التوسل والاستشفاع برسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ في حياته وبعد مماته
التوسل والاستشفاع برسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ في حياته وبعد مماته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد؛ فقد جاء في سنن الترمذي (ج: 5 ص: 569) قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت؛ فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء.. اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في.
قال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي، وعثمان بن حنيف هو أخو سهل بن حنيف.
وفي شرح سنن ابن ماجه للسيوطي (ج: 1 ص: 99) اللهم إني أسألك ... إلخ، هذا الحديث أخرج النسائي والترمذي في الدعوات مع اختلاف يسير وقال الترمذي حسن صحيح وصححه البيهقي. وزاد فقام وقد أبصر وفي رواية ففعل الرجل فيرى.
ذكر الشيخ عابد السندي أن الحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته، وأما بعد مماته؛ فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف المقدم أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه ــ في حاجة له فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى إليه ذلك فقال له ابن حنيف ائت الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل: اللهم اني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فتقضى حاجتي، وتذكر حاجتك. فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذه بيده فأدخله على عثمان؛ فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك. فذكر حاجته؛ فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة. وقال ما كانت لك من حاجة فاذكرها. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي ابن حنيف (فسأله وقد ظن أنه كلم عثمان في شأنه). فقال ابن حنيف والله ما كلمته؛ ولكني شهدت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: أو تصبر؟ فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي. فقال له النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: إيت الميضاة وتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات. قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضرر قط. ورواه البيهقي من طريقين نحوه. وأخرج الطبراني في الكبير والمتوسط بسند فيه روح بن صلاح وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد ذكره الشيخ الكوثري ثم قال: «وهذا توسل به ونداء له بعد وفاته ــ صلوات الله عليه ــ وعمل متوارث بين الصحابة ــ رضوان الله عليهم أجمعين. وقد أخرج هذا الحديث الطبراني في الكبير وصححه من طرق كما ذكره أبو الحسن الهيثمي في «مجمع الزوائد» وأقره عليه، كما أقر المنذري قبله في «الترغيب»، وقبله أبو الحسن المقدسي، وأخرجه أبو نعيم في «المعرفة»، والبيهقي من طريقين وإسنادهما صحيح».
وقد كتب الشيخ عابد السندي رسالة مفصلة عن موضوع التوسل، وذكر فيها حديث البيهقي وابن أبي شيبة عن مالك الدارِ قال: أصاب الناسَ قحطٌ في زمان عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: يا رسول الله، استسق الله لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم في منامه فقال: ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره ...
والحديث بتمامه في مصنف ابن أبي شيبة (ج: 6 ص: 356) قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالكِ الدارِ قال وكان خازن عمر على الطعام قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا. فأتي الرجل في المنام فقيل له ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره أنكم مسقون وقل له: عليك الكيس عليك الكيس. فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلوا إلا ما عجزت عنه.
والحديث مذكور في الاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1149) قال: روى أبو معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن مالك الدار قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا. قال فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال: إيت عمر فمره أن يستسقى للناس فإنهم سيسقون، وقل له عليك الكيس الكيس فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر وقال يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه.
وقد أخرجه أيضا أبو يعلى القزويني في الإرشاد (تـ446هـ) (1/ 313).
وفي بيان الحكم على الحديث قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (2/ 495): وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالكِ الدارِ وكان خازن عمر قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا... الحديث.
والرجل المذكور في الحديث هو بلال بن الحارث المزني كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ــ 2/ 496.
وقد بين الشيخ الكوثري صحة إسناد الحديث ثم قال: «وهذا نص على عمل الصحابة في الاستسقاء به ــ صلى الله عليه وسلم ــ بعد وفاته؛ حيث لم ينكر عليه أحد منهم مع بلوغ الخبر إليهم، وما يرفع إلى أمير المؤمنين يذيع ويشيع».
ومما يناسب نقله في هذا المقام ما ذكره القتيبي، قال: « كنت جالساً عند قبر رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا النساء/64. وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
يَا خَيرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقَاعِ أَعْظُمُهُ * فَطَاب مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ والأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتِ سَـــاكِنُهُ * فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ والْكَرَمُ
وروي أن الأعرابي قال مع بيتي الشعر: ها أنا ذا يا رسول الله، قد ظلمت نفسي، وأنا أستغفر الله، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لي.
قال القتيبي: ثم نمت، فرأيت النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ في المنام، فقال: يا قتيبي، أدرك الأعرابي وبشره أنه قد غفر الله له، قال: فأدركته وبشرته».
وهذه قصة مشهورة ذكرها الحافظ ابن كثير في بيان تفسير الآية الرابعة والستين من سورة النساء(1/ 521). وأوردها من قبلُ الحافظ البيهقي في شعب الإيمان(3/ 496). وكذلك الحافظ ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتاب المغني (3/ 298).
وغاية القول في التوسل المشروع أن الطلب فيه متوجه إلى الله ــ تعالى ــ وحده، والصالح نبيا كان أو وليا إنما يستشفع به لصلاحه الذي يكون في مكانة القرب من الله ــ جل وعلا ــ بغض النظر عن حياة الصالح أو موته؛ لأن رضا الله ــ تعالى ــ عن صلاحه باق في الحالين. وإنما يُتوسل للمسئول ويُستشفع عنده بمن أحب، وحب الله ــ تعالى ــ للصالحين ولسيدهم في الأولين والآخرين سيدنا محمد ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ لا ينقطع قط. وإذا كان المسلم يقطع بصلاح النبي وعصمته وصلاح من ثبتت لهم شهادته ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ دون غيرهم ممن يغلب على الظن أنهم من أهل الولاية والصلاح؛ فالأسلم والأحوط ــ عندي ــ أن لا يتجاوز التوسل بالتعيين النبي ومن قطع بصلاحه وسلامة حاله عند الله ــ عز وجل.
وأما توسل سيدنا عمر بسيدنا العباس عم النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ في رواية البخاري وغيره؛ فهي دلالة على فعل جائز، وليس في منطوقها ولا في مفهومها ما يدل على امتناع عمر من التوسل بالرسول بعد وفاته، وليراجع في ذلك كلام الشيخ الكوثري في مقاله: «محق التقول في مسألة التوسل».
وفي الختام أود الإشارة إلى أن مسألة التوسل بهذه الصورة ليست مسألة كلامية اعتقادية؛ بل هي مسألة فقهية يدور الكلام فيها على بيان ما يجوز فعله من التوسل وما لا يجوز، ولو كان التوسل مما يعارض التوحيد لما كان هناك وجه للتفريق بين الحي والميت إذا كان الله ـ تعالى ــ هو المسئول المتوجه إليه في كل حال.
د. مصعب الخير إدريس السيد مصطفى الإدريسي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد؛ فقد جاء في سنن الترمذي (ج: 5 ص: 569) قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت؛ فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء.. اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في.
قال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي، وعثمان بن حنيف هو أخو سهل بن حنيف.
وفي شرح سنن ابن ماجه للسيوطي (ج: 1 ص: 99) اللهم إني أسألك ... إلخ، هذا الحديث أخرج النسائي والترمذي في الدعوات مع اختلاف يسير وقال الترمذي حسن صحيح وصححه البيهقي. وزاد فقام وقد أبصر وفي رواية ففعل الرجل فيرى.
ذكر الشيخ عابد السندي أن الحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته، وأما بعد مماته؛ فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف المقدم أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه ــ في حاجة له فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى إليه ذلك فقال له ابن حنيف ائت الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل: اللهم اني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فتقضى حاجتي، وتذكر حاجتك. فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذه بيده فأدخله على عثمان؛ فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك. فذكر حاجته؛ فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة. وقال ما كانت لك من حاجة فاذكرها. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي ابن حنيف (فسأله وقد ظن أنه كلم عثمان في شأنه). فقال ابن حنيف والله ما كلمته؛ ولكني شهدت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: أو تصبر؟ فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي. فقال له النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: إيت الميضاة وتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات. قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضرر قط. ورواه البيهقي من طريقين نحوه. وأخرج الطبراني في الكبير والمتوسط بسند فيه روح بن صلاح وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد ذكره الشيخ الكوثري ثم قال: «وهذا توسل به ونداء له بعد وفاته ــ صلوات الله عليه ــ وعمل متوارث بين الصحابة ــ رضوان الله عليهم أجمعين. وقد أخرج هذا الحديث الطبراني في الكبير وصححه من طرق كما ذكره أبو الحسن الهيثمي في «مجمع الزوائد» وأقره عليه، كما أقر المنذري قبله في «الترغيب»، وقبله أبو الحسن المقدسي، وأخرجه أبو نعيم في «المعرفة»، والبيهقي من طريقين وإسنادهما صحيح».
وقد كتب الشيخ عابد السندي رسالة مفصلة عن موضوع التوسل، وذكر فيها حديث البيهقي وابن أبي شيبة عن مالك الدارِ قال: أصاب الناسَ قحطٌ في زمان عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: يا رسول الله، استسق الله لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم في منامه فقال: ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره ...
والحديث بتمامه في مصنف ابن أبي شيبة (ج: 6 ص: 356) قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالكِ الدارِ قال وكان خازن عمر على الطعام قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا. فأتي الرجل في المنام فقيل له ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره أنكم مسقون وقل له: عليك الكيس عليك الكيس. فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلوا إلا ما عجزت عنه.
والحديث مذكور في الاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1149) قال: روى أبو معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن مالك الدار قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا. قال فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال: إيت عمر فمره أن يستسقى للناس فإنهم سيسقون، وقل له عليك الكيس الكيس فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر وقال يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه.
وقد أخرجه أيضا أبو يعلى القزويني في الإرشاد (تـ446هـ) (1/ 313).
وفي بيان الحكم على الحديث قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (2/ 495): وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالكِ الدارِ وكان خازن عمر قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا... الحديث.
والرجل المذكور في الحديث هو بلال بن الحارث المزني كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ــ 2/ 496.
وقد بين الشيخ الكوثري صحة إسناد الحديث ثم قال: «وهذا نص على عمل الصحابة في الاستسقاء به ــ صلى الله عليه وسلم ــ بعد وفاته؛ حيث لم ينكر عليه أحد منهم مع بلوغ الخبر إليهم، وما يرفع إلى أمير المؤمنين يذيع ويشيع».
ومما يناسب نقله في هذا المقام ما ذكره القتيبي، قال: « كنت جالساً عند قبر رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا النساء/64. وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
يَا خَيرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقَاعِ أَعْظُمُهُ * فَطَاب مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ والأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتِ سَـــاكِنُهُ * فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ والْكَرَمُ
وروي أن الأعرابي قال مع بيتي الشعر: ها أنا ذا يا رسول الله، قد ظلمت نفسي، وأنا أستغفر الله، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لي.
قال القتيبي: ثم نمت، فرأيت النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ في المنام، فقال: يا قتيبي، أدرك الأعرابي وبشره أنه قد غفر الله له، قال: فأدركته وبشرته».
وهذه قصة مشهورة ذكرها الحافظ ابن كثير في بيان تفسير الآية الرابعة والستين من سورة النساء(1/ 521). وأوردها من قبلُ الحافظ البيهقي في شعب الإيمان(3/ 496). وكذلك الحافظ ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتاب المغني (3/ 298).
وغاية القول في التوسل المشروع أن الطلب فيه متوجه إلى الله ــ تعالى ــ وحده، والصالح نبيا كان أو وليا إنما يستشفع به لصلاحه الذي يكون في مكانة القرب من الله ــ جل وعلا ــ بغض النظر عن حياة الصالح أو موته؛ لأن رضا الله ــ تعالى ــ عن صلاحه باق في الحالين. وإنما يُتوسل للمسئول ويُستشفع عنده بمن أحب، وحب الله ــ تعالى ــ للصالحين ولسيدهم في الأولين والآخرين سيدنا محمد ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ لا ينقطع قط. وإذا كان المسلم يقطع بصلاح النبي وعصمته وصلاح من ثبتت لهم شهادته ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ دون غيرهم ممن يغلب على الظن أنهم من أهل الولاية والصلاح؛ فالأسلم والأحوط ــ عندي ــ أن لا يتجاوز التوسل بالتعيين النبي ومن قطع بصلاحه وسلامة حاله عند الله ــ عز وجل.
وأما توسل سيدنا عمر بسيدنا العباس عم النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ في رواية البخاري وغيره؛ فهي دلالة على فعل جائز، وليس في منطوقها ولا في مفهومها ما يدل على امتناع عمر من التوسل بالرسول بعد وفاته، وليراجع في ذلك كلام الشيخ الكوثري في مقاله: «محق التقول في مسألة التوسل».
وفي الختام أود الإشارة إلى أن مسألة التوسل بهذه الصورة ليست مسألة كلامية اعتقادية؛ بل هي مسألة فقهية يدور الكلام فيها على بيان ما يجوز فعله من التوسل وما لا يجوز، ولو كان التوسل مما يعارض التوحيد لما كان هناك وجه للتفريق بين الحي والميت إذا كان الله ـ تعالى ــ هو المسئول المتوجه إليه في كل حال.
د. مصعب الخير إدريس السيد مصطفى الإدريسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق