الاجتهاد في التشريع الإسلامي
الاجتهاد في التشريع الإسلامي
د. إبراهيم سلقينـي
1- تمهيد
لعل أوجز ما يوصف به الاجتهاد أنه أحد مصدرين للأحكام في الفقه الإسلامي. ذلك لأنه مهما يختلف علماء الأصول في الأدلة الشرعية، وفي عددها، فهم متفقون على أن هذه الأدلة ترجع في جملتها إلى مصدرين هما: النصوص، والاجتهاد.
وإذا كانت النصوص تشمل نوعين من الأدلة، هما: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ويمكن أن يرجع إليهما الإجماع في كثير من صوره، كما تلحق بهما فتوى الصحابي، فالذي لا شك فيه أن سائر الأدلة ترجع إلى الاجتهاد، ومن بينها بعض أنواع الإجماع، والقياس كله، والاستصلاح والاستحسان والاستصحاب ومراعاة العرف...
ومن هنا نستطيع أن نعلل لتلك القضية المشهورة التي تقول: (لا اجتهاد مع النص)، إذ الاجتهاد كما رأينا مقابل للنص، وقسيم له، فلا يمكن أن يجتمعا.
على أنه لكي تصح هذه القضية يجب أن يقيد النص فيها بالقطعي، إذ النص القطعي في سنده وفي دلالته معاً هو الذي لا مجال معه للاجتهاد، أما سائر الأدلة ومن بينها النصوص الظنية في سندها، أو في دلالتها، فإن الاجتهاد هو مصدر الاستدلال بها.
وقد اختص الله عز وجل الشريعة الإسلامية بميزتين حين جعلها عامة دائمة، وطالب جميع الناس بالاحتكام إليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهل كان ممكناً أن تفي هذه الشريعة بحاجات الناس جميعاً منذ شرعت إلى نهاية هذه الحياة، دون أن يمدها الاجتهاد بجديد من الأحكام، كلما واجه الناس جديداً في حياتهم.
حقيقة خص الله عز وجل الإسلام بميزة أخرى، حين أبقى معه معجزته، وهي القرآن الكريم، ليكون لها من دوامه دليل على دوامها.
ولقد اختص القرآن الكريم –المصدر الأول للتشريع- بميزة لها شأنها حين زودت نصوصه بكثير من عوامل الخصب والسعة، فتنوعت الطرق التي تدل بها على الأحكام، وحللت بكثير من تعليلات الأحكام على نحو يوحي بأن الأحكام مرتبطة بها، ويسمح بالقياس عليها.
وإذا كانت أحكام العبادات تعتمد على النصوص، لأنها ثابتة غير متغيرة، ولأن بعضها تعبدي غير معقول المعنى، فإن النصوص اقتصرت في المعاملات على الأحكام الأساسية، التي تصلح لكل جماعة، في كل مكان، وفي كل زمن، ثم قررت كثيراً من المبادئ العامة التي يمكن تشريع الأحكام على ضوئها، وهكذا فإن أكثر ما شرع من أحكام المعاملات قد بني على الاجتهاد، بما لا يخرج عن النصوص، وبما يكفل مصالح الناس، وييسر الحياة لهم.
وميزة الخصب والسعة في القرآن الكريم –وإن كانت مظهر غنى فيه- كانت هي نفسها دعوة إلى الاجتهاد، وحثاً عليه.
وكانت هناك دعوة أخرى إلى الاجتهاد تلح في توجيهها، وهي ضرورة مسايرة الشريعة لحاجات الناس، واتساعها لجميع هذه الحاجات.
وإذا ذكرنا أن شريعة الله شاملة وخالدة، وأن الحياة متجددة أدركنا أن الاجتهاد ضرورة لا بد منها، وأن الحاجة إليه باقية ما بقيت الحياة.
ومن هنا لم يكن ممكناً أن تجمد الشريعة الإسلامية عند النصوص، ولا أن تقف عند مفهوم واحد لكل نص، فإن النصوص نفسها تدعو إلى الاجتهاد، وتعد بالثواب عليه، حتى حين ينتهي إلى الخطأ متى تحققت شروطه.
ولهذا نستطيع أن نقرر في ثقة ويقين أن الأمة الإسلامية مطالبة بالاجتهاد، وإننا لنردد اليوم ما قاله سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى عام 660هـ: "إن وقعت حادثة غير منصوصة، أو فيها خلاف بين السلف، فلا بد فيها من الاجتهاد، من كتاب أو سنة، وما يقول سوى هذا إلا صاحب هذيان".
وهكذا فالاجتهاد مصدر خصب للأحكام يجب أن لا يخلو منه عصر من عصور المسلمين، بشرط توفر شروط الاجتهاد في المجتهدين مما سيأتي بيانه.
وليس لكل من هب ودب، ولا لأنصاف المتعلمين، وأرباعهم، وأدعيائهم، ولا لمن لم تتوفر العدالة فيهم من ملاحدة، أو فسقة، ولا من استعمرت الثقافات الأجنبية عقولهم، ولا من يتقرب للزعماء والرؤساء بالتحليل، أو يتملق العامة بالتحريم، أن يتصدر للاستنباط والاجتهاد. "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال، وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون(1).
2- تعريف الاجتهاد:
قبل أن نعرف الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين، يحسن أن نبين ما تدل عليه كلمة الاجتهاد في اللغة العربية. واللغويون يقررون أن الاجتهاد افتعال من الجهد، فهو جهد زائد مبالغ فيه. لكن لكلمة الجهد في اللغة مدلولين. أحدهما لها مفتوحة الفاء: وهو المشقة. وثانيهما لها حين تضم فاؤها: وهو الطاقة. ففي القرآن الكريم: "والذين لا يجدون إلا جهدهم"(2) وفي السنة النبوية الصحيحة: فغطني حتى بلغ مني الجهد..
والذي يبدو أن الأصوليين حين عرفوا الاجتهاد كانوا يرون أن أصل مادته هو الجهد (مضموم الفاء) بمعنى الطاقة، فقد قالوا في تعريفه إنه هو: بذل أقصى الجهد للوصول إلى حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي، بطريق استنباط الحكم من دليله، وواضح أن الذي يبذل: هو الطاقة، وإن كان بذلها يستلزم المشقة.
وهم يريدون ببذل أقصى الجهد أن يبذل الباحث وسعه كله في البحث، بحيث يحس بأنه لا مزيد على بذله، ويترجح لديه أنه لم يترك ناحية من نواحي البحث في الواقعة إلا استوفاها. ويعني هذا عندهم أنه لا يعتبر مجتهداً من يتعرف الحكم الشرعي من نص قطعي الدلالة، لأنه لا يبذل جهداً، وذلك كالوصول إلى أن نصيب الابن من التركة ميراثاً ضعف نصيب البنت، أخذاً من قوله تعالى:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين). كذلك لا يعتبر مجتهداً من يسأل عن حكم، وعن دليله، ووجه أخذه من هذا الدليل، كما لا يعتبر مجتهداً من بذل بعض جهده في استنباط حكم شرعي من دليله.
وتقييد الحكم بأن يكون (شرعياً عملياً) يخرج من دائرة المجتهدين –في اصطلاح الأصوليين- من يبذل أقصى جهده ليصل إلى حكم عقلي، أو شرعي اعتقادي، أو خلقي، كالحكم بأن زوايا أي مثلث تساوي زاويتين قائمتين، أو بأن الله عز وجل واحد لا شريك له. أو بوجوب الصدق، إذ الحكم الأول: عقلي بحت، والثاني: شرعي اعتقادي لا عملي والثالث: خلقي...
وقولهم (من دليله التفصيلي) يراد به أن يستنبط الباحث الحكم من مصدره الأصلي، وهو دليله الشرعي التفصيلي، وهذا الدليل قد يكون نصاً ظني الدلالة، وقد يكون القياس، وقد يكون الاستصلاح، وقد يكون الاستصحاب، وقد يكون مراعاة العرف. أما بذل الطاقة كاملة للوصول إلى حكم شرعي عملي من أقوال المجتهدين، أو من عبارات المتون والشروح، فلا يعتبر في نظر الأصوليين اجتهاداً.
وإنما يتم هذا كله (بطريق استنباط الحكم من دليله) لا بطريق الاتباع والتقليد، ولا بطريق الاستنباط من مصدر لا يعتبر دليلاً شرعياً تفصيلياً.
وإذن فالاجتهاد عمل لا دليل، وهذا ما عنيناه عندما قلنا إنه أحد مصدرين للأحكام في الشريعة الإسلامية، إذ المصدر أعم من الدليل، فقد يكون هو الدليل كما إذا كان نصاً قطعياً، وقد يكون وسيلة إليه.
3- مجال الاجتهاد
قدمنا أن النص القطعي للدلالة لا يعتبر عمل الفقيه في استنباط الحكم منه اجتهاداً، لأنه لا يكلفه أقصى جهده، فإن أيسر جهد –على فرض حاجته إليه- كاف في الوصول إلى الحكم الذي يدل عليه. وإذن فمجال الاجتهاد هو كل واقعة لم يرد بحكمها نص قطعي صريح.
وهذه الوقائع التي لم يدل على حكمها نص قطعي صريح لا تخلو من حالين، فإما أن يدل على حكمها نص ظني، وإما ألا يرد فيها نص إطلاقاً. وعمل المجتهد في كل منها يختلف عن عمله في الأخرى، بل هو يختلف في كل واقعة عنه في غيرها من الوقائع وإن اتفقت جملتها في أن حكمها مستفاد من نص ظني الدلالة، أو من الأدلة التي ليست نصاً تبعاً لأسباب الظنية في النص، ولنوع الدليل في غيره.
وفيما يلي نوضح هذا الإجمال بشيء من التفصيل:
أولاً: أما النص الظني الدلالة فنحن نعني به تلك النصوص التي تحتمل أكثر من معنى، إما لأنها من المشترك الذي تعدد وضعه، فتعددت معانيه تبعاً لهذا، وإما لأن الصيغة التي وردت بها تجعلها صالحة لأن يراد بها أكثر من معنى.
فمن أمثلة المشترك قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)(3) فقد وضعت (الواو) للعطف، ووضعت للحال، فاعتبرت من المشترك بين المعنيين في قوله تعالى: (وإنه لفسق) واختلف الحكم في المسألة نتيجة لترجيح أحد الاحتمالين، فرجح أبو حنيفة رضي الله عنه أنها للعطف، ومن ثم اشترط لحل أكل الذبيحة أن يذكر اسم الله عليها، فكل ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها لا يحل أكلها عنده، ولو لم يذكر عليها اسم غير الله. وذهب الشافعي إلى أن الواو للحال، وأن جملة الحال في الحقيقة هي شرط الحل. ويعني هذا عنده أن الذبيحة إنما تحرم إذا صحب ذبحها فسق، أي ذكر لغير الله، فإن لم يذكر عليها اسم الله ولا اسم غيره من آلهتهم الباطلة حل أكلها، إذ لا فسق فيها حينئذ.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (4) فيه لفظ مشترك هو الباء، فقد وضعت للتبعيض، ووضعت للإلصاق، فصارت مشتركة بين المعنيين بسبب تعدد وضعها، واختلف المجتهدون في المراد بها هنا نتيجة للاشتراك بين معانيها المختلفة. فذهب الشافعي –رضي الله عنه- إلى أن المراد بها هنا هو التبعيض، واعتبر فرض الوضوء في الرأس هو مسح بعضه، وذهب أبو حنيفة –رضي الله عنه- أنها للإلصاق، وقد دخلت على الممسوح فتفيد عموم آلة المسح وهي اليد فيجب أن لا يقل الجزء الممسوح عن الربع وهو مقدار اليد؛ ومستنداً إلى السنة العملية، واكتفى الشافعي بمطلق البعض ولو كان شعرة واحدة. وذهب مالك إلى أن الباء في الآية زائدة، فأوجب مسح الرأس كله.
وقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (5) فيه لفظ مشترك هو القرء، فقد وضع للدلالة على الطهر الذي بين حيضتين، ووضع للدلالة على الحيضة، فصار من المشترك بسبب تعدد وضعه، ونتج عن هذا الاشتراك فيه اختلاف بين المجتهدين –رضي الله عنهما-، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وأصحابه –رضي الله عنهم-. ولكل من الفريقين أدلة رجحت لديه ما ذهب إليه، وليس هنا مجال بحثها.
ثانياً: وأما الأدلة التي ليست نصاً – وهي مصادر الأحكام في الوقائع التي لا نص فيها فهي القياس، والاستصلاح، والاستحسان، والاستصحاب، ومراعاة العرف، وهي بطبيعتها مجال للاجتهاد لأسباب كثيرة نجمل أظهرها فيما يلي:
السبب الأول: إن حجية هذه الأدلة ليست محل اتفاق بين الأئمة، فقد وقع الخلاف بينهم في كل دليل منها، وترتب على هذا الخلاف خلافهم في بناء الأحكام عليها. فالذين أثبتوا القياس يحتجون به، ويحكمون بما يؤدي إليه، على حين لا يحتج به منكروه، ولا يرتبون عليه حكماً. والذين قبلوا الاستصلاح يعتبرونه دليلاً شرعياً في حين يعتبره الذين لم يقبلوه عملاً بالهوى. وبعض المجتهدين يستحسن ويعتبر الاستحسان من الأدلة الشرعية، مع أن بعضهم يقول: إن من استحسن فقد شرَّع وهكذا..
السبب الثاني: إن الذين قبلوا هذه الأدلة من المجتهدين قد يختلفون في طريقة إعمالهم لها، فتترتب على اختلافهم أحكام مختلفة وإن كانت كلها ترجع إلى دليل واحد.
ففي القياس مثلاً قد يختلفون في علة حكم الأصل، فتختلف أحكامهم في الفرع. ومثال هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت ولاية التزويج على البكر الصغيرة، فذهب الشافعي رضي الله عنه: إلى أن علة ثبوت الولاية عليها هي بكارتها، ومن ثم ألحق بها البكر الكبيرة ولم يلحق بها الثيب الصغيرة، بالرغم من صغرها، وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن علة ثبوت الولاية عليها هو صغرها، ومن ثم ألحق بها الثيب الصغيرة، بالرغم من أنها ليست بكراً، ولم يلحق بها البكر الكبيرة، لأن العلة –وهي الصغر- لم تتحقق فيها. ومثل هذا يمكن أن يقال في الاستصلاح، والاستحسان..
السبب الثالث: إن بيئات المجتهدين تختلف، فيترتب على اختلافهم في تقدير المصالح والأعراف والضرورات، وفي طريقة الحكم عليها، ومن هنا كان للشافعي في مصر مذهب جديد، غيَّر فيه بعض ما كان يقول به في مذهبه الأول قبل سفره إلى مصر، وكان الطابع العام لمذهب الحجازيين مختلفاً عن الطابع العام لمذهب أهل العراق..
وهكذا يتضح لنا اتساع مجال الاجتهاد، وتتبين شدة خطره، مما يوحي بأن من الخطأ كل الخطأ أن يقفل بابه.. ولكن هل من حق كل مسلم أن يجتهد؟ وبعبارة أخرى: ما هي المؤهلات التي يجب أن تتوافر في المجتهد؟.
4- شروط الاجتهاد ومؤهلاته
يجيب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فيقول:
"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخة، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله، وبالناسخ والمنسوخ... ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا. فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي".
وهذا الذي يقوله الإمام الشافعي في بيان الشروط التي يجب توافرها في المفتي، يوجز المؤهلات التي لا يكون الفقيه مجتهداً إلا إذا توافرت فيه. وهذه الشروط –أو المؤهلات للاجتهاد- هي:
أولاً: العلم التام بالتشريع العملي في القرآن كلياته وجزئياته، ذلك أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب دعوة فحسب، ولم ينزل ليقرر أصول العقيدة الصحيحة ويوجه الأنظار إلى أدلتها وبراهينها فقط، ولكنه أنزل ليشرع للناس مع هذا أقوم شريعة يستطيعون أن يسيروا على ضوئها، وأن يحتكموا إليها: في علاقتهم بالله عز وجل، وفي علاقة بعضهم ببعض أفراداً وشعوباً. ومن هنا كان فيه إلى جانب آيات العقيدة والدعوة والقصص نحو خمسمائة آية، تؤصِّل قواعد التشريع، وتقرر مبادئه، وتضع كلياته، وتتناول بالتفصيل بعض الموضوعات، فتشرع أحكامها الجزئية، وتعلل لبعض هذه الأحكام.
وهذه الآيات التي يناهز عددها خمسمائة آية هي المعروفة بآيات الأحكام في القرآن الكريم، وهي التي تكوِّن فقه القرآن. وقد عُني بدراستها وتفسيرها بعض المفسرين من الفقهاء، فتتبَّعها بعضهم في تفسيره حسب ترتيب المصحف، وجمع بعضهم كل مجموعة منها تتناول موضوعاً خاصاً، ثم فسرها واستنبط منها. ومع أن هؤلاء المفسرين قد تناولوا هذه الآيات كل حسب مذهب إمامه من الفقهاء المجتهدين فقد خلفوا لنا في كتبهم ثروة فقهية قيمة، لا يستغني عن الإلمام بها مجتهد.
غير أن آيات الأحكام في القرآن الكريم –وهي التي تكوِّن فقهه كما أسلفنا- لا تنتظمها سورة واحدة من سوره، فقد أنزلت متفرقة حسب الوقائع التي اقتضت نزول كل واحدة- أو عدد قليل منها، ثم وضعت في سور القرآن المتعددة حسبما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالتوقيف عن الوحي، فلن يجد الباحث آيات الموضوع الواحد مجموعة في مكان على حدة، ولن يتسنى له ترتيبها دائماً حسب تاريخ نزولها.
ولا بد لمن يتصدى للإفتاء –عن اجتهاد- أن يدرس هذه الآيات، ويعلم فقهها كله.
وهذا يقتضيه أن يحصيها ويصنفها أولاً، وأن يفسرها بعد ذلك حتى يستطيع الاستنباط منها. ثم هو لن يتسنى له تفسيرها إلا إذا وقف على أسباب نزولها، ولاحظ السياق الذي وردت فيه كل منها، وربط بينها وبين الأحاديث والآثار التي وردت في تفسيرها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ثم كان على علم بأنواع البيان القرآني، من محكم، ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وظاهر وخفي، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، الخ...
ثانياً: العلم التام بالتشريع العملي في السنة كلياته وجزئياته، سواء أكانت السنة قولية أو فعلية أو تقريرية، ذلك أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، ولا بد للمجتهد من دراسة فقهها كله، والوقوف على ما قررته من أحكام، في العبادات، والمعاملات، والعقوبات، وغيرها، قبل أن يتصدى للإفتاء.
وإذا كانت السنة ليست كلها قطعية الثبوت، لاختلاف سندها قوة وضعفاً، فإن علماءها قد عنوا بهذا الجانب من جوانبها كاملة، فدرسوا الرجال دراسة دقيقة، وميزوا بين أنواع السنة بما وضعوا لكل نوع من شروط، وهم يروون الحديث ويبينون درجته ونوعه، فيقولون: متواتر، أو مشهور. أو خبر آحاد، وإذن، فلن يجد الباحث في فقه السنة كبير عناء من هذه الجهة..
كذلك لن يجد الباحث كبير عناء من جهة الموضوع، فقد رتب كثير من هذه الكتب ترتيباً فقهياً يسَّر على الباحثين استيعاب الأحاديث المروية في كل باب من أبواب الفقه على حدة، بل عمد بعض المعنيين بالسنة إلى جمع أحاديث الأحكام من الكتب المعتمدة –كلها أو معظمها- في كتب خاصة، كابن تيمية في منتقى الأخبار، وابن حجر، في بلوغ المرام، والشيخ منصور ناصف في التاج الجامع للأصول.
وإذن، فمن حق الباحث أن يغلب الظن بأن ما في هذه الكتب –إذا ضم إليها صحيح البخاري ومسلم والموطأ للإمام مالك –هو ما ورد عن رسول الله ( ، في الموضوع الذي يتصدى للاجتهاد فيه. ويبقى عليه بعد هذا أن يدرس فقه هذه الأحاديث مستعيناً بما كتبه الشراح في شرحها، على أن يعلم العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك مما لا بد للمجتهد من العلم به..
ثالثاً: العلم التام بالتشريع العملي الذي ثبت بإجماع علماء المسلمين، في جميع العصور حتى عصره، ذلك أن الأحكام التي وقع الإجماع عليها ليست مجالاً للاجتهاد بعد هذا الإجماع وقد يستفتى فقيه في واقعة سبق الإجماع على حكم فيها. فما لم يكن على علم بكل مواقع الإجماع أمكن أن يفتي فيها بخلاف الحكم المجمع عليه، وهذا لا يجوز.
رابعاً: العلم التام بمقاصد التشريع الإسلامي، ومبادئه وكلياته العامة، لأنه إذا جهل شيئاً منها كان معرضاً لأن يخطئ في اجتهاده، فيحكم أو يفتي أو يعمل بما يعارضه، وهو لا يجوز.
خامساً: العلم بما جرى عليه عرف الناس، وبأحوالهم، وبما فيه لهم صلاح أو فساد، إذ لا تتيسَّر له الفتوى الصحيحة بدون هذا العلم.
سادساً: العلم التام باللغة العربية، من حيث بنية الكلمات، وإعرابها، وفصاحتها، ومن حيث معناها ظهوراً وخفاء، حقيقة وكناية، أفراداً وعموماً واشتراكاً، بحيث يتمكن نتيجة لهذا العلم من القطع بما تدل عليه كل كلمة، وبطريقة دلالتها عبارة، أو إشارة، أو فحوى، أو اقتضاء. وقد اختلف الأصوليون في بيان المقدار الواجب من هذا العلم باللغة، فذهب الشاطبي إلى اشتراط أن يبلغ فيه مبلغ الأصمعي والخليل وسيبويه، واكتفى غيره بما دون هذه المنزلة، إذا تمكن من فهم النصوص فهماً صحيحاً دقيقاً.
سابعاً: العدالة الكاملة في دينه وخلقه، وواضح أن هذا الشرط إنما يجب توافره لقبول فتواه أو حكمه، لا لعلمه هو بما أداه إليه اجتهاده.
ثامناً: كمال عقله، فليس لناقص العقل أن يجتهد، لأنه لن تتهيأ له وسائل الحكم الصحيح.
وهكذا إذا كان الطب والهندسة مباحاً للجميع مثلاً، لكن لا يجوز لدجال أن يتعرض لعلاج المرضى، أو قلع عيونهم، أو شق بطونهم، ولا لمن يدرس الهندسة دراسة وافية كافية أن يبني سداً، أو يصمم قصراً أو حصناً، إلا بعد عميق الدراسة والحصول على المؤهلات، بل هذا جار في جميع الاختصاصات وأعراف الناس، واصطلاحاتهم في جميع الحرف والصناعات، فلا يجيزون التصدي لحرفة ما إلا بعد وجود المؤهلات الخاصة. فكان بالأحرى والأجدر أن لا يباح التصدي للاجتهاد والاستنباط إلا بعد الفهم الثاقب، ووجود هذه الشروط والمؤهلات في المجتهد والاجتهاد، فإن الاستنباط مباح بهذا المعنى، وضمن هذه الشروط.
5- حكم الاجتهاد:
أشرت فيما سبق إلى أن باب الاجتهاد لم يقفل، وبينت أهميته البالغة للشريعة الإسلامية، من حيث إنها شريعة عامة دائمة، ومن حيث تجدد الحياة وتطورها، واحتياجها الدائم –نتيجة لهذا التطور- إلى أحكام جديدة لكل ما يَجدُّ فيها.
وأريد الآن أن أبين حكم الاجتهاد بالنسبة للعلماء الذين تحققت فيهم مؤهلاته وشروطه، في الأحوال المختلفة، وبالنسبة إلى الذين لم يستأهلوا له من العلماء وغيرهم، وبالنسبة إلى مجموع الأمة.
أ-أما حكمه بالنسبة إلى العلماء الذين استأهلوا له وتوفرت فيهم شروطه فقد يكون الوجوب العيني، وقد يكون الوجوب الكفائي، وقد يكون الندب.
فهو واجب وجوباً عينياً على من استأهل له إذا وقعت له حادثة، وأراد معرفة حكمها الشرعي، ذلك لأن كل مسلم مطالب بأن يتبع في عقوده وعباداته ومعاملاته ما شرعه الله تعالى من أحكام، وهذه الأحكام الشرعية إنما تستفاد من الأدلة التي أقامها الشارع للدلالة عليها، نصوصاً وغيرها، وليس من بين هذه الأدلة دليل يفيد الحكم دون اجتهاد إلا النص القطعي الصريح، أما سائر الأدلة الأخرى فإنما يستفاد الحكم منها بواسطة الاجتهاد، وحيث وجب الاجتهاد، وكان المكلف من أهله لم يجز له تقليد غيره، إذ الحكم الذي يجب عليه حينئذ هو ما أداه إليه اجتهاده.
كذلك يجب الاجتهاد وجوباً عينياً على من استأهل له إذا وقعت حادثة لأي فرد أو جماعة من المسلمين، وأريد معرفة حكمها الشرعي، وتعين هذا المجتهد للإفتاء فيها، إما لأنه ليس في بلده سواه، وإما لضيق الوقت، وخوف فواته، إن لم يُفتِ هو في الحادثة.
وهو واجب وجوباً كفائياً على من استأهلوا له إذا وقعت حادثة لفرد أو لجماعة من المسلمين، واستفتوا فيها، فإن جميع المجتهدين الذين طلب إليهم الإفتاء في هذه الحادثة يجب عليهم أن يفتوا فيها، وجوباً كفائياً.
فإن أدى بعضهم هذا الواجب أجر، ولم يأثم الباقون، وإن لم يقم أحد منهم به أثموا جميعاً، لأنهم –بحكم أهليتهم للاجتهاد- مكلفون بأن يعرفوا حكم الله في الوقائع، وبأن يهدوا إليه من يسألهم عنه، فإن هم لم ينهضوا بهذا الواجب كان على كل منهم إثم تركه.
وهو مندوب لمن توافرت فيهم مؤهلاته إذا سئلوا عن حوادث فرضية، لم تقع بعد، وإنما تراد معرفة حكم الله فيها احتياطاً لما قد يجدّ في المستقبل، فإن شاءوا أفتوا فيها، وكان ذلك خيراً، وإن شاءوا أخَّروا الفتوى فيها حتى تقع، ولا إثم عليهم...
ب-وأما حكم الاجتهاد بالنسبة إلى الذين لم يستأهلوا له من العلماء وغيرهم: فهو محرم عليهم، ذلك لأنهم ما داموا ليسوا أهلاً للنظر في الأدلة الشرعية، وفهم الأحكام الشرعية منها، فلن يوصلهم نظرهم في الأدلة إلى حكم الله، وسيفضي بهم إلى الضلال، ومن القواعد الشرعية المقررة أن كل ما أدى إلى الحرام حرام، ولذلك يجب على هؤلاء أن يسألوا عن أحكام الله من يعلمها عملاً بقوله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (آية 43 من سورة النحل)، ثم لأن هذا هو ما يسعهم. وقد قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) الآية الأخيرة من سورة البقرة.
جـ- بقي حكم الاجتهاد بالنسبة إلى مجموع الأمة..
نعني بحكم الاجتهاد بالنسبة إلى مجموع الأمة حكم وجود المجتهدين فيها، فهل يجب أن يكون في المسلمين في كل عصر مجتهد أو أكثر بحيث تأثم الأمة إذا خلا عصر من عصورها عن أهل الاجتهاد، أو يجوز خلو عصر من المجتهدين.
إن الحكم هو وجوب الاجتهاد وجوباً كفائياً على الأمة، في كل عصر من عصورها، فليس جائزاً أن يخلو عصر من عصورها عن أهل الاجتهاد ولو واحد، ولهذا الحكم أدلته التي أذكرها فيما يلي:
الأول: أن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً) آية 59 من سورة النساء.
ووجه دلالة هذه الآية على أن الاجتهاد فرض كفاية على الأمة هو ما فيها من تكليف للمؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منهم، وبأن يردوا ما اختلفوا في حكمه إلى الله والرسول، وهذا التكليف –كما هو واضح- عام للمؤمنين في كل بلد، وفي كل عصر وليس كل فرد من أفراد المؤمنين أهلاً لأن يرجع بنفسه إلى نصوص الله ورسوله ليعرف الأحكام الشرعية منها، وليس كل فرد أهلاً لأن يرد المتنازع فيه إلى الله والرسول.
فلا بد إذن أن يوجد في الأمة من هم أهل لمعرفة أحكام الله ورسوله من النصوص، ومن هم أهل لرد المتنازع فيه إلى الله ورسوله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يقال إن وجود هؤلاء في زمن يغني عن وجوب وجودهم في سائر الأزمنة، لأن الأدلة الشرعية قائمة في كل زمن، والمتنازع فيه يوجد في كل زمن.
والدليل الثاني: قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(6).
الدليل الثالث: أن الله عز وجل يقول في محكم كتابه: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (آية 43 من سورة النحل).
وجه دلالة هذه الآية الكريمة على قضيتنا: أن الله يأمر من لا يعلم بسؤال أهل الذكر، أمراً عاماً يشمل بعمومه الأحكام الشرعية، وأهل الذكر فيها.
ومقتضى هذا الأمر العام أن الأحكام الشرعية كغيرها يعلمها بعض الناس ويجهلها بعضهم الآخر، وأن الأمر بالسؤال يتناولها. وأهل الذكر هم أهل العلم الذين يثق بهم السائلون، ويعملون بما يفتونهم به، وهؤلاء عند الإطلاق هم أهل الاجتهاد المطلق، الذين يجيبون عن كل ما يسألون عنه، ولو لم يكن فيه بعينه نص، ولم يسبق له نظير، ولم يجمع على حكم فيه.
وهذا الأمر من الله عز وجل –لمن لا يعلم بالسؤال- يوجب على الأمة أن يكون فيها من يجيب، ومن هنا كان قوله (: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)، فإن هذه الطائفة التي تقوم بالحق، وتدعو إليه لا تكون إلا من أهل النظر في الشريعة، والقدرة على استنباط الأحكام من أصولها العامة، وأدلتها التفصيلية، وهؤلاء هم أهل الاجتهاد، فيجب أن لا يخلو منهم عصر، وإلا فالأمة كلها آثمة.
الدليل الرابع: هو أن الوقائع تتجدد، وبسبب هذا التجدد الذي لا ينتهي إلا بانتهاء الحياة، تواجه الأمة الإسلامية في كل زمن أنواع من المعاملات والشركات والعقود والتصرفات، لم ترد بأحكامها نصوص، ولم يتناولها اجتهاد سابق، فلا بد إذن من وجود أهل الاجتهاد المطلق في كل عصر، ليستنبطوا لهذه الوقائع أحكامها، ويسايروا بالتشريع والتقنين تطورات الأمم، وحاجات الناس، وبخاصة أن الإسلام هو خاتم الأديان، وأنه دين البشر كلهم، في كل زمن حتى تقوم الساعة، فيجب أن يواجه حاجات كل قوم في كل زمن، وأن يكون صالحاً لكل مكان وزمان.
ولا ننسى أن نضيف هنا أننا أمام إجماع من الفقهاء على أن من يستطيع الاجتهاد، وتوفرت فيه شروطه لا يجوز له تقليد غيره، وأن نصوص القرآن تنعى على المقلدين إهمالهم لعقولهم، ومتابعتهم غيرهم، كما تأمر بإعمال العقل، وبالتفكير، والتدبر، والنظر...
وإنه لمن الحجر على العقل أن يقيد قادر على الاجتهاد، مستأهل له بإهدار عقله، وقبول ما قاله غيره.
وهذا الذي أسلفناه هو حكم الاجتهاد المطلق.
أما الاجتهاد المقيد: وهو بذل الجهد للوصول إلى حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي، ولكن مع التقيد في استنباط الحكم من دليله بأصول مجتهد معين، وبطرق استنباطه، ووجوه استدلاله، فإن حكمه شرعاً يختلف باختلاف حال المقلد، فهو واجب عليه إذا كان ممن يتولى القضاء، أو يتصدى للإفتاء بمذهب إمامه، وليس واجباً إذا لم يكن من هؤلاء.
والذي اقتضى وجوبه على القاضي والمفتي هو أن كلاً منهما معرض بطبيعة عمله لأن تعرض عليه وقائع ليس فيها نص من إمامه، فما لم يكن عالماً بأصول المذهب، وبالطرق التي ارتضاها أمامه لاستنباط الأحكام من أدلتها، وبالأحكام وعللها وأدلتها لم يستطع تطبيق هذه الأحكام على وجهها إذا كان قاضياً، ولا الإفتاء بها إذا استفتي.
ومع أن إيجاب الاجتهاد المقيد –لهذا السبب- على القاضي والمفتي هو الحكم الذي تتطلبه مصالح الناس، ولا يستغني عنه إقرار العدل بينهم، وهو الذي يكفل صحة ما يفتى به في إطار المذهب، فقد اشتهر في كل مذهب أن أهل الاجتهاد فيه قد انقضى عصرهم، وخلت الأرض منهم، وأن كل مذهب يجب أن يتلقى من أئمته، وقدامى المجتهدين فيه، دون إضافة إليها.
6- هل كل مجتهد مصيب؟
لقد أثبتّ في الفقرات السابقة أن الأمة الإسلامية مطالبة على سبيل الوجوب بأن يكون فيها من يستطيع الاجتهاد بنوعيه المطلق والمقيد، ومن يحسن استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ورأينا كيف تحتم الحياة بطبيعتها المتطورة هذا، وكيف تقتضيه صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، بوصفها الشريعة العامة الدائمة، ونحن الآن ننظر في تلك الأحكام التي يوصل الاجتهاد إليها، من حيث احتمالها للصواب والخطأ، أو كونها كلها صواباً.
وقد انقسم فقهاء المسلمين في هذه القضية إلى فريقين، يرى أحدهما: أن الأحكام المجتهد فيها تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، إذ هي أحكام ظنية لا سبيل إلى القطع بكونها كلها صواباً، ما دامت مبنية على أدلة ظنية.
ويرى الفريق الآخر: أن هذه الأحكام صواب كلها، وإن اختلفت في المسألة الواحدة بتعدد المجتهدين فيها.
وقبل أن نعرض لأدلة كل من الفريقين على ما ذهب إليه، نحب أن نبين الأساس الذي انبنى عليه الخلاف هنا، ونعني به وحدة الحكم الشرعي أو تعدده عند الله تعالى في الموضوع الواحد، فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن كل مسألة فلله فيها حكم واحد، هو وحده الصواب، وما عداه فخطأ، وذهب فريق آخر منهم إلى أن الحكم الشرعي في كل مسألة يصح الاجتهاد فيها هو ما انتهى إليه المجتهد باجتهاده، فكل حكم انبنى على اجتهاد صحيح في مسألة الاجتهاد هو حكم الله في هذه المسألة، وقد يكون هذا الحكم واحداً إذا انفرد المجتهد، وقد يتعدد إذا تعدد المجتهدون، دون أن يخل هذا بصوابه.
ففي عدة المطلقة من ذوات الحيض يختلف الأئمة في اعتبار الأقراء الثلاثة ثلاثة أطهار، أو ثلاثة حيضات، وفي زواج البكر الكبيرة يختلفون في ثبوت الولاية عليها وعدم ثبوتها، وفي مسح الرأس في الوضوء يختلفون في المقدار الذي يجب أن يمسح، أكل الرأس هو، أم جزء منه مطلق؟ أم محدد بالربع؟. وهكذا.
وأعود إلى أصل القضية لأدرس المذهبين، وأدلة كل منهما، وأبين إن شاء الله ما أختاره من بينهما.
فأما الفريق الذي قال بأن كل مجتهد مصيب، بناء على أن الحق في الموضوع الواحد يتعدد، فقد ذكر الآمدي أنهم: القاضي أبو بكر، وأبو هذيل، والجبائي وابنه، ثم أورد لهم حججاً دعموا بها مذهبهم، وهي حجج من الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلما)(7) فقد اختلف داود وسليمان في الحكم ووصفهما الله عز وجل مع هذا بأنه قد آتاهما حكماً وعلماً، ولو كان أحدهما مخطئاً لما استحق هذا الوصف.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فقد جعل عليه الصلاة والسلام الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى، مع اختلافهم في الأحكام، ولو كان فيهم مخطئ لما كان الاقتداء به هدى.
وأما الإجماع: فهو اتفاق الصحابة على تسويغ خلاف بعضهم لبعض، من غير نكير منهم على ذلك، ولو تصور الخطأ في الاجتهاد لما ساغ ذلك من الصحابة، كما لم يسوغوا ترك الإنكار على مانعي الزكاة مثلاً.
وأما المعقول، فمن أوجه:
الأول: أنه لو كان الحق متعيناً في الأحكام الاجتهادية لنصب الله تعالى عليها دليلاً قاطعاً دفعاً للإشكال وقطعاً للحجة، كما قال سبحانه: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (8)، لكنه لم يفعل، فدل على أن الحق في هذه الأحكام ليس متعيناً.
الثاني: أنه لو كان الحق في جهة لما ساغ لأحد من العامة تقليد أحد من العلماء إلا بعد الاجتهاد والتحري فيمن يقلده، وليس الأمر كذلك. وحيث خير في التقليد دل على التساوي بين المجتهدين، إذ لا يخير الشرع إلا في حالة التساوي.
الثالث: أنه لو كان الحق في جهة واحدة مما يفضي إلى الضيق والحرج، وهو منفي بقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (9)، وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(10).
الخامس: أنه لو كان المجتهد مخطئاً لما كان مغفوراً له، واللازم ممتنع.
وأما الفريق الذي قال: إن المصيب من بين المجتهدين واحد لأن الحق واحد لا يتعدد، ولأن لله في كل واقعة حكماً من لم يصبه فهو مخطئ.
هذا الفريق هو جمهور العلماء، وقد ردوا على الفريق الأول حججه، واستدلوا لمذهبهم بحجج أقوى وهو أيضاً من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فأما الكتاب: فدليلهم منه هو نفس الآية التي أوردها الفريق الآخر، إذ هي تقرر أن الله عز وجل قد فهَّم سلميان وجه الحق في المسألة، ولو كان داود هو أيضاً مصيباً لما كان لتخصيص سليمان بالتفهيم فائدة، وليس في قوله عز وجل في وصف داود وسليمان –في نفس الآية- "وكلاً آتينا حكماً وعلماً" ما يدل على أنه أوتي حكماً وعلماً فيما حكم به، إذ هو نكرة في سياق الإثبات فهو عام ويمكن حمله على أنه أوتي حكماً وعلماً بمعرفة دلالات الأدلة على مدلولاتها، وطرق الاستنباط، فلا يبقى حجة في غيره.
وتعزز هذه الآية في دلالتها على وحدة الحق في كل مسألة آيات كريمة أخرى:
منها قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه)(11)، وقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) (12).
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)(13)، إذ هو صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب، أما الحديث الذي استدل به الفريق الآخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)(14)، فإنه وإن كان عاماً في الأصحاب وفي الذين يقتدون بهم، يحمل الاقتداء فيه –وهو غير عام – على الاقتداء في الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، لا في الرأي والاجتهاد.
وأما الإجماع: فهو اتفاق الصحابة على أن الحكم الذي يثبت بالاجتهاد يوصف بالخطأ كما يوصف بالصواب، إذ هو يحتمل الأمرين ما دام مبنياً على الظن، وهذا الإجماع تصوره أقوال صحت نسبتها إليهم من بينها ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه: (أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان)، وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال رجل حضره: (هذا –والله – الحق)، فقال عمر: (إن عمر لا يدري أنه أصاب الحق، لكنه لم يأل جهداً)، وما روي عنه أيضاً رضي الله عنه أنه قال لكاتبه: (اكتب هذا ما رأى عمر، فإن يكن خطأ فمنه، وإن يكن صواباً فمن الله)، وما روي عنه كذلك من قوله في جواب المرأة التي ردت عليه نهيه عن المبالغة في المهر (أصابت امرأة، وأخطأ عمر)، وما روي عن علي رضي الله عنه، أنه قال في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها، وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف: (إنما أنت مؤدب، لا نرى عليك شيئاً)، (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك، أرى عليك الدية)، وما روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة: (أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان...) إلى كثير من الأحكام الاجتهادية التي خطَّأ فيها بعضهم بعضاً، ولم ينكر بعضهم على بعض في الخطيئة، وهذا إجماع منهم على أن المجتهد قد يخطئ، ولم ينكر بعضهم على بعض في الخطيئة، وهذا إجماع منهم على أن المجتهد قد يخطئ، وقد يصيب، وعلى أن الحق في الوقائع التي اختلفوا في أحكامها ليس إلا واحداً.
أما اتفاقهم على تسويغ خلاف بعضهم لبعض دون نكير منهم، فهو لا يعتبر إجماعاً منهم على تعدد الحق في المسألة الواحدة، إذ القائلون بأن الحق واحد لا يمنعون الاجتهاد خشية الخطأ فيه، ولا يمنعون العمل بما يؤدي إليه من أحكام خشية أن يكون بعضها خاطئاً، فهم يوجبون الاجتهاد على أهله، ويوجبون عليه العمل بما يؤديهم إليه اجتهادهم، مع افتراض أنه قد يكون خطأ، وهذا هو التفسير الصحيح لعدم إنكار بعض الصحابة على بعض الاجتهاد مع وقوع الخلاف بينهم في الأحكام الاجتهادية.
فتسويغهم للخلاف ليس إذن دليلاً على أن كل رأي من الآراء المختلفة في المسألة الواحدة حق، وبخاصة أن الأقوال المروية عنهم، والوقائع التي اختلفت أحكامهم الاجتهادية فيها تصرح بأن الاجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، وأن الحق واحد في كل مسألة، وما عداه فخطأ.
وأما المعقول فمن أوجه:
الأول: أن المجتهد مكلف بالاجتهاد، واختلاف المجتهدين واقع لا ينكر، والأحكام الاجتهادية حين تختلف في المسألة الواحدة بين المجتهدين لا تخلو من أحوال ثلاثة: إما أن يستند كل منها إلى دليل، أو لا يستند أي واحد منها إلى دليل، أو يكون لأحدها دليل ولا دليل لسائرها.
وفي الحالة الأولى قد يرجح أحد الدليلين أو الأدلة فيكون الحكم المبني عليه هو الحق وحده، وقد يتساويان أو تتساوى الأدلة فالواجب هو التوقف أو التخيير، أما الحالة الثانية: فالأحكام كلها خطأ فيها لخلوها عن الدليل، وأما الحالة الثالثة فالحق فيها مع صاحب الدليل، وغيره مخطئ.
الثاني: أن القول بتصويب المجتهدين عند اختلافهم يفضي إلى محال، فهو محال، ذلك أنهم يختلفون بالنفي والإثبات، وبالحل والحرمة في المسألة الواحدة، والقول بتصويبهم يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو محال، فما يفضي إليه محال مثله.
الثالث: أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين المجتهدين، ولو كان كل واحد منهم مصيباً فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة، وذلك لأن كل واحد منهم يعتقد أن ما صار إليه مخالفة حق، وأنه مصيب فيه، والمناظرة إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب، أو لرده عنه، فإن كان الأول ففيه تحصيل حاصل، وإن كان الثاني فقصد كل واحد منهما لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراماً، والأمة لا تجمع على جواز أمر هو في بعض حالاته تحصيل حاصل، وفي بعض حالاته حرام.
الرابع: أن المجتهد في حال اجتهاده طالب، فلا بد أن يكون له مطلوب متقدم على اجتهاده، وهذا يقتضي أن يكون مطلوبه متعيناً في نفسه، وهو الحكم الصواب دون غيره.
الخامس: أنه لو صح تصويب كل مجتهد لوجب عند الاختلاف في الطهارة والنجاسة الحكم بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر لاعتقاده صحة ما ذهب إليه مما خالفه فيه، وهو باطل.
السادس: أن القول بتصويب كل اجتهاد يلزم منه أمور ممتنعة، فيمتنع، من هذه الأمور أنه إذا تزوج شافعي بحنفية مثلاً وكانا مجتهدين ثم قال لها: (أنت بائن) جازت للزوج المراجعة بحسب ما يعتقده، وحرم على الزوجة تسليم نفسها له بحسب ما تعتقده، وهذه المنازعة لا سبيل إلى رفعها شرعاً. ومنها أنه إذا عقد واحد على امرأة بغير ولي، وعقد عليها آخر بعده بولي، لزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين، وهو محال.
ومنها أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم، فإما أن يعمل بقولهما، وهو محال، أو بقول أحدهما ولا أولوية، أو يتحير فلا يعمل، وكلها فروض ممتنعة.
وقد رد هذا الفريق شبه الفريق الآخر من حيث الاستدلال بالمعقول بما ألخصه فيما يأتي:
فقالوا في رد الشبهة الأولى: أنها مبنية على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو باطل.
وقالوا في رد الشبهة الثانية: أن العامي إنما خير في تقليد من شاء من المجتهدين لأنه لا يقدر على معرفة الأعلم، لا لأنهم جميعاً قد أصابوا الحق فيما أفتوه به، ويشهد لهذا أنهم أوجبوا عليه تقليد الأعلم إذا قدر على معرفته، ولو بإخبار العلماء.
وقالوا في رد الشبهة الثالثة: أنه إنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفته، لا لكونه صواباً.
وقالوا في رد الشبهة الرابعة: أن الحرج إنما يلزم من تعيين الحق لو وجب على المجتهدين اتباعه قطعاً، أما إذا كان ذلك مفوضاً إلى غلبة الظنون والاجتهادات فلا. ثم إنه يرد عليهم ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع فإن الحكم يكون فيها معيناً، وإن لزم منه الحرج.
وقالوا في رد الشبهة الخامسة: أن ضابط العلم بكون المجتهد مغفوراً له ليس هو صواب ما أداه إليه اجتهاده، ولكن استفراغ جهده كله في البحث والنظر، وقد وقع فترتب الغفران عليه.
وهكذا يتضح أن الحق مع الجمهور القائلين بأن المجتهد قد يخطئ ويصيب، وإن كان كل مجتهد ملزماً بأن يعمل بما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز له تقليد مجتهد آخر.
7- هل ينقض الاجتهاد باجتهاد آخر
ما دمنا قد انتهينا إلى أن المجتهد يخطئ ويصيب، فقد أصبح لزاماً علينا أن ننظر في الاجتهاد من حيث قبوله أو عدم قبوله للنقض باجتهاد آخر، وقد قال علماء الأصول أنه لا يتصور أن يكون للمجتهد الواحد، في الوقت الواحد، في الواقعة الواحدة قولان متناقضان. فلا يمكن أن يرى المجتهد أن الخلع فسخ للزواج لا ينقص عدد الطلقات، وأن يرى في الوقت نفسه أنه طلاق ينقص عددها، ولا يعقل أن يرى المجتهد أن عدة المطلقة من ذوات الحيض ثلاث حيضات، وهو في الوقت نفسه يرى أنها ثلاثة أطهار... وهكذا.
وإنما يتصور، ويعقل، ويمكن –وقد وقع فعلاً- أن يصل المجتهد إلى حكم في واقعة باجتهاده، ثم يصل في الواقعة نفسها إلى حكم آخر، نتيجة لاجتهاد يقوم به فيما بعد. كالذي روي عن أبي يوسف رضي الله عنه في الوقف، فقد كان يرى أنه غير لازم، ثم لقي الإمام مالك بن أنس عندما حج وسمع منه ما ورد في الوقف، ورأى أوقاف الصحابة والتابعين، فرجع عن رأيه الأول، وقال بلزوم الوقف.
وكالذي روي عن الإمام الشافعي من أنه عندما هبط أرض مصر عدل عن بعض الأحكام التي كان قد وصل إليها باجتهاده في بغداد، لما رأى من أحوال البيئة في مصر، ولما سمع من علمائها...
وعندما يحدث هذا، فيجتهد فقيه في مسألة، ويصل إلى حكم فيها، ثم يعيد النظر فيها، فيصل إلى حكم مخالف للحكم الأول، فإن عليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده الثاني، وينتقض بهذا اجتهاده الأول، إذ الحكم في غالب ظنه هو ما أداه إليه اجتهاده الأخير، ودليل هذا الحكم هو في غالب ظنه الدليل الراجح، ولا مكان للمرجوح –حكماً ودليلاً- إلى جانب الراجح.
وبهذا الحكم يجب عليه أن يفتي إذا استفتي، ولو كان قد أفتى قبل ذلك بما أداه إليه اجتهاده الأول.
فإن كان حاكماً، وكان قد حكم بما أداه إليه اجتهاده الأول، فليس له أن ينقض حكمه في هذه الواقعة، وإن تبين له خطأ هذا الحكم، لأنه حين صدر كان مبنياً على دليل راجح في نظره، لأنه قد ترتب عليه آثاره، ولأنه لو نقضه لما استقر قضاء، ولما تحقق الفصل في خصومة، لكنه إذا عرضت عليه واقعة مماثلة، يجب عليه أن يحكم فيها بما أداه إليه اجتهاده الثاني، ولا يتقيد بالحكم السابق الذي ظهر له خطأ اجتهاده فيه.
وكما لا ينقض الحكم المبني على اجتهاد باجتهاد آخر لنفس المجتهد، لا ينقض باجتهاد لغيره، بل هذا أولى ألا ينقض به، إذ الحكمان الاجتهاديان الصادران عن مجتهدين في مرتبة واحدة، فليس أحدهما أولى من الآخر، وليس الصواب متعيناً في أحدهما دون الآخر، والأمر ليس كذلك في الحكمين الاجتهاديين يصدران عن مجتهد واحد، في واقعتين متماثلتين، فإن آخرهما هو الصحيح، وهو الذي يجب أن يعمل به.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عرضت عليه في خلافته قضية ميراث، توفيت فيها الزوجة عن زوجها، وأمها، وأخويها لأمها، وأخويها الشقيقين، فقضى للزوج بالنصف فرضاً، وللأم بالسدس فرضاً، وللأخوين لأم بالثلث فرضاً، وللأخوين الشقيقين بالباقي تعصيباً، فلم يحصل الشقيقان على شيء من التركة، لأنهما لم يبق لهما شيء بعد نصيب ذوي الفروض، ثم عرضت عليه بعد عدة سنين قضية ميراث مماثلة، فأراد أن يحكم فيها بمثل ما حكم في سابقتها، ولمح أحد الشقيقين هذا فقال له: (هب أبانا حجراً ملقى في اليم، أليست أمنا واحدة؟) وإذا عمر رضي الله عنه تتغير نظرته إلى المسألة، فيقضي بالثلث للأخوين لأم والأخوين الشقيقين فرضاً، على أن يتقاسموه فيما بينهم بالسوية، باعتبارهم جميعاً أخوة لأم، وقيل له: إنك قد قضيت من قبل في مثل هذه الواقعة بخلاف ما قضيت به الآن فقال رضي الله عنه: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي...
ويعني هذا –كما هو واضح- أن كلا الحكمين نافذ، لأنه بني على اجتهاد صحيح.
نعم نصح رضي الله عنه أبا موسى الأشعري في كتابه إليه –وهو معروف مشهور- قائلاً له: (ولا يمنعك قضاء قضيت به، وراجعت نفسك أن ترجع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل)، وقد توهم هذه النصيحة أن على المجتهد نقض حكمه المبني على اجتهاده، إذا ظهر له –باجتهاد آخر- أن الحق بخلافه، لكن هذا ليس مراده، وإنما أراد –رضي الله عنه- أن يقضي في المستقبل بما اطمأن إلى أنه الحق غير متقيِّد بما سبق أن حكم به...
ولا يعني هذا عدم نقض الحكم المبني على اجتهاد إذا ظهر أنه مخالف لدليل شرعي قطعي، كالنص الصريح، والإجماع، وإن كان هذا خارجاً عن موضوعنا، لأننا إنما نبحث في علاقة الاجتهاد بالاجتهاد، عندما يسوغ النظر، وينبني الحكم عليه.
وهذا اجتهاد ظهر بطلانه، لأنه في مسألة لا مجال للاجتهاد فيها.
8- هل يتجزأ الاجتهاد؟
لقد أشرت في مقدمة بحثي أن للاجتهاد مؤهلات يجب أن تتوافر في الفقيه، وأنه لا يعتبر أهلاً للاجتهاد من لم تتوافر له هذه المؤهلات، وأريد الآن أن أبحث في الاجتهاد من حيث قبوله أو عدم قبوله للتجزؤ.
ولكي يتضح موضوع البحث نفرض أن عالماً جمع الآيات التي تتناول موضوع الطلاق في القرآن الكريم، والأحاديث التي تتناول نفس الموضوع في السنة النبوية الشريفة، والفتاوى التي صدرت في الطلاق من مجتهدي الصحابة والتابعين وسائر المجتهدين من بعدهم، ثم درس ذلك كله حق دراسته، وعرف جميع أحكام الطلاق ومآخذها وعللها، وحكمها، فهل يجوز له أن يجتهد في هذا الموضوع وحده؟ أم يجب لجواز اجتهاده أن يكون بهذه المكانة من العلم في جميع موضوعات الفقه وأبوابه؟
اختلفت علماء الأصول في هذا الموضوع.
فذهب طائفة منهم إلى أن من استأهل للاجتهاد في باب يجوز له الاجتهاد فيه، ولو لم يكن أهلاً للاجتهاد في غيره، وهؤلاء هم المجيزون لتجزؤ الاجتهاد، وهم يستدلون لمذهبهم بدليلين:
الدليل الأول: أنه قد تتاح للعالم فرصة للعناية ببعض أبواب الفقه، والإحاطة بمآخذ أحكامه، ومعرفة عللها، بحيث يتحقق له مناط الاجتهاد فيه، ومتى تحقق مناط الاجتهاد في باب جاز الاجتهاد فيه.
الدليل الثاني: أنه لو لم يتجزأ الاجتهاد، للزم أن يكون كل مجتهد عالماً بجواب كل سؤال عن أية واقعة، مع أن كثيراً من المجتهدين سئلوا عن وقائع عدة فقالوا في بعضها لا ندري، وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه سئل عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع منها، وقال في الست والثلاثين الباقية: لا أدري.
وذهبت طائفة أخرى من الأصوليين إلى أن من استأهل للاجتهاد في باب لا يجوز له الاجتهاد فيه، فإن الاجتهاد لا يجوز إلا ممن استأهل له في جميع أبواب الفقه، وهؤلاء هم القائلون بعدم تجزؤ الاجتهاد، وهم يبنون مذهبهم هذا على دليلين:
الدليل الأول: أن أدلة الأحكام الشرعية في أبواب الفقه المختلفة هي كتلة واحدة متماسكة، يفسر بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، فلا بد من الإحاطة بها جميعاً، وربما اهتدى العالم إلى حكم في البيع بمآخذ حكم آخر في الإجارة، أو الوصية، أو الهبة.
أو كما يقول الشوكاني: (المسألة في فرع من الفقه ربما كان أصلها في فرع آخر منه، فلا يمكن أن يعد الإنسان قد توافرت فيه وسائل الاجتهاد إذا أحاط بأدلة باب، ومآخذ أحكامه، دون بقية الأبواب).
الدليل الثاني: أن الاجتهاد ملكة راسخة في نفس المجتهد، يقتدر بها على استنباط الأحكام، للوقائع التي تعرض له، أو يستفتى فيها، وهذه الملكة إنما تحصل له من الإحاطة بأدلة الأحكام، ومآخذها، وعللها، فمن تهيأت له هذه الملكة يستطيع الاجتهاد في كل باب، ومن لم تتهيأ له لم يستطع الاجتهاد في شيء من الفقه قط، كالشاعر يستطيع أن يقول الشعر في كل غرض إذا كانت له موهبة الشعر، وإلا عجز عن قرضه تماماً، وإنما قال بعض المجتهدين لا ندري في بعض ما سئلوا عنه، لأن بعض المسائل تتجاذبها وجهات نظر مختلفة، فلا تمكن الفتوى بشيء منها إلا بعد بحثها وتكوين رأي فيها.
والحق –فيما أرى والله أعلم- أن أهلية الاجتهاد لا تقبل التجزؤ، أما الاجتهاد بالفعل فيقبله، ذلك لأن أهلية الاجتهاد ملكة تقتضي في المتصف بها أن يكون محيطاً بجميع آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، وفتاوى المجتهدين ومأخذ كل حكم شرعي، وعلته، أما الاجتهاد بالفعل فإنه يتجزأ، بمعنى أن العالم الذي أحاط بالأحكام وأدلتها في جميع أبواب الفقه، وتحققت له ملكته يجوز له أن يتخصص في الاجتهاد في باب أو أكثر دون سائر الأبواب، لأن تخصصه لا يعني أكثر من أن يستثمر ملكته الاجتهادية في بعض أبواب الفقه، دون بعضها الآخر. وهذا لا شيء فيه.
___________________
الدكتور إبراهيم سلقيني
الدكتور إبراهيم محمد سلقيني: عميد كلية الشريعة- في جامعة دمشق.
من مؤلفاته: 1-أصول الفقه الإسلامي للسنة الرابعة من كلية الحقوق. 2-الفقه الإسلامي الجزء الأول (العبادات) 3-الفقه الإسلامي الجزء الثاني (العبادات). 4-تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد للحافظ العلائي. (دراسة وتحقيق).
الهوامش:
(1)آية /116/ من سورة النحل.
(2) آية /79/ من سورة التوبة.
(3) آية /121/ من سورة الأنعام.
(4) آية /6/ من سورة المائدة.
(5) آية /228/ من سورة البقرة.
(6)آية /122/ من سورة التوبة.
(7) آية /78/ من سورة الأنبياء.
(8) آية /65/ من سورة النساء.
(9) آية /78/ من سورة الحج.
(10) آية /185/ من سورة البقرة.
(11) آية /83/ من سورة النساء.
(12) آية /7/ من سورة آل عمران.
(13) رواه البخاري ومسلم.
(14) رواه البيهقي، وأسنده الديلمي عن ابن عباس.
د. إبراهيم سلقينـي
1- تمهيد
لعل أوجز ما يوصف به الاجتهاد أنه أحد مصدرين للأحكام في الفقه الإسلامي. ذلك لأنه مهما يختلف علماء الأصول في الأدلة الشرعية، وفي عددها، فهم متفقون على أن هذه الأدلة ترجع في جملتها إلى مصدرين هما: النصوص، والاجتهاد.
وإذا كانت النصوص تشمل نوعين من الأدلة، هما: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ويمكن أن يرجع إليهما الإجماع في كثير من صوره، كما تلحق بهما فتوى الصحابي، فالذي لا شك فيه أن سائر الأدلة ترجع إلى الاجتهاد، ومن بينها بعض أنواع الإجماع، والقياس كله، والاستصلاح والاستحسان والاستصحاب ومراعاة العرف...
ومن هنا نستطيع أن نعلل لتلك القضية المشهورة التي تقول: (لا اجتهاد مع النص)، إذ الاجتهاد كما رأينا مقابل للنص، وقسيم له، فلا يمكن أن يجتمعا.
على أنه لكي تصح هذه القضية يجب أن يقيد النص فيها بالقطعي، إذ النص القطعي في سنده وفي دلالته معاً هو الذي لا مجال معه للاجتهاد، أما سائر الأدلة ومن بينها النصوص الظنية في سندها، أو في دلالتها، فإن الاجتهاد هو مصدر الاستدلال بها.
وقد اختص الله عز وجل الشريعة الإسلامية بميزتين حين جعلها عامة دائمة، وطالب جميع الناس بالاحتكام إليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهل كان ممكناً أن تفي هذه الشريعة بحاجات الناس جميعاً منذ شرعت إلى نهاية هذه الحياة، دون أن يمدها الاجتهاد بجديد من الأحكام، كلما واجه الناس جديداً في حياتهم.
حقيقة خص الله عز وجل الإسلام بميزة أخرى، حين أبقى معه معجزته، وهي القرآن الكريم، ليكون لها من دوامه دليل على دوامها.
ولقد اختص القرآن الكريم –المصدر الأول للتشريع- بميزة لها شأنها حين زودت نصوصه بكثير من عوامل الخصب والسعة، فتنوعت الطرق التي تدل بها على الأحكام، وحللت بكثير من تعليلات الأحكام على نحو يوحي بأن الأحكام مرتبطة بها، ويسمح بالقياس عليها.
وإذا كانت أحكام العبادات تعتمد على النصوص، لأنها ثابتة غير متغيرة، ولأن بعضها تعبدي غير معقول المعنى، فإن النصوص اقتصرت في المعاملات على الأحكام الأساسية، التي تصلح لكل جماعة، في كل مكان، وفي كل زمن، ثم قررت كثيراً من المبادئ العامة التي يمكن تشريع الأحكام على ضوئها، وهكذا فإن أكثر ما شرع من أحكام المعاملات قد بني على الاجتهاد، بما لا يخرج عن النصوص، وبما يكفل مصالح الناس، وييسر الحياة لهم.
وميزة الخصب والسعة في القرآن الكريم –وإن كانت مظهر غنى فيه- كانت هي نفسها دعوة إلى الاجتهاد، وحثاً عليه.
وكانت هناك دعوة أخرى إلى الاجتهاد تلح في توجيهها، وهي ضرورة مسايرة الشريعة لحاجات الناس، واتساعها لجميع هذه الحاجات.
وإذا ذكرنا أن شريعة الله شاملة وخالدة، وأن الحياة متجددة أدركنا أن الاجتهاد ضرورة لا بد منها، وأن الحاجة إليه باقية ما بقيت الحياة.
ومن هنا لم يكن ممكناً أن تجمد الشريعة الإسلامية عند النصوص، ولا أن تقف عند مفهوم واحد لكل نص، فإن النصوص نفسها تدعو إلى الاجتهاد، وتعد بالثواب عليه، حتى حين ينتهي إلى الخطأ متى تحققت شروطه.
ولهذا نستطيع أن نقرر في ثقة ويقين أن الأمة الإسلامية مطالبة بالاجتهاد، وإننا لنردد اليوم ما قاله سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى عام 660هـ: "إن وقعت حادثة غير منصوصة، أو فيها خلاف بين السلف، فلا بد فيها من الاجتهاد، من كتاب أو سنة، وما يقول سوى هذا إلا صاحب هذيان".
وهكذا فالاجتهاد مصدر خصب للأحكام يجب أن لا يخلو منه عصر من عصور المسلمين، بشرط توفر شروط الاجتهاد في المجتهدين مما سيأتي بيانه.
وليس لكل من هب ودب، ولا لأنصاف المتعلمين، وأرباعهم، وأدعيائهم، ولا لمن لم تتوفر العدالة فيهم من ملاحدة، أو فسقة، ولا من استعمرت الثقافات الأجنبية عقولهم، ولا من يتقرب للزعماء والرؤساء بالتحليل، أو يتملق العامة بالتحريم، أن يتصدر للاستنباط والاجتهاد. "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال، وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون(1).
2- تعريف الاجتهاد:
قبل أن نعرف الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين، يحسن أن نبين ما تدل عليه كلمة الاجتهاد في اللغة العربية. واللغويون يقررون أن الاجتهاد افتعال من الجهد، فهو جهد زائد مبالغ فيه. لكن لكلمة الجهد في اللغة مدلولين. أحدهما لها مفتوحة الفاء: وهو المشقة. وثانيهما لها حين تضم فاؤها: وهو الطاقة. ففي القرآن الكريم: "والذين لا يجدون إلا جهدهم"(2) وفي السنة النبوية الصحيحة: فغطني حتى بلغ مني الجهد..
والذي يبدو أن الأصوليين حين عرفوا الاجتهاد كانوا يرون أن أصل مادته هو الجهد (مضموم الفاء) بمعنى الطاقة، فقد قالوا في تعريفه إنه هو: بذل أقصى الجهد للوصول إلى حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي، بطريق استنباط الحكم من دليله، وواضح أن الذي يبذل: هو الطاقة، وإن كان بذلها يستلزم المشقة.
وهم يريدون ببذل أقصى الجهد أن يبذل الباحث وسعه كله في البحث، بحيث يحس بأنه لا مزيد على بذله، ويترجح لديه أنه لم يترك ناحية من نواحي البحث في الواقعة إلا استوفاها. ويعني هذا عندهم أنه لا يعتبر مجتهداً من يتعرف الحكم الشرعي من نص قطعي الدلالة، لأنه لا يبذل جهداً، وذلك كالوصول إلى أن نصيب الابن من التركة ميراثاً ضعف نصيب البنت، أخذاً من قوله تعالى:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين). كذلك لا يعتبر مجتهداً من يسأل عن حكم، وعن دليله، ووجه أخذه من هذا الدليل، كما لا يعتبر مجتهداً من بذل بعض جهده في استنباط حكم شرعي من دليله.
وتقييد الحكم بأن يكون (شرعياً عملياً) يخرج من دائرة المجتهدين –في اصطلاح الأصوليين- من يبذل أقصى جهده ليصل إلى حكم عقلي، أو شرعي اعتقادي، أو خلقي، كالحكم بأن زوايا أي مثلث تساوي زاويتين قائمتين، أو بأن الله عز وجل واحد لا شريك له. أو بوجوب الصدق، إذ الحكم الأول: عقلي بحت، والثاني: شرعي اعتقادي لا عملي والثالث: خلقي...
وقولهم (من دليله التفصيلي) يراد به أن يستنبط الباحث الحكم من مصدره الأصلي، وهو دليله الشرعي التفصيلي، وهذا الدليل قد يكون نصاً ظني الدلالة، وقد يكون القياس، وقد يكون الاستصلاح، وقد يكون الاستصحاب، وقد يكون مراعاة العرف. أما بذل الطاقة كاملة للوصول إلى حكم شرعي عملي من أقوال المجتهدين، أو من عبارات المتون والشروح، فلا يعتبر في نظر الأصوليين اجتهاداً.
وإنما يتم هذا كله (بطريق استنباط الحكم من دليله) لا بطريق الاتباع والتقليد، ولا بطريق الاستنباط من مصدر لا يعتبر دليلاً شرعياً تفصيلياً.
وإذن فالاجتهاد عمل لا دليل، وهذا ما عنيناه عندما قلنا إنه أحد مصدرين للأحكام في الشريعة الإسلامية، إذ المصدر أعم من الدليل، فقد يكون هو الدليل كما إذا كان نصاً قطعياً، وقد يكون وسيلة إليه.
3- مجال الاجتهاد
قدمنا أن النص القطعي للدلالة لا يعتبر عمل الفقيه في استنباط الحكم منه اجتهاداً، لأنه لا يكلفه أقصى جهده، فإن أيسر جهد –على فرض حاجته إليه- كاف في الوصول إلى الحكم الذي يدل عليه. وإذن فمجال الاجتهاد هو كل واقعة لم يرد بحكمها نص قطعي صريح.
وهذه الوقائع التي لم يدل على حكمها نص قطعي صريح لا تخلو من حالين، فإما أن يدل على حكمها نص ظني، وإما ألا يرد فيها نص إطلاقاً. وعمل المجتهد في كل منها يختلف عن عمله في الأخرى، بل هو يختلف في كل واقعة عنه في غيرها من الوقائع وإن اتفقت جملتها في أن حكمها مستفاد من نص ظني الدلالة، أو من الأدلة التي ليست نصاً تبعاً لأسباب الظنية في النص، ولنوع الدليل في غيره.
وفيما يلي نوضح هذا الإجمال بشيء من التفصيل:
أولاً: أما النص الظني الدلالة فنحن نعني به تلك النصوص التي تحتمل أكثر من معنى، إما لأنها من المشترك الذي تعدد وضعه، فتعددت معانيه تبعاً لهذا، وإما لأن الصيغة التي وردت بها تجعلها صالحة لأن يراد بها أكثر من معنى.
فمن أمثلة المشترك قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)(3) فقد وضعت (الواو) للعطف، ووضعت للحال، فاعتبرت من المشترك بين المعنيين في قوله تعالى: (وإنه لفسق) واختلف الحكم في المسألة نتيجة لترجيح أحد الاحتمالين، فرجح أبو حنيفة رضي الله عنه أنها للعطف، ومن ثم اشترط لحل أكل الذبيحة أن يذكر اسم الله عليها، فكل ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها لا يحل أكلها عنده، ولو لم يذكر عليها اسم غير الله. وذهب الشافعي إلى أن الواو للحال، وأن جملة الحال في الحقيقة هي شرط الحل. ويعني هذا عنده أن الذبيحة إنما تحرم إذا صحب ذبحها فسق، أي ذكر لغير الله، فإن لم يذكر عليها اسم الله ولا اسم غيره من آلهتهم الباطلة حل أكلها، إذ لا فسق فيها حينئذ.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (4) فيه لفظ مشترك هو الباء، فقد وضعت للتبعيض، ووضعت للإلصاق، فصارت مشتركة بين المعنيين بسبب تعدد وضعها، واختلف المجتهدون في المراد بها هنا نتيجة للاشتراك بين معانيها المختلفة. فذهب الشافعي –رضي الله عنه- إلى أن المراد بها هنا هو التبعيض، واعتبر فرض الوضوء في الرأس هو مسح بعضه، وذهب أبو حنيفة –رضي الله عنه- أنها للإلصاق، وقد دخلت على الممسوح فتفيد عموم آلة المسح وهي اليد فيجب أن لا يقل الجزء الممسوح عن الربع وهو مقدار اليد؛ ومستنداً إلى السنة العملية، واكتفى الشافعي بمطلق البعض ولو كان شعرة واحدة. وذهب مالك إلى أن الباء في الآية زائدة، فأوجب مسح الرأس كله.
وقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (5) فيه لفظ مشترك هو القرء، فقد وضع للدلالة على الطهر الذي بين حيضتين، ووضع للدلالة على الحيضة، فصار من المشترك بسبب تعدد وضعه، ونتج عن هذا الاشتراك فيه اختلاف بين المجتهدين –رضي الله عنهما-، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وأصحابه –رضي الله عنهم-. ولكل من الفريقين أدلة رجحت لديه ما ذهب إليه، وليس هنا مجال بحثها.
ثانياً: وأما الأدلة التي ليست نصاً – وهي مصادر الأحكام في الوقائع التي لا نص فيها فهي القياس، والاستصلاح، والاستحسان، والاستصحاب، ومراعاة العرف، وهي بطبيعتها مجال للاجتهاد لأسباب كثيرة نجمل أظهرها فيما يلي:
السبب الأول: إن حجية هذه الأدلة ليست محل اتفاق بين الأئمة، فقد وقع الخلاف بينهم في كل دليل منها، وترتب على هذا الخلاف خلافهم في بناء الأحكام عليها. فالذين أثبتوا القياس يحتجون به، ويحكمون بما يؤدي إليه، على حين لا يحتج به منكروه، ولا يرتبون عليه حكماً. والذين قبلوا الاستصلاح يعتبرونه دليلاً شرعياً في حين يعتبره الذين لم يقبلوه عملاً بالهوى. وبعض المجتهدين يستحسن ويعتبر الاستحسان من الأدلة الشرعية، مع أن بعضهم يقول: إن من استحسن فقد شرَّع وهكذا..
السبب الثاني: إن الذين قبلوا هذه الأدلة من المجتهدين قد يختلفون في طريقة إعمالهم لها، فتترتب على اختلافهم أحكام مختلفة وإن كانت كلها ترجع إلى دليل واحد.
ففي القياس مثلاً قد يختلفون في علة حكم الأصل، فتختلف أحكامهم في الفرع. ومثال هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت ولاية التزويج على البكر الصغيرة، فذهب الشافعي رضي الله عنه: إلى أن علة ثبوت الولاية عليها هي بكارتها، ومن ثم ألحق بها البكر الكبيرة ولم يلحق بها الثيب الصغيرة، بالرغم من صغرها، وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن علة ثبوت الولاية عليها هو صغرها، ومن ثم ألحق بها الثيب الصغيرة، بالرغم من أنها ليست بكراً، ولم يلحق بها البكر الكبيرة، لأن العلة –وهي الصغر- لم تتحقق فيها. ومثل هذا يمكن أن يقال في الاستصلاح، والاستحسان..
السبب الثالث: إن بيئات المجتهدين تختلف، فيترتب على اختلافهم في تقدير المصالح والأعراف والضرورات، وفي طريقة الحكم عليها، ومن هنا كان للشافعي في مصر مذهب جديد، غيَّر فيه بعض ما كان يقول به في مذهبه الأول قبل سفره إلى مصر، وكان الطابع العام لمذهب الحجازيين مختلفاً عن الطابع العام لمذهب أهل العراق..
وهكذا يتضح لنا اتساع مجال الاجتهاد، وتتبين شدة خطره، مما يوحي بأن من الخطأ كل الخطأ أن يقفل بابه.. ولكن هل من حق كل مسلم أن يجتهد؟ وبعبارة أخرى: ما هي المؤهلات التي يجب أن تتوافر في المجتهد؟.
4- شروط الاجتهاد ومؤهلاته
يجيب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فيقول:
"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخة، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله، وبالناسخ والمنسوخ... ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا. فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي".
وهذا الذي يقوله الإمام الشافعي في بيان الشروط التي يجب توافرها في المفتي، يوجز المؤهلات التي لا يكون الفقيه مجتهداً إلا إذا توافرت فيه. وهذه الشروط –أو المؤهلات للاجتهاد- هي:
أولاً: العلم التام بالتشريع العملي في القرآن كلياته وجزئياته، ذلك أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب دعوة فحسب، ولم ينزل ليقرر أصول العقيدة الصحيحة ويوجه الأنظار إلى أدلتها وبراهينها فقط، ولكنه أنزل ليشرع للناس مع هذا أقوم شريعة يستطيعون أن يسيروا على ضوئها، وأن يحتكموا إليها: في علاقتهم بالله عز وجل، وفي علاقة بعضهم ببعض أفراداً وشعوباً. ومن هنا كان فيه إلى جانب آيات العقيدة والدعوة والقصص نحو خمسمائة آية، تؤصِّل قواعد التشريع، وتقرر مبادئه، وتضع كلياته، وتتناول بالتفصيل بعض الموضوعات، فتشرع أحكامها الجزئية، وتعلل لبعض هذه الأحكام.
وهذه الآيات التي يناهز عددها خمسمائة آية هي المعروفة بآيات الأحكام في القرآن الكريم، وهي التي تكوِّن فقه القرآن. وقد عُني بدراستها وتفسيرها بعض المفسرين من الفقهاء، فتتبَّعها بعضهم في تفسيره حسب ترتيب المصحف، وجمع بعضهم كل مجموعة منها تتناول موضوعاً خاصاً، ثم فسرها واستنبط منها. ومع أن هؤلاء المفسرين قد تناولوا هذه الآيات كل حسب مذهب إمامه من الفقهاء المجتهدين فقد خلفوا لنا في كتبهم ثروة فقهية قيمة، لا يستغني عن الإلمام بها مجتهد.
غير أن آيات الأحكام في القرآن الكريم –وهي التي تكوِّن فقهه كما أسلفنا- لا تنتظمها سورة واحدة من سوره، فقد أنزلت متفرقة حسب الوقائع التي اقتضت نزول كل واحدة- أو عدد قليل منها، ثم وضعت في سور القرآن المتعددة حسبما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالتوقيف عن الوحي، فلن يجد الباحث آيات الموضوع الواحد مجموعة في مكان على حدة، ولن يتسنى له ترتيبها دائماً حسب تاريخ نزولها.
ولا بد لمن يتصدى للإفتاء –عن اجتهاد- أن يدرس هذه الآيات، ويعلم فقهها كله.
وهذا يقتضيه أن يحصيها ويصنفها أولاً، وأن يفسرها بعد ذلك حتى يستطيع الاستنباط منها. ثم هو لن يتسنى له تفسيرها إلا إذا وقف على أسباب نزولها، ولاحظ السياق الذي وردت فيه كل منها، وربط بينها وبين الأحاديث والآثار التي وردت في تفسيرها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ثم كان على علم بأنواع البيان القرآني، من محكم، ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وظاهر وخفي، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، الخ...
ثانياً: العلم التام بالتشريع العملي في السنة كلياته وجزئياته، سواء أكانت السنة قولية أو فعلية أو تقريرية، ذلك أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، ولا بد للمجتهد من دراسة فقهها كله، والوقوف على ما قررته من أحكام، في العبادات، والمعاملات، والعقوبات، وغيرها، قبل أن يتصدى للإفتاء.
وإذا كانت السنة ليست كلها قطعية الثبوت، لاختلاف سندها قوة وضعفاً، فإن علماءها قد عنوا بهذا الجانب من جوانبها كاملة، فدرسوا الرجال دراسة دقيقة، وميزوا بين أنواع السنة بما وضعوا لكل نوع من شروط، وهم يروون الحديث ويبينون درجته ونوعه، فيقولون: متواتر، أو مشهور. أو خبر آحاد، وإذن، فلن يجد الباحث في فقه السنة كبير عناء من هذه الجهة..
كذلك لن يجد الباحث كبير عناء من جهة الموضوع، فقد رتب كثير من هذه الكتب ترتيباً فقهياً يسَّر على الباحثين استيعاب الأحاديث المروية في كل باب من أبواب الفقه على حدة، بل عمد بعض المعنيين بالسنة إلى جمع أحاديث الأحكام من الكتب المعتمدة –كلها أو معظمها- في كتب خاصة، كابن تيمية في منتقى الأخبار، وابن حجر، في بلوغ المرام، والشيخ منصور ناصف في التاج الجامع للأصول.
وإذن، فمن حق الباحث أن يغلب الظن بأن ما في هذه الكتب –إذا ضم إليها صحيح البخاري ومسلم والموطأ للإمام مالك –هو ما ورد عن رسول الله ( ، في الموضوع الذي يتصدى للاجتهاد فيه. ويبقى عليه بعد هذا أن يدرس فقه هذه الأحاديث مستعيناً بما كتبه الشراح في شرحها، على أن يعلم العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك مما لا بد للمجتهد من العلم به..
ثالثاً: العلم التام بالتشريع العملي الذي ثبت بإجماع علماء المسلمين، في جميع العصور حتى عصره، ذلك أن الأحكام التي وقع الإجماع عليها ليست مجالاً للاجتهاد بعد هذا الإجماع وقد يستفتى فقيه في واقعة سبق الإجماع على حكم فيها. فما لم يكن على علم بكل مواقع الإجماع أمكن أن يفتي فيها بخلاف الحكم المجمع عليه، وهذا لا يجوز.
رابعاً: العلم التام بمقاصد التشريع الإسلامي، ومبادئه وكلياته العامة، لأنه إذا جهل شيئاً منها كان معرضاً لأن يخطئ في اجتهاده، فيحكم أو يفتي أو يعمل بما يعارضه، وهو لا يجوز.
خامساً: العلم بما جرى عليه عرف الناس، وبأحوالهم، وبما فيه لهم صلاح أو فساد، إذ لا تتيسَّر له الفتوى الصحيحة بدون هذا العلم.
سادساً: العلم التام باللغة العربية، من حيث بنية الكلمات، وإعرابها، وفصاحتها، ومن حيث معناها ظهوراً وخفاء، حقيقة وكناية، أفراداً وعموماً واشتراكاً، بحيث يتمكن نتيجة لهذا العلم من القطع بما تدل عليه كل كلمة، وبطريقة دلالتها عبارة، أو إشارة، أو فحوى، أو اقتضاء. وقد اختلف الأصوليون في بيان المقدار الواجب من هذا العلم باللغة، فذهب الشاطبي إلى اشتراط أن يبلغ فيه مبلغ الأصمعي والخليل وسيبويه، واكتفى غيره بما دون هذه المنزلة، إذا تمكن من فهم النصوص فهماً صحيحاً دقيقاً.
سابعاً: العدالة الكاملة في دينه وخلقه، وواضح أن هذا الشرط إنما يجب توافره لقبول فتواه أو حكمه، لا لعلمه هو بما أداه إليه اجتهاده.
ثامناً: كمال عقله، فليس لناقص العقل أن يجتهد، لأنه لن تتهيأ له وسائل الحكم الصحيح.
وهكذا إذا كان الطب والهندسة مباحاً للجميع مثلاً، لكن لا يجوز لدجال أن يتعرض لعلاج المرضى، أو قلع عيونهم، أو شق بطونهم، ولا لمن يدرس الهندسة دراسة وافية كافية أن يبني سداً، أو يصمم قصراً أو حصناً، إلا بعد عميق الدراسة والحصول على المؤهلات، بل هذا جار في جميع الاختصاصات وأعراف الناس، واصطلاحاتهم في جميع الحرف والصناعات، فلا يجيزون التصدي لحرفة ما إلا بعد وجود المؤهلات الخاصة. فكان بالأحرى والأجدر أن لا يباح التصدي للاجتهاد والاستنباط إلا بعد الفهم الثاقب، ووجود هذه الشروط والمؤهلات في المجتهد والاجتهاد، فإن الاستنباط مباح بهذا المعنى، وضمن هذه الشروط.
5- حكم الاجتهاد:
أشرت فيما سبق إلى أن باب الاجتهاد لم يقفل، وبينت أهميته البالغة للشريعة الإسلامية، من حيث إنها شريعة عامة دائمة، ومن حيث تجدد الحياة وتطورها، واحتياجها الدائم –نتيجة لهذا التطور- إلى أحكام جديدة لكل ما يَجدُّ فيها.
وأريد الآن أن أبين حكم الاجتهاد بالنسبة للعلماء الذين تحققت فيهم مؤهلاته وشروطه، في الأحوال المختلفة، وبالنسبة إلى الذين لم يستأهلوا له من العلماء وغيرهم، وبالنسبة إلى مجموع الأمة.
أ-أما حكمه بالنسبة إلى العلماء الذين استأهلوا له وتوفرت فيهم شروطه فقد يكون الوجوب العيني، وقد يكون الوجوب الكفائي، وقد يكون الندب.
فهو واجب وجوباً عينياً على من استأهل له إذا وقعت له حادثة، وأراد معرفة حكمها الشرعي، ذلك لأن كل مسلم مطالب بأن يتبع في عقوده وعباداته ومعاملاته ما شرعه الله تعالى من أحكام، وهذه الأحكام الشرعية إنما تستفاد من الأدلة التي أقامها الشارع للدلالة عليها، نصوصاً وغيرها، وليس من بين هذه الأدلة دليل يفيد الحكم دون اجتهاد إلا النص القطعي الصريح، أما سائر الأدلة الأخرى فإنما يستفاد الحكم منها بواسطة الاجتهاد، وحيث وجب الاجتهاد، وكان المكلف من أهله لم يجز له تقليد غيره، إذ الحكم الذي يجب عليه حينئذ هو ما أداه إليه اجتهاده.
كذلك يجب الاجتهاد وجوباً عينياً على من استأهل له إذا وقعت حادثة لأي فرد أو جماعة من المسلمين، وأريد معرفة حكمها الشرعي، وتعين هذا المجتهد للإفتاء فيها، إما لأنه ليس في بلده سواه، وإما لضيق الوقت، وخوف فواته، إن لم يُفتِ هو في الحادثة.
وهو واجب وجوباً كفائياً على من استأهلوا له إذا وقعت حادثة لفرد أو لجماعة من المسلمين، واستفتوا فيها، فإن جميع المجتهدين الذين طلب إليهم الإفتاء في هذه الحادثة يجب عليهم أن يفتوا فيها، وجوباً كفائياً.
فإن أدى بعضهم هذا الواجب أجر، ولم يأثم الباقون، وإن لم يقم أحد منهم به أثموا جميعاً، لأنهم –بحكم أهليتهم للاجتهاد- مكلفون بأن يعرفوا حكم الله في الوقائع، وبأن يهدوا إليه من يسألهم عنه، فإن هم لم ينهضوا بهذا الواجب كان على كل منهم إثم تركه.
وهو مندوب لمن توافرت فيهم مؤهلاته إذا سئلوا عن حوادث فرضية، لم تقع بعد، وإنما تراد معرفة حكم الله فيها احتياطاً لما قد يجدّ في المستقبل، فإن شاءوا أفتوا فيها، وكان ذلك خيراً، وإن شاءوا أخَّروا الفتوى فيها حتى تقع، ولا إثم عليهم...
ب-وأما حكم الاجتهاد بالنسبة إلى الذين لم يستأهلوا له من العلماء وغيرهم: فهو محرم عليهم، ذلك لأنهم ما داموا ليسوا أهلاً للنظر في الأدلة الشرعية، وفهم الأحكام الشرعية منها، فلن يوصلهم نظرهم في الأدلة إلى حكم الله، وسيفضي بهم إلى الضلال، ومن القواعد الشرعية المقررة أن كل ما أدى إلى الحرام حرام، ولذلك يجب على هؤلاء أن يسألوا عن أحكام الله من يعلمها عملاً بقوله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (آية 43 من سورة النحل)، ثم لأن هذا هو ما يسعهم. وقد قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) الآية الأخيرة من سورة البقرة.
جـ- بقي حكم الاجتهاد بالنسبة إلى مجموع الأمة..
نعني بحكم الاجتهاد بالنسبة إلى مجموع الأمة حكم وجود المجتهدين فيها، فهل يجب أن يكون في المسلمين في كل عصر مجتهد أو أكثر بحيث تأثم الأمة إذا خلا عصر من عصورها عن أهل الاجتهاد، أو يجوز خلو عصر من المجتهدين.
إن الحكم هو وجوب الاجتهاد وجوباً كفائياً على الأمة، في كل عصر من عصورها، فليس جائزاً أن يخلو عصر من عصورها عن أهل الاجتهاد ولو واحد، ولهذا الحكم أدلته التي أذكرها فيما يلي:
الأول: أن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً) آية 59 من سورة النساء.
ووجه دلالة هذه الآية على أن الاجتهاد فرض كفاية على الأمة هو ما فيها من تكليف للمؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منهم، وبأن يردوا ما اختلفوا في حكمه إلى الله والرسول، وهذا التكليف –كما هو واضح- عام للمؤمنين في كل بلد، وفي كل عصر وليس كل فرد من أفراد المؤمنين أهلاً لأن يرجع بنفسه إلى نصوص الله ورسوله ليعرف الأحكام الشرعية منها، وليس كل فرد أهلاً لأن يرد المتنازع فيه إلى الله والرسول.
فلا بد إذن أن يوجد في الأمة من هم أهل لمعرفة أحكام الله ورسوله من النصوص، ومن هم أهل لرد المتنازع فيه إلى الله ورسوله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يقال إن وجود هؤلاء في زمن يغني عن وجوب وجودهم في سائر الأزمنة، لأن الأدلة الشرعية قائمة في كل زمن، والمتنازع فيه يوجد في كل زمن.
والدليل الثاني: قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(6).
الدليل الثالث: أن الله عز وجل يقول في محكم كتابه: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (آية 43 من سورة النحل).
وجه دلالة هذه الآية الكريمة على قضيتنا: أن الله يأمر من لا يعلم بسؤال أهل الذكر، أمراً عاماً يشمل بعمومه الأحكام الشرعية، وأهل الذكر فيها.
ومقتضى هذا الأمر العام أن الأحكام الشرعية كغيرها يعلمها بعض الناس ويجهلها بعضهم الآخر، وأن الأمر بالسؤال يتناولها. وأهل الذكر هم أهل العلم الذين يثق بهم السائلون، ويعملون بما يفتونهم به، وهؤلاء عند الإطلاق هم أهل الاجتهاد المطلق، الذين يجيبون عن كل ما يسألون عنه، ولو لم يكن فيه بعينه نص، ولم يسبق له نظير، ولم يجمع على حكم فيه.
وهذا الأمر من الله عز وجل –لمن لا يعلم بالسؤال- يوجب على الأمة أن يكون فيها من يجيب، ومن هنا كان قوله (: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)، فإن هذه الطائفة التي تقوم بالحق، وتدعو إليه لا تكون إلا من أهل النظر في الشريعة، والقدرة على استنباط الأحكام من أصولها العامة، وأدلتها التفصيلية، وهؤلاء هم أهل الاجتهاد، فيجب أن لا يخلو منهم عصر، وإلا فالأمة كلها آثمة.
الدليل الرابع: هو أن الوقائع تتجدد، وبسبب هذا التجدد الذي لا ينتهي إلا بانتهاء الحياة، تواجه الأمة الإسلامية في كل زمن أنواع من المعاملات والشركات والعقود والتصرفات، لم ترد بأحكامها نصوص، ولم يتناولها اجتهاد سابق، فلا بد إذن من وجود أهل الاجتهاد المطلق في كل عصر، ليستنبطوا لهذه الوقائع أحكامها، ويسايروا بالتشريع والتقنين تطورات الأمم، وحاجات الناس، وبخاصة أن الإسلام هو خاتم الأديان، وأنه دين البشر كلهم، في كل زمن حتى تقوم الساعة، فيجب أن يواجه حاجات كل قوم في كل زمن، وأن يكون صالحاً لكل مكان وزمان.
ولا ننسى أن نضيف هنا أننا أمام إجماع من الفقهاء على أن من يستطيع الاجتهاد، وتوفرت فيه شروطه لا يجوز له تقليد غيره، وأن نصوص القرآن تنعى على المقلدين إهمالهم لعقولهم، ومتابعتهم غيرهم، كما تأمر بإعمال العقل، وبالتفكير، والتدبر، والنظر...
وإنه لمن الحجر على العقل أن يقيد قادر على الاجتهاد، مستأهل له بإهدار عقله، وقبول ما قاله غيره.
وهذا الذي أسلفناه هو حكم الاجتهاد المطلق.
أما الاجتهاد المقيد: وهو بذل الجهد للوصول إلى حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي، ولكن مع التقيد في استنباط الحكم من دليله بأصول مجتهد معين، وبطرق استنباطه، ووجوه استدلاله، فإن حكمه شرعاً يختلف باختلاف حال المقلد، فهو واجب عليه إذا كان ممن يتولى القضاء، أو يتصدى للإفتاء بمذهب إمامه، وليس واجباً إذا لم يكن من هؤلاء.
والذي اقتضى وجوبه على القاضي والمفتي هو أن كلاً منهما معرض بطبيعة عمله لأن تعرض عليه وقائع ليس فيها نص من إمامه، فما لم يكن عالماً بأصول المذهب، وبالطرق التي ارتضاها أمامه لاستنباط الأحكام من أدلتها، وبالأحكام وعللها وأدلتها لم يستطع تطبيق هذه الأحكام على وجهها إذا كان قاضياً، ولا الإفتاء بها إذا استفتي.
ومع أن إيجاب الاجتهاد المقيد –لهذا السبب- على القاضي والمفتي هو الحكم الذي تتطلبه مصالح الناس، ولا يستغني عنه إقرار العدل بينهم، وهو الذي يكفل صحة ما يفتى به في إطار المذهب، فقد اشتهر في كل مذهب أن أهل الاجتهاد فيه قد انقضى عصرهم، وخلت الأرض منهم، وأن كل مذهب يجب أن يتلقى من أئمته، وقدامى المجتهدين فيه، دون إضافة إليها.
6- هل كل مجتهد مصيب؟
لقد أثبتّ في الفقرات السابقة أن الأمة الإسلامية مطالبة على سبيل الوجوب بأن يكون فيها من يستطيع الاجتهاد بنوعيه المطلق والمقيد، ومن يحسن استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ورأينا كيف تحتم الحياة بطبيعتها المتطورة هذا، وكيف تقتضيه صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، بوصفها الشريعة العامة الدائمة، ونحن الآن ننظر في تلك الأحكام التي يوصل الاجتهاد إليها، من حيث احتمالها للصواب والخطأ، أو كونها كلها صواباً.
وقد انقسم فقهاء المسلمين في هذه القضية إلى فريقين، يرى أحدهما: أن الأحكام المجتهد فيها تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، إذ هي أحكام ظنية لا سبيل إلى القطع بكونها كلها صواباً، ما دامت مبنية على أدلة ظنية.
ويرى الفريق الآخر: أن هذه الأحكام صواب كلها، وإن اختلفت في المسألة الواحدة بتعدد المجتهدين فيها.
وقبل أن نعرض لأدلة كل من الفريقين على ما ذهب إليه، نحب أن نبين الأساس الذي انبنى عليه الخلاف هنا، ونعني به وحدة الحكم الشرعي أو تعدده عند الله تعالى في الموضوع الواحد، فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن كل مسألة فلله فيها حكم واحد، هو وحده الصواب، وما عداه فخطأ، وذهب فريق آخر منهم إلى أن الحكم الشرعي في كل مسألة يصح الاجتهاد فيها هو ما انتهى إليه المجتهد باجتهاده، فكل حكم انبنى على اجتهاد صحيح في مسألة الاجتهاد هو حكم الله في هذه المسألة، وقد يكون هذا الحكم واحداً إذا انفرد المجتهد، وقد يتعدد إذا تعدد المجتهدون، دون أن يخل هذا بصوابه.
ففي عدة المطلقة من ذوات الحيض يختلف الأئمة في اعتبار الأقراء الثلاثة ثلاثة أطهار، أو ثلاثة حيضات، وفي زواج البكر الكبيرة يختلفون في ثبوت الولاية عليها وعدم ثبوتها، وفي مسح الرأس في الوضوء يختلفون في المقدار الذي يجب أن يمسح، أكل الرأس هو، أم جزء منه مطلق؟ أم محدد بالربع؟. وهكذا.
وأعود إلى أصل القضية لأدرس المذهبين، وأدلة كل منهما، وأبين إن شاء الله ما أختاره من بينهما.
فأما الفريق الذي قال بأن كل مجتهد مصيب، بناء على أن الحق في الموضوع الواحد يتعدد، فقد ذكر الآمدي أنهم: القاضي أبو بكر، وأبو هذيل، والجبائي وابنه، ثم أورد لهم حججاً دعموا بها مذهبهم، وهي حجج من الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلما)(7) فقد اختلف داود وسليمان في الحكم ووصفهما الله عز وجل مع هذا بأنه قد آتاهما حكماً وعلماً، ولو كان أحدهما مخطئاً لما استحق هذا الوصف.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فقد جعل عليه الصلاة والسلام الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى، مع اختلافهم في الأحكام، ولو كان فيهم مخطئ لما كان الاقتداء به هدى.
وأما الإجماع: فهو اتفاق الصحابة على تسويغ خلاف بعضهم لبعض، من غير نكير منهم على ذلك، ولو تصور الخطأ في الاجتهاد لما ساغ ذلك من الصحابة، كما لم يسوغوا ترك الإنكار على مانعي الزكاة مثلاً.
وأما المعقول، فمن أوجه:
الأول: أنه لو كان الحق متعيناً في الأحكام الاجتهادية لنصب الله تعالى عليها دليلاً قاطعاً دفعاً للإشكال وقطعاً للحجة، كما قال سبحانه: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (8)، لكنه لم يفعل، فدل على أن الحق في هذه الأحكام ليس متعيناً.
الثاني: أنه لو كان الحق في جهة لما ساغ لأحد من العامة تقليد أحد من العلماء إلا بعد الاجتهاد والتحري فيمن يقلده، وليس الأمر كذلك. وحيث خير في التقليد دل على التساوي بين المجتهدين، إذ لا يخير الشرع إلا في حالة التساوي.
الثالث: أنه لو كان الحق في جهة واحدة مما يفضي إلى الضيق والحرج، وهو منفي بقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (9)، وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(10).
الخامس: أنه لو كان المجتهد مخطئاً لما كان مغفوراً له، واللازم ممتنع.
وأما الفريق الذي قال: إن المصيب من بين المجتهدين واحد لأن الحق واحد لا يتعدد، ولأن لله في كل واقعة حكماً من لم يصبه فهو مخطئ.
هذا الفريق هو جمهور العلماء، وقد ردوا على الفريق الأول حججه، واستدلوا لمذهبهم بحجج أقوى وهو أيضاً من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فأما الكتاب: فدليلهم منه هو نفس الآية التي أوردها الفريق الآخر، إذ هي تقرر أن الله عز وجل قد فهَّم سلميان وجه الحق في المسألة، ولو كان داود هو أيضاً مصيباً لما كان لتخصيص سليمان بالتفهيم فائدة، وليس في قوله عز وجل في وصف داود وسليمان –في نفس الآية- "وكلاً آتينا حكماً وعلماً" ما يدل على أنه أوتي حكماً وعلماً فيما حكم به، إذ هو نكرة في سياق الإثبات فهو عام ويمكن حمله على أنه أوتي حكماً وعلماً بمعرفة دلالات الأدلة على مدلولاتها، وطرق الاستنباط، فلا يبقى حجة في غيره.
وتعزز هذه الآية في دلالتها على وحدة الحق في كل مسألة آيات كريمة أخرى:
منها قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه)(11)، وقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) (12).
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)(13)، إذ هو صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب، أما الحديث الذي استدل به الفريق الآخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)(14)، فإنه وإن كان عاماً في الأصحاب وفي الذين يقتدون بهم، يحمل الاقتداء فيه –وهو غير عام – على الاقتداء في الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، لا في الرأي والاجتهاد.
وأما الإجماع: فهو اتفاق الصحابة على أن الحكم الذي يثبت بالاجتهاد يوصف بالخطأ كما يوصف بالصواب، إذ هو يحتمل الأمرين ما دام مبنياً على الظن، وهذا الإجماع تصوره أقوال صحت نسبتها إليهم من بينها ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه: (أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان)، وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال رجل حضره: (هذا –والله – الحق)، فقال عمر: (إن عمر لا يدري أنه أصاب الحق، لكنه لم يأل جهداً)، وما روي عنه أيضاً رضي الله عنه أنه قال لكاتبه: (اكتب هذا ما رأى عمر، فإن يكن خطأ فمنه، وإن يكن صواباً فمن الله)، وما روي عنه كذلك من قوله في جواب المرأة التي ردت عليه نهيه عن المبالغة في المهر (أصابت امرأة، وأخطأ عمر)، وما روي عن علي رضي الله عنه، أنه قال في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها، وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف: (إنما أنت مؤدب، لا نرى عليك شيئاً)، (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك، أرى عليك الدية)، وما روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة: (أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان...) إلى كثير من الأحكام الاجتهادية التي خطَّأ فيها بعضهم بعضاً، ولم ينكر بعضهم على بعض في الخطيئة، وهذا إجماع منهم على أن المجتهد قد يخطئ، ولم ينكر بعضهم على بعض في الخطيئة، وهذا إجماع منهم على أن المجتهد قد يخطئ، وقد يصيب، وعلى أن الحق في الوقائع التي اختلفوا في أحكامها ليس إلا واحداً.
أما اتفاقهم على تسويغ خلاف بعضهم لبعض دون نكير منهم، فهو لا يعتبر إجماعاً منهم على تعدد الحق في المسألة الواحدة، إذ القائلون بأن الحق واحد لا يمنعون الاجتهاد خشية الخطأ فيه، ولا يمنعون العمل بما يؤدي إليه من أحكام خشية أن يكون بعضها خاطئاً، فهم يوجبون الاجتهاد على أهله، ويوجبون عليه العمل بما يؤديهم إليه اجتهادهم، مع افتراض أنه قد يكون خطأ، وهذا هو التفسير الصحيح لعدم إنكار بعض الصحابة على بعض الاجتهاد مع وقوع الخلاف بينهم في الأحكام الاجتهادية.
فتسويغهم للخلاف ليس إذن دليلاً على أن كل رأي من الآراء المختلفة في المسألة الواحدة حق، وبخاصة أن الأقوال المروية عنهم، والوقائع التي اختلفت أحكامهم الاجتهادية فيها تصرح بأن الاجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، وأن الحق واحد في كل مسألة، وما عداه فخطأ.
وأما المعقول فمن أوجه:
الأول: أن المجتهد مكلف بالاجتهاد، واختلاف المجتهدين واقع لا ينكر، والأحكام الاجتهادية حين تختلف في المسألة الواحدة بين المجتهدين لا تخلو من أحوال ثلاثة: إما أن يستند كل منها إلى دليل، أو لا يستند أي واحد منها إلى دليل، أو يكون لأحدها دليل ولا دليل لسائرها.
وفي الحالة الأولى قد يرجح أحد الدليلين أو الأدلة فيكون الحكم المبني عليه هو الحق وحده، وقد يتساويان أو تتساوى الأدلة فالواجب هو التوقف أو التخيير، أما الحالة الثانية: فالأحكام كلها خطأ فيها لخلوها عن الدليل، وأما الحالة الثالثة فالحق فيها مع صاحب الدليل، وغيره مخطئ.
الثاني: أن القول بتصويب المجتهدين عند اختلافهم يفضي إلى محال، فهو محال، ذلك أنهم يختلفون بالنفي والإثبات، وبالحل والحرمة في المسألة الواحدة، والقول بتصويبهم يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو محال، فما يفضي إليه محال مثله.
الثالث: أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين المجتهدين، ولو كان كل واحد منهم مصيباً فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة، وذلك لأن كل واحد منهم يعتقد أن ما صار إليه مخالفة حق، وأنه مصيب فيه، والمناظرة إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب، أو لرده عنه، فإن كان الأول ففيه تحصيل حاصل، وإن كان الثاني فقصد كل واحد منهما لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراماً، والأمة لا تجمع على جواز أمر هو في بعض حالاته تحصيل حاصل، وفي بعض حالاته حرام.
الرابع: أن المجتهد في حال اجتهاده طالب، فلا بد أن يكون له مطلوب متقدم على اجتهاده، وهذا يقتضي أن يكون مطلوبه متعيناً في نفسه، وهو الحكم الصواب دون غيره.
الخامس: أنه لو صح تصويب كل مجتهد لوجب عند الاختلاف في الطهارة والنجاسة الحكم بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر لاعتقاده صحة ما ذهب إليه مما خالفه فيه، وهو باطل.
السادس: أن القول بتصويب كل اجتهاد يلزم منه أمور ممتنعة، فيمتنع، من هذه الأمور أنه إذا تزوج شافعي بحنفية مثلاً وكانا مجتهدين ثم قال لها: (أنت بائن) جازت للزوج المراجعة بحسب ما يعتقده، وحرم على الزوجة تسليم نفسها له بحسب ما تعتقده، وهذه المنازعة لا سبيل إلى رفعها شرعاً. ومنها أنه إذا عقد واحد على امرأة بغير ولي، وعقد عليها آخر بعده بولي، لزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين، وهو محال.
ومنها أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم، فإما أن يعمل بقولهما، وهو محال، أو بقول أحدهما ولا أولوية، أو يتحير فلا يعمل، وكلها فروض ممتنعة.
وقد رد هذا الفريق شبه الفريق الآخر من حيث الاستدلال بالمعقول بما ألخصه فيما يأتي:
فقالوا في رد الشبهة الأولى: أنها مبنية على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو باطل.
وقالوا في رد الشبهة الثانية: أن العامي إنما خير في تقليد من شاء من المجتهدين لأنه لا يقدر على معرفة الأعلم، لا لأنهم جميعاً قد أصابوا الحق فيما أفتوه به، ويشهد لهذا أنهم أوجبوا عليه تقليد الأعلم إذا قدر على معرفته، ولو بإخبار العلماء.
وقالوا في رد الشبهة الثالثة: أنه إنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفته، لا لكونه صواباً.
وقالوا في رد الشبهة الرابعة: أن الحرج إنما يلزم من تعيين الحق لو وجب على المجتهدين اتباعه قطعاً، أما إذا كان ذلك مفوضاً إلى غلبة الظنون والاجتهادات فلا. ثم إنه يرد عليهم ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع فإن الحكم يكون فيها معيناً، وإن لزم منه الحرج.
وقالوا في رد الشبهة الخامسة: أن ضابط العلم بكون المجتهد مغفوراً له ليس هو صواب ما أداه إليه اجتهاده، ولكن استفراغ جهده كله في البحث والنظر، وقد وقع فترتب الغفران عليه.
وهكذا يتضح أن الحق مع الجمهور القائلين بأن المجتهد قد يخطئ ويصيب، وإن كان كل مجتهد ملزماً بأن يعمل بما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز له تقليد مجتهد آخر.
7- هل ينقض الاجتهاد باجتهاد آخر
ما دمنا قد انتهينا إلى أن المجتهد يخطئ ويصيب، فقد أصبح لزاماً علينا أن ننظر في الاجتهاد من حيث قبوله أو عدم قبوله للنقض باجتهاد آخر، وقد قال علماء الأصول أنه لا يتصور أن يكون للمجتهد الواحد، في الوقت الواحد، في الواقعة الواحدة قولان متناقضان. فلا يمكن أن يرى المجتهد أن الخلع فسخ للزواج لا ينقص عدد الطلقات، وأن يرى في الوقت نفسه أنه طلاق ينقص عددها، ولا يعقل أن يرى المجتهد أن عدة المطلقة من ذوات الحيض ثلاث حيضات، وهو في الوقت نفسه يرى أنها ثلاثة أطهار... وهكذا.
وإنما يتصور، ويعقل، ويمكن –وقد وقع فعلاً- أن يصل المجتهد إلى حكم في واقعة باجتهاده، ثم يصل في الواقعة نفسها إلى حكم آخر، نتيجة لاجتهاد يقوم به فيما بعد. كالذي روي عن أبي يوسف رضي الله عنه في الوقف، فقد كان يرى أنه غير لازم، ثم لقي الإمام مالك بن أنس عندما حج وسمع منه ما ورد في الوقف، ورأى أوقاف الصحابة والتابعين، فرجع عن رأيه الأول، وقال بلزوم الوقف.
وكالذي روي عن الإمام الشافعي من أنه عندما هبط أرض مصر عدل عن بعض الأحكام التي كان قد وصل إليها باجتهاده في بغداد، لما رأى من أحوال البيئة في مصر، ولما سمع من علمائها...
وعندما يحدث هذا، فيجتهد فقيه في مسألة، ويصل إلى حكم فيها، ثم يعيد النظر فيها، فيصل إلى حكم مخالف للحكم الأول، فإن عليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده الثاني، وينتقض بهذا اجتهاده الأول، إذ الحكم في غالب ظنه هو ما أداه إليه اجتهاده الأخير، ودليل هذا الحكم هو في غالب ظنه الدليل الراجح، ولا مكان للمرجوح –حكماً ودليلاً- إلى جانب الراجح.
وبهذا الحكم يجب عليه أن يفتي إذا استفتي، ولو كان قد أفتى قبل ذلك بما أداه إليه اجتهاده الأول.
فإن كان حاكماً، وكان قد حكم بما أداه إليه اجتهاده الأول، فليس له أن ينقض حكمه في هذه الواقعة، وإن تبين له خطأ هذا الحكم، لأنه حين صدر كان مبنياً على دليل راجح في نظره، لأنه قد ترتب عليه آثاره، ولأنه لو نقضه لما استقر قضاء، ولما تحقق الفصل في خصومة، لكنه إذا عرضت عليه واقعة مماثلة، يجب عليه أن يحكم فيها بما أداه إليه اجتهاده الثاني، ولا يتقيد بالحكم السابق الذي ظهر له خطأ اجتهاده فيه.
وكما لا ينقض الحكم المبني على اجتهاد باجتهاد آخر لنفس المجتهد، لا ينقض باجتهاد لغيره، بل هذا أولى ألا ينقض به، إذ الحكمان الاجتهاديان الصادران عن مجتهدين في مرتبة واحدة، فليس أحدهما أولى من الآخر، وليس الصواب متعيناً في أحدهما دون الآخر، والأمر ليس كذلك في الحكمين الاجتهاديين يصدران عن مجتهد واحد، في واقعتين متماثلتين، فإن آخرهما هو الصحيح، وهو الذي يجب أن يعمل به.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عرضت عليه في خلافته قضية ميراث، توفيت فيها الزوجة عن زوجها، وأمها، وأخويها لأمها، وأخويها الشقيقين، فقضى للزوج بالنصف فرضاً، وللأم بالسدس فرضاً، وللأخوين لأم بالثلث فرضاً، وللأخوين الشقيقين بالباقي تعصيباً، فلم يحصل الشقيقان على شيء من التركة، لأنهما لم يبق لهما شيء بعد نصيب ذوي الفروض، ثم عرضت عليه بعد عدة سنين قضية ميراث مماثلة، فأراد أن يحكم فيها بمثل ما حكم في سابقتها، ولمح أحد الشقيقين هذا فقال له: (هب أبانا حجراً ملقى في اليم، أليست أمنا واحدة؟) وإذا عمر رضي الله عنه تتغير نظرته إلى المسألة، فيقضي بالثلث للأخوين لأم والأخوين الشقيقين فرضاً، على أن يتقاسموه فيما بينهم بالسوية، باعتبارهم جميعاً أخوة لأم، وقيل له: إنك قد قضيت من قبل في مثل هذه الواقعة بخلاف ما قضيت به الآن فقال رضي الله عنه: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي...
ويعني هذا –كما هو واضح- أن كلا الحكمين نافذ، لأنه بني على اجتهاد صحيح.
نعم نصح رضي الله عنه أبا موسى الأشعري في كتابه إليه –وهو معروف مشهور- قائلاً له: (ولا يمنعك قضاء قضيت به، وراجعت نفسك أن ترجع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل)، وقد توهم هذه النصيحة أن على المجتهد نقض حكمه المبني على اجتهاده، إذا ظهر له –باجتهاد آخر- أن الحق بخلافه، لكن هذا ليس مراده، وإنما أراد –رضي الله عنه- أن يقضي في المستقبل بما اطمأن إلى أنه الحق غير متقيِّد بما سبق أن حكم به...
ولا يعني هذا عدم نقض الحكم المبني على اجتهاد إذا ظهر أنه مخالف لدليل شرعي قطعي، كالنص الصريح، والإجماع، وإن كان هذا خارجاً عن موضوعنا، لأننا إنما نبحث في علاقة الاجتهاد بالاجتهاد، عندما يسوغ النظر، وينبني الحكم عليه.
وهذا اجتهاد ظهر بطلانه، لأنه في مسألة لا مجال للاجتهاد فيها.
8- هل يتجزأ الاجتهاد؟
لقد أشرت في مقدمة بحثي أن للاجتهاد مؤهلات يجب أن تتوافر في الفقيه، وأنه لا يعتبر أهلاً للاجتهاد من لم تتوافر له هذه المؤهلات، وأريد الآن أن أبحث في الاجتهاد من حيث قبوله أو عدم قبوله للتجزؤ.
ولكي يتضح موضوع البحث نفرض أن عالماً جمع الآيات التي تتناول موضوع الطلاق في القرآن الكريم، والأحاديث التي تتناول نفس الموضوع في السنة النبوية الشريفة، والفتاوى التي صدرت في الطلاق من مجتهدي الصحابة والتابعين وسائر المجتهدين من بعدهم، ثم درس ذلك كله حق دراسته، وعرف جميع أحكام الطلاق ومآخذها وعللها، وحكمها، فهل يجوز له أن يجتهد في هذا الموضوع وحده؟ أم يجب لجواز اجتهاده أن يكون بهذه المكانة من العلم في جميع موضوعات الفقه وأبوابه؟
اختلفت علماء الأصول في هذا الموضوع.
فذهب طائفة منهم إلى أن من استأهل للاجتهاد في باب يجوز له الاجتهاد فيه، ولو لم يكن أهلاً للاجتهاد في غيره، وهؤلاء هم المجيزون لتجزؤ الاجتهاد، وهم يستدلون لمذهبهم بدليلين:
الدليل الأول: أنه قد تتاح للعالم فرصة للعناية ببعض أبواب الفقه، والإحاطة بمآخذ أحكامه، ومعرفة عللها، بحيث يتحقق له مناط الاجتهاد فيه، ومتى تحقق مناط الاجتهاد في باب جاز الاجتهاد فيه.
الدليل الثاني: أنه لو لم يتجزأ الاجتهاد، للزم أن يكون كل مجتهد عالماً بجواب كل سؤال عن أية واقعة، مع أن كثيراً من المجتهدين سئلوا عن وقائع عدة فقالوا في بعضها لا ندري، وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه سئل عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع منها، وقال في الست والثلاثين الباقية: لا أدري.
وذهبت طائفة أخرى من الأصوليين إلى أن من استأهل للاجتهاد في باب لا يجوز له الاجتهاد فيه، فإن الاجتهاد لا يجوز إلا ممن استأهل له في جميع أبواب الفقه، وهؤلاء هم القائلون بعدم تجزؤ الاجتهاد، وهم يبنون مذهبهم هذا على دليلين:
الدليل الأول: أن أدلة الأحكام الشرعية في أبواب الفقه المختلفة هي كتلة واحدة متماسكة، يفسر بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، فلا بد من الإحاطة بها جميعاً، وربما اهتدى العالم إلى حكم في البيع بمآخذ حكم آخر في الإجارة، أو الوصية، أو الهبة.
أو كما يقول الشوكاني: (المسألة في فرع من الفقه ربما كان أصلها في فرع آخر منه، فلا يمكن أن يعد الإنسان قد توافرت فيه وسائل الاجتهاد إذا أحاط بأدلة باب، ومآخذ أحكامه، دون بقية الأبواب).
الدليل الثاني: أن الاجتهاد ملكة راسخة في نفس المجتهد، يقتدر بها على استنباط الأحكام، للوقائع التي تعرض له، أو يستفتى فيها، وهذه الملكة إنما تحصل له من الإحاطة بأدلة الأحكام، ومآخذها، وعللها، فمن تهيأت له هذه الملكة يستطيع الاجتهاد في كل باب، ومن لم تتهيأ له لم يستطع الاجتهاد في شيء من الفقه قط، كالشاعر يستطيع أن يقول الشعر في كل غرض إذا كانت له موهبة الشعر، وإلا عجز عن قرضه تماماً، وإنما قال بعض المجتهدين لا ندري في بعض ما سئلوا عنه، لأن بعض المسائل تتجاذبها وجهات نظر مختلفة، فلا تمكن الفتوى بشيء منها إلا بعد بحثها وتكوين رأي فيها.
والحق –فيما أرى والله أعلم- أن أهلية الاجتهاد لا تقبل التجزؤ، أما الاجتهاد بالفعل فيقبله، ذلك لأن أهلية الاجتهاد ملكة تقتضي في المتصف بها أن يكون محيطاً بجميع آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، وفتاوى المجتهدين ومأخذ كل حكم شرعي، وعلته، أما الاجتهاد بالفعل فإنه يتجزأ، بمعنى أن العالم الذي أحاط بالأحكام وأدلتها في جميع أبواب الفقه، وتحققت له ملكته يجوز له أن يتخصص في الاجتهاد في باب أو أكثر دون سائر الأبواب، لأن تخصصه لا يعني أكثر من أن يستثمر ملكته الاجتهادية في بعض أبواب الفقه، دون بعضها الآخر. وهذا لا شيء فيه.
___________________
الدكتور إبراهيم سلقيني
الدكتور إبراهيم محمد سلقيني: عميد كلية الشريعة- في جامعة دمشق.
من مؤلفاته: 1-أصول الفقه الإسلامي للسنة الرابعة من كلية الحقوق. 2-الفقه الإسلامي الجزء الأول (العبادات) 3-الفقه الإسلامي الجزء الثاني (العبادات). 4-تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد للحافظ العلائي. (دراسة وتحقيق).
الهوامش:
(1)آية /116/ من سورة النحل.
(2) آية /79/ من سورة التوبة.
(3) آية /121/ من سورة الأنعام.
(4) آية /6/ من سورة المائدة.
(5) آية /228/ من سورة البقرة.
(6)آية /122/ من سورة التوبة.
(7) آية /78/ من سورة الأنبياء.
(8) آية /65/ من سورة النساء.
(9) آية /78/ من سورة الحج.
(10) آية /185/ من سورة البقرة.
(11) آية /83/ من سورة النساء.
(12) آية /7/ من سورة آل عمران.
(13) رواه البخاري ومسلم.
(14) رواه البيهقي، وأسنده الديلمي عن ابن عباس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق