الاجتهاد والمذاهب الفقهية الأربعة
الاجتهاد والمذاهب الفقهية الأربعة
حوار مع الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي حفظه الله
الجزء الأول
حبذا لوتعطونا فكرة عن أهمية الاجتهاد ، وماهو موقعه في علم أصول الفقه .
موضوع الاجتهاد والتقليد عنوان من عناوين أصول الفقه ، يعني ليس باباً من أبواب أصول الفقه بل هو كتاب من كتب أصول الفقه ، كل كتاب في أصول الفقه يحتوي في ضمنه على كتب ، والكتاب يحتوي على أبواب ، والأبواب تحتوي على مسائل ، فهذا الاجتهاد والتقليد ليس من الأبواب وإنما هو من الكتب ، يعني هو موضوع كبير ورئيسي في علم أصول الفقه بل في ضمن تعريف أصول الفقه التعريف العام لأصول الفقه يدخل هذا الموضوع ، فيقولون في تعريف الأصول هو علم يعني أصول الفقه هو علم بأصول يُبحث فيه عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية ، وعن المرجحات وصفات المجتهد ، يعني تصور علم الأصول كله قسموه بثلاثة عناوين ، عنوان منها هو الاجتهاد أو الاجتهاد و التقليد ، نعود للتعريف علم بأصول يُبحث فيه عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية وعن المرجحات ، المقصود بالمرجحات أنه إذا كان قد اختلفنا في مسألة علمية على رأيين كيف نرجِّح رأيا على آخر ، وإذا كان في المسألة نصان شرعيان ظاهرهما التعارض فكيف نرجح نصا على نص ، هذا باب عظيم وعلم غزير جدا في أصول الفقه ، وصفات المجتهد طبعا كلها تُبحث تحت عنوان الاجتهاد والتقليد .
هل هناك صفات وشروط معينة ينبغي أن يتحلى ويتحقق بها مَن يريد أن يكون مجتهداً ؟
صفات المجتهد ويقصدون فيها شروط المجتهد ، الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإنسان حتى يكون مجتهداً ، ومما أحب أن أشير إليه أنه ليس مَن عرف صفات المجتهد أصبح مجتهداً ، يعني الأصول الذي يتعلم أصول الفقه ويتمكن في أصول الفقه ليس مجتهداً ، لأنه عرف صفات المجتهد مجرد معرفة ، ولكنه لم يتحلَّ بها لم تقم به هذه الشروط ، فإذا قامت به هذه الشروط واتصف بهذه الصفات أصبح أصولياً ومجتهداً ، إذنً أصول الفقه والتمكن من أصول الفقه شيء والاجتهاد شيء آخر ، الأصولي يعرف مجرد معرفة عقلية ، أنا مثلا لو أنني عرفت كيف يُصنع الخبز وأتقنت هذه الصنعة إتقاناً كاملاً ، لا أشبع حتى أكل رغيف الخبز فإذا أكلت رغيف الخبز أشبع ، وهنا الأصولي مهما تمكَّن من معرفة صفات المجتهد فلا بد له من الممارسة حتى يعرف صفات المجتهد وتكون واضحة ناصعة في ذهنه تماماً ، حتى يعرف شروط المجتهد وصفاته تماماً ، هذه مرحلة جيدة ولكن لا يُسمى معها مجتهدا إنما لا بد أن تقوم به هذه الشروط ، والنقلة بين معرفة شروط المجتهد والتحلي بشروط المجتهد نقلة كبيرة واسعة تحتاج إلى جهود كبيرة وتحتاج إلى أفق واسع ، وتحتاج إلى فهم غزير وعقل ثاقب حتى يستطيع أن يتحلى بصفات المجتهد .
نسمع أن المجتهدين طبقات هل هذا صحيح ؟
الأصوليون يقولون إن المجتهدين ليسوا سواءً ، إنما هنالك مجتهد مطلق ، ومجتهد مذهب ، ومجتهد فتوى ، و بعض الأصوليين يوسِّع أكثر من ذلك ويدخل في الفروع فيجعل الاجتهاد مراتبه أكثر من ذلك بكثير ولكن أحب في هذه العجالة الاختصار قدر الإمكان .
ما هي صفات وشروط المجتهد المطلق ؟
المجتهد المطلق هو الذي أتقن نصوص الكتاب والسنة التي تدل على الأحكام ، أتقنها إتقانا كاملاً حفظ آيات الأحكام كلها ، والأحاديث التي تتعلق بالأحكام ، وفهم مفرداتها وفهم دلالاتها ، و استطاع أن يعرف الأحاديث صحيحها من حسنها إلى آخر ما هنالك ثم أيضا له أصول قائمة في نفسه من خلال هذه الأصول يستنبط الأحكام ، ومن ذلك أن يعرف مثلا مواقع الإجماع التي أجمع عليها العلماء سابقاً ، لا ينبغي أن يجتهد ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يمد يده إلى نص من نصوص الكتاب والسنة ليجتهد في مسألة ما إلا أن يكون مطلعاً إطلاعاً قوياً على كل موقع من مواقع الفقه فيه إجماع للفقهاء في أي عصر من العصور ، وكما تعلمون أن العصور الأولى هي عصور غنية بالإجماع ، عصر الصحابة ، عصر التابعين ، وتابع التابعين ، هذه عصور غنية بالإجماع ، وما بعد ذلك أصبح الإجماع خفيفاً وقليلاً ، فأن يكون محيطاً إحاطة تامة ومتمكناً تمكناً كاملاً بمعرفة المواقع التي أجمع عليها العلماء.
لماذا يوجب العلماء هذا الأمر أن يكون المجتهد محيطاً بمواقع الإجماع ؟
لأن الإجماع تحرم مخالفته ، مخالفة الإجماع حرامٌ شرعاً ، الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه يقرر حرمة مخالفة الإجماع وسئل عن دليله من القرآن الكريم ، فأطرق إطراقة طويلة مرَّ فيها على كتاب الله كله فلم يعثر على دليل ، ثم أيضا مرَّ على القرآن كله ، ثم مرَّ مرة ثالثة على القرآن كله فالتقطها وأكرمه الله بها قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) إذنً دليل مخالفة الإجماع أنه حرام من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وعقلاً ومنطقاً أيضاً ولا أريد أن أفصل في هذا ، المهم تحرم مخالفة الإجماع ، فكيف يستطيع أن يعرف المرء نفسه إذا أراد أن يجتهد في مسألة ما ، كيف يعرف إذا خالف الإجماع أو لم يخالف الإجماع إذا لم يكن يعرف مواقع الإجماع ، إذا لم يكن يعرف المسائل التي أجمع عليها العلماء رضي الله تعالى عنهم ، ولو فرضنا أنه اجتهد دون أن يعرف ثم بعد ذلك تبين أن اجتهاده مخالف لإجماع العلماء فهذا يسمى خرقاً للإجماع ، وخرقُ الإجماع حرامٌ بالإجماع ، وإما أن يوافق فتكون نتيجة اجتهاده موافقةً لاجتماع العلماء ، فالعلماء يقولون ليس الاعتداد برأيه ولا اجتهاده ولا بالوسيلة التي وصل إليها ، وإنما الاعتداد بالإجماع ، فكان اجتهاده وتعبه هدراً ، أذهَبَ وقته وجهده هدراً ، ولو اطلع على موقع الإجماع لكان اتبعه وسكت ، فإذنً من شروط المجتهد أن يعرف مواقع الإجماع.
هل تذكروا لنا بعض من اعتنى بمواقع الإجماع ؟
أشير هنا إشارة عابرة إلى بعض العلماء الذين اعتنوا بمواقع الإجماع، منهم مثلا: ابن جرير الطبري رضي الله تعالى عنه ، وابن المنذر ، والعبدري ، وابن عبد البر ، كل هؤلاء اعتنوا كثيراً في كتبهم بنقل مواقع الإجماع ، لكن أعظم هؤلاء على الإطلاق بدون منازع الإمام ابن المنذر رضي الله تعالى عنه ، وخاصة في كتابه (الإشراف على مذاهب الأشراف) فابن المنذر رحمه الله له كتاب اسمه (الإجماع) وله كتاب اسمه (الإشراف على مذاهب الأشراف) وهو كتاب كبير وفيه خير كثير ومن جملة ما فيه مواقع الإجماع ، هذا شرط من شروط المجتهد.
سيدي ما هي بقية شروط المجتهد لو سمحتم؟
ومن شروط المجتهد أن يكون متمكناً في علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن متمكناً فإنه لا يمكن أن يسمى مجتهداً مطلقاً، لا يمكن لأن علم مصطلح الحديث هو الذي يدرب صاحبه نقض الأحاديث الواردة ، صحيحها من حسنها من سقيمها من موضوعها إلى آخر ما هنالك ، وفي ذلك علوم غزيرة جداً وخاصة علم علل الأحاديث ، المتمكنون في علل الأحاديث إنما هم قلة من الحفاظ الكبار، وهذا يعرفه المشتغلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومَن لم يتمكن في هذا تمكناً كاملاً فلا يكون مجتهداً مطلقاً ، قد يكون مجتهد مذهب مثل الإمام الغزالي، الإمام الغزالي غزير جداً في علمه وفي فقهه وفي لغته، ولكن لأنه لم يكن متمكناً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى العلماء رضي الله عنهم أن يصنفوه مجتهداً مطلقاً ، إنما هو مجتهد مذهب ، مجتهد أدنى فهو يجتهد ضمن مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
معرفة الناسخ والمنسوخ:
ومن جملة شروط المجتهد أيضا معرفة الناسخ والمنسوخ ، يجب أن يعرف المجتهد مواقع النسخ كلها من أولها لآخرها بإتقان ، كل ناسخ وكل منسوخ يجب أن يعرفه وما لم يعرفه يقع في أغلاط كما وقع فيها بعضهم مما سأذكره بعد قليل.
التمكن في اللغة العربية:
أيضا من الشروط الضرورية للمجتهد أن يكون متمكناً في اللغة العربية بكل فنونها ، لأن اللغة العربية هي الحقيقة ، وخاصة النحو فيها هو مفتاح العلوم كلها ، أيُّ علم تريد أن تدخل فيه ما لم تكن متمكناً في النحو فإنك لا تستطيع الدخول في هذا العلم ، ولا تستطيع فهم مستغلقات هذا العلم إلا أن تكون متمكناً في علم النحو والإعراب ، لأن علم النحو والإعراب هو الذي يعرب عن حقيقة المعنى الذي يجتهد عليه في النص ، وأذكر مرة وأكثر من مرة والدي رحمه الله أمرُّ على نص من النصوص أستصعبه جداً ، فأعيده مرة واثنتين وثلاثة وأتأمل فيه تأملاً شديداً وهو مستغلق علي ، فآتي للوالد رحمه الله فيضحك رحمه الله ويقول لي أعرب هذا النص ، كم هذا النص سطران ثلاثة خمسة أعربْه ، سبحان الله لما أُعرب هذا النص أقف عند كلمة يخطر في بالي مثلاً أنها تكون صفة ، وقد تكون حالاً فيختلف المعنى اختلافاً كثيراً فيفُتح الباب وأستطيع فهم هذه المسألة ، بمجرد اختلاف إعراب كلمة من الكلمات أو موقعها ضمن تركيب من التركيبات يختلف المعنى اختلافاً كاملاً ، ويفتح آفاقاً أمام الإنسان الذي يدرس مسائل العلم في مسألة النحو ، فلا طريق للإنسان في طلب العلم أيِّ علم من العلوم إذا أراد أن يدخل يغوص في هذا العلم غوصاً شديداً لا بد له من أداة فعالة وهي علم النحو ، ولكن المجتهد لا يكتفي بعلم النحو ولا يجوز أن يكتفي بعلم النحو ، إنما لا بدَّ له من علم النحو وعلم الصرف وعلم البلاغة من معاني وبيان وبديع ، وعلم متن اللغة ، وعلم التضاد يعني الكلمات التي تحمل معاني متضادة ، هذه كلها علوم لا بد من أن يتمكن فيها الإنسان حتى نستطيع أن نصفه بأنه مجتهد.
وهذه أهم الصفات التي يتفق عليها الأصوليون كلهم على أنها صفات ينبغي أن تقوم بالمجتهد.
الإحاطة بالمرجحات:
وأن يكون أيضاً محيطاً بالمرجحات، فكما قلت لكم جزء كبير من أصول الفقه اسمه المرجحات ، وهو كيف تستطيع أو ما هو السبيل لترجيح نص على نص إذا كان ظاهرهما التعارض ، نصان ظاهرهما التعارض كيف ترجح هذا على هذا ، هناك احتمالات كثيرة جدا عشرة احتمالات عشرون احتمالا ثلاثون أربعون احتمالا بل وصل بعض العلماء القدامى في تعدادها إلى خمسة وخمسين نصَّ على خمسة وخمسين مرجحاً من المرجحات ، ثم جاء بعده من المتأخرين مَن وصل فيها إلى مائة وخمسين مرجحاً ، لا يكون المجتهد مجتهداً إلا أن يقتدر على إتقان هذه المرجحات ، فإذا ظهر له تعارض بين نصين ـ ولا يوجد تعارض في نصوص الشريعة والحمد لله ـ لكن إذا ظهر تعارض بين نصين ، فلا بد أن يعرف هذه المرجحات المائة والخمسين حتى يمرر هذين النصين المتعارضين يمررها على هذه المرجحات كلها ، حتى يعرف أيهما الراجح و أيهما المرجوح ، أيهما يُعمل به و أيهما يُلغى ، ولا يلجأ إلى الإلغاء ، فالإلغاء هو آخر مرحلة يمكن أن يصل إليها المجتهد بعد أن يحاول الجمع بين النصوص ، ومن المتمكنين في هذا الفن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، له كتاب اسمه (بيان اختلاف الحديث) مهمة هذا الكتاب من أوله إلى آخره أن يلتقط من هذه النصوص التي ظاهرها التعارض ، ويعلمنا كيف تنظر إلى النصين فتراهما متعارضين ، ثم بعد أن تقرأ بَحْثَ الإمام الشافعي من أوله إلى آخره تقنع أنه ما من تعارض بينهما ، وإنما يكمل أحدهما الآخر وهذا يدل على نقاط معينة ، وهذا يدل على نقاط أخرى ، أو مواقع أخرى غير مواقع الحديث الأول ، وهكذا ، أضرب على ذلك مثلا قول ربنا تبارك وتعالى: ( ولا تبطلوا أعمالكم ) بعض العلماء فهم منه أنه لا يجوز إبطال العمل مهما كان، أي عمل بدأت فيه لا يجوز أن تبطله، متى شرعت فيه وجب عليك إتمامه سواء كان فرضا من الفروض أو سنة من السنن ، الشافعية وكثير من العلماء الآخرين رأيهم أن الفروض إذا شرعت فيها وجب إتمامها ، أما النوافل إذا شرعت فيها فلا يجب إتمامها ، هذا الكلام لا تأخذوه على العموم لأن له استثناءات ، ولكن هذه أصل المسألة ، فالشافعية لا يرضون أن يروا حديثين أو نصين ويبطلوا واحداً منهما إن هذين النصين ما جاءا لنلغي واحداً منهما جاءانا لنعمل بالاثنين ( ولا تبطلوا أعمالكم ) نعم يجب أن لا نبطل أعمالنا ونظروا فرأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) بعض العلماء قالوا الصائم نستثنيه الصائم متطوع ، وتبقى الأعمال فرضاً أو نفلاً يجب إتمامها إلا الصوم فلا يجب إتمامه ، لكن الشافعية يصرون على أن هذا الحديث (الصائم المتطوع) إنما يشمل التطوعات كلها، كل النوافل يمكن إذا بدأ بها الإنسان أن لا يتمها لكن يسن له إتمامها ، وحجتهم في ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الصائم المتطوع ) هذه الكلمة (المتطوع) ما هو اشتقاقها ؟ باللغة العربية اسم فاعل متطوع من فعل تطوع ، اسم الفاعل مشتق ، و عندهم قاعدة -لا أتوسع- لكن عندهم قاعدة عندهم أدلتهم عليها تقول: ( تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ) تعليق الحكم، والحكم هنا هو (إن شاء صام وإن شاء أفطر) تعليق هذا الحكم بلفظ مشتق من المشتقات ، اسم الفاعل من المشتقات علقناه بهذا المشتق الذي هو المتطوع ، اسم فاعل هذا التعليق يؤذن يعني يعلمنا ، يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ، يعني ذلك أن أصل هذا المشتق هو العلة ، إذنً التطوع في هذا الحديث علة إباحة الفطر أو إتمام الصيام للصائم المتطوع علة ذلك أنه متطوع ، علة ذلك التطوع ، وهذه العلة موجودة في الصلاة أيضاً ، إذا أراد أن يصلي ركعتين لوجه الله هو متطوع ، علة التطوع موجودة فيها ، فيقيسون هذا على ذاك ، يقيسون كل السنن على قوله صلى الله عليه وسلم ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) ولا يستثنى من ذلك إلا الحج والعمرة إذا بدأ فيهما وجب إتمامها نفلا كانا أو فرضا ، إذن أصبح عندنا نصان قد أعملناهما ولم نلغ واحداً منهما ( ولا تبطلوا أعمالكم ) إذن هي للفروض ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) وهي للنوافل ، هذه طريقة للجمع لا للترجيح ، يعني لم يحوج الشافعية أنفسهم إلى الترجيح ، قبل أن يصلوا إلى الترجيح أعملوا النصين وهذه براعة شديدة من المجتهد أن لا يصل إلى درجة يرجح فيها نصاً على نص ، لا يرجح بل يجمع بينهما ، و طريقة الجمع هذه من المتخصصين الكبار فيها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أنه لا يلغي نصاً ولا يسقط نصاً من النصوص وأنه يحاول الجمع بين النصوص ، هذا كما قلت مجمل شروط المجتهد المطلق
الاجتهاد والمذاهب الفقهية الأربعة
حوار مع الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي حفظه الله
الجزء الثاني
نرجو منكم أن تبينوا لنا من هو مجتهد المذهب مع الأمثلة لو تفضلتم؟
مجتهد المذهب هو الذي يجتهد من الكتاب والسنة مباشرة ولكن ليست له أصول خاصة ، يعني ليست له طرق في الاستنباط يستنبط من خلال سلوكها الأحكام من الكتاب والسنة ، إنما هو أعجز من ذلك وأقل من ذلك ، بل هو يتبع الطرق التي خطها إمامه ويسلكها سلوكاً متمكناً حتى يصل إلى الأحكام ويستنبطها ضمن النصوص ، يعني مثلاً الإمام الشافعي توفرت فيه شروط المجتهد المطلق كلها ووضع أصولاً ، الأصول التي وضعها موجودة في كتاب (الرسالة) وهو أول كتاب أُلف في أصول الفقه في التاريخ الإسلامي ، وفي كتبه الأخرى له قواعد أصولية كثيرة منتثرة فيها ، إذن خطّ أصول الفقه ووضع لنا طرقاً للاستدلال و لاستنباط الأحكام ، ونعلم أنه هو من خلال استنباط الأحكام سلك هذه الطرق ، أما مجتهد المذهب فهو أدنى مرتبة من المجتهد المطلق أدنى مرتبة من الإمام الشافعي، يستنبط كما استنبط الإمام الشافعي من الكتاب والسنة مباشرة ، يمد يده إلى النصوص مباشرة فيأخذ منها الأحكام ولكنه هو ملزم بأصول إمامه ، بالطرق التي اتبعها إمامُه لاستنباط الأحكام ، ومن هؤلاء عندنا - الشافعية - مجتهدي المذهب الإمام الربيعي المرادي ، والمزني ، والربيع الجيزي ، والبويطي ، وحرملة كل هؤلاء من أصحاب الإمام الشافعي ، ثم من بعدهم جاء علماء وأجيال متلاحقة منهم الإمام الغزالي ، وشيخه إمام الحرمين ، وشيخ شيخه والد إمام الحرمين الإمام أبو محمد الجو يني ، وهؤلاء كلهم على طبقة عالية متمكنون في الفقه ولكنهم مجتهدوا مذهب وليسوا مجتهدين اجتهاداً مطلقاً.
وماذا عن مجتهد الفتوى ؟
هو من حيث الدرجة أدنى من مجتهد المذهب ، فهو الذي لا يأخذ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة ، وإنما عنده تمكن شديد في مذهبه بحيث يعرف أقوال الإمام كلها ، إذا طرحت عليه مسألة يعرف ماذا قال الإمام في هذه المسألة، قولين؟ ثلاثة أقوال؟ أربعة أقوال؟ وماذا قال الأصحاب أصحاب الوجوه الذين هم مجتهدوا المذهب ، ماذا قالوا في هذه المسألة ؟ فقد يجتمع عليه أقوال كثيرة ، مهمته أن ينظر في هذه الأقوال ، في قوة قائليها وفي قوة أدلتها وفي كثرة الأئمة الذين أخذوا بها ، له نظرات كثيرة جداً بحيث يختار قولاً على قول ، ويقول هذا هو المعتمد في المذهب ، نحن نقول معتمد في مذهب الشافعية كذا ، فنحن بذلك نتبع مجتهدي الفتوى كالإمام النووي هو مجتهد فتوى ، الإمام الرافعي مجتهد فتوى ، هؤلاء عندهم مقدرة شديدة وقوية جداً وعارضة مكينة في اختيار القول المعتمد ، وترجيح قول على قول من أقوال أصحاب المذهب أو أقوال الإمام رضي الله تعالى عنه ، فهذه ثلاث طبقات في المذهب ، وقد يوجد تداخل فيما بينها ، يعني مثلا مجتهد المذهب أحيانا يجتهد اجتهاداً مطلقاً ، هو ملزم باتباع أصول الإمام لكن أحيانا له اجتهاد في أصول الإمام يبدي رأيه في أصل من أصول الإمام ، في قاعدة من القواعد الأصولية الموجودة عند الإمام ويتبع رأيه في ذلك ، يُباح له ذلك ، ومجتهد الفتوى أحياناً يأخذ مرتبة مجتهد مذهب في بعض الأحيان فيمد يده إلى الكتاب والسنة فيأخذ الأحكام منها على أصول الإمام رحمه الله تعالى ، ولكن هذا الترتيب الذي ذكرته هو الترتيب الشائع عند الفقهاء رضي الله تعالى عنهم .
حبذا لو توضحوا لنا بشكل أوسع لماذا لا يحق لأحدنا الاجتهاد واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة ؟
هذه الثروة العظيمة عند الفقهاء في تاريخ الفقه الإسلامي لماذا نفوِّتها على أنفسنا؟
أولا يجب أن نعلم أنه لا يجوز لنا أن نأخذ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة يعني الواحد منا يفتح كتاب رياض الصالحين فيجد حديثا يقول آخذ هذا الحديث وأعمل به ، ومما أخطأ فيه بعضهم لما قرأ حديث تحريم تزين المرأة بالذهب المُحلَّق مثل الإسوارة والطوق ، لأنه محلق في هذا الحديث تهديد من النبي صلى الله عليه وسلم ووعيد مباشرة ، قرأ الحديث فقال الذهب المحلق حرام وأطلق الفتوى ، وصارت فتن بعد هذا كثيرة ، ولو رجعنا إلى كلام العلماء رضي الله تعالى عنهم خاصة الخطابي في شرح (مشكاة المصابيح) يقول: إن هذا الحديث منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أخذ الحرير والذهب فقال: (هذان حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها) هذا نص مطلق يدخل فيه المحلق وغير المحلق، هذا ناسخ لذاك ، فليس لنا أن نأخذ بالحديث المنسوخ ونترك الناسخ ، وهكذا لعدم الاطلاع، فلا يجوز أن نمد أيدينا إلى الكتاب والسنة مباشرة ، لا بد أن تتحقق فينا صفات المجتهد التي ذكرتها قبل قليل ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ، كل ناسخ وكل منسوخ يجب أن يعرفه وما لم يعرفه يقع في مثل هذه الغلطة التي وقع فيها بعضهم ، ينبغي التنبه لهذا ، إذا أخذنا الأحكام من كتاب رياض الصالحين أو من القرآن الكريم مباشرة أو من أي كتاب في السنة فهذا غلط كبير وفاحش جداً ، لأنه ليست لدينا أهبة الاجتهاد وليس لنا الاستعداد لذلك ، ولا تستغربوا هذا أيها الإخوة ليس انتقاصاً بحقكم وليس انتقاصاً بحق المسلمين عموماً ، خذوا مثلاً على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مَن من العلماء ممن تمكن في الرجال ودرس حياة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتراجمهم وأتقنها؟ مَن منهم يقول إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم فقهاء ؟ لا أحد يقول هذا القول ، ما كانوا كلهم فقهاء ، كانوا يتميزون علينا وعلى البشر قاطبة إلى يوم القيامة بأنهم يتمتعون بحس من الفطرة سليم جداً ، ويتمتعون أيضا بسليقة في اللغة العربية سليقة سليمة لا يخطئون في اللغة العربية ، لا يُتصور من واحد منهم أن يخطأ في اللغة العربية ، لكن هذه السلامة في سليقة اللغة العربية عندهم إلى متى امتدت ، علماء اللغة العربية يقولون بعد سنة 150هـ بعد هذا التاريخ فسدت سلائق الناس ، لم يعد يوجد لغة عربية سليمة ، لم يعد يوجد إنسان تطمئن أن لغته صحيحة إن لم يكن متمكناً في علم النحو والإعراب متمكناً في علوم اللغة ، لا نقدر أن نسمع كلامه ونسلم له ، المفروض أن يُناقش كل إنسان يتكلم بكلمة أو شاعر يدلي بقصيدة ، أو كذا، المفروض أن يُحاسب هذا خطأ وهذا صواب، أما قبل سنة 150 هـ لا يقال لواحد من العرب إنك أخطأت، ولو كان جاهلياً ولو كان كافراً ، لا يقال له أخطأت في اللغة العربية، فهم مصادر اللغة فلا يخطئون ، الصحابة إذن يتميزون بهذا أنهم كانوا هم مصادر اللغة ولغتهم سليمة ، نحن لا يوجد عندنا هذا ، لكن هل كانوا جميعا من الفقهاء ؟ ما كانوا كلهم من الفقهاء ولكنهم كانوا أورع منا بكثير فما كانوا يتعرضون للفتوى ، لا يفتون ، الذي يفتي منهم العالم الفقيه، وليسوا في فقهم على طبقة واحدة ، إنما كانوا على طبقات ومراتب ودرجات ، منهم مَن كانوا فقهاء متمكنين في الفقه ، ومنهم مَن كانوا مجتهدين اجتهاداً مطلقاً ، هم طبقات، ولقد نصَّ العلماء على طبقات الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا ، وممن خدم في هذا الموضوع الإمام ابن قيم الجوزية رضي الله تعالى عنه في كتابه (أعلام الموقعين عن رب العالمين) يعني يقصد به أن المفتي الذي يفتي ـ هو قصده أن يترجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ـ المفتي الذي يفتي بحكم فقهي هذا يكتب الحكم الفقهي ويوقع عليه ، وهو يعرف أنه يوقع عن رب العالمين ، فينبغي أن يكون ورعاً يخاف من الله سبحانه وتعالى ولا يتسرع بالفتوى ، وأن يكون عالماً متمكناً في الفقه وفي أصول الفقه وفي شروط المجتهد ، حتى يوقع الفتوى عن رب العالمين ، هذا أمر كبير جداً ، المهم أن الإمام ابن القيم رضي الله تعالى عنه في كتابه هذا صنف الصحابة ، فما جعل الصحابة كلهم طبقة واحدة ، ولا علماء الصحابة كلهم طبقة واحدة إنما هم طبقات ، الطبقة العليا منهم هي التي يحق لها أن تمد يدها إلى نصوص الكتاب والسنة فتعمل فيها بالاجتهاد واستنباط الأحكام ، فليس عيبا أن يقول الإنسان أنا لا أستطيع أن أمد يدي إلى الكتاب والسنة ، وليس عيباً إذا رأى حديثا صحيحا أن يقول لا أستطيع أن آخذ به إلا أن أرجع إلى أقوال الفقهاء ، لا تظن هذا أنه استخفاف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني لو وجدنا حكماً فقهياً يقول علماء الفقه أن هذا هو المعتمد في الفقه و لكنه يخالف حديثاً صحيحاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأيهما نأخذ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ـ و لكن ما مدى معرفتنا بحال هذا الحديث ـ قد يكون صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً ، وإذا كان صحيحاً قد يكون من أحاديث القبول ، وقد يكون من أحاديث الرد ، قد يكون الحديث منسوخاً ، قد يكون عامَّا وله تخصيص ، قد يكون مطلقاً وله تقييد ، نحن ما هي معرفتنا بهذه المسائل كلها ؟ وهل نعرف نحن الأحاديث الأخرى أو النصوص الأخرى التي تعارض هذا الحديث ؟ وهل نعرف هذه المرجحات التي نرجح بها هذا الحديث على غيره ؟ صحيح أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي هذا كلام صحيح وارد عنه ، ولكن من سُقم الفهم عند بعض الناس ، ظن أن الإمام الشافعي يعني أنه إذا رأيت الحديث صحيحاً فهذا مذهبي ولو خالف أقوالي كلها ، فأنتم اعملوا به ، وهذا خطأ شنيع في فهم كلام الإمام الشافعي ، ومن أجل أن لا يقع الناس في هذا الفهم ألف الإمام السبكي رضي الله تعالى عنه كتابا سماه (قول الإمام المطلبي ـ سيدنا الإمام الشافعي مطلبي ـ قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي) هكذا عنوان الكتاب يبين المختصر المفيد من هذا الكتاب كله مع أن هذا الكتاب مليء بالعلم ولكن المختصر المفيد أن الإمام الشافعي بهذا الكلام إذا صح الحديث فهو مذهبي لا يخاطبنا نحن ، إنما يخاطب أصحابه أصحاب الوجوه في المذهب الذين تمكنوا تمكناً شديداً يقول لهم ، إذا رأيتم حديثاً صحيحاً غاب عني أو حديثاً لم آخذ به عرفته ولم آخذ به لسُقم سنده عندي ، لضعف سنده عندي ، فإذا صح عندكم فضعوه في اعتباركم لا تتركوه مثل ما تركته أنا ، الإمام الشافعي ترك بعض الأحاديث الصحيحة لأنه ما تبين له أن هذه الأحاديث صحيحة ، وفي بعض الأحيان كان يقول هذا الحديث لو كان صحيحاً لأخذت به ، يشير إلى أصحابه إذا صح من بعدي و تبينت لكم طرق أخرى غير الطريق الذي وصلني أنا ، الطريق الذي وصلني لم أطمئن إليه رجاله ليسوا رجال الصحيح ، لو وصلكم هذا الحديث بذاته من طرق صحيحة فضعوه باعتباركم ، أنا ما وضعته باعتباري تركته لأنه لم يصح عندي ، إذن مدخل عظيم جدا الدخول في هذا الكلام كلام الإمام الشافعي وأن نقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ، كل حديث صحيح نراه نأخذه ونعمل به ، هذا جهل فاضح في كلام الإمام الشافعي وجهل واضح بالشريعة الإسلامية ، إذن لا بد لنا ولكل مسلم إذا لم يبلغ شروط الاجتهاد لا بد له من الاتباع والتقليد وهذا أمر لا مناص منه إن كان أحدنا دينه غاليا عليه ، فحرام أن يمد أحدنا يده فيأخذ من الكتاب والسنة ، أقول كلمة حرام وأصر على أنها حرام ، وأؤكد كلامي على ذلك بأنها حرام ، لأنه يكون ترك نصوصاً أقوى وترك نصوصاً هي المعمول بها ، وأين من يفهم العموم والخصوص ؟ علم العام والخاص علم قائم بذاته ، وله قواعد وله شروط وله معتبرات كثيرة جداً ، أين مَن يفهم العموم و الخصوص ؟ وأين مَن يفهم هذا الحديث هل هو عام له مُخصِّص ، أم هل هو خاص يندرج تحت حكم عام في نص آخر؟ قليل مَن يعرف هذه الأمور ، حتى من يعرفون أصول الفقه قليل منهم من يعرف تطبيقات الأحاديث على القواعد الأصولية التي يعرفونها ، فهو باب واسع ، فأخذُ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة حرام لمَن لم يتصف بصفات المجتهد ويتحلى بها ، لا بد إذن من توفر هذه الشروط ، إن لم تتوفر هذه الشروط فنحن مقلدون .
إذا كان واجباً على عامة الناس التزام مذهب فقهي فلماذا نحصر أنفسنا بالمذاهب الفقهية الأربعة وهناك فقهاء لا يقلون عنهم في درجة الاجتهاد ؟
بمعنى آخر ما هي الضرورة أن نكون متمذهبين ؟ نقول: أنا شافعي أو مالكي أو حنبلي أو حنفي ما هي الضرورة لهذا ؟
لماذا لا نأخذ من خارج المذاهب الأربعة ؟
لماذا لا نتبع مثلاً مذهب سفيان الثوري أو مذهب داوود الظاهري أو الإمام الأوزاعي؟
لماذا لا نأخذ من فقه سيدنا أبي بكر الصديق أو من فقه سيدنا عمر بن الخطاب ؟
نعم هناك بعض الناس يتصفون بمذهب معين يقول أنا شافعي لا أخرج عن الشافعية بشكل من الأشكال ، ومنهم من يقول أنا مالكي لا أخرج عن المالكي بشكل من الأشكال ، ولكن الحقيقة أن هذا غلط وهذا غلط ، لأن هذا يخالف كلام الأصوليين ، لأن المذاهب الأربعة لا ينبغي التمسك والتعصب لواحد منها ، فكلها مخدومة خدمة راقية جداً ، بحيث يطمئن الإنسان إلى المعتمد فيها ، أما أن يتمسك ولا يترك بأي حال من الأحوال ولا يبيح لنفسه الانتقال إلى مذهب آخر فهذا ليس بصواب ، هذه شبه ترد لماذا نحن ملتزمون بهذه المذاهب الأربعة ؟ ولا نأخذ من المذاهب الأخرى ؟ لماذا لا نأخذ مذهب سفيان الثوري أما توفرت فيه شروط المجتهد المطلق ؟ نعم توفرت فيه، ولا شك أن ابن المنذر توفرت فيه شروط المجتهد المطلق ، الإمام الأوزاعي رضي الله عنه مجتهد عظيم من أهل الشام ، الإمام الليث بن سعد أيضاً مجتهد مطلق ، داوود الظاهري على رأي بعض العلماء مجتهد مطلق ، وهكذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك ومن هم في هذه الطبقة هم مجتهدون اجتهاداً مطلقاً ، فلماذا لا نتبعهم في أقوالهم ونلتزم بالمذاهب الأربعة ؟
أيها الإخوة أولئك المجتهدون كلهم على العين والرأس، منهم أو كثير منهم مَن أقرَّ لهم جمهور العلماء بالاجتهاد المطلق ، لكن يوجد حيثيات تمنعنا من اتباعهم في مذاهبهم ، عادةُ المجتهدين جميعاً بما فيهم الأئمة الأربعة من شدة ورعهم أنه ثبت عن كل واحد منهم بلا استثناء أنه كان يرجع عن بعض أقواله ، فهم ليسوا مثلنا عندهم شيء من أمراض النفوس من الكبر والعجب ، فأحدنا إن قال قولاً في مسألة من المسائل ثم تبين غلطه يصعب عليه الرجوع عن هذا القول ، و يقول كيف سأرجع أمام الناس أقول أنا غلطان هذا الكلام صعب عليه كثيراً ، بينما المجتهدون الأئمة رضي الله عنهم ومنهم الصحابة من زمن سيدنا أبي بكر ومَن بعده كل المجتهدين لهم رجوعات عن الأقوال ، يفتي بالقول وينتشر القول عنه ثم يعلن للناس أني كنت مخطئاً في هذا القول ليس هكذا الفتوى ، الفتوى بالشكل الآخر ويفتي الفتوى الجديدة ، هؤلاء الأئمة الكبار الذين ثبت رجوعهم في بعض الأقوال هل دُونت وسُجلت رجوعاتهم كلها ؟! سيدنا عمر بن الخطاب هل سجلت كل رجوعاته عن أقواله ؟ لا نعرف ، نحن نعرف أنه رجع في مسألة في مسألتين ، رجع في المسألة التي حدد فيها المهور فأرشدته امرأة إلى الصواب فقال أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وغير هذه المسألة، لكن نحن كيف نعرف ما هي المسائل التي رجع عنها ، هل يوجد أحد من العلماء تطوع في جمعها وتدوينها وهل نقلت أصلاً رجوعاتهم ؟ ما نقلت كلها، وكذلك المجتهدون كلهم لم تُنقل رجوعاتهم هذا أمر ، وأمر آخر الإمام الذي وصل إلى درجة الاجتهاد كيف نقلده إذا لم تكن أصوله موجودة ؟ أنا في أول حديثي تحدثت أن المجتهد المطلق تكون له أصول خاصة الإمام الشافعي له أصول خاصة ، أبو حنيفة، الإمام مالك، سفيان الثوري ، وفلان و فلان من المجتهدين كل واحد له أصوله ، المفروض أن أصحابه من بعده أو تلاميذه ـ الذي يريدون أن يثبتوا المذهب وينقلوا الفتاوى عنه ـ يعرفون هذه الأصول حتى يسلكوها ، ومن خلالها يميزون بين أقواله ، من خلال أصول الإمام الشافعي ومعرفة أصحابه وتمكنهم فيها استطاعوا أن يقولوا للإمام الشافعي القول الفلاني ضعيف ، أما قوله الآخر فهو الصحيح ، من تمكنهم ومعرفتهم بأصول مذهبه إنهم اتبعوا الطرق التي وضعها للاستنباط سلكوها فتبين لهم أن قولا من أقواله ترك فيه حديثاً صحيحاً وأخذ بحديث ضعيف ، هؤلاء الأئمة الأربعة أصولهم موجودة محررة مضبوطة منقولة نقلاً دقيقاً جداً لم يَضِع شيء منها، لم يضع شيء من أقوال الشافعي ، لم يضع شيء من رجوعات الإمام الشافعي حين تبين خطأه ، ما ضاع شيء من هذا ، بل الأبلغ من ذلك أن كل العلماء يقولون إن المذاهب الأربعة قد نقلت عن أربابها رضي الله عنهم بكل ما فيها من الأصول والرجوعات ، نقلت إلينا بالتواتر ـ معروف ما هي كلمة تواترـ كلمة تواتر يعني لا يتطرق إليه الخطأ في النقل أبداً نهائياً عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، والأئمة الآخرون هل قُيض لهم هذا ؟ أولا رجوعاتهم لم نعرفها ، قد نعرف عن كل واحد منهم مسألة مسألتين رجع فيهم لكن هل نعرف كما عرف الشافعية عن الإمام الشافعي رجوعاته كلها ، مَن يعرف رجوعات الإمام مثلا ليث بن سعد كما تعرف رجوعات الشافعي ؟ ورجوعات الشافعي مسائل لا تعد ولا تحصى كثيرة جداً يصنفها العلماء تحت اسم (المذهب القديم) يأخذون من بعض المذهب القديم فهناك مسائل هي معتمدة في المذهب لكن المذهب القديم أكثره رجوعات ، أين هذا في كلام المجتهدين الآخرين ؟ الذي تجده عند كل مجتهد من المجتهدين مسألة مسألتان ثلاث مسائل صرح بالرجوع عنها والباقي أين ؟ غير موجود ، أصول مذاهبهم الخطوط التي خطوها لأنفسهم في الاستنباط علم أصول الفقه عند هذا الإمام ضاع كله من أوله لآخره ، الموجود من كلامه مجرد الفروع مجرد الفتاوى في فروع الفقه ، ويا ليت لدينا فقهاً كاملاً من كل الأبواب لهؤلاء الأئمة ، ما عندنا فقه كامل ، كل أبواب الفقه من كتاب الطهارة إلى كتاب العتق هل تجد كتاباً كاملاً للإمام الأوزاعي ؟ لا تجد من هذا ولو رأيت لاتجد أصول الفقه ، إذن هؤلاء ضاعت أصولهم كلها ، ما قيض لهم من التلامذة والرجال الذين يحملون المذهب وأصول المذهب فضاعت هذه المذاهب
الاجتهاد والمذاهب الفقهية الأربعة
حوار مع الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي حفظه الله
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث والأخير
ما رأيكم في هذا الصدد بمن يدعو للأخذ بالمذهب الظاهري وفقه ابن حزم:
ومن ناحية أخرى أيضا يشاع اليوم كثيراً موضوع الأخذ بمذهب داوود الظاهري رضي الله عنه ، والإمام داوود كان من تلامذة الإمام الشافعي ثم كان مجتهداً مطلقاً على رأي بعض العلماء وممن يعتبره مجتهداً مطلقاً الإمام السبكي في كتابه (جمع الجوامع) يعتبره مجتهداً مطلقاً لكن هناك نقاش حول هذا الموضوع ، فبعضهم يقول أنه ليس بمجتهد أصلاً لا مجتهداً مطلقاً ولا مجتهدَ مذهب ضمن مذهب الإمام الشافعي ، بل هو من عامة العلماء ، وممَن ينصر هذا الكلام الزين العراقي في كتابه (طرح التثريب) و ابن بطال شارح صحيح الإمام البخاري وغيره من العلماء ، وكثير من المالكية أكثر المالكية لا يعتبرونه مجتهداً مطلقاً ، و الدعوة شديدة اليوم عند كثير من الناس بعض إخواننا السلفية يقولون ينبغي أن ننظر إلى ابن حزم وفقه ابن حزم ، وكذلك أنا لا أدعو إلى عدم قراءة فقه ابن حزم فهو يستفاد منه ، رجل آفاقه بعيدة جداً لكن ابن حزم لا يُقلَّد لا يجوز تقليده ، الإطلاع على مذهبه لا بأس بذلك ، وأنا مما علمته من الشيخ عبد الغني الدقر رحمه الله وكان والدي يحبه حباً شديداً وقد قرأ عليه على والدي مدة طويلة ، سنوات طويلة ، فسمعت من الشيخ عبد الغني الدقر قال لي : قلت لوالدك أريد أن اقرأ معك فقه ابن حزم فقال له الوالد : أجِّل ذلك الآن نقرأ من فقه المذاهب الأربعة قال لي : أصررت على الشيخ أن يُقرأني شيئاً من فقه ابن حزم والشيخ عبد الغني الدقر ابن الشيخ علي الدقر فتدللت عليه فرضي ، قال فقرأت معه كتاب (المحلى) عشر مجلدات في فقه ابن حزم قال له والدي يا بني أنا لا أحب فقه ابن حزم ولا أحب أن أخوض فيه ولا أحب أن أفتي بشيء منه ولكن من أجلك سوف نقرأ هذا الكتاب ، وقرأ معه هذا الكتاب عشر مجلدات ، ولولا أنه مفيد لا يقرأ معه عشر مجلدات ، ولكن الوقوف عند تقوى الله سبحانه وتعالى وخشية الله بأن لا يفتي الإنسان بأقوال ابن حزم ، وكثير من العلماء قالوا من الحزم أن لا تفتي بأقوال ابن حزم ، أولا ابن حزم بالذات من بين الظاهرية يطعن فيه العلماء ويطعنون بالثقة فيه لأسباب أهمهما أنه كان شديد السلاطة في لسانه ، يعني كان يطعن في العلماء طعونه شديدة ، وكان يسب ويشتم حتى في (المحلى) مع أنه كتاب فقه مليء بالسباب والشتائم للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه والإمام أبي حنيفة النعمان يشتط عليهما كثيراً ، النقد لا بأس به لكن ليس النقد اللاذع والسباب والشتائم ، و لذلك يزعزعون الثقة فيه رضي الله تعالى عنه ، وأيضا ناحية أخرى مذهب الظاهري كله عليه مأخذ ، والمأخذ موجود عند داوود صاحب المذهب وموجود عند ابن حزم ، وهو إلغاء القياس.
المذهب الظاهري وموقفه من القياس كمصدر من مصادر التشريع:
تعلمون في أصول الفقه من قرأ منكم أصول الفقه أن أصول الإسلام كلها من حيث الاستنباط مصادر الإسلام الشرعية هي أربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، القياس إذن مصدر رابع من مصادر التشريع ، وقد تكون أحكامه أكثر من ربع الأحكام بل ربما أكثر ، وهي منتشرة جداً في الفقه الإسلامي ، القياس لماذا القياس مصدر من مصادر التشريع ؟ حجة عقلية واضحة عندهم أن النصوص الشرعية نصوص محدودة إذا أحببنا أن نعد النصوص الشرعية فهذا ممكن ، لأن الذين عدوا آيات القرآن كلها وعدوا كلمات القرآن وعدوا أحرف القرآن الكريم ألا يستطيعون أن يعدوا النصوص نصوص الأحكام من آيات الأحكام وأحاديث الأحكام ؟ إذن هي محدودة هذه النصوص ، والوقائع البشرية الأحداث التي تمر على البشرية إلى يوم القيامة هذه هل يمكن أن تكون محدودة ؟ لا يمكن أن تكون محدودة هذه لا متناهية لا تنتهي فكيف يحيط المحدود الذي هو الكتاب والسنة و الإجماع كيف يحيط المحدود باللامحدود ؟ الشيء النهائي باللانهائي لا يمكن أن يحيط به ، إذن لا بد من إدخال القياس ، أنا لا آتي الآن بالأدلة على مشروعية القياس الأدلة على مشروعية القياس لا تناقش ، لأنها أدلة قوية وماحقة فإذن إنكارهم للقياس إنكار غير منطقي أيضاً أبداً ، وعطلوا فيه أحكاماً كثيرة في منهاج الله تعالى وحجبوا على أنفسهم خيراً كبيراً ، كيف يُقلد عالم من العلماء لا يقول بالقياس ؟ يسد على نفسه هذا الباب كله من أوله لآخره ويدخل في الأبواب الأخرى في الكتاب والسنة والإجماع ولا يرضى أن يقيس كيف يُقلَّد هل يجوز أن يقول في المسألة أنها حرام وهي ليست بحرام فهي مقيسة على مسألة من المسائل المباح أو المسائل المكروه أو المسائل المندوب يغيب عنه هذا قصداً منه لأنه يعطل القياس ؟ من الأمثلة التي يضربها العلماء في تعطيل القياس وفي قول ابن حزم أو داوود غلط في ذلك غلطاً فاحشاً نفسه ابن حزم يقول في (المحلى) إن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه ) الماء الدائم الماء الراكد هذا حديث واضح والعلماء لهم فيه ما شاء الله خوض بعيد المدى ، ويأخذون منه أحكاماً كثيرة يستفيدون من لغته ، ويستفيدون من فقهه ، يعني فوائد كثيرة ودلالات عظيمة جداً ، لكن انظر للظاهري ماذا فعل بنفسه لأنهم كان عندهم جمود غريب جداً عند ظواهر النصوص ، قال ابن حزم في (المحلى) لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه ، لكنه لو بال في إناء وصب هذا الإناء في الماء الدائم فلا بأس بذلك !! لا يبولن في الماء نعم هذه فهمناها ، أما أن يبول في إناء ثم يصب الإناء إلى الماء الراكد فعنده لا بأس به يغتسل به !! بعد ذلك لماذا قال هذا لأنه جمد عند النص ، فقال له بعض مَن ناقشه الإمام ابن بطال شارح البخاري يقول له بناء على هذا ينبغي أن تقول أنه نهينا عن البول في الماء الدائم ، معنى ذلك أنه لو تبرزنا في الماء الدائم فلا بأس بذلك بناءً على أصول المذهب ، طبعاً هم لم يقولوا هذا لكن ابن بطال في نقاشه معه يقول مثل هذا الكلام ، إذن إتباع المذهب الظاهري أو ابن حزم هذا مخالف للاتجاه العام واتجاه فقهاء الإسلام كلهم ومما يجب أن أورده في هذا الباب أن الإمام النووي رضي الله تعالى عنه في كتابه (المجموع) ألف هو رضي الله عنه تسع مجلدات منه وأتمه بعد ذلك السبكي وأتمه بعض المتأخرين إلى آخره ، ولكن التسع مجلدات التي صنفها الإمام النووي رحمه الله يكرر من خلالها من خلال التسع مجلدات يمكن بلا مبالغة أكثر من عشرين مرة ، يقول : وقد اتفق العلماء على أن الظاهرية لا يُعتد بهم في الإجماع ولا في الخلاف لماذا ؟ من أجل هذه العلل الموجودة ضمن مذهب الظاهري ، ثم يقوم بعض الإخوة فينا اليوم ممن يدعون إلى التحرر من المذاهب فيأخذ من كلام ابن حزم أو الإمام داوود الظاهري وفي هذا الخطأ في دين الله ، أو عدم الحرص على التمكن في دين الله ، هذا شيء لا ينبغي أن يرضاه الإنسان الحريص على دينه أو الذي دينه غالٍ عليه لا ينبغي أن يقع في مثل هذا أبداً .ً
هل يجوز التقليد والانتقال بين المذاهب الفقهية الأربعة ؟
أما التقليد ضمن دائرة المذاهب الأربعة ، يعني أن ينتقل من معتمد الإمام الشافعي إلى معتمد الإمام المالكي أو الحنفي أو الإمام أحمد بن حنبل ، وهي مذاهب فقهية مخدومة تقريباً بدرجة بعضها البعض فلا بأس في ذلك ، الإنسان إذا وجد مسألة في مذهب أبي حنيفة وأحب أن يقلد في ذلك المذهب فلا بأس بذلك ولا يشنع عليه ولا شيء عليه أبداً ، ولكن أحب أن ألفت النظر إلى مسألتين في هذا:
المسألة الأولى أنه لك أن تقلد المعتمد في أي مذهب من المذاهب الأربعة لكن تتبع الرخص بأن يتبع أحدنا القول الذي فيه رخصة وفيه تسهيل يلحقه يعمل به ، فالعلماء رضي الله عنهم يقولون (تتبع الرخص فسق) أن يلحق أين القول السهل هذا فسق ، لماذا فسق لأن هذا دينه ليس له قيمة عنده لو أن دينه له قيمة عنده لايتتبع القول الضعيف، الحقيقة ما الذي ينبغي أن يتبعه أحدنا ؟ هل نقول يتبع القول الأحوط والأورع ؟ أيضا هذا ليس ضرورياً ، الحقيقة ينبغي أن يتبع الدليل ، والأدلة نحن لسنا محيطين بها فنلحق المعتمد في المذاهب الأربعة ونكون بذلك فعلا نتبع الأدلة ، لكن لا نلحق الأسهل من المذاهب الأربعة ، إذا يريد أحدنا أن يلحق الأسهل دائما ففتوى العلماء أن ذلك فسق وخروج عن الطاعة هذه المسألة الأولى.
والمسألة الثانية التي أشير إليها أن الإنسان المتمكن الذي يستطيع أن يقرأ أقوال الفقهاء ويستطيع أن يقرأ أدلتهم وعنده مُكنة من العلم بحيث يستطيع أن يقرأ من مناقشته وكيف يتم ترجيح قول على قول من خلال طرق الاستنباط ومن خلال نصوص الكتاب والسنة ، الذي عنده هذه المكنة فإنه ـ هذا كلام موجود في أصول الفقه في كتاب الاجتهاد والتقليد ـ فإنه بهذه الدرجة الأفضل له أن يتبع الأقوى يعني مثلا أنا شافعي وجدت عندي ـ إن شاء الله يكرمني ويكرمكم جميعاً بهذه المنزلة ـ عندي إمكان أن أطّلع على هذه المذاهب وأدلتهم وأفهم هذه المناقشة كيف تناقشوا مع بعضهم لأن كثيراً من المسائل عندما تدخل فيها تضيع بالنقاش فيما بينهم فلا تقدر على المتابعة ، فابتعد وكن متبعاً للمعتمد في المذاهب ، إذا أحد استطاع أن يدخل في مسألة من المسائل ويعرف أدلتها كلها عند المذاهب كلها وكيف تناقشوا مع بعضهم البعض ورجحوا نصاً على نص إلى آخره فهذا له أن يخرج عن مذهب إمامه ويتبع مذهب إمام آخر ، أنا ملتزم الإمام الشافعي مثلاً وجدت مسألة في المسائل عند الإمام أحمد بن حنبل الرأي عنده أقوى من حيث الدليل ومن حيث مناقشة الأدلة رأي الإمام ابن حنبل أقوى فيستحسن بالنسبة لي أن آخذ برأي الإمام أحمد بن حنبل لا بأس بذلك ولو كنت أنا ملتزم بمذهب الإمام الشافعي ، المهم أنني ما خرجت خارج المذاهب الأربعة أنا ضمن المذاهب الأربعة أولا بل ضمن المعتمد ثانياً في المذاهب الأربعة وهذا واجب .
هل يصح العمل بالقول الضعيف في مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة ؟
من الواجب أن أترفع عن الأقوال الضعيفة في المذاهب , المذاهب الأربعة فيها أقوال ضعيفة اتركها ، والآن أنا لست بصدد أن أخبركم كيف ينتج القول الضعيف ، وكيف ينتج القول المعتمد هذا إن شاء الله في مناسبة أخرى ، و تجدونه في مقدمة كتاب (المنهاج) للإمام النووي هذه القواعد كيف نعرف القول الضعيف من القول الصحيح ودرجة الضعيف , الضعيف له درجتان درجة تصلح للعمل و الفتوى ، ودرجة أدنى تصلح للعمل ولا تصلح للفتوى إلى آخر هذا ، مَن يستطيع منكم أن يخوض في العبارة العلمية الدقيقة يجد هذا في مقدمة كتاب المنهاج بشكل مفصل ، المهم أن لا نعمل إلا في المذاهب الأربعة (بالمعتمد منها لا بالضعيف) هذا الذي يحرص على دينه ويخشى ربه سبحانه وتعالى ولا يضع في ذمته أفعال الناس ، لا يتسرع بالفتوى ولا يفتي بغير ما يعلم ، ولا يفتي بشيء أخر غير القواعد التي ذكرتها والالتزام بها إن شاء الله تعالى ، حتى لا نقع فيما يقع فيه كثير من الناس الذين يتهاونون في كثير من الأمور فيكون في ذمتهم وفي رقابهم عمل الناس الذين يستمعون منهم هذه الأقوال ويتبعونهم عليها ، وأعود وأكرر مرة واثنتين وثلاث وعشرة هذا لا يعني أن هذا يشتمل على فراق بين الإخوة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في ميدان واحد وهو ميدان الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إنما هي خلافات علمية وحوارات فكرية لا تعني النزاع ولا تعني الشقاق إن شاء الله ، بل تعني زيادة التلاحم والتآخي والتآصر بين المسلمين ولو اختلفوا في آرائهم وأفكارهم.
أخيراً نشكركم سيدي على ما تفضلتم به من الإجابة على تلك الأسئلة.
جزاكم الله خيراً ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حوار مع الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي حفظه الله
الجزء الأول
حبذا لوتعطونا فكرة عن أهمية الاجتهاد ، وماهو موقعه في علم أصول الفقه .
موضوع الاجتهاد والتقليد عنوان من عناوين أصول الفقه ، يعني ليس باباً من أبواب أصول الفقه بل هو كتاب من كتب أصول الفقه ، كل كتاب في أصول الفقه يحتوي في ضمنه على كتب ، والكتاب يحتوي على أبواب ، والأبواب تحتوي على مسائل ، فهذا الاجتهاد والتقليد ليس من الأبواب وإنما هو من الكتب ، يعني هو موضوع كبير ورئيسي في علم أصول الفقه بل في ضمن تعريف أصول الفقه التعريف العام لأصول الفقه يدخل هذا الموضوع ، فيقولون في تعريف الأصول هو علم يعني أصول الفقه هو علم بأصول يُبحث فيه عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية ، وعن المرجحات وصفات المجتهد ، يعني تصور علم الأصول كله قسموه بثلاثة عناوين ، عنوان منها هو الاجتهاد أو الاجتهاد و التقليد ، نعود للتعريف علم بأصول يُبحث فيه عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية وعن المرجحات ، المقصود بالمرجحات أنه إذا كان قد اختلفنا في مسألة علمية على رأيين كيف نرجِّح رأيا على آخر ، وإذا كان في المسألة نصان شرعيان ظاهرهما التعارض فكيف نرجح نصا على نص ، هذا باب عظيم وعلم غزير جدا في أصول الفقه ، وصفات المجتهد طبعا كلها تُبحث تحت عنوان الاجتهاد والتقليد .
هل هناك صفات وشروط معينة ينبغي أن يتحلى ويتحقق بها مَن يريد أن يكون مجتهداً ؟
صفات المجتهد ويقصدون فيها شروط المجتهد ، الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإنسان حتى يكون مجتهداً ، ومما أحب أن أشير إليه أنه ليس مَن عرف صفات المجتهد أصبح مجتهداً ، يعني الأصول الذي يتعلم أصول الفقه ويتمكن في أصول الفقه ليس مجتهداً ، لأنه عرف صفات المجتهد مجرد معرفة ، ولكنه لم يتحلَّ بها لم تقم به هذه الشروط ، فإذا قامت به هذه الشروط واتصف بهذه الصفات أصبح أصولياً ومجتهداً ، إذنً أصول الفقه والتمكن من أصول الفقه شيء والاجتهاد شيء آخر ، الأصولي يعرف مجرد معرفة عقلية ، أنا مثلا لو أنني عرفت كيف يُصنع الخبز وأتقنت هذه الصنعة إتقاناً كاملاً ، لا أشبع حتى أكل رغيف الخبز فإذا أكلت رغيف الخبز أشبع ، وهنا الأصولي مهما تمكَّن من معرفة صفات المجتهد فلا بد له من الممارسة حتى يعرف صفات المجتهد وتكون واضحة ناصعة في ذهنه تماماً ، حتى يعرف شروط المجتهد وصفاته تماماً ، هذه مرحلة جيدة ولكن لا يُسمى معها مجتهدا إنما لا بد أن تقوم به هذه الشروط ، والنقلة بين معرفة شروط المجتهد والتحلي بشروط المجتهد نقلة كبيرة واسعة تحتاج إلى جهود كبيرة وتحتاج إلى أفق واسع ، وتحتاج إلى فهم غزير وعقل ثاقب حتى يستطيع أن يتحلى بصفات المجتهد .
نسمع أن المجتهدين طبقات هل هذا صحيح ؟
الأصوليون يقولون إن المجتهدين ليسوا سواءً ، إنما هنالك مجتهد مطلق ، ومجتهد مذهب ، ومجتهد فتوى ، و بعض الأصوليين يوسِّع أكثر من ذلك ويدخل في الفروع فيجعل الاجتهاد مراتبه أكثر من ذلك بكثير ولكن أحب في هذه العجالة الاختصار قدر الإمكان .
ما هي صفات وشروط المجتهد المطلق ؟
المجتهد المطلق هو الذي أتقن نصوص الكتاب والسنة التي تدل على الأحكام ، أتقنها إتقانا كاملاً حفظ آيات الأحكام كلها ، والأحاديث التي تتعلق بالأحكام ، وفهم مفرداتها وفهم دلالاتها ، و استطاع أن يعرف الأحاديث صحيحها من حسنها إلى آخر ما هنالك ثم أيضا له أصول قائمة في نفسه من خلال هذه الأصول يستنبط الأحكام ، ومن ذلك أن يعرف مثلا مواقع الإجماع التي أجمع عليها العلماء سابقاً ، لا ينبغي أن يجتهد ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يمد يده إلى نص من نصوص الكتاب والسنة ليجتهد في مسألة ما إلا أن يكون مطلعاً إطلاعاً قوياً على كل موقع من مواقع الفقه فيه إجماع للفقهاء في أي عصر من العصور ، وكما تعلمون أن العصور الأولى هي عصور غنية بالإجماع ، عصر الصحابة ، عصر التابعين ، وتابع التابعين ، هذه عصور غنية بالإجماع ، وما بعد ذلك أصبح الإجماع خفيفاً وقليلاً ، فأن يكون محيطاً إحاطة تامة ومتمكناً تمكناً كاملاً بمعرفة المواقع التي أجمع عليها العلماء.
لماذا يوجب العلماء هذا الأمر أن يكون المجتهد محيطاً بمواقع الإجماع ؟
لأن الإجماع تحرم مخالفته ، مخالفة الإجماع حرامٌ شرعاً ، الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه يقرر حرمة مخالفة الإجماع وسئل عن دليله من القرآن الكريم ، فأطرق إطراقة طويلة مرَّ فيها على كتاب الله كله فلم يعثر على دليل ، ثم أيضا مرَّ على القرآن كله ، ثم مرَّ مرة ثالثة على القرآن كله فالتقطها وأكرمه الله بها قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) إذنً دليل مخالفة الإجماع أنه حرام من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وعقلاً ومنطقاً أيضاً ولا أريد أن أفصل في هذا ، المهم تحرم مخالفة الإجماع ، فكيف يستطيع أن يعرف المرء نفسه إذا أراد أن يجتهد في مسألة ما ، كيف يعرف إذا خالف الإجماع أو لم يخالف الإجماع إذا لم يكن يعرف مواقع الإجماع ، إذا لم يكن يعرف المسائل التي أجمع عليها العلماء رضي الله تعالى عنهم ، ولو فرضنا أنه اجتهد دون أن يعرف ثم بعد ذلك تبين أن اجتهاده مخالف لإجماع العلماء فهذا يسمى خرقاً للإجماع ، وخرقُ الإجماع حرامٌ بالإجماع ، وإما أن يوافق فتكون نتيجة اجتهاده موافقةً لاجتماع العلماء ، فالعلماء يقولون ليس الاعتداد برأيه ولا اجتهاده ولا بالوسيلة التي وصل إليها ، وإنما الاعتداد بالإجماع ، فكان اجتهاده وتعبه هدراً ، أذهَبَ وقته وجهده هدراً ، ولو اطلع على موقع الإجماع لكان اتبعه وسكت ، فإذنً من شروط المجتهد أن يعرف مواقع الإجماع.
هل تذكروا لنا بعض من اعتنى بمواقع الإجماع ؟
أشير هنا إشارة عابرة إلى بعض العلماء الذين اعتنوا بمواقع الإجماع، منهم مثلا: ابن جرير الطبري رضي الله تعالى عنه ، وابن المنذر ، والعبدري ، وابن عبد البر ، كل هؤلاء اعتنوا كثيراً في كتبهم بنقل مواقع الإجماع ، لكن أعظم هؤلاء على الإطلاق بدون منازع الإمام ابن المنذر رضي الله تعالى عنه ، وخاصة في كتابه (الإشراف على مذاهب الأشراف) فابن المنذر رحمه الله له كتاب اسمه (الإجماع) وله كتاب اسمه (الإشراف على مذاهب الأشراف) وهو كتاب كبير وفيه خير كثير ومن جملة ما فيه مواقع الإجماع ، هذا شرط من شروط المجتهد.
سيدي ما هي بقية شروط المجتهد لو سمحتم؟
ومن شروط المجتهد أن يكون متمكناً في علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن متمكناً فإنه لا يمكن أن يسمى مجتهداً مطلقاً، لا يمكن لأن علم مصطلح الحديث هو الذي يدرب صاحبه نقض الأحاديث الواردة ، صحيحها من حسنها من سقيمها من موضوعها إلى آخر ما هنالك ، وفي ذلك علوم غزيرة جداً وخاصة علم علل الأحاديث ، المتمكنون في علل الأحاديث إنما هم قلة من الحفاظ الكبار، وهذا يعرفه المشتغلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومَن لم يتمكن في هذا تمكناً كاملاً فلا يكون مجتهداً مطلقاً ، قد يكون مجتهد مذهب مثل الإمام الغزالي، الإمام الغزالي غزير جداً في علمه وفي فقهه وفي لغته، ولكن لأنه لم يكن متمكناً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى العلماء رضي الله عنهم أن يصنفوه مجتهداً مطلقاً ، إنما هو مجتهد مذهب ، مجتهد أدنى فهو يجتهد ضمن مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
معرفة الناسخ والمنسوخ:
ومن جملة شروط المجتهد أيضا معرفة الناسخ والمنسوخ ، يجب أن يعرف المجتهد مواقع النسخ كلها من أولها لآخرها بإتقان ، كل ناسخ وكل منسوخ يجب أن يعرفه وما لم يعرفه يقع في أغلاط كما وقع فيها بعضهم مما سأذكره بعد قليل.
التمكن في اللغة العربية:
أيضا من الشروط الضرورية للمجتهد أن يكون متمكناً في اللغة العربية بكل فنونها ، لأن اللغة العربية هي الحقيقة ، وخاصة النحو فيها هو مفتاح العلوم كلها ، أيُّ علم تريد أن تدخل فيه ما لم تكن متمكناً في النحو فإنك لا تستطيع الدخول في هذا العلم ، ولا تستطيع فهم مستغلقات هذا العلم إلا أن تكون متمكناً في علم النحو والإعراب ، لأن علم النحو والإعراب هو الذي يعرب عن حقيقة المعنى الذي يجتهد عليه في النص ، وأذكر مرة وأكثر من مرة والدي رحمه الله أمرُّ على نص من النصوص أستصعبه جداً ، فأعيده مرة واثنتين وثلاثة وأتأمل فيه تأملاً شديداً وهو مستغلق علي ، فآتي للوالد رحمه الله فيضحك رحمه الله ويقول لي أعرب هذا النص ، كم هذا النص سطران ثلاثة خمسة أعربْه ، سبحان الله لما أُعرب هذا النص أقف عند كلمة يخطر في بالي مثلاً أنها تكون صفة ، وقد تكون حالاً فيختلف المعنى اختلافاً كثيراً فيفُتح الباب وأستطيع فهم هذه المسألة ، بمجرد اختلاف إعراب كلمة من الكلمات أو موقعها ضمن تركيب من التركيبات يختلف المعنى اختلافاً كاملاً ، ويفتح آفاقاً أمام الإنسان الذي يدرس مسائل العلم في مسألة النحو ، فلا طريق للإنسان في طلب العلم أيِّ علم من العلوم إذا أراد أن يدخل يغوص في هذا العلم غوصاً شديداً لا بد له من أداة فعالة وهي علم النحو ، ولكن المجتهد لا يكتفي بعلم النحو ولا يجوز أن يكتفي بعلم النحو ، إنما لا بدَّ له من علم النحو وعلم الصرف وعلم البلاغة من معاني وبيان وبديع ، وعلم متن اللغة ، وعلم التضاد يعني الكلمات التي تحمل معاني متضادة ، هذه كلها علوم لا بد من أن يتمكن فيها الإنسان حتى نستطيع أن نصفه بأنه مجتهد.
وهذه أهم الصفات التي يتفق عليها الأصوليون كلهم على أنها صفات ينبغي أن تقوم بالمجتهد.
الإحاطة بالمرجحات:
وأن يكون أيضاً محيطاً بالمرجحات، فكما قلت لكم جزء كبير من أصول الفقه اسمه المرجحات ، وهو كيف تستطيع أو ما هو السبيل لترجيح نص على نص إذا كان ظاهرهما التعارض ، نصان ظاهرهما التعارض كيف ترجح هذا على هذا ، هناك احتمالات كثيرة جدا عشرة احتمالات عشرون احتمالا ثلاثون أربعون احتمالا بل وصل بعض العلماء القدامى في تعدادها إلى خمسة وخمسين نصَّ على خمسة وخمسين مرجحاً من المرجحات ، ثم جاء بعده من المتأخرين مَن وصل فيها إلى مائة وخمسين مرجحاً ، لا يكون المجتهد مجتهداً إلا أن يقتدر على إتقان هذه المرجحات ، فإذا ظهر له تعارض بين نصين ـ ولا يوجد تعارض في نصوص الشريعة والحمد لله ـ لكن إذا ظهر تعارض بين نصين ، فلا بد أن يعرف هذه المرجحات المائة والخمسين حتى يمرر هذين النصين المتعارضين يمررها على هذه المرجحات كلها ، حتى يعرف أيهما الراجح و أيهما المرجوح ، أيهما يُعمل به و أيهما يُلغى ، ولا يلجأ إلى الإلغاء ، فالإلغاء هو آخر مرحلة يمكن أن يصل إليها المجتهد بعد أن يحاول الجمع بين النصوص ، ومن المتمكنين في هذا الفن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، له كتاب اسمه (بيان اختلاف الحديث) مهمة هذا الكتاب من أوله إلى آخره أن يلتقط من هذه النصوص التي ظاهرها التعارض ، ويعلمنا كيف تنظر إلى النصين فتراهما متعارضين ، ثم بعد أن تقرأ بَحْثَ الإمام الشافعي من أوله إلى آخره تقنع أنه ما من تعارض بينهما ، وإنما يكمل أحدهما الآخر وهذا يدل على نقاط معينة ، وهذا يدل على نقاط أخرى ، أو مواقع أخرى غير مواقع الحديث الأول ، وهكذا ، أضرب على ذلك مثلا قول ربنا تبارك وتعالى: ( ولا تبطلوا أعمالكم ) بعض العلماء فهم منه أنه لا يجوز إبطال العمل مهما كان، أي عمل بدأت فيه لا يجوز أن تبطله، متى شرعت فيه وجب عليك إتمامه سواء كان فرضا من الفروض أو سنة من السنن ، الشافعية وكثير من العلماء الآخرين رأيهم أن الفروض إذا شرعت فيها وجب إتمامها ، أما النوافل إذا شرعت فيها فلا يجب إتمامها ، هذا الكلام لا تأخذوه على العموم لأن له استثناءات ، ولكن هذه أصل المسألة ، فالشافعية لا يرضون أن يروا حديثين أو نصين ويبطلوا واحداً منهما إن هذين النصين ما جاءا لنلغي واحداً منهما جاءانا لنعمل بالاثنين ( ولا تبطلوا أعمالكم ) نعم يجب أن لا نبطل أعمالنا ونظروا فرأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) بعض العلماء قالوا الصائم نستثنيه الصائم متطوع ، وتبقى الأعمال فرضاً أو نفلاً يجب إتمامها إلا الصوم فلا يجب إتمامه ، لكن الشافعية يصرون على أن هذا الحديث (الصائم المتطوع) إنما يشمل التطوعات كلها، كل النوافل يمكن إذا بدأ بها الإنسان أن لا يتمها لكن يسن له إتمامها ، وحجتهم في ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الصائم المتطوع ) هذه الكلمة (المتطوع) ما هو اشتقاقها ؟ باللغة العربية اسم فاعل متطوع من فعل تطوع ، اسم الفاعل مشتق ، و عندهم قاعدة -لا أتوسع- لكن عندهم قاعدة عندهم أدلتهم عليها تقول: ( تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ) تعليق الحكم، والحكم هنا هو (إن شاء صام وإن شاء أفطر) تعليق هذا الحكم بلفظ مشتق من المشتقات ، اسم الفاعل من المشتقات علقناه بهذا المشتق الذي هو المتطوع ، اسم فاعل هذا التعليق يؤذن يعني يعلمنا ، يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ، يعني ذلك أن أصل هذا المشتق هو العلة ، إذنً التطوع في هذا الحديث علة إباحة الفطر أو إتمام الصيام للصائم المتطوع علة ذلك أنه متطوع ، علة ذلك التطوع ، وهذه العلة موجودة في الصلاة أيضاً ، إذا أراد أن يصلي ركعتين لوجه الله هو متطوع ، علة التطوع موجودة فيها ، فيقيسون هذا على ذاك ، يقيسون كل السنن على قوله صلى الله عليه وسلم ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) ولا يستثنى من ذلك إلا الحج والعمرة إذا بدأ فيهما وجب إتمامها نفلا كانا أو فرضا ، إذن أصبح عندنا نصان قد أعملناهما ولم نلغ واحداً منهما ( ولا تبطلوا أعمالكم ) إذن هي للفروض ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) وهي للنوافل ، هذه طريقة للجمع لا للترجيح ، يعني لم يحوج الشافعية أنفسهم إلى الترجيح ، قبل أن يصلوا إلى الترجيح أعملوا النصين وهذه براعة شديدة من المجتهد أن لا يصل إلى درجة يرجح فيها نصاً على نص ، لا يرجح بل يجمع بينهما ، و طريقة الجمع هذه من المتخصصين الكبار فيها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أنه لا يلغي نصاً ولا يسقط نصاً من النصوص وأنه يحاول الجمع بين النصوص ، هذا كما قلت مجمل شروط المجتهد المطلق
الاجتهاد والمذاهب الفقهية الأربعة
حوار مع الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي حفظه الله
الجزء الثاني
نرجو منكم أن تبينوا لنا من هو مجتهد المذهب مع الأمثلة لو تفضلتم؟
مجتهد المذهب هو الذي يجتهد من الكتاب والسنة مباشرة ولكن ليست له أصول خاصة ، يعني ليست له طرق في الاستنباط يستنبط من خلال سلوكها الأحكام من الكتاب والسنة ، إنما هو أعجز من ذلك وأقل من ذلك ، بل هو يتبع الطرق التي خطها إمامه ويسلكها سلوكاً متمكناً حتى يصل إلى الأحكام ويستنبطها ضمن النصوص ، يعني مثلاً الإمام الشافعي توفرت فيه شروط المجتهد المطلق كلها ووضع أصولاً ، الأصول التي وضعها موجودة في كتاب (الرسالة) وهو أول كتاب أُلف في أصول الفقه في التاريخ الإسلامي ، وفي كتبه الأخرى له قواعد أصولية كثيرة منتثرة فيها ، إذن خطّ أصول الفقه ووضع لنا طرقاً للاستدلال و لاستنباط الأحكام ، ونعلم أنه هو من خلال استنباط الأحكام سلك هذه الطرق ، أما مجتهد المذهب فهو أدنى مرتبة من المجتهد المطلق أدنى مرتبة من الإمام الشافعي، يستنبط كما استنبط الإمام الشافعي من الكتاب والسنة مباشرة ، يمد يده إلى النصوص مباشرة فيأخذ منها الأحكام ولكنه هو ملزم بأصول إمامه ، بالطرق التي اتبعها إمامُه لاستنباط الأحكام ، ومن هؤلاء عندنا - الشافعية - مجتهدي المذهب الإمام الربيعي المرادي ، والمزني ، والربيع الجيزي ، والبويطي ، وحرملة كل هؤلاء من أصحاب الإمام الشافعي ، ثم من بعدهم جاء علماء وأجيال متلاحقة منهم الإمام الغزالي ، وشيخه إمام الحرمين ، وشيخ شيخه والد إمام الحرمين الإمام أبو محمد الجو يني ، وهؤلاء كلهم على طبقة عالية متمكنون في الفقه ولكنهم مجتهدوا مذهب وليسوا مجتهدين اجتهاداً مطلقاً.
وماذا عن مجتهد الفتوى ؟
هو من حيث الدرجة أدنى من مجتهد المذهب ، فهو الذي لا يأخذ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة ، وإنما عنده تمكن شديد في مذهبه بحيث يعرف أقوال الإمام كلها ، إذا طرحت عليه مسألة يعرف ماذا قال الإمام في هذه المسألة، قولين؟ ثلاثة أقوال؟ أربعة أقوال؟ وماذا قال الأصحاب أصحاب الوجوه الذين هم مجتهدوا المذهب ، ماذا قالوا في هذه المسألة ؟ فقد يجتمع عليه أقوال كثيرة ، مهمته أن ينظر في هذه الأقوال ، في قوة قائليها وفي قوة أدلتها وفي كثرة الأئمة الذين أخذوا بها ، له نظرات كثيرة جداً بحيث يختار قولاً على قول ، ويقول هذا هو المعتمد في المذهب ، نحن نقول معتمد في مذهب الشافعية كذا ، فنحن بذلك نتبع مجتهدي الفتوى كالإمام النووي هو مجتهد فتوى ، الإمام الرافعي مجتهد فتوى ، هؤلاء عندهم مقدرة شديدة وقوية جداً وعارضة مكينة في اختيار القول المعتمد ، وترجيح قول على قول من أقوال أصحاب المذهب أو أقوال الإمام رضي الله تعالى عنه ، فهذه ثلاث طبقات في المذهب ، وقد يوجد تداخل فيما بينها ، يعني مثلا مجتهد المذهب أحيانا يجتهد اجتهاداً مطلقاً ، هو ملزم باتباع أصول الإمام لكن أحيانا له اجتهاد في أصول الإمام يبدي رأيه في أصل من أصول الإمام ، في قاعدة من القواعد الأصولية الموجودة عند الإمام ويتبع رأيه في ذلك ، يُباح له ذلك ، ومجتهد الفتوى أحياناً يأخذ مرتبة مجتهد مذهب في بعض الأحيان فيمد يده إلى الكتاب والسنة فيأخذ الأحكام منها على أصول الإمام رحمه الله تعالى ، ولكن هذا الترتيب الذي ذكرته هو الترتيب الشائع عند الفقهاء رضي الله تعالى عنهم .
حبذا لو توضحوا لنا بشكل أوسع لماذا لا يحق لأحدنا الاجتهاد واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة ؟
هذه الثروة العظيمة عند الفقهاء في تاريخ الفقه الإسلامي لماذا نفوِّتها على أنفسنا؟
أولا يجب أن نعلم أنه لا يجوز لنا أن نأخذ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة يعني الواحد منا يفتح كتاب رياض الصالحين فيجد حديثا يقول آخذ هذا الحديث وأعمل به ، ومما أخطأ فيه بعضهم لما قرأ حديث تحريم تزين المرأة بالذهب المُحلَّق مثل الإسوارة والطوق ، لأنه محلق في هذا الحديث تهديد من النبي صلى الله عليه وسلم ووعيد مباشرة ، قرأ الحديث فقال الذهب المحلق حرام وأطلق الفتوى ، وصارت فتن بعد هذا كثيرة ، ولو رجعنا إلى كلام العلماء رضي الله تعالى عنهم خاصة الخطابي في شرح (مشكاة المصابيح) يقول: إن هذا الحديث منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أخذ الحرير والذهب فقال: (هذان حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها) هذا نص مطلق يدخل فيه المحلق وغير المحلق، هذا ناسخ لذاك ، فليس لنا أن نأخذ بالحديث المنسوخ ونترك الناسخ ، وهكذا لعدم الاطلاع، فلا يجوز أن نمد أيدينا إلى الكتاب والسنة مباشرة ، لا بد أن تتحقق فينا صفات المجتهد التي ذكرتها قبل قليل ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ، كل ناسخ وكل منسوخ يجب أن يعرفه وما لم يعرفه يقع في مثل هذه الغلطة التي وقع فيها بعضهم ، ينبغي التنبه لهذا ، إذا أخذنا الأحكام من كتاب رياض الصالحين أو من القرآن الكريم مباشرة أو من أي كتاب في السنة فهذا غلط كبير وفاحش جداً ، لأنه ليست لدينا أهبة الاجتهاد وليس لنا الاستعداد لذلك ، ولا تستغربوا هذا أيها الإخوة ليس انتقاصاً بحقكم وليس انتقاصاً بحق المسلمين عموماً ، خذوا مثلاً على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مَن من العلماء ممن تمكن في الرجال ودرس حياة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتراجمهم وأتقنها؟ مَن منهم يقول إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم فقهاء ؟ لا أحد يقول هذا القول ، ما كانوا كلهم فقهاء ، كانوا يتميزون علينا وعلى البشر قاطبة إلى يوم القيامة بأنهم يتمتعون بحس من الفطرة سليم جداً ، ويتمتعون أيضا بسليقة في اللغة العربية سليقة سليمة لا يخطئون في اللغة العربية ، لا يُتصور من واحد منهم أن يخطأ في اللغة العربية ، لكن هذه السلامة في سليقة اللغة العربية عندهم إلى متى امتدت ، علماء اللغة العربية يقولون بعد سنة 150هـ بعد هذا التاريخ فسدت سلائق الناس ، لم يعد يوجد لغة عربية سليمة ، لم يعد يوجد إنسان تطمئن أن لغته صحيحة إن لم يكن متمكناً في علم النحو والإعراب متمكناً في علوم اللغة ، لا نقدر أن نسمع كلامه ونسلم له ، المفروض أن يُناقش كل إنسان يتكلم بكلمة أو شاعر يدلي بقصيدة ، أو كذا، المفروض أن يُحاسب هذا خطأ وهذا صواب، أما قبل سنة 150 هـ لا يقال لواحد من العرب إنك أخطأت، ولو كان جاهلياً ولو كان كافراً ، لا يقال له أخطأت في اللغة العربية، فهم مصادر اللغة فلا يخطئون ، الصحابة إذن يتميزون بهذا أنهم كانوا هم مصادر اللغة ولغتهم سليمة ، نحن لا يوجد عندنا هذا ، لكن هل كانوا جميعا من الفقهاء ؟ ما كانوا كلهم من الفقهاء ولكنهم كانوا أورع منا بكثير فما كانوا يتعرضون للفتوى ، لا يفتون ، الذي يفتي منهم العالم الفقيه، وليسوا في فقهم على طبقة واحدة ، إنما كانوا على طبقات ومراتب ودرجات ، منهم مَن كانوا فقهاء متمكنين في الفقه ، ومنهم مَن كانوا مجتهدين اجتهاداً مطلقاً ، هم طبقات، ولقد نصَّ العلماء على طبقات الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا ، وممن خدم في هذا الموضوع الإمام ابن قيم الجوزية رضي الله تعالى عنه في كتابه (أعلام الموقعين عن رب العالمين) يعني يقصد به أن المفتي الذي يفتي ـ هو قصده أن يترجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ـ المفتي الذي يفتي بحكم فقهي هذا يكتب الحكم الفقهي ويوقع عليه ، وهو يعرف أنه يوقع عن رب العالمين ، فينبغي أن يكون ورعاً يخاف من الله سبحانه وتعالى ولا يتسرع بالفتوى ، وأن يكون عالماً متمكناً في الفقه وفي أصول الفقه وفي شروط المجتهد ، حتى يوقع الفتوى عن رب العالمين ، هذا أمر كبير جداً ، المهم أن الإمام ابن القيم رضي الله تعالى عنه في كتابه هذا صنف الصحابة ، فما جعل الصحابة كلهم طبقة واحدة ، ولا علماء الصحابة كلهم طبقة واحدة إنما هم طبقات ، الطبقة العليا منهم هي التي يحق لها أن تمد يدها إلى نصوص الكتاب والسنة فتعمل فيها بالاجتهاد واستنباط الأحكام ، فليس عيبا أن يقول الإنسان أنا لا أستطيع أن أمد يدي إلى الكتاب والسنة ، وليس عيباً إذا رأى حديثا صحيحا أن يقول لا أستطيع أن آخذ به إلا أن أرجع إلى أقوال الفقهاء ، لا تظن هذا أنه استخفاف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني لو وجدنا حكماً فقهياً يقول علماء الفقه أن هذا هو المعتمد في الفقه و لكنه يخالف حديثاً صحيحاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأيهما نأخذ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ـ و لكن ما مدى معرفتنا بحال هذا الحديث ـ قد يكون صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً ، وإذا كان صحيحاً قد يكون من أحاديث القبول ، وقد يكون من أحاديث الرد ، قد يكون الحديث منسوخاً ، قد يكون عامَّا وله تخصيص ، قد يكون مطلقاً وله تقييد ، نحن ما هي معرفتنا بهذه المسائل كلها ؟ وهل نعرف نحن الأحاديث الأخرى أو النصوص الأخرى التي تعارض هذا الحديث ؟ وهل نعرف هذه المرجحات التي نرجح بها هذا الحديث على غيره ؟ صحيح أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي هذا كلام صحيح وارد عنه ، ولكن من سُقم الفهم عند بعض الناس ، ظن أن الإمام الشافعي يعني أنه إذا رأيت الحديث صحيحاً فهذا مذهبي ولو خالف أقوالي كلها ، فأنتم اعملوا به ، وهذا خطأ شنيع في فهم كلام الإمام الشافعي ، ومن أجل أن لا يقع الناس في هذا الفهم ألف الإمام السبكي رضي الله تعالى عنه كتابا سماه (قول الإمام المطلبي ـ سيدنا الإمام الشافعي مطلبي ـ قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي) هكذا عنوان الكتاب يبين المختصر المفيد من هذا الكتاب كله مع أن هذا الكتاب مليء بالعلم ولكن المختصر المفيد أن الإمام الشافعي بهذا الكلام إذا صح الحديث فهو مذهبي لا يخاطبنا نحن ، إنما يخاطب أصحابه أصحاب الوجوه في المذهب الذين تمكنوا تمكناً شديداً يقول لهم ، إذا رأيتم حديثاً صحيحاً غاب عني أو حديثاً لم آخذ به عرفته ولم آخذ به لسُقم سنده عندي ، لضعف سنده عندي ، فإذا صح عندكم فضعوه في اعتباركم لا تتركوه مثل ما تركته أنا ، الإمام الشافعي ترك بعض الأحاديث الصحيحة لأنه ما تبين له أن هذه الأحاديث صحيحة ، وفي بعض الأحيان كان يقول هذا الحديث لو كان صحيحاً لأخذت به ، يشير إلى أصحابه إذا صح من بعدي و تبينت لكم طرق أخرى غير الطريق الذي وصلني أنا ، الطريق الذي وصلني لم أطمئن إليه رجاله ليسوا رجال الصحيح ، لو وصلكم هذا الحديث بذاته من طرق صحيحة فضعوه باعتباركم ، أنا ما وضعته باعتباري تركته لأنه لم يصح عندي ، إذن مدخل عظيم جدا الدخول في هذا الكلام كلام الإمام الشافعي وأن نقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ، كل حديث صحيح نراه نأخذه ونعمل به ، هذا جهل فاضح في كلام الإمام الشافعي وجهل واضح بالشريعة الإسلامية ، إذن لا بد لنا ولكل مسلم إذا لم يبلغ شروط الاجتهاد لا بد له من الاتباع والتقليد وهذا أمر لا مناص منه إن كان أحدنا دينه غاليا عليه ، فحرام أن يمد أحدنا يده فيأخذ من الكتاب والسنة ، أقول كلمة حرام وأصر على أنها حرام ، وأؤكد كلامي على ذلك بأنها حرام ، لأنه يكون ترك نصوصاً أقوى وترك نصوصاً هي المعمول بها ، وأين من يفهم العموم والخصوص ؟ علم العام والخاص علم قائم بذاته ، وله قواعد وله شروط وله معتبرات كثيرة جداً ، أين مَن يفهم العموم و الخصوص ؟ وأين مَن يفهم هذا الحديث هل هو عام له مُخصِّص ، أم هل هو خاص يندرج تحت حكم عام في نص آخر؟ قليل مَن يعرف هذه الأمور ، حتى من يعرفون أصول الفقه قليل منهم من يعرف تطبيقات الأحاديث على القواعد الأصولية التي يعرفونها ، فهو باب واسع ، فأخذُ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة حرام لمَن لم يتصف بصفات المجتهد ويتحلى بها ، لا بد إذن من توفر هذه الشروط ، إن لم تتوفر هذه الشروط فنحن مقلدون .
إذا كان واجباً على عامة الناس التزام مذهب فقهي فلماذا نحصر أنفسنا بالمذاهب الفقهية الأربعة وهناك فقهاء لا يقلون عنهم في درجة الاجتهاد ؟
بمعنى آخر ما هي الضرورة أن نكون متمذهبين ؟ نقول: أنا شافعي أو مالكي أو حنبلي أو حنفي ما هي الضرورة لهذا ؟
لماذا لا نأخذ من خارج المذاهب الأربعة ؟
لماذا لا نتبع مثلاً مذهب سفيان الثوري أو مذهب داوود الظاهري أو الإمام الأوزاعي؟
لماذا لا نأخذ من فقه سيدنا أبي بكر الصديق أو من فقه سيدنا عمر بن الخطاب ؟
نعم هناك بعض الناس يتصفون بمذهب معين يقول أنا شافعي لا أخرج عن الشافعية بشكل من الأشكال ، ومنهم من يقول أنا مالكي لا أخرج عن المالكي بشكل من الأشكال ، ولكن الحقيقة أن هذا غلط وهذا غلط ، لأن هذا يخالف كلام الأصوليين ، لأن المذاهب الأربعة لا ينبغي التمسك والتعصب لواحد منها ، فكلها مخدومة خدمة راقية جداً ، بحيث يطمئن الإنسان إلى المعتمد فيها ، أما أن يتمسك ولا يترك بأي حال من الأحوال ولا يبيح لنفسه الانتقال إلى مذهب آخر فهذا ليس بصواب ، هذه شبه ترد لماذا نحن ملتزمون بهذه المذاهب الأربعة ؟ ولا نأخذ من المذاهب الأخرى ؟ لماذا لا نأخذ مذهب سفيان الثوري أما توفرت فيه شروط المجتهد المطلق ؟ نعم توفرت فيه، ولا شك أن ابن المنذر توفرت فيه شروط المجتهد المطلق ، الإمام الأوزاعي رضي الله عنه مجتهد عظيم من أهل الشام ، الإمام الليث بن سعد أيضاً مجتهد مطلق ، داوود الظاهري على رأي بعض العلماء مجتهد مطلق ، وهكذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك ومن هم في هذه الطبقة هم مجتهدون اجتهاداً مطلقاً ، فلماذا لا نتبعهم في أقوالهم ونلتزم بالمذاهب الأربعة ؟
أيها الإخوة أولئك المجتهدون كلهم على العين والرأس، منهم أو كثير منهم مَن أقرَّ لهم جمهور العلماء بالاجتهاد المطلق ، لكن يوجد حيثيات تمنعنا من اتباعهم في مذاهبهم ، عادةُ المجتهدين جميعاً بما فيهم الأئمة الأربعة من شدة ورعهم أنه ثبت عن كل واحد منهم بلا استثناء أنه كان يرجع عن بعض أقواله ، فهم ليسوا مثلنا عندهم شيء من أمراض النفوس من الكبر والعجب ، فأحدنا إن قال قولاً في مسألة من المسائل ثم تبين غلطه يصعب عليه الرجوع عن هذا القول ، و يقول كيف سأرجع أمام الناس أقول أنا غلطان هذا الكلام صعب عليه كثيراً ، بينما المجتهدون الأئمة رضي الله عنهم ومنهم الصحابة من زمن سيدنا أبي بكر ومَن بعده كل المجتهدين لهم رجوعات عن الأقوال ، يفتي بالقول وينتشر القول عنه ثم يعلن للناس أني كنت مخطئاً في هذا القول ليس هكذا الفتوى ، الفتوى بالشكل الآخر ويفتي الفتوى الجديدة ، هؤلاء الأئمة الكبار الذين ثبت رجوعهم في بعض الأقوال هل دُونت وسُجلت رجوعاتهم كلها ؟! سيدنا عمر بن الخطاب هل سجلت كل رجوعاته عن أقواله ؟ لا نعرف ، نحن نعرف أنه رجع في مسألة في مسألتين ، رجع في المسألة التي حدد فيها المهور فأرشدته امرأة إلى الصواب فقال أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وغير هذه المسألة، لكن نحن كيف نعرف ما هي المسائل التي رجع عنها ، هل يوجد أحد من العلماء تطوع في جمعها وتدوينها وهل نقلت أصلاً رجوعاتهم ؟ ما نقلت كلها، وكذلك المجتهدون كلهم لم تُنقل رجوعاتهم هذا أمر ، وأمر آخر الإمام الذي وصل إلى درجة الاجتهاد كيف نقلده إذا لم تكن أصوله موجودة ؟ أنا في أول حديثي تحدثت أن المجتهد المطلق تكون له أصول خاصة الإمام الشافعي له أصول خاصة ، أبو حنيفة، الإمام مالك، سفيان الثوري ، وفلان و فلان من المجتهدين كل واحد له أصوله ، المفروض أن أصحابه من بعده أو تلاميذه ـ الذي يريدون أن يثبتوا المذهب وينقلوا الفتاوى عنه ـ يعرفون هذه الأصول حتى يسلكوها ، ومن خلالها يميزون بين أقواله ، من خلال أصول الإمام الشافعي ومعرفة أصحابه وتمكنهم فيها استطاعوا أن يقولوا للإمام الشافعي القول الفلاني ضعيف ، أما قوله الآخر فهو الصحيح ، من تمكنهم ومعرفتهم بأصول مذهبه إنهم اتبعوا الطرق التي وضعها للاستنباط سلكوها فتبين لهم أن قولا من أقواله ترك فيه حديثاً صحيحاً وأخذ بحديث ضعيف ، هؤلاء الأئمة الأربعة أصولهم موجودة محررة مضبوطة منقولة نقلاً دقيقاً جداً لم يَضِع شيء منها، لم يضع شيء من أقوال الشافعي ، لم يضع شيء من رجوعات الإمام الشافعي حين تبين خطأه ، ما ضاع شيء من هذا ، بل الأبلغ من ذلك أن كل العلماء يقولون إن المذاهب الأربعة قد نقلت عن أربابها رضي الله عنهم بكل ما فيها من الأصول والرجوعات ، نقلت إلينا بالتواتر ـ معروف ما هي كلمة تواترـ كلمة تواتر يعني لا يتطرق إليه الخطأ في النقل أبداً نهائياً عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، والأئمة الآخرون هل قُيض لهم هذا ؟ أولا رجوعاتهم لم نعرفها ، قد نعرف عن كل واحد منهم مسألة مسألتين رجع فيهم لكن هل نعرف كما عرف الشافعية عن الإمام الشافعي رجوعاته كلها ، مَن يعرف رجوعات الإمام مثلا ليث بن سعد كما تعرف رجوعات الشافعي ؟ ورجوعات الشافعي مسائل لا تعد ولا تحصى كثيرة جداً يصنفها العلماء تحت اسم (المذهب القديم) يأخذون من بعض المذهب القديم فهناك مسائل هي معتمدة في المذهب لكن المذهب القديم أكثره رجوعات ، أين هذا في كلام المجتهدين الآخرين ؟ الذي تجده عند كل مجتهد من المجتهدين مسألة مسألتان ثلاث مسائل صرح بالرجوع عنها والباقي أين ؟ غير موجود ، أصول مذاهبهم الخطوط التي خطوها لأنفسهم في الاستنباط علم أصول الفقه عند هذا الإمام ضاع كله من أوله لآخره ، الموجود من كلامه مجرد الفروع مجرد الفتاوى في فروع الفقه ، ويا ليت لدينا فقهاً كاملاً من كل الأبواب لهؤلاء الأئمة ، ما عندنا فقه كامل ، كل أبواب الفقه من كتاب الطهارة إلى كتاب العتق هل تجد كتاباً كاملاً للإمام الأوزاعي ؟ لا تجد من هذا ولو رأيت لاتجد أصول الفقه ، إذن هؤلاء ضاعت أصولهم كلها ، ما قيض لهم من التلامذة والرجال الذين يحملون المذهب وأصول المذهب فضاعت هذه المذاهب
الاجتهاد والمذاهب الفقهية الأربعة
حوار مع الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي حفظه الله
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث والأخير
ما رأيكم في هذا الصدد بمن يدعو للأخذ بالمذهب الظاهري وفقه ابن حزم:
ومن ناحية أخرى أيضا يشاع اليوم كثيراً موضوع الأخذ بمذهب داوود الظاهري رضي الله عنه ، والإمام داوود كان من تلامذة الإمام الشافعي ثم كان مجتهداً مطلقاً على رأي بعض العلماء وممن يعتبره مجتهداً مطلقاً الإمام السبكي في كتابه (جمع الجوامع) يعتبره مجتهداً مطلقاً لكن هناك نقاش حول هذا الموضوع ، فبعضهم يقول أنه ليس بمجتهد أصلاً لا مجتهداً مطلقاً ولا مجتهدَ مذهب ضمن مذهب الإمام الشافعي ، بل هو من عامة العلماء ، وممَن ينصر هذا الكلام الزين العراقي في كتابه (طرح التثريب) و ابن بطال شارح صحيح الإمام البخاري وغيره من العلماء ، وكثير من المالكية أكثر المالكية لا يعتبرونه مجتهداً مطلقاً ، و الدعوة شديدة اليوم عند كثير من الناس بعض إخواننا السلفية يقولون ينبغي أن ننظر إلى ابن حزم وفقه ابن حزم ، وكذلك أنا لا أدعو إلى عدم قراءة فقه ابن حزم فهو يستفاد منه ، رجل آفاقه بعيدة جداً لكن ابن حزم لا يُقلَّد لا يجوز تقليده ، الإطلاع على مذهبه لا بأس بذلك ، وأنا مما علمته من الشيخ عبد الغني الدقر رحمه الله وكان والدي يحبه حباً شديداً وقد قرأ عليه على والدي مدة طويلة ، سنوات طويلة ، فسمعت من الشيخ عبد الغني الدقر قال لي : قلت لوالدك أريد أن اقرأ معك فقه ابن حزم فقال له الوالد : أجِّل ذلك الآن نقرأ من فقه المذاهب الأربعة قال لي : أصررت على الشيخ أن يُقرأني شيئاً من فقه ابن حزم والشيخ عبد الغني الدقر ابن الشيخ علي الدقر فتدللت عليه فرضي ، قال فقرأت معه كتاب (المحلى) عشر مجلدات في فقه ابن حزم قال له والدي يا بني أنا لا أحب فقه ابن حزم ولا أحب أن أخوض فيه ولا أحب أن أفتي بشيء منه ولكن من أجلك سوف نقرأ هذا الكتاب ، وقرأ معه هذا الكتاب عشر مجلدات ، ولولا أنه مفيد لا يقرأ معه عشر مجلدات ، ولكن الوقوف عند تقوى الله سبحانه وتعالى وخشية الله بأن لا يفتي الإنسان بأقوال ابن حزم ، وكثير من العلماء قالوا من الحزم أن لا تفتي بأقوال ابن حزم ، أولا ابن حزم بالذات من بين الظاهرية يطعن فيه العلماء ويطعنون بالثقة فيه لأسباب أهمهما أنه كان شديد السلاطة في لسانه ، يعني كان يطعن في العلماء طعونه شديدة ، وكان يسب ويشتم حتى في (المحلى) مع أنه كتاب فقه مليء بالسباب والشتائم للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه والإمام أبي حنيفة النعمان يشتط عليهما كثيراً ، النقد لا بأس به لكن ليس النقد اللاذع والسباب والشتائم ، و لذلك يزعزعون الثقة فيه رضي الله تعالى عنه ، وأيضا ناحية أخرى مذهب الظاهري كله عليه مأخذ ، والمأخذ موجود عند داوود صاحب المذهب وموجود عند ابن حزم ، وهو إلغاء القياس.
المذهب الظاهري وموقفه من القياس كمصدر من مصادر التشريع:
تعلمون في أصول الفقه من قرأ منكم أصول الفقه أن أصول الإسلام كلها من حيث الاستنباط مصادر الإسلام الشرعية هي أربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، القياس إذن مصدر رابع من مصادر التشريع ، وقد تكون أحكامه أكثر من ربع الأحكام بل ربما أكثر ، وهي منتشرة جداً في الفقه الإسلامي ، القياس لماذا القياس مصدر من مصادر التشريع ؟ حجة عقلية واضحة عندهم أن النصوص الشرعية نصوص محدودة إذا أحببنا أن نعد النصوص الشرعية فهذا ممكن ، لأن الذين عدوا آيات القرآن كلها وعدوا كلمات القرآن وعدوا أحرف القرآن الكريم ألا يستطيعون أن يعدوا النصوص نصوص الأحكام من آيات الأحكام وأحاديث الأحكام ؟ إذن هي محدودة هذه النصوص ، والوقائع البشرية الأحداث التي تمر على البشرية إلى يوم القيامة هذه هل يمكن أن تكون محدودة ؟ لا يمكن أن تكون محدودة هذه لا متناهية لا تنتهي فكيف يحيط المحدود الذي هو الكتاب والسنة و الإجماع كيف يحيط المحدود باللامحدود ؟ الشيء النهائي باللانهائي لا يمكن أن يحيط به ، إذن لا بد من إدخال القياس ، أنا لا آتي الآن بالأدلة على مشروعية القياس الأدلة على مشروعية القياس لا تناقش ، لأنها أدلة قوية وماحقة فإذن إنكارهم للقياس إنكار غير منطقي أيضاً أبداً ، وعطلوا فيه أحكاماً كثيرة في منهاج الله تعالى وحجبوا على أنفسهم خيراً كبيراً ، كيف يُقلد عالم من العلماء لا يقول بالقياس ؟ يسد على نفسه هذا الباب كله من أوله لآخره ويدخل في الأبواب الأخرى في الكتاب والسنة والإجماع ولا يرضى أن يقيس كيف يُقلَّد هل يجوز أن يقول في المسألة أنها حرام وهي ليست بحرام فهي مقيسة على مسألة من المسائل المباح أو المسائل المكروه أو المسائل المندوب يغيب عنه هذا قصداً منه لأنه يعطل القياس ؟ من الأمثلة التي يضربها العلماء في تعطيل القياس وفي قول ابن حزم أو داوود غلط في ذلك غلطاً فاحشاً نفسه ابن حزم يقول في (المحلى) إن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه ) الماء الدائم الماء الراكد هذا حديث واضح والعلماء لهم فيه ما شاء الله خوض بعيد المدى ، ويأخذون منه أحكاماً كثيرة يستفيدون من لغته ، ويستفيدون من فقهه ، يعني فوائد كثيرة ودلالات عظيمة جداً ، لكن انظر للظاهري ماذا فعل بنفسه لأنهم كان عندهم جمود غريب جداً عند ظواهر النصوص ، قال ابن حزم في (المحلى) لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه ، لكنه لو بال في إناء وصب هذا الإناء في الماء الدائم فلا بأس بذلك !! لا يبولن في الماء نعم هذه فهمناها ، أما أن يبول في إناء ثم يصب الإناء إلى الماء الراكد فعنده لا بأس به يغتسل به !! بعد ذلك لماذا قال هذا لأنه جمد عند النص ، فقال له بعض مَن ناقشه الإمام ابن بطال شارح البخاري يقول له بناء على هذا ينبغي أن تقول أنه نهينا عن البول في الماء الدائم ، معنى ذلك أنه لو تبرزنا في الماء الدائم فلا بأس بذلك بناءً على أصول المذهب ، طبعاً هم لم يقولوا هذا لكن ابن بطال في نقاشه معه يقول مثل هذا الكلام ، إذن إتباع المذهب الظاهري أو ابن حزم هذا مخالف للاتجاه العام واتجاه فقهاء الإسلام كلهم ومما يجب أن أورده في هذا الباب أن الإمام النووي رضي الله تعالى عنه في كتابه (المجموع) ألف هو رضي الله عنه تسع مجلدات منه وأتمه بعد ذلك السبكي وأتمه بعض المتأخرين إلى آخره ، ولكن التسع مجلدات التي صنفها الإمام النووي رحمه الله يكرر من خلالها من خلال التسع مجلدات يمكن بلا مبالغة أكثر من عشرين مرة ، يقول : وقد اتفق العلماء على أن الظاهرية لا يُعتد بهم في الإجماع ولا في الخلاف لماذا ؟ من أجل هذه العلل الموجودة ضمن مذهب الظاهري ، ثم يقوم بعض الإخوة فينا اليوم ممن يدعون إلى التحرر من المذاهب فيأخذ من كلام ابن حزم أو الإمام داوود الظاهري وفي هذا الخطأ في دين الله ، أو عدم الحرص على التمكن في دين الله ، هذا شيء لا ينبغي أن يرضاه الإنسان الحريص على دينه أو الذي دينه غالٍ عليه لا ينبغي أن يقع في مثل هذا أبداً .ً
هل يجوز التقليد والانتقال بين المذاهب الفقهية الأربعة ؟
أما التقليد ضمن دائرة المذاهب الأربعة ، يعني أن ينتقل من معتمد الإمام الشافعي إلى معتمد الإمام المالكي أو الحنفي أو الإمام أحمد بن حنبل ، وهي مذاهب فقهية مخدومة تقريباً بدرجة بعضها البعض فلا بأس في ذلك ، الإنسان إذا وجد مسألة في مذهب أبي حنيفة وأحب أن يقلد في ذلك المذهب فلا بأس بذلك ولا يشنع عليه ولا شيء عليه أبداً ، ولكن أحب أن ألفت النظر إلى مسألتين في هذا:
المسألة الأولى أنه لك أن تقلد المعتمد في أي مذهب من المذاهب الأربعة لكن تتبع الرخص بأن يتبع أحدنا القول الذي فيه رخصة وفيه تسهيل يلحقه يعمل به ، فالعلماء رضي الله عنهم يقولون (تتبع الرخص فسق) أن يلحق أين القول السهل هذا فسق ، لماذا فسق لأن هذا دينه ليس له قيمة عنده لو أن دينه له قيمة عنده لايتتبع القول الضعيف، الحقيقة ما الذي ينبغي أن يتبعه أحدنا ؟ هل نقول يتبع القول الأحوط والأورع ؟ أيضا هذا ليس ضرورياً ، الحقيقة ينبغي أن يتبع الدليل ، والأدلة نحن لسنا محيطين بها فنلحق المعتمد في المذاهب الأربعة ونكون بذلك فعلا نتبع الأدلة ، لكن لا نلحق الأسهل من المذاهب الأربعة ، إذا يريد أحدنا أن يلحق الأسهل دائما ففتوى العلماء أن ذلك فسق وخروج عن الطاعة هذه المسألة الأولى.
والمسألة الثانية التي أشير إليها أن الإنسان المتمكن الذي يستطيع أن يقرأ أقوال الفقهاء ويستطيع أن يقرأ أدلتهم وعنده مُكنة من العلم بحيث يستطيع أن يقرأ من مناقشته وكيف يتم ترجيح قول على قول من خلال طرق الاستنباط ومن خلال نصوص الكتاب والسنة ، الذي عنده هذه المكنة فإنه ـ هذا كلام موجود في أصول الفقه في كتاب الاجتهاد والتقليد ـ فإنه بهذه الدرجة الأفضل له أن يتبع الأقوى يعني مثلا أنا شافعي وجدت عندي ـ إن شاء الله يكرمني ويكرمكم جميعاً بهذه المنزلة ـ عندي إمكان أن أطّلع على هذه المذاهب وأدلتهم وأفهم هذه المناقشة كيف تناقشوا مع بعضهم لأن كثيراً من المسائل عندما تدخل فيها تضيع بالنقاش فيما بينهم فلا تقدر على المتابعة ، فابتعد وكن متبعاً للمعتمد في المذاهب ، إذا أحد استطاع أن يدخل في مسألة من المسائل ويعرف أدلتها كلها عند المذاهب كلها وكيف تناقشوا مع بعضهم البعض ورجحوا نصاً على نص إلى آخره فهذا له أن يخرج عن مذهب إمامه ويتبع مذهب إمام آخر ، أنا ملتزم الإمام الشافعي مثلاً وجدت مسألة في المسائل عند الإمام أحمد بن حنبل الرأي عنده أقوى من حيث الدليل ومن حيث مناقشة الأدلة رأي الإمام ابن حنبل أقوى فيستحسن بالنسبة لي أن آخذ برأي الإمام أحمد بن حنبل لا بأس بذلك ولو كنت أنا ملتزم بمذهب الإمام الشافعي ، المهم أنني ما خرجت خارج المذاهب الأربعة أنا ضمن المذاهب الأربعة أولا بل ضمن المعتمد ثانياً في المذاهب الأربعة وهذا واجب .
هل يصح العمل بالقول الضعيف في مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة ؟
من الواجب أن أترفع عن الأقوال الضعيفة في المذاهب , المذاهب الأربعة فيها أقوال ضعيفة اتركها ، والآن أنا لست بصدد أن أخبركم كيف ينتج القول الضعيف ، وكيف ينتج القول المعتمد هذا إن شاء الله في مناسبة أخرى ، و تجدونه في مقدمة كتاب (المنهاج) للإمام النووي هذه القواعد كيف نعرف القول الضعيف من القول الصحيح ودرجة الضعيف , الضعيف له درجتان درجة تصلح للعمل و الفتوى ، ودرجة أدنى تصلح للعمل ولا تصلح للفتوى إلى آخر هذا ، مَن يستطيع منكم أن يخوض في العبارة العلمية الدقيقة يجد هذا في مقدمة كتاب المنهاج بشكل مفصل ، المهم أن لا نعمل إلا في المذاهب الأربعة (بالمعتمد منها لا بالضعيف) هذا الذي يحرص على دينه ويخشى ربه سبحانه وتعالى ولا يضع في ذمته أفعال الناس ، لا يتسرع بالفتوى ولا يفتي بغير ما يعلم ، ولا يفتي بشيء أخر غير القواعد التي ذكرتها والالتزام بها إن شاء الله تعالى ، حتى لا نقع فيما يقع فيه كثير من الناس الذين يتهاونون في كثير من الأمور فيكون في ذمتهم وفي رقابهم عمل الناس الذين يستمعون منهم هذه الأقوال ويتبعونهم عليها ، وأعود وأكرر مرة واثنتين وثلاث وعشرة هذا لا يعني أن هذا يشتمل على فراق بين الإخوة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في ميدان واحد وهو ميدان الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إنما هي خلافات علمية وحوارات فكرية لا تعني النزاع ولا تعني الشقاق إن شاء الله ، بل تعني زيادة التلاحم والتآخي والتآصر بين المسلمين ولو اختلفوا في آرائهم وأفكارهم.
أخيراً نشكركم سيدي على ما تفضلتم به من الإجابة على تلك الأسئلة.
جزاكم الله خيراً ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق