التوفيق بين قوله تعالى ( ماضل صاحبكم ) وقوله ( ووجدك ضالاً فهدى )
التوفيق بين قوله تعالى ( ماضل صاحبكم ) وقوله ( ووجدك ضالاً فهدى )
الحمدلله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين ومن تبعهم وانتهج نهجهم إلى يوم الدين .
اللهم افتح علينا فتوح العارفين واجعلنا من المتحققين بالحال قبل المقال ونسالك أن تذيق قلوبنا لذة طاعتك ومناجاتك وقت الأسحار برحمتك ياعزيز ويا غفار وبعد
إن القلب الذي يعجن بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ويتلوع بلهيب الشوق الذي أخذ بنياط قلبه فجبذها حتى كادت أن تنُتزع من شدة الشوق إليه صلى الله عليه وسلم
ليغان عليه حينما يسمع بعض الحداثيين الفكريين أدعياء العلم الذين يظنون أنفسهم أنهم صاروا يقررون بأمور الدين فيصححون ويضعفون ويحملون ويفسرون على ما يروق لهم
وفي الحقيقة ما وجدت منهم إلا جهلا فاضحاً باسم العلم .
ولقد جال الفكر في يوم من الأيام وأمعن النظر في قوله تعالى ( ماضل صاحبكم وماغوى ) وقوله ( ووجدك ضالا فهدى ) ليدفع ما قيل من بعض أدعياء العلم ويحملهن على مايليق بمقامه صلى الله عليه وسلم
قلت : لقدرجعت إلى أقوال المفسرين لهذه الآيات فوجدت فيها عجبا.
فمنهم من يفسر قوله ووجدك ضالا فيقول وجدك كافرا بين قومك فهداك . والعياذ بالله
وقد نقل الرازي في مفاتيحه أقوالا كثيرة منها .
1- : ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب : ووجدك ضالاًّ عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها ، وهو المراد من قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ]
وقوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] وقال ابوحيان صاحب البحر قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة ، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب .
2- : ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام ، وسمعت صوتاً يقول : إنما هلاكنا بيد هذا الصبي
3- : ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال : « ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع ، كاد الجوع يقتلني ، فهداني الله » ذكره الضحاك وذكر تعلقه بأستار الكعبة ، وقوله :يا رب رد ولدي محمدا ... اردده ربي واصطنع عندي يداًفما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول : لا ندري ماذا نرى من ابنك ، فقال عبد المطلب ولم؟ قال : إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة ، كأن الناقة تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى! وقال ابن عباس : رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه
4- : أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل ، فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي ، فهداه إلى القافلة ، وقيل إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى
5- : يقال : ضل الماء في الليل إذا صار مغموراً ، فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه
6- : ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً ، كما قال : { والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } [ النحل : 78 ]
7- ووجدك ضالا تائها عما يراد بك من أحكام الشرع فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة ،
إلى آخر هذه الأقوال
قلت : وكيف يكون صلى الله عليه وسلم ضالا عن أحكام الشريعة وهو القائل فيما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قيل يا رسول الله ، متى أخذ ميثاقك قال : وآدم بين الروح والجسد { اي قبل خلق ادم } .
وأخرج ابن سعد رضى الله عنه قال قال رجل للنبى صلى الله عليه واله وسلم متى استنبئت قال : وآدم بين الروح والجسد حين أخذ منى الميثاق .
وأخرج البزار والطبراني في الاوسط وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قيل يا رسول الله متى كنت نبيا ، قال : وآدم بين الروح والجسد .
واخرج أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ميسرة الفخر رضى الله عنه قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ، قال : وآدم بين الروح والجسد .
قال التقي السبكي : فإن قلت النبوة وصف لا بد أن يكون الموصوف به موجودا وإنما يكون بعد أربعين سنة فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله ؟
قلت جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد فقد تكون الإشارة بقوله كنت نبيا إلى روحه الشريفة أو حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعرفها خالقها ومن أمده بنور إلهي .
قلت : فقوله تعالى ( ماضل صاحبكم ) في نفي قاطع يرد على من يحمل كلمة ( ووجدك ضالا ) على الكفر أو غيره مما يحمل على سوء الأدب معه صلى الله عليه وسلم
وإني أستعرض بعضا من أقوال المفسرين التالية وهي :
1- أن العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة ، وكأنه تعالى يقول : كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت ،
فأنت ، شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام :« الحكمة ضالة المؤمن »
2- أنه قد يخاطب السيد ، ويكون المراد قومه فقوله : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } أي وجد قومك ضلالاً ، فهداهم بك وبشرعك
قلت : ويرجح هذا القول أن فعل ( هدى ) فعل متعد وغير لازم
إذ أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته وقد نفى الله سبحانه وتعالى عنه الضلال بقوله ( ماضل صاحبكم )
فيكون المراد في قوله تعالى ( ووجدك ضالا ) أي وجد قومك
وهذا القول هو الذي نميل إليه وذلك من كمال الأدب معه صلى الله عليه وسلم وقد أنكر علينا هذا القول بعض من ينتسب الى العلم
وذلك لبعده عن التذوق في محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولقصر عقله .
وهذا مايميل إليه أبوحيان صاحب البحر في تفسيره حيث قال ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور : { ووجدك }
أي وجد رهطك ، { ضالاً } ، فهداهم بك . ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو : { وسئل القرية ) ,.
قال القرطبي و هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي، لأنه يجمع الأقوال المعنوية .
ثم قال القرطبي وفي قراءة الحسن ووجدك ضال فهدى أي وجدك الضال فاهتدى بك، وهذه قراءة على التفسير.
قلت :إن النبي صلى الله عليه وسلم نور كما وصفه ربه تبارك وتعالى بقوله ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: من الآية16]
فالنور يهتدى إليه في الظلمات ويطلبه التائهون ليسلكوا به سبل السلام .
فيكون المعنى (ماضل صاحبكم ولكنكم أنتم كنتم ضلالا فهديتكم به )
هذا والله تعالى أعلى وأعلم وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه :خادم الصوفية والتصوف حمود محمود المحمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق