : يقولون : محمد رجل صا لح .
آ-قال النووي في شرح صحيح مسلم عند شرح (جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد ): ]هو بفتح الياء وإسكان الزاي و كسر الفاء و معناه يرقصون . وحمله العلماء على التوثب بسلاحهم و لعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الراقص[ "شرح صحيح مسلم للنووي ج6 ص 186"
ب-وقال ابن حجر العسقلاني عند شرحه ( دونكم يا بني أرفدة ) : ]يقول دونكم بالنصب على الظرفية بمعنى الإغراء والمغرى به محذوف وهو لعبهم بالحراب . وفيه إذن و تنهيض لهم و تنشيط[ "فتح الباري ج2 -ص 444 . كما استنبط حكم جواز النظر إلى اللهو المباح حيث يقول : ]و في الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح["فتح الباري ج1 - ص549 ."
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأذن لهم و ينشطهم و يغريهم بلعبهم و لهوهم المباح , وهو الرقص في مسجده , فكيف بالذاكرين الله عز وجل ؟ فإنه جائز لهم من باب أولى لأنه جد و طاعة
ج-ونقل العلامة الكتاني بعد أن ذكر عدداً من الأحاديث منها حديث رقص الحبشة قوله : ]فيها دلالة على أنواع من الرقص :
الأول : اللعب ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب .
الثاني : فعل ذلك في المسجد .
الثالث : قوله عليه الصلاة والسلام : (دونكم يا بني أرفدة ) . وهذا أمر بالعب والتماس له فكيف يقرر كونه حراماً .
الرابع : منعه لأبي بكر و عمر رضي الله عنهما من الإنكار والتغير , وتعليله بأنه يوم عيد وسرور.
الخامس وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك و سماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها. ["التراتيب الإدارية ج 2-ص144-145 .وهو كلا م الإمام الغزالي في الإحياء" .
ونقل العلامة الكتاني من قوله القاضي عياض مانصه ]فيه أقوى دليل على إباحة الرقص , إذ زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن أغراهم . انتهى. نقله المواق "المواق هو محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي , أبو عبد الله المواق , فقيه مالكي . وكان عالم غرناطة و إمامها و صالحها في وقته. توفي عام 897" في سنن المهتدين , و الونشريسي "الونشريسي هو أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني أبو العباس . فقيه مالكي توفي عام 914 ه" في المعيار وأقراه.[
و قال العلامة الكتاني أيضاً : ]و حيث لم ينههم بل أقرهم و أغراهم فهو ذكر قصد به التعبد و الطاعة و إظهار الفرح بالله و برسوله صلى الله عليه وسلم , فلذلك أقرهم عليه الصلاة والسلام , و عجب من فعلهم و نالوا غاية الرضا منه[ "التراتيب الإدارية ج 2 ص 143 ." ...
د-و يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي : ] و الرقص سبب في تحريك السرور والنشاط . فكل سرور مباح يجوز تحريكه . ولو كان حراماً لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و هم يزفنون["إحياء علوم الدين ج 2 –ص 304".
الحديث الثاني :
أخرج أبو داوود من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : اختصم علي وجعفر و زيد بن حارثة في ابنة حمزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : (أنت مني و أنا منك ) فحجل علي . وقال لجعفر بن أبي طالب (أشبهت خلقي وخلقي ) فحجل جعفر . و قال لزيد بن حارثة : (أنت أخونا ومولانا ) فحجل زيد ..."الحديث ذكره ابن حجر في فتح الباري من رواية الإمام أحمد و خرجه العراقي بكتابه الغني عن حمل الأسفار في الأسفار بهامش الإحياء ج 2 ص 304 بإسناد حسن من رواية أبي داوود " .
آ-قال ابن حجر العسقلاني عند شرح الحديث : ]وحجل بفتح المهملة و كسر الجيم أي وقف على رجل واحدة وهو الرقص بهيئة مخصوصة .["فتح الباري ج 7 ص 507" .
ب-وقال العلامة الكتاني ]والحجل بحاء فجيم كسبب –رقص على هيئة مخصوصة["التراتيب الإدارية ح 2 ص 149 " .
ج-ويقول مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة العلامة الكبير أحمد زيني دحلان رحمه الله تعالى في كتابه الشهور في السيرة النبوية عند ذكر الحديث ما نصه ]فرقص –يعني جعفر- رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب, فلم ينكر عليه صلى عليه وسلم وجعل ذلك أصلاً لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع["السيرة النبوية والآثار المحمدية لزيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 2 ص 252".
الحديث الثالث :
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال و هو في قبة له يوم بدر : (أنشدك عهدك و وعدك , اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً ) . فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده و قال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج و هو يثب بالدرع , و هو يقول : (سيهزم الجمع و يولون الدبر .بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر )"كذا رواه البخاري و النسائي في غير موضع من حديث خالد بن مهران الحذاء به , كذا في تفسير ابن كثير ج 2 ص 266 " .
الشاهد فيه جواز قراءة كلام الله سبحانه و تعالى في حالة الوثب و هو الطفر و القفز , فجواز ذكر الله تعالى في هذه الحالة من باب أولى .
الحديث الرابع :
أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي أراكة يقول : صليت مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر فلما انفتل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة , حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قدر رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال : و الله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم , لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً , بين أعينهم كأمثال ركب المعزى , قد باتوا لله سجداً و قياماً , يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم و أقدامهم , فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح و هملت عيونهم حتى تبل ثيابهم ... الحديث "كذا في البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 6 , و أخرجه أبو نعيم في الحلية ج 1 ص 76 , و الدينوري و العسكري و ابن عساكر في الكنز ج 8 ص 219 كما في حياة الصحابة ج 1- ص 49" .
قال سيدي الشيخ عبد القادر عيسى حفظه الله تعالى : ]و يهمنا من عبارة الإمام علي رضي الله عنه قوله : مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح . فإنك تجده صريحاً في الإهتزاز , و يبطل قول من يدعي أنه بدعة محرمة و يثبت إباحة الحركة في الذكر مطلقاً .[ "(يقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام : (البدعة فعل مالم يعهد في عهد رسول الله صلى اله عليه وسلم . وهي مقسمة إلى: بدعة واجبة –و بدعة محرمة –و بدعة مندوبة –و بدعة مكروهة –و بدعة مباحة, ومعرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ) " قواعد الأحكام ج 2 ص "189 .
وقد استدل الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله بهذا الحديث في إحدى رسائله على ندب الإهتزاز بالذكر و قال : ]هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة في الذكر[ "حقائق عن التصوف ص 189".
الحديث الخامس :
أخرج أبو نعيم في الحلية عن الفضيل بن عياض : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذكروا الله تمايلوا يميناً و شمالاً كما تتمايل الشجرة بالريح العاصف إلى أمام ثم إلى وراء. "التراتيب الإدارية ج 2 ص 141".
الحديث السادس :
روى مسلم في صحيحه , والترمزي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه .
الحديث السابع :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (أكثروا ذكر الله حتى يقال مجنون ) . و في رواية( حتى يقال إنه مجنون)."رواه أحمد وأبو يعلى و البيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً و كذا ابن حبان , و الحاكم و صححاه . كما في كشف الخفاء ج 1-ص 187"
الشاهد فيه أن الذاكر لله تعالى إن كان ساكناً لا موجب لقول الناس عنه مجنون لو لم ير بحالة و هيئة تدفع غيره من الغافلين إلى إلقاء تهمة الجنون عليه .
الحديث الثامن :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة , فمر على جبل يقال له جمدان - بضم الجيم - .فقال : (سيروا هذا جمدان , سبق المَُفردون – بفتح الفاء و كسر و تشديد الراء -) . قالو: وما المُفرَدون يا رسول الله ؟ قال : (الذاكرون الله كثيرا ) . "رواه مسلم " و في رواية الترمزي : ( يا رسول الله وما المُفرَدون ؟ قال : (المستهترون
- بضم الميم وفتح التاء- بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا ً)
و المستهترون بصيغة اسم المفعول هم المولعون بالذكر المداومون عليه , لا يبالون ما قيل فيهم , و لا ما فعل بهم .
الدليل على
مشروعية التمايل في الذكر
حدثني العلامة الوجيه عبد الرحمن بن أبي بكر الأحسائي1 الشهير بالملا قراءة عليه لبعض سنن ابن ماجه القزويني وإجازة لباقيه وهو عن جماعة منهم محدث الحرمين الشريفين عمر حمدان المحرسي وحافظ الدنيا عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني2 وهما عن أبي النصر الخطيب3 عن الكزبري4 عن الرحمتي5 عن النابلسي6 عن النجم7 عن البدر8 عن المزي9 عن جده10 عن الحجار11 عن القبيطي12 عن أبي زرعة13 عن المقومي14 عن أبي طلحة15 عن القطان16 عن ابن ماجة القزويني (في سننه)17 قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ18 قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ19 حَدَّثَنِي أَبِي20 عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ21 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ221 قَالَ:
((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدِهِ وَقَبَضَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ قَالَ وَيَتَمَايَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))اهـ.
فهذا حديث صحيح، عال، مخرج في مسلم وغيره، ورجاله رجال الصحيحين ولا مطعن فيه، وفيه نفحات أقتصر منها على اثنتين:
الأولى: (نفحة صوفية):
في هذا الخبر أن النبي كان على المنبر، وكان يعظ أصحابه، ويتلوا عليهم القرآن ويخطب فيهم، وهذا من العبادات بلا ريب، ومن مجالس الذكر قطعا، وبينما كان صلى الله عليه وسلم على المنبر جعل يتلوا الآية الكريمة ويقبض يده ويبسطها ويتمايل تمايلا عن يمين وشمال، وكان تمايله من الوضوح بحيث أن سيدنا عبد الله بن عمر رأى المنبر تحت قدمي رسول الله يتحرك وخاف أن يسقط، وفي هذا مشروعية التمايل في أثناء الوعظ والذكر وتلاوة القرآن تفاعلا مع المعاني وعظمتها فمن رد هذا وأنكره فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا فعله وفي مجلس وعظ وذكر وتلاوة للقرآن، وهذا هو عين المراد من جهة الصحة والصراحة والوضوح.
الثانية: (نفحة تنزيهية):
قد أخرج هذا الحديث ابن ماجه تحت باب ما أنكرت الجهمية، وفي هذا الحديث أن الله يأخذ السماوات والأرض بيده، وهذا الأخذ بلا كيف ولا تشبيه، فهذا هو مقصود ابن ماجه من التبويب، وأما قبض النبي يده وبسطها فلم يكن للتشبيه وإثبات تجسيم كما توهمت المشبهة والعياذ بالله، وإنما كان لتقرير معنى العظمة بشيء حسي تدركه أفهام الناس، وكان من باب التواجد والتذوق الذي يفعله الصوفية، وأما من احتج بهذا الخبر على صفة القبض والبسط لله ـ من خلال هذا الخبر بعينه لا غيره ـ وأخذها من فعل النبي لزمه أن يضيف إليها صفة التمايل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأن النبي لو كان بما فعل حاكيا لفعل الرب لكان حاكيا التمايل أيضا كما كان حاكيا القبض والبسط، فإن قالت الحشوية لم يكن النبي حاكيا للتمايل والقبض وإنما فعل ذلك من نفسه تأثرا بالآيات فقد أقاموا على أنفسهم الحجة بجواز التمايل على المنابر وفي مجالس الذكر وهو ما يفعله القراء اليوم، والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق