حكم التدخين
هذا بحث عن التدخين تأريخا وحكما ليس لي فيه إلا التهذيب والترتيب
التِّنْباك والمُسَمّى بـ (الدُّخَان ) : من المُحْدَثات في آخر هذا الزمان ، وقد أَرَّخ حدوثه جماعة ، ومنهم : أبو الحسن المصري الحنفي رحمه الله ، حيث نقل عنه ابن المنقور في : (( الفواكه العديدة )) ( 2/80 ) أنه قال : " وكان حدوثه في حدود الألف ، وأول خروجه بأرض اليهود والنصارى والمجوس ، وأتى به رجل يـهودي يزعم أنه حكيم إلى أرض المغرب ، ودعا الناس إليه. وأول من جلبه إلى البر الرومي رجل اسمه : (الأتكلين) من النصارى . وأول من أخرجه ببلاد السودان المجوس ، ثم جُلب إلى مصر والحجاز وسائر الأقطار " ا .هـ .
ونظم البكري رحمه الله تأريخ حدوثه بقوله :
قال خِلىِّ عن الدخان أجبـني هل لـه فـي كتـابنا إيـماءُ
قلت ما فَرّط الكتاب بشـيء ثم أرَّختُ (يوم تأتي السـماء)
والمعنى أن تأريخ حدوثه سنة (999 هـ) تسعمئة وتسعة وتسعين .
ومن ثَمَّ لم يأت في ( التنباك ) وما إليه : نص صريح في الكتاب والسنة. قال علوي بن أحمد السقاف رحمه الله في كتابه المسمى بـ (( قمع الشهوة عن تناول التنباك والكفتة والقات والقهوة )) في أوله : " اعلم أيدني الله وإياك بنوره أن حكم استعمال التنباك حِلاّ وحُرْمة لم يَرِد فيه بخصوصه نصّ صريح لا من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله r " ا.هـ . لذا وقع الخلاف في حكمه ، وكثر الكلام في شأنه . قال العلامة مرعي الكرمي- صاحب : ((دليل الطالب)) ـ رحمه الله في أول كتابه المسمى بـ (( تحقيق البرهان في شأن الدخان الذي يشربه الناس الآن )) : " ولقد خاض في أمره العالم والجاهل ، وصُنِّفت في شأنه تصانيف الرسائل " ا .هـ .
q وحاصل خلافهم ثلاثة مذاهب ، وهي :
أولاً : مذهب الإباحة والجواز . وبه قال جماعة ، ومنهم : عبد الغني النابلسي رحمه الله في كتابه : (( الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان )) ، ونور الدين الأجهوري رحمه الله في كتابه : (( غاية البيان لحل شرب ما لا يُغيِّب العقل من الدخان )) ، وسلامة الراضي الشاذلي رحمه الله في كتابه : (( الإعلان بعدم تحريم الدخان )) ، وابنه محمود بن سلامة رحمه الله في كتابه : (( تأييد الإعلان بعدم تحريم الدخـان )) ، وأبو الحسنات اللكنوي رحمه الله في كتـابه : (( تَرْوِيْح الجَنَان بتشريح حكم شارب الدخان )) ، وأبو الفا العرضي رحمه الله في كتابه : (( حكم استعمال الدخان )) ، والأمير الصنعاني محمد بن إسماعيل رحمه الله - صاحب : (( سبل السلام )) - في كتابه : (( الإدراك لضعف الأدلة في تحريم التنباك )) ، وأحمدكوكب زاده رحمه الله في كتابه : (( رسالة في الرد على من حَرّم الدخان )) ، وعبد السلام النابلسي رحمه الله في كتابه: (( السيف الماضي في رقبة فلان القاضي )) ، وغيرهم كثير.
وانتصر الشوكاني رحمه الله لهذا القول ، وذكر أدلته بقوله - كما في : ((إرشاد السائل إلى دلائل المسائل)) (ص 50 ـ 51) ضمن مجموعة : ( الرسائل السلفية ) - : " الأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال ، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر والسم القاتل وما فيه ضرر عاجل وآجل كالتراب ونحوه . وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحاباً بالبراءة الأصلية ، وتمسكاً بالأدلة العامة ، كقوله تعالى:(خلق لكم ما في الأرض جميعاً) [البقرة:29]، قال تعالى : (قلْ لا أجدُ فيما أُوحى إلي محرماً) [الأنعام:145]" . ثم قال رحمه الله : " إذا تقرر هذا علمت أن هذه الشجرة التي سماها بعض الناس (التنباك)، وبعضهم : (التوتون) : لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات ، ولا من السموم ، ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً . فمن زعم أنـها حرام : فعليه الدليل ، ولا يفيد مُجَرَّد القال والقيل . وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى :(ويُحلُّ لهم الطَّيبات ويُحرّم عليهمُ الخبائثَ) [الأعراف:157] وأدرج هذه الشجرة تحت (الخبائث) بمسلك من مسالك العِلَّة المدونة في الأصول ، وقد غلط في ذلك غلطاً بيِّناً : فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النـزاع، والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شَوْب مصادرة على المطلوب ، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل ، فإن من يستعملها هي عنده من الطيبـات لا من المستخبثات ".
ثم قال : " ومن أنصف من نفسه وجد كثيراً من الأمور التي أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها ، أو كانت حلالاً بالبراءة الأصلية ، وعموم الأدلة في هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مُجَرّد استخباث البعض مقضياً تحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره : لكان العمل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات ؛ لأن في الناس من يستخبث ذلك ويَعَافُه . واللازم باطل فالملزوم مثله . فَتَقَرَّر بـهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه غلط أو مغالطة " ا . هـ .
ثانياً : مذهب الكراهة دون تحريم . وبه قال جماعة ، قَرّره في : ((حاشية ابن عابدين)) (5/296) ، و((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص/364) وهو مُقْتضى قواعد المذاهب الأربعة على ما قرَّره العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : ((تحقيق البرهان))(ص104-106) بقوله : " اعلم أن الأقرب فيه والصَّواب - كما تقتضيه قواعد المذهب المُقَرَّرة سيما المذاهب الأربعة - أن يقال فيه: إن شرب الدخان على وجه لا يَشِين - بقَطْع النظر عن عوارضه اللاحقة له من تَرَتّب المفاسد ونحوها - يَقْرُب من الكراهة التنـزيهية " ا .هـ .
وانتصر لهذا المذهب العلامة مرعي الكرمي رحمه الله وذكر أدلته بقوله
- كما في : ((تحقيق البرهان)) (ص106 وما بعدها ) - : " لوجهين ؛ أحدهما : قياساً على أكل البصل والثوم ، بجامع الرائحة الكريـهة ، وصوناً للعاقل من تَعَاطي العبث ، وما لا فائدة فيه . روى أبو أيوب - رضي الله عنه - أن النبي r بعث إليه بطعام ، فلم يأكل منه النبي r فذكر له ذلك ، فقال له النبي r : (( فيه الثوم )) فقال : يا رسول الله أحرام هو ؟ قال : (( لا ، ولكني أكرهه من أجل رائحته )) .قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقد نَصّ الأئمة - كما في ((المغني)) - على كراهة أكل البصل والثوم والكراث والفجل وكل ذي رائحة كريـهة ، سواء أراد دخول المسجد أم لم يُرِد ؛ لأن النبي r قال : (( إن الملائكة تَتَأذَّى مما يتأذَّى منه الإنسان )) رواه ابن ماجه . وروَى الترمذي أيضاً وصححه أن النبي r قال : ((من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا )) وفي روايـة : (( فلا يقربَنا في مسجدنا )) . قالوا : والحكمة في النهي لئلا يُؤْذي الناس برائحته ، بل روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه يأثم إن أتى المسجد ؛ لأن ظاهر النهي التحريم ؛ ولأن أذى المسلمين حرام ، وهذا فيه أذاهم . وهذه العلة على القول بالكراهة - وهو الأصح - و التحريم موجودة في الدخان بعَيْنه ، بل هو أفحش رائحة . الثاني : لما في شربه من التشبه بأهل النار . قال ابن عباس وابن عمر وزيد - رضي الله عنهم - في قوله تعالى : (فارْتَقبْ يومَ تأتي السَّماءُ بِدُخَان مُّبين) [الدخان:10] : هو دخان قبل قيام الساعة ، يدخل في أسماع الكفار والمنافقين ، ويَعْتري المؤمنين منه كهيئة الزكام . وفي حديث حذيفة أن النبي r قال : (( إن من أشراط الساعة دخاناً يملأ ما بين السماء والأرض ، والمشرق والمغرب ، يمكث في الأرض أربعين يوماً ، فأما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام ، وأما الكافر فيكون بمنـزلة السكران ، يخرج الدخان من منخريه وعينيه وأذنيه ودبره )) . وفي بعض تعاليق العلامة ابن تيمية : إن النبي r رأى على رجل خاتماً من حديد ، فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النار . وقد وصف الله أهل النار أن في أعناقهم الأغلال. فالتشبه بأهل النار من المنكرات المكروهة ؛ لأن المكروه مما يُنْكَر ، بدليل أنه لما طوَّل معاذ صلاته قال النبي r : (( أفتان أنت يا معاذ )) أي: مُنَفِّر عن الدين . قال الأئمة : ففي هذا الحديث إنكار المكروه ، وهو محل وفاق . وقال الإمام أحمد: أكره خاتم الحديد ؛ لأنه حلية أهل النار .
قلت - القائل مرعي - : فعلى هذا إن كراهة شربه مما يكاد يُجْزَم بها، وإنما تجاسرنا على القول بالكراهة للعلتين السابقتين - أعني : الرائحة الكريهة والتشبه بأهل النار - ، ولم نتجاسر على القول بالتحريم مطلقاً والجزم به : خوفاً من الله تعالى ، وحياء من رسول الله r ؛ خشية أن نُحرِّم في شريعته ما ليس بحرام " . ثم قال : " والعجب ممن يجزم بالتحريم ، فلا يكمل بنظر . ونحن لم نصل للقول بالكراهة إلا بعناية ، ومزيد تعب " . وقال : " وبالجملة: فلا دليل ولا قياس يقتضي التحريم على إطلاق" انتهى المراد من كلامه رحمه الله .
ثالثاً : مذهب التحريم . وبه قال جماعة . ومنهم : محمد الجمالي المغربي في كتابه : ((تنبيه الغفْلان في منع شرب الدخان)) ، وعبد الملك العصامي رحمه الله في كتابه : ((رسالة في تحريم الدخان )) ، وسليمان الفلاتي رحمه الله في كتابه : ((غاية الكشف والبيان في تحريم شرب الدخان)) ، ومحمد بن سليمان المالكي رحمه الله في كتابه : ((الأدلة الحسان في بيان تحريم شرب الدخان)) ، ومحمد الطرابيشي -رحمه الله- في كتابه: ((منظومة عقود الجواهر الحسان في بيان حرمة التبغ المشهور بالدخان)) ، وإبراهيم الواعظ رحمه الله في كتابه : ((رسالة في تحريم الدخان)) ، وأبو سهل محمد الواعظ رحمه الله في كتابه : ((رسالة في تحريم التنباك بالظن ظَنَّاً وكراهته بالقطع قطعاً)) ، والعلامة محمد بن علي بن عَلاّن الصديقي رحمه الله - شارح : ((الأذكار)) و ((رياض الصالحين )) ـ في كتابه : ((تحفة ذوي الإدراك في المنع من التنباك )) ، ومحمد السوسي المغربي رحمه الله في كتابه: ((كشف الغسق عن قلب الفتى في التنبيه على تحريم دخان الورق)). قال علوي السقاف رحمه الله في : ((قمع الشهوة)) (ص136) : "وغيرهم ممن لا يُحْصَون كثرة " ا.هـ.
ونصر هذا المذهب وذكر أدلته غير واحد ، ومنهم : محمد العيني رحمه الله ، حيث ذكر عنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ذلك في كتابه : ((فتوى في حكم شرب الدخان)) (ص3) : " فممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية : الشيخ محمد العيني ، ذكر في رسالته : تحريم التدخين من أربعة أوجه ، أحدها : كونه مُضرَّاً بالصحة ، بإخبار الأطباء المعتبرين . وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقاً . ثانيها : كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم ، المنهي عن استعمالها شرعاً … وهو مُفَتِّر باتفاق الأطباء ، وكلامهم حجة في ذلك وأمثاله ، باتفاق الفقهاء سلفاً وخلفاً . ثالثهاً : كون رائحته كريـهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه ، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها ، بل وتؤذي الملائكة المكرمين . رابعها : كونه سرفاً ؛ إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر ، بل فيه الضرر المُحقَّق بإخبار أهل الخبرة " ا.هـ .
وقد نظم ذلك محمد الطرابيشي رحمه الله في أول منظومته : ((عقود الجواهر الحسان)) - كما في: ((أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء)) للطباخ - ، حيث قال:
اعلم بأن حرمة الدخان***قال بـها جمع من الأعيان
إليهم يـهرع في الأنام***عليهم التعويل في الأحكام
حجتهم في تلك أصل مقتدى***في الشرع معلوماً ضرورياً غدا
وذاك كل ما أضر يحرم**والتبغ ضرار كما ستعلم
تلك مذاهب ثلاثة في التنباك ، وثمة مذهبان حكاهما بعضٌ ؛
ـ أولهما : ما ذكره علوي السقاف رحمه الله في : ((قمع الشهوة)) (ص136) بقوله : "من لم ير إطلاق القول بتحريم استعمال التنباك أو تحليله؛ لأنه يرى أن المقام مقام تفصيل ، والقاعدة : أن الإطلاق للحكم في مقام التفصيل خطأ، فيرى أن جميع الأحكام الشرعية الخمسة : الحرمة والكراهة والوجوب والندب والإباحة -تجري في مسألة استعمال التنباك - بحسب المقتضيات الوضعية الشرعية ، وذلك لما هو مقرر في الأصول أن لله عز وجل في كل فعل يفعله المكلف حكمين ، حكم تكليفي - وهو أحد الخمسة المذكورة - ، وحكم وضعي - أي : وضعه الشارع مُعَرِّفاً لتلك الأحكام من الأسباب والشروط والموانع - . قال صاحب هذا المذهب : ولم يثبت لهذا النبات الذي هو التنباك وصف ذاتي ولا أغلبي من الضرر البَيِّن في البدن كالسم ، ولا الضرر في العقل كالخمر والبنج والحشيشة حتى يدار عليه الأمر، ويحكم بقضية ذلك ، فلا بدع أن تجري الأحكام الخمسة التكليفية ، لكن لا سبيل إلى الجزم بحكم منها إلا بعد تحقق حكم ذلك الوضعي" ا.هـ.
ـ والثاني : مذهب التوقّف ومن الذاهبين هذا المذهب : أحمد بن علي السالمي رحمه الله في كتابه : ((عشبة الدخان)) - كما في : ((الأعلام))(2/105) للمراكشي - ، وذلك لتعارض الأدلة .
والخلاف في الدخان جارٍ إلى وقتنا هذا ، لكنه انحصر - في الجملة - في التحريم والكراهة ، فممن قال بالكراهة : ((الموسوعة الفقهية)) (ص54)، حيث جاء فيها ما نصه : "والخلاصة أن الدخان يحرم إذا ثبت ضرره لبعض الناس في العقل أو البدن ، أو كان شاربه مضطراً إلى صرف ثمنه في حاجاته وحاجات عياله الأساسية ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ؛ لأن رائحته كريهة ؛ ولأنه لا يخلو أبداً من نوع ضرر، ولا سيما الإكثار منه، فإن ضرره الصحي والمالي محقق ، والقليل منه يجر إلى الكثير" ا.هـ .
وبالتحريم جزم الأكثر ، كذا قيل ولَعَلَّه كذلك ، واستقراء المجامع الفقهية، ودُوْر الفتوى : يُنْبأ عن ذلك .
هذا وقد اشتهر خطر الدخان ، وبان ضرره ، حتى قَرَّر أعلامٌ وثقاتٌ عن أرباب الصِّحَّة والاختصاص : أن ضرره مُتَيَقَّن على عموم : (العقل) و(البدن) … ومثل ذلك لا يَسْتريب ذو علم وإنصاف في تحريمه وعدم جوازه ، ويَتْبع ذلك بيعه وشراؤه ، ويكفي في ذلك شيئان :-
ـ أولهما : ما أخرجه الإمام أحمد في ((المسند)) وابن ماجه في ((السنن)) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله r : (( لا ضرر ولا ضرار )) . قال المناوي رحمه الله في : ((فيض القدير)) (6/432) : " والحديث حَسّنه النووي في (( الأربعين )) قال : ورواه مالك مرسلاً،وله طرق يُقوِّى بعضها بعضاً . وقال العلائي : للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحّة أو الحسن المُحْتَجّ به " ا.هـ.
ـ والثاني : ما أخرجه البخاري ومسلم في ((صحيحهما)) من حديث المغيرة بن شعبة قال : (( نـهى الرسول r عن إضاعة المال )) .
تنبيـه :
قال العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : ((تحقيق البرهان)) (ص147): " تنبيه : يلزم على دعوى التحريم : عدم صحة بيع ما منه الدخان ، إن لم يكن في جهته نفع أخرى ؛ لأنه لا يَصِح إيراد العقد على ما لا منفعة فيه ، أو فيه منفعة لكنها محرمة . فإن كان فيها جهة نفعِ أخرى : صَحّ بيعه بلا نزاع " ا.هـ.
وَصْلٌ :
تعاطي بعض الفقهاء وأولي العلم لـ (التنباك) وما إليه : كان مشهوراً إلى زمن قريب ، ويشير إليه العلامة محمد الحامد رحمه الله - كما في ((ردود على أباطيل)) (ص647) - بقوله : " ولو أن الفقهاء الأحياء أفتوا بتحريمه، وفطموا أنفسهم عنه ، ونـهوا الناس عن تعاطيه : لكانوا الأسوة الحسنة ، ولأفلح الناس بهم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ا.هـ.
وممن كان يتعاطى الدخان بِشَرَهٍ الشيخ علي الأجهوري رحمه الله كما في: ((الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعدين)) (1/256) . وممن بلغنا خبره في الحجاز العلامة المُسْنِد الفاداني رحمه الله ، وقد كان من علماء الحرم المكي، والمجاورين له ! ، وغيره . وقد كان أهل الحجاز لا يستخبثون الدخان وما إليه ، قال العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : ((تحقيق البرهان)) (ص132) : "هذا ، وأهل الحجاز - سيما أهل مكة المشرفة - لا يستخبثونه " ا.هـ.
لكن استقر الشأن في الحجاز ونجد وما إليهما - ولله الحمد - على تحريمه ومنعه ، بل تُسْقَط به العدالة في ( المحاكم الشرعية ) ، ولا يكاد يفعله إلا السَّفَلة .
فائدة :
قال علوي السقاف رحمه الله في : ((قمع الشهوة)) (ص 137) : " أشار الحافظ في : ((الفتح)) إلى شيء حسن ، وهو أنه يجب على متعاطي المحرم : السعي في قطعه بالتدريج ، بأن يُقَلِّل ما اعتاده كل يوم ، فإنه إذا استمر على ذلك زال المحذور . وما ذكر إذا وقع مثله لشخص في استعمال التنباك جرى فيه ما ذكر كما هو ظاهر " ا.هـ . هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه .
الشيخ صالح بن محمد بن حسن الأسمري
قصيدة فيها نصيحة لكل مدخن ( لا أدري من قائلها ) أحببت إيرادها ههنا لتتم الفائدة :
يـاشـارب التـنـبـاك مـا أجـرأكا *** مـن ذا الـذي فـي شـربه أفتـاكا
أتـظـن أن شـرابـه مـسـتـعــذب *** أم هـل تـظـن بـأن فـيـه غـذاكا
هـل فـيـه نـفـع ظـاهـر لك يافتى *** كـلا فـلا فـيـه سـوى إيــذاكــا
ومـضـرة تـبـدو وخـبـث روائـح *** مـكـروهـة تـؤذي بـهـا جلساكا
وفـتـور جـسـم وارتخاء مـفاصل *** مع ضيق أنفاس وضعف قواكا
واتـلاف مـال لاتـجـد عـوضـاً له *** إلا دخـانـاً قـد حـشـى أحـشاكا
ورضـيـت فـيـه بـأن تكون مبذراً *** وأخـو الـمـبـذر لم يكن يخفاكا
فـإذا حـضرت بمجلس واستنشقوا *** مـن فيـك ريحاً يكرهون لقاكا
يـكـفـيـك ذمـاً فـيـه أن جـميع من *** كـان يـشــربه يـود فـكــاكـــا
فـارفـق بـنـفـسـك واتـبع آثار من *** أهـداك لا مـن فـيـه قد أغواكا
إن كـنـت شـهـمـاً فاجتنبه ولاتكن *** فـي شـربـه مـسـتـتـبعاً لهواكا
إنـي نـصـحـتك فاستمع لنصيحتي *** ونـهيـت فـاتبع قـول من ينهاكا
وبـذلـت قـولـي نـاصـحاً لك يافتى *** فـعـسـاك تقبل ما أقول عساكا
قصيدة للشاعر السوري زكي قنصل الذي عانى من التدخين وأثره السلبية على صحته فقال يخاطب لفافة التبغ
كم فراقٍ به تقرُّ عيوني =ولقاءٍ يهيجُ نارَ أسايا
ما أنا في هواكِ أولَ صبِّ =خفتُ أن يخنقَ الدخانُ صبايا
أنت سمٌّ بين الحنايا زعافٌ =كيف تستعذب السمومَ الحنايا
الجراثيم عششت في ثنايا.. =ك فلا مرحباً بهذي الثنايا..!
رُبَّ ليلٍ قضيته في سعال =وليال قضّيتها في رزايا
نمت منذ ابتعدتُ عنك قريراَ =مستريحاَ وكان نكداَ كرايا
وتمتعت بالغذاء.. وكانت =طيبات الغذاء عندي نفايا
يتهاداك في المجلس قوم =كيف تُستحسنُ الأفاعي هدايا؟!
ويح عشّاقك المساكين..! إني =لست أرثي إلا لهذي الضحايا
التَّبَغُ ( بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ) لَفْظٌ أَجْنَبِيٌّ دَخَلَ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ تَغْيِيرٍ , وَقَدْ أَقَرَّهُ مَجْمَعُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ . وَهُوَ نَبَاتٌ مِنْ الْفَصِيلَةِ الباذنجانية يُسْتَعْمَلُ تَدْخِينًا وَسَعُوطًا وَمَضْغًا , وَمِنْهُ نَوْعٌ يُزْرَعُ لِلزِّينَةِ , وَهُوَ مِنْ أَصْلٍ أَمْرِيكِيٍّ , وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ : الدُّخَانُ , وَالتُّتْن , وَالتُّنْبَاكُ .
لَكِنَّ الْغَالِبَ إطْلَاقُ هَذَا الْأَخِيرِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ التَّبَغِ كَثِيفٍ يُدَخَّنُ بِالنَّارَجِيلَةِ لَا بِاللَّفَائِفِ .
وَمِمَّا يُشْبِهُ التَّبَغَ فِي التَّدْخِينِ وَالْإِحْرَاقِ : الطُّبَّاقُ , وَهُوَ نَبَاتٌ عُشْبِيٌّ مُعَمِّرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْمُرَكَّبَاتِ الْأُنْبُوبِيَّةِ الزَّهْرِ , وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ , خِلَافًا لِلتَّبَغِ , وَالطُّبَّاقُ : لَفْظٌ مُعَرَّبٌ . وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ : الطُّبَّاقُ : الدُّخَانُ , يُدَخَّنُ وَرَقُهُ مَفْرُومًا أَوْ مَلْفُوفًا .
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ عَنْ الدُّخَّانِ : إنَّهُ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْعَاشِرِ الْهِجْرِيِّ وَأَوَائِلِ الْقَرْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ , وَأَوَّلُ مَنْ جَلَبَهُ لِأَرْضِ الرُّومِ ( أَيْ الْأَتْرَاكِ الْعُثْمَانِيِّينَ ) الْإِنْكِلِيزُ , وَلِأَرْضِ الْمَغْرِبِ يَهُودِيٌّ زَعَمَ أَنَّهُ حَكِيمٌ , ثُمَّ جُلِبَ إلَى مِصْرَ , وَالْحِجَازِ , وَالْهِنْدِ , وَغَالِبِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّبَغِ :
حُكْمُ اسْتِعْمَالِهِ
مُنْذُ ظُهُورِ الدُّخَّانِ - وَهُوَ الِاسْمُ الْمَشْهُورُ لِلتَّبْغِ - وَالْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ , بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحَقُّقِ الضَّرَرِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ , وَفِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ , قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ , إذْ لَا نَصَّ فِي شَأْنِهِ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ حَرَامٌ , وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّهُ مُبَاحٌ , وَقَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ مَكْرُوهٌ .
وَبِكُلِّ حُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَفْتَى فَرِيقٌ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ , وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي :
الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ :
ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الشَّيْخُ الشرنبلالي , وَالْمَسِيرِيُّ , <102> وَصَاحِبُ الدُّرِّ الْمُنْتَقَى , وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيِّ .
وَقَالَ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : سَالِمٌ السَّنْهُورِيُّ , وَإِبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ , وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونُ , وَخَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ , وَابْنُ حَمْدُونٍ وَغَيْرُهُمْ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : نَجْمُ الدِّينِ الْغَزِّيِّ , وَالْقَلْيُوبِيُّ , وَابْنُ عَلَّانَ , وَغَيْرُهُمْ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبُهُوتِيُّ , وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ النَّجْدِيِّينَ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا مَنْ أَلَّفَ فِي تَحْرِيمِهِ كَاللَّقَانِيِّ وَالْقَلْيُوبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونِ , وَابْنِ عَلَّانَ . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ بِمَا يَأْتِي :
أَنَّ الدُّخَّانَ يُسْكِرُ فِي ابْتِدَاءِ تَعَاطِيهِ إسْكَارًا سَرِيعًا بِغَيْبَةٍ تَامَّةٍ , ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَطُولَ الْأَمَدُ جِدًّا , فَيَصِيرُ لَا يُحِسُّ بِهِ , لَكِنَّهُ يَجِدُ نَشْوَةً وَطَرَبًا أَحْسَنَ عِنْدَهُ مِنْ السُّكْرِ . أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْكَارِ : مُطْلَقُ الْمُغَطِّي لِلْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ , وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِمَنْ يَتَعَاطَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . وَهُوَ عَلَى هَذَا يَكُونُ نَجِسًا , وَيُحَدُّ شَارِبُهُ , وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ .
إنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُسْكِرُ , فَهُوَ يُحْدِثُ تَفْتِيرًا وَخَدْرًا لِشَارِبِهِ , فَيُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ , وَقَدْ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمُفَتِّرُ : مَا يُحْدِثُ الْفُتُورَ وَالْخِدْرَ فِي الْأَطْرَافِ وَصَيْرُورَتَهَا إلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ , وَيَكْفِي حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حُجَّةً , وَدَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ نَجِسًا وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ , وَيَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ كَالْكَثِيرِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ , إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا , وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ .
أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهِ الضَّرَرُ فِي الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ , فَهُوَ يُفْسِدُ الْقَلْبَ , وَيُضْعِفُ <103> الْقُوَى , وَيُغَيِّرُ اللَّوْنَ بِالصُّفْرَةِ , وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَكَاثُفِ دُخَّانِهِ فِي الْجَوْفِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ , كَالسُّعَالِ الْمُؤَدِّي لِمَرَضِ السُّلِّ , وَتَكْرَارُهُ يُسَوِّدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ , وَتَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحَرَارَةُ , فَتَكُونُ دَاءً مُزْمِنًا مُهْلِكًا , فَيَشْمَلُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَهُوَ يَسُدُّ مَجَارِيَ الْعُرُوقِ , فَيَتَعَطَّلُ وُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهَا إلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ , فَيَمُوتُ مُسْتَعْمِلُهُ فَجْأَةً .
ثُمَّ قَالُوا : وَالْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ مُضِرٌّ , قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : أَخْبَرَ بَعْضُ مُخَالِطِي الْإِنْكِلِيزِ أَنَّهُمْ مَا جَلَبُوا الدُّخَّانَ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ إجْمَاعِ أَطِبَّائِهِمْ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ مُلَازَمَتِهِ , وَأَمْرِهِمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَضُرُّ , لِتَشْرِيحِهِمْ رَجُلًا مَاتَ بِاحْتِرَاقِ كَبِدِهِ وَهُوَ مُلَازِمُهُ , فَوَجَدُوهُ سَارِيًا فِي عُرُوقِهِ وَعَصَبِهِ , وَمُسَوِّدًا مُخَّ عِظَامِهِ , وَقَلْبَهُ مِثْلَ إسْفَنْجَةٍ يَابِسَةٍ , فَمَنَعُوهُمْ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ , وَأَمَرُوهُمْ بِبَيْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِإِضْرَارِهِمْ . . . قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا هَذَا لَكَانَ بَاعِثًا لِلْعَقْلِ عَلَى اجْتِنَابِهِ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ , وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ , وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ , كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ } .
هَذَا وَفِي الْمَرَاجِعِ الْحَدِيثَةِ مَا يُثْبِتُ ضَرَرَ التَّدْخِينِ .
فِي التَّدْخِينِ إسْرَافٌ وَتَبْذِيرٌ وَضَيَاعٌ لِلْمَالِ , قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : لَوْ سُئِلَ الْفُقَهَاءُ - الَّذِينَ قَالُوا : السَّفَهُ الْمُوجِبُ لِلْحَجْرِ تَبْذِيرُ الْمَالِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ - عَنْ مُلَازِمِ اسْتِعْمَالِ الدُّخَّانِ , لَمَّا تَوَقَّفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَسَفَهِهِ , وَانْظُرْ إلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إضَاعَةِ الْأَمْوَالِ فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ , وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَفْسَدَهُ الدُّخَّانُ عَلَى الْمُتَرَفِّهِينَ بِهِ , وَسَمَاحَةِ أَنْفُسِهِمْ بِدَفْعِهَا لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ أَعْدَاءِ الدِّينِ , <104> وَمَنْعِهَا مِنْ الْإِعَانَةِ بِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَسَدِّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ .
صَدَرَ أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ مِنْ الْخَلِيفَةِ الْعُثْمَانِيِّ فِي وَقْتِهِ - بِنَاءً عَلَى فَتَاوَى عُلَمَاءِ عَصْرِهِ - بِمَنْعِ اسْتِعْمَالِ الدُّخَّانِ وَمُعَاقَبَةِ شَارِبِيهِ , وَحَرْقِ مَا وُجِدَ مِنْهُ . فَيُعْتَبَرُ مِنْ وُجُوهِ تَحْرِيمِهِ : الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ , فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجِبٌ فِي غَيْرِ مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَمُخَالَفَتُهُ مُحَرَّمَةٌ .
وَرَائِحَةُ الدُّخَّانِ مُنْتِنَةٌ مُؤْذِيَةٌ , وَكُلُّ رَائِحَةٍ مُؤْذِيَةٍ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ , وَالدُّخَّانُ أَشَدُّ مِنْ الْبَصَلِ وَالثُّومِ فِي الرَّائِحَةِ , وَقَدْ وَرَدَ مَنْعُ مَنْ تَنَاوَلَهُمَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ , وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ , وَالْبَصَلُ وَالثُّومُ رِيحُهُمَا مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ مُنْتِنًا , وَالدُّخَّانُ رِيحُهُ مُنْتِنٌ .
مَنْ زَعَمَ اسْتِعْمَالَهُ تَدَاوِيًا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتِعْمَالَ الْأَدْوِيَةِ , وَخَرَجَ بِهِ إلَى حَدِّ التَّفَكُّهِ وَالتَّلَذُّذِ , وَادَّعَى التَّدَاوِيَ تَلْبِيسًا وَتَسَتُّرًا حَتَّى وَصَلَ بِهِ إلَى أَغْرَاضٍ بَاطِنَةٍ مِنْ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ وَالْإِسْطَالِ , وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حُرْمَتُهُ , وَعَرَّفُوا الْعَبَثَ : بِأَنَّهُ فِعْلٌ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ , وَالسَّفَهُ : بِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا غَرَضَ فِيهِ أَصْلًا وَاللَّعِبُ : فِعْلٌ فِيهِ لَذَّةٌ . وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِحُرْمَةِ الْعَبَثِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ صَاحِبُ كِتَابِ الِاحْتِسَابِ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } وَصَاحِبُ الْكَافِي مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَةُ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ , وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ , وَمُلَاعَبَتُهُ امْرَأَتَهُ , فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } .
الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ :
ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ , وَقَدْ أَلَّفَ فِي إبَاحَتِهِ رِسَالَةً سَمَّاهَا ( الصُّلْحُ بَيْنَ الْإِخْوَانِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ ) وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ , وَابْنُ عَابِدِينَ , وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْعَبَّاسِيُّ الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ , وَالْحَمَوِيُّ شَارِحُ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ , وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي إبَاحَتِهِ سَمَّاهَا ( غَايَةُ الْبَيَانِ لِحِلِّ شُرْبِ مَا لَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ مِنْ الدُّخَّانِ ) <105> وَنَقَلَ فِيهَا الْإِفْتَاءَ بِحِلِّهِ عَمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , وَتَابَعَهُ عَلَى الْحِلِّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَمِنْهُمْ : الدُّسُوقِيُّ , وَالصَّاوِيُّ , وَالْأَمِيرُ , وَصَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : الْحِفْنِيُّ , وَالْحَلَبِيُّ , وَالرَّشِيدِيُّ , والشبراملسي , وَالْبَابِلِيُّ , وَعَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْحُسَيْنِيُّ الطَّبَرِيُّ الْمَكِّيُّ , وَلَهُ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا ( رَفْعُ الِاشْتِبَاكِ عَنْ تَنَاوُلِ التُّنْبَاكِ ) .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : الْكَرْمِيُّ صَاحِبُ دَلِيلِ الطَّالِبِ , وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي ذَلِكَ سَمَّاهَا ( الْبُرْهَانُ فِي شَأْنِ شُرْبِ الدُّخَّانِ ) .
كَذَلِكَ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بِإِبَاحَتِهِ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ بِمَا يَأْتِي :
نَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إسْكَارُهُ وَلَا تَخْدِيرُهُ , وَلَا إضْرَارُهُ ( عِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ ) وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ بَعْدَ اشْتِهَارِهِ , وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهِ , فَدَعْوَى أَنَّهُ يُسْكِرُ أَوْ يُخَدِّرُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ , فَإِنَّ الْإِسْكَارَ غَيْبُوبَةُ الْعَقْلِ مَعَ حَرَكَةِ الْأَعْضَاءِ , وَالتَّخْدِيرُ غَيْبُوبَةُ الْعَقْلِ مَعَ فُتُورِ الْأَعْضَاءِ , وَكِلَاهُمَا لَا يَحْصُلُ لِشَارِبِهِ . نَعَمْ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ يَحْصُلُ لَهُ إذَا شَرِبَهُ نَوْعُ غَشَيَانٍ . وَهَذَا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ . كَذَا قَالَ الشَّيْخُ حَسَنٌ الشَّطِّيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ : الْفُتُورُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمُبْتَدِئِ شُرْبِهِ لَيْسَ مِنْ تَغْيِيبِ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ , وَإِنْ سَلِمَ أَنَّهُ مِمَّا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَلَيْسَ مِنْ الْمُسْكِرِ قَطْعًا , لِأَنَّ الْمُسْكِرَ يَكُونُ مَعَهُ نَشْوَةٌ وَفَرَحٌ , وَالدُّخَّانُ لَيْسَ كَذَلِكَ , وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَنْ لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ , وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ , وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ , فَقَدْ يُغَيِّبُ عَقْلَ شَخْصٍ وَلَا يُغَيِّبُ عَقْلَ آخَرَ , وَقَدْ يُغَيِّبُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ .
الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّحْرِيمِ , فَيَكُونُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُبَاحًا , جَرْيًا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَعُمُومَاتِهِ , الَّتِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا حَيْثُ كَانَ حَادِثًا غَيْرَ مَوْجُودٍ زَمَنَ الشَّارِعِ , وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ بِخُصُوصِهِ , وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ , فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ , وَلَيْسَ <106> الِاحْتِيَاطُ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ الْكَرَاهَةِ اللَّذَيْنِ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ دَلِيلٍ , بَلْ فِي الْقَوْلِ بِالْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ , وَقَدْ تَوَقَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أُمِّ الْخَبَائِثِ - حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ , فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إذَا سُئِلَ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مُبَاحٌ , لَكِنَّ رَائِحَتَهُ تَسْتَكْرِهُهَا الطِّبَاعُ , فَهُوَ مَكْرُوهٌ طَبْعًا لَا شَرْعًا .
نَّ فَرْضَ إضْرَارِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ فَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ لَا لِذَاتِهِ , وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ دُونَ غَيْرِهِ , وَلَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ , فَإِنَّ الْعَسَلَ يَضُرُّ بَعْضَ النَّاسِ , وَرُبَّمَا أَمْرَضَهُمْ , مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ .
صَرْفُ الْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَرَفٍ , لِأَنَّ الْإِسْرَافَ هُوَ التَّبْذِيرُ , وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّبْذِيرَ بِأَنَّهُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ , فَإِذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِسَرَفٍ , وَدَعْوَى أَنَّهُ إسْرَافٌ فَهَذَا غَيْرُ خَاصٍّ بِالدُّخَّانِ .
اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ بِلَا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ بَاطِلٌ , إذْ لَيْسَ الصَّلَاحُ بِتَحْرِيمِهِ , وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ وَالدِّينُ الْمُحَافَظَةُ بِالِاتِّبَاعِ لِلْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ بِلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ , وَهَلْ الطَّعْنُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ , وَالْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ وَالطُّغْيَانِ بِسَبَبِ شُرْبِهِمْ الدُّخَّانَ , وَفِي الْعَامَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَضْلًا عَنْ الْخَاصَّةِ , صَلَاحٌ أَمْ فَسَادٌ ؟
حَرَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ أَفْتَى بِحُرْمَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ , لِأَنَّ فَتْوَاهُمْ إنْ كَانَتْ عَنْ اجْتِهَادٍ فَاجْتِهَادُهُمْ لَيْسَ بِثَابِتٍ , لِعَدَمِ تَوَافُرِ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنْ كَانَتْ عَنْ تَقْلِيدٍ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ , فَلَيْسَ بِثَابِتٍ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ الْفَتْوَى وَكَيْفَ يَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ ؟ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْحَقُّ فِي إفْتَاءِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْأُصُولِ , وَوَصَفَهُمَا بِأَنَّهُمَا نَافِعَانِ فِي الشَّرْعِ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ : الْإِبَاحَةُ , وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ : التَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } . <107>
ثُمَّ قَالَ : وَبِالْجُمْلَةِ إنْ ثَبَتَ فِي هَذَا الدُّخَّانِ إضْرَارٌ صَرَفَ عَنْ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ , وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إضْرَارُهُ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ . مَعَ أَنَّ الْإِفْتَاءَ بِحِلِّهِ فِيهِ دَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُبْتَلَوْنَ بِتَنَاوُلِهِ , فَتَحْلِيلُهُ أَيْسَرُ مِنْ تَحْرِيمِهِ , فَإِثْبَاتُ حُرْمَتِهِ أَمْرٌ عَسِيرٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ نَصِيرٌ . نَعَمْ لَوْ أَضَرَّ بِبَعْضِ الطَّبَائِعِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ , وَلَوْ نَفَعَ بِبَعْضٍ وَقُصِدَ التَّدَاوِي فَهُوَ مَرْغُوبٌ .
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : كَذَا أَجَابَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ حَيْدَرٍ الْكَرْدِيُّ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ : مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُخْتَارِهِ , فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَغَبًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَحِيرَةً فِي دِينِهِمْ , إذْ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ لِأَمْرٍ مَا أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى إنْكَارِهِ .
الْقَائِلُونَ بِالْكَرَاهَةِ وَأَدِلَّتُهُمْ :
ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : ابْنُ عَابِدِينَ , وَأَبُو السُّعُودِ , وَاللَّكْنَوِيُّ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : الشَّيْخُ يُوسُفُ الصَّفْتِيُّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : الشِّرْوَانِيُّ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : الْبُهُوتِيُّ , وَالرَّحِيبَانِيُّ , وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْقُورُ التَّمِيمِيُّ .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي :
كَرَاهَةُ رَائِحَتِهِ , فَيُكْرَهُ قِيَاسًا عَلَى الْبَصَلِ النِّيءِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاتِ وَنَحْوِهَا .
عَدَمُ ثُبُوتِ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ , فَهِيَ تُورِثُ الشَّكَّ , وَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ , فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا أَوْرَدَهُ الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ
حُكْمُ بَيْعِ الدُّخَّانِ وَزِرَاعَتِهِ :
كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلدُّخَّانِ هُوَ فِي بَيَانِ حُكْمِ شُرْبِهِ , هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ , وَكَانَ التَّعَرُّضُ لِبَيَانِ حُكْمِ بَيْعِهِ أَوْ زِرَاعَتِهِ قَلِيلًا .
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ : إنَّ الَّذِينَ حَرَّمُوهُ يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُرْمَةَ بَيْعِهِ وَزِرَاعَتِهِ , وَاَلَّذِينَ أَبَاحُوهُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ وَزِرَاعَتُهُ . يَقُولُ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : الْحَاصِلُ أَنَّ الدُّخَّانَ فِي شُرْبِهِ خِلَافٌ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ , فَالْوَرَعُ عَدَمُ شُرْبِهِ , وَبَيْعُهُ وَسِيلَةً لِشُرْبِهِ , فَيُعْطَى حُكْمَهُ .
وَنُورِدُ فِيمَا يَلِي مَا أَمْكَنَ الْعُثُورُ عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ :
مِنْ الْحَنَفِيَّةِ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ <110> الشرنبلالي : أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الدُّخَّانِ , وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ , ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : مَا يُفِيدُ جَوَازَ زِرَاعَتِهِ وَبَيْعِهِ , فَقَدْ سُئِلَ فِي الدُّخَّانِ الَّذِي يُشْرَبُ فِي الْقَصَبَةِ , وَاَلَّذِي يُسْتَنْشَقُ بِهِ , هَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمَوَّلٌ ؟ فَإِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ أَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ , أَوْ كَيْفَ الْحَالُ ؟ .
فَأَجَابَ : نَعَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمَوَّلٌ , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَنْ اخْتَلَّتْ طَبِيعَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَصَارَ لَهُ كَالدَّوَاءِ , فَكُلٌّ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا مِنْ الْعِلَلِ , وَلَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُتَشَرِّعٌ فِي أَنَّهَا مُتَمَوَّلَةٌ , فَكَذَلِكَ هَذَانِ , كَيْفَ وَالِانْتِفَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنَافُسُ حَاصِلَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ .
فَإِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ أَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ , وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِجَوَازِ بَيْعِ مُغَيِّبِ الْعَقْلِ بِلَا نَشْوَةٍ , لِمَنْ يَسْتَعْمِلُ مِنْهُ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ , وَاسْتَظْهَرَ فَتْوَاهُ سَيِّدِي إبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ .
كَذَلِكَ سُئِلَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : عَنْ رَجُلٍ تَعَدَّى عَلَى بَصَلٍ لِآخَرَ أَوْ جَزَرٍ أَوْ خَسٍّ أَوْ دُخَّانٍ أَوْ مُطْلَقِ زَرْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ , فَمَاذَا يَلْزَمُهُ ؟ وَهَلْ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْحَصَادِ , أَوْ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ ؟ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَمَا الْحُكْمُ ؟ فَأَجَابَ : إنْ تَعَدَّى عَلَى الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أُغْرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعَدِّي عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ , وَإِنْ تَأَخَّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ حَتَّى رَجَعَ الزَّرْعُ لِحَالِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْقِيمَةُ وَيُؤَدَّبُ الْمُفْسِدُ , وَإِنْ تَعَدَّى بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أُغْرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعَدِّي عَلَى الْبَتِّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشبراملسي عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : يَصِحُّ بَيْعُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِنَا , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ أَيْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ مَا مُلَخَّصُهُ جَوَازُ بَيْعِهِ . لِلْخِلَافِ فِي حُرْمَتِهِ وَلِانْتِفَاعِ بَعْضِ النَّاسِ بِهِ . كَمَا إذَا كَانَ يُعْلَمُ الضَّرَرُ بِتَرْكِهِ , وَحِينَئِذٍ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ , لَكِنْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِ قِيَاسًا . قَالَ : السُّمُّ مِنْ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتِ , إنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ , أَوْ كَانَ يَقْتُلُ قَلِيلُهُ , لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ , وَإِنْ اُنْتُفِعَ بِهِ وَأَمْكَنَ التَّدَاوِي بِيَسِيرِهِ جَازَ بَيْعُهُ , لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ الْمُبَاحِ .
<111> حُكْمُ الدُّخَّانِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ :
صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الدُّخَّانِ . قَالَ الدَّرْدِيرُ : مِنْ الطَّاهِرِ الْجَمَادِ , وَيَشْمَلُ النَّبَاتَ بِأَنْوَاعِهِ , قَالَ الصَّاوِيُّ : وَمِنْ ذَلِكَ الدُّخَّانُ وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ قَالَ الشبراملسي فِي الْحَاشِيَةِ : يَصِحُّ بَيْعُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِنَا , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ . وَوَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ وَحَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ وَحَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الْأَرْبَعِينَ : " قَاعِدَةُ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ "
( تَنْبِيهٌ )
تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : الْحَدِّ , وَالتَّنْجِيسِ , وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ . وَالْمُرَقِّدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا نَجَاسَةَ , فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ مَعَهُ أَوْ الْأَفْيُونِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا . هَذَا وَبَعْضُ مَنْ حَرَّمَ الدُّخَّانَ وَعَلَّلَ حُرْمَتَهُ بِالْإِسْكَارِ فَهِيَ عِنْدَهُ نَجِسَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ , إلَّا أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّخَّانَ طَاهِرٌ , فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : الْأَشْرِبَةُ الْجَامِدَةُ كَالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لَمْ نَرَ أَحَدًا قَالَ بِنَجَاسَتِهَا , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُرْمَةِ نَجَاسَتُهُ , كَالسُّمِّ الْقَاتِلِ , فَإِنَّهُ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ .
كَذَلِكَ لَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ , إلَّا أَنَّهُ جَاءَ فِي نِيلِ الْمَآرِبِ : الْمُسْكِرُ غَيْرُ الْمَائِعِ طَاهِرٌ .
تَفْطِيرُ الصَّائِمِ بِشُرْبِ الدُّخَّانِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ يُفْسِدُ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ , كَذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لَوْ أُدْخِلَ الدُّخَّانُ حَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ شُرْبٍ , بَلْ بِاسْتِنْشَاقٍ لَهُ عَمْدًا , أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَى حَلْقِهِ بِدُونِ قَصْدٍ , كَأَنْ كَانَ يُخَالِطُ مَنْ يَشْرَبُهُ فَدَخَلَ الدُّخَانُ حَلْقَهُ دُونَ قَصْدٍ , فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ , إذَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِزَازُ مِنْ ذَلِكَ .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ , إذْ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ تَكُونُ بِالْجِمَاعِ فَقَطْ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ .
وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِمَضْغِ الدُّخَّانِ أَوْ <112> نُشُوقِهِ , لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْيِيفِ , وَيَصِلُ طَعْمُهُ لِلْحَلْقِ , وَيَتَكَيَّفُ بِهِ الدِّمَاغُ مِثْلُ تَكَيُّفِهِ بِالدُّخَّانِ الَّذِي يُمَصُّ بِالْعُودِ .
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ , وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَاهُ .
حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَنْعِ زَوْجَتِهِ مِنْ شُرْبِ الدُّخَّانِ :
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ , كَالْبَصَلِ وَالثُّومِ , وَمِنْ ذَلِكَ شُرْبُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ , لِأَنَّ رَائِحَتَهُ تَمْنَعُ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ , خُصُوصًا إذَا كَانَ الزَّوْجُ لَا يَشْرَبُهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ .
التَّبَغُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ :
يَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ إنْ اعْتَادَتْ شُرْبَ الدُّخَّانِ تَفَكُّهًا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ تَوْفِيرُهُ لَهَا ضِمْنَ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الدَّوَاءِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ التَّفَكُّهِ , فَكُلٌّ مِنْ الدَّوَاءِ وَالتَّفَكُّهِ لَا يَلْزَمُهُ .
وَلَمْ يُصَرِّحْ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ , إلَّا أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الدَّوَاءَ وَالتَّفَكُّهَ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ .
حُكْمُ التَّدَاوِي بِالتَّبَغِ :
مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُحَرَّمَةَ النَّجِسَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا كَالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا .
أَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ .
فَمَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ الدُّخَّانِ وَأَنَّهُ يُسْكِرُ كَالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّدَاوِي بِهِ .
لَكِنَّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ طَاهِرٌ وَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ , كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِهِمْ . وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُ التَّدَاوِي بِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ الْمَالِكِيُّ : الدُّخَانُ مُتَمَوَّلٌ , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَنْ اخْتَلَّتْ <113> طَبِيعَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَصَارَ لَهُ كَالدَّوَاءِ , فَهُوَ كَسَائِرِ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا مِنْ الْعِلَلِ .
إمَامَةُ شَارِبِ الدُّخَّانِ :
قَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الشَّيْخِ الْعِمَادِيِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَعْرُوفِ بِأَكْلِ الرِّبَا , أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , أَوْ يُدَاوِمُ الْإِصْرَارَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ , كَالدُّخَّانِ الْمُبْتَدَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
راجع الموسوعة الفقهية الكويتية
التِّنْباك والمُسَمّى بـ (الدُّخَان ) : من المُحْدَثات في آخر هذا الزمان ، وقد أَرَّخ حدوثه جماعة ، ومنهم : أبو الحسن المصري الحنفي رحمه الله ، حيث نقل عنه ابن المنقور في : (( الفواكه العديدة )) ( 2/80 ) أنه قال : " وكان حدوثه في حدود الألف ، وأول خروجه بأرض اليهود والنصارى والمجوس ، وأتى به رجل يـهودي يزعم أنه حكيم إلى أرض المغرب ، ودعا الناس إليه. وأول من جلبه إلى البر الرومي رجل اسمه : (الأتكلين) من النصارى . وأول من أخرجه ببلاد السودان المجوس ، ثم جُلب إلى مصر والحجاز وسائر الأقطار " ا .هـ .
ونظم البكري رحمه الله تأريخ حدوثه بقوله :
قال خِلىِّ عن الدخان أجبـني هل لـه فـي كتـابنا إيـماءُ
قلت ما فَرّط الكتاب بشـيء ثم أرَّختُ (يوم تأتي السـماء)
والمعنى أن تأريخ حدوثه سنة (999 هـ) تسعمئة وتسعة وتسعين .
ومن ثَمَّ لم يأت في ( التنباك ) وما إليه : نص صريح في الكتاب والسنة. قال علوي بن أحمد السقاف رحمه الله في كتابه المسمى بـ (( قمع الشهوة عن تناول التنباك والكفتة والقات والقهوة )) في أوله : " اعلم أيدني الله وإياك بنوره أن حكم استعمال التنباك حِلاّ وحُرْمة لم يَرِد فيه بخصوصه نصّ صريح لا من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله r " ا.هـ . لذا وقع الخلاف في حكمه ، وكثر الكلام في شأنه . قال العلامة مرعي الكرمي- صاحب : ((دليل الطالب)) ـ رحمه الله في أول كتابه المسمى بـ (( تحقيق البرهان في شأن الدخان الذي يشربه الناس الآن )) : " ولقد خاض في أمره العالم والجاهل ، وصُنِّفت في شأنه تصانيف الرسائل " ا .هـ .
q وحاصل خلافهم ثلاثة مذاهب ، وهي :
أولاً : مذهب الإباحة والجواز . وبه قال جماعة ، ومنهم : عبد الغني النابلسي رحمه الله في كتابه : (( الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان )) ، ونور الدين الأجهوري رحمه الله في كتابه : (( غاية البيان لحل شرب ما لا يُغيِّب العقل من الدخان )) ، وسلامة الراضي الشاذلي رحمه الله في كتابه : (( الإعلان بعدم تحريم الدخان )) ، وابنه محمود بن سلامة رحمه الله في كتابه : (( تأييد الإعلان بعدم تحريم الدخـان )) ، وأبو الحسنات اللكنوي رحمه الله في كتـابه : (( تَرْوِيْح الجَنَان بتشريح حكم شارب الدخان )) ، وأبو الفا العرضي رحمه الله في كتابه : (( حكم استعمال الدخان )) ، والأمير الصنعاني محمد بن إسماعيل رحمه الله - صاحب : (( سبل السلام )) - في كتابه : (( الإدراك لضعف الأدلة في تحريم التنباك )) ، وأحمدكوكب زاده رحمه الله في كتابه : (( رسالة في الرد على من حَرّم الدخان )) ، وعبد السلام النابلسي رحمه الله في كتابه: (( السيف الماضي في رقبة فلان القاضي )) ، وغيرهم كثير.
وانتصر الشوكاني رحمه الله لهذا القول ، وذكر أدلته بقوله - كما في : ((إرشاد السائل إلى دلائل المسائل)) (ص 50 ـ 51) ضمن مجموعة : ( الرسائل السلفية ) - : " الأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال ، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر والسم القاتل وما فيه ضرر عاجل وآجل كالتراب ونحوه . وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحاباً بالبراءة الأصلية ، وتمسكاً بالأدلة العامة ، كقوله تعالى:(خلق لكم ما في الأرض جميعاً) [البقرة:29]، قال تعالى : (قلْ لا أجدُ فيما أُوحى إلي محرماً) [الأنعام:145]" . ثم قال رحمه الله : " إذا تقرر هذا علمت أن هذه الشجرة التي سماها بعض الناس (التنباك)، وبعضهم : (التوتون) : لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات ، ولا من السموم ، ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً . فمن زعم أنـها حرام : فعليه الدليل ، ولا يفيد مُجَرَّد القال والقيل . وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى :(ويُحلُّ لهم الطَّيبات ويُحرّم عليهمُ الخبائثَ) [الأعراف:157] وأدرج هذه الشجرة تحت (الخبائث) بمسلك من مسالك العِلَّة المدونة في الأصول ، وقد غلط في ذلك غلطاً بيِّناً : فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النـزاع، والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شَوْب مصادرة على المطلوب ، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل ، فإن من يستعملها هي عنده من الطيبـات لا من المستخبثات ".
ثم قال : " ومن أنصف من نفسه وجد كثيراً من الأمور التي أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها ، أو كانت حلالاً بالبراءة الأصلية ، وعموم الأدلة في هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مُجَرّد استخباث البعض مقضياً تحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره : لكان العمل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات ؛ لأن في الناس من يستخبث ذلك ويَعَافُه . واللازم باطل فالملزوم مثله . فَتَقَرَّر بـهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه غلط أو مغالطة " ا . هـ .
ثانياً : مذهب الكراهة دون تحريم . وبه قال جماعة ، قَرّره في : ((حاشية ابن عابدين)) (5/296) ، و((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص/364) وهو مُقْتضى قواعد المذاهب الأربعة على ما قرَّره العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : ((تحقيق البرهان))(ص104-106) بقوله : " اعلم أن الأقرب فيه والصَّواب - كما تقتضيه قواعد المذهب المُقَرَّرة سيما المذاهب الأربعة - أن يقال فيه: إن شرب الدخان على وجه لا يَشِين - بقَطْع النظر عن عوارضه اللاحقة له من تَرَتّب المفاسد ونحوها - يَقْرُب من الكراهة التنـزيهية " ا .هـ .
وانتصر لهذا المذهب العلامة مرعي الكرمي رحمه الله وذكر أدلته بقوله
- كما في : ((تحقيق البرهان)) (ص106 وما بعدها ) - : " لوجهين ؛ أحدهما : قياساً على أكل البصل والثوم ، بجامع الرائحة الكريـهة ، وصوناً للعاقل من تَعَاطي العبث ، وما لا فائدة فيه . روى أبو أيوب - رضي الله عنه - أن النبي r بعث إليه بطعام ، فلم يأكل منه النبي r فذكر له ذلك ، فقال له النبي r : (( فيه الثوم )) فقال : يا رسول الله أحرام هو ؟ قال : (( لا ، ولكني أكرهه من أجل رائحته )) .قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقد نَصّ الأئمة - كما في ((المغني)) - على كراهة أكل البصل والثوم والكراث والفجل وكل ذي رائحة كريـهة ، سواء أراد دخول المسجد أم لم يُرِد ؛ لأن النبي r قال : (( إن الملائكة تَتَأذَّى مما يتأذَّى منه الإنسان )) رواه ابن ماجه . وروَى الترمذي أيضاً وصححه أن النبي r قال : ((من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا )) وفي روايـة : (( فلا يقربَنا في مسجدنا )) . قالوا : والحكمة في النهي لئلا يُؤْذي الناس برائحته ، بل روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه يأثم إن أتى المسجد ؛ لأن ظاهر النهي التحريم ؛ ولأن أذى المسلمين حرام ، وهذا فيه أذاهم . وهذه العلة على القول بالكراهة - وهو الأصح - و التحريم موجودة في الدخان بعَيْنه ، بل هو أفحش رائحة . الثاني : لما في شربه من التشبه بأهل النار . قال ابن عباس وابن عمر وزيد - رضي الله عنهم - في قوله تعالى : (فارْتَقبْ يومَ تأتي السَّماءُ بِدُخَان مُّبين) [الدخان:10] : هو دخان قبل قيام الساعة ، يدخل في أسماع الكفار والمنافقين ، ويَعْتري المؤمنين منه كهيئة الزكام . وفي حديث حذيفة أن النبي r قال : (( إن من أشراط الساعة دخاناً يملأ ما بين السماء والأرض ، والمشرق والمغرب ، يمكث في الأرض أربعين يوماً ، فأما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام ، وأما الكافر فيكون بمنـزلة السكران ، يخرج الدخان من منخريه وعينيه وأذنيه ودبره )) . وفي بعض تعاليق العلامة ابن تيمية : إن النبي r رأى على رجل خاتماً من حديد ، فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النار . وقد وصف الله أهل النار أن في أعناقهم الأغلال. فالتشبه بأهل النار من المنكرات المكروهة ؛ لأن المكروه مما يُنْكَر ، بدليل أنه لما طوَّل معاذ صلاته قال النبي r : (( أفتان أنت يا معاذ )) أي: مُنَفِّر عن الدين . قال الأئمة : ففي هذا الحديث إنكار المكروه ، وهو محل وفاق . وقال الإمام أحمد: أكره خاتم الحديد ؛ لأنه حلية أهل النار .
قلت - القائل مرعي - : فعلى هذا إن كراهة شربه مما يكاد يُجْزَم بها، وإنما تجاسرنا على القول بالكراهة للعلتين السابقتين - أعني : الرائحة الكريهة والتشبه بأهل النار - ، ولم نتجاسر على القول بالتحريم مطلقاً والجزم به : خوفاً من الله تعالى ، وحياء من رسول الله r ؛ خشية أن نُحرِّم في شريعته ما ليس بحرام " . ثم قال : " والعجب ممن يجزم بالتحريم ، فلا يكمل بنظر . ونحن لم نصل للقول بالكراهة إلا بعناية ، ومزيد تعب " . وقال : " وبالجملة: فلا دليل ولا قياس يقتضي التحريم على إطلاق" انتهى المراد من كلامه رحمه الله .
ثالثاً : مذهب التحريم . وبه قال جماعة . ومنهم : محمد الجمالي المغربي في كتابه : ((تنبيه الغفْلان في منع شرب الدخان)) ، وعبد الملك العصامي رحمه الله في كتابه : ((رسالة في تحريم الدخان )) ، وسليمان الفلاتي رحمه الله في كتابه : ((غاية الكشف والبيان في تحريم شرب الدخان)) ، ومحمد بن سليمان المالكي رحمه الله في كتابه : ((الأدلة الحسان في بيان تحريم شرب الدخان)) ، ومحمد الطرابيشي -رحمه الله- في كتابه: ((منظومة عقود الجواهر الحسان في بيان حرمة التبغ المشهور بالدخان)) ، وإبراهيم الواعظ رحمه الله في كتابه : ((رسالة في تحريم الدخان)) ، وأبو سهل محمد الواعظ رحمه الله في كتابه : ((رسالة في تحريم التنباك بالظن ظَنَّاً وكراهته بالقطع قطعاً)) ، والعلامة محمد بن علي بن عَلاّن الصديقي رحمه الله - شارح : ((الأذكار)) و ((رياض الصالحين )) ـ في كتابه : ((تحفة ذوي الإدراك في المنع من التنباك )) ، ومحمد السوسي المغربي رحمه الله في كتابه: ((كشف الغسق عن قلب الفتى في التنبيه على تحريم دخان الورق)). قال علوي السقاف رحمه الله في : ((قمع الشهوة)) (ص136) : "وغيرهم ممن لا يُحْصَون كثرة " ا.هـ.
ونصر هذا المذهب وذكر أدلته غير واحد ، ومنهم : محمد العيني رحمه الله ، حيث ذكر عنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ذلك في كتابه : ((فتوى في حكم شرب الدخان)) (ص3) : " فممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية : الشيخ محمد العيني ، ذكر في رسالته : تحريم التدخين من أربعة أوجه ، أحدها : كونه مُضرَّاً بالصحة ، بإخبار الأطباء المعتبرين . وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقاً . ثانيها : كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم ، المنهي عن استعمالها شرعاً … وهو مُفَتِّر باتفاق الأطباء ، وكلامهم حجة في ذلك وأمثاله ، باتفاق الفقهاء سلفاً وخلفاً . ثالثهاً : كون رائحته كريـهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه ، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها ، بل وتؤذي الملائكة المكرمين . رابعها : كونه سرفاً ؛ إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر ، بل فيه الضرر المُحقَّق بإخبار أهل الخبرة " ا.هـ .
وقد نظم ذلك محمد الطرابيشي رحمه الله في أول منظومته : ((عقود الجواهر الحسان)) - كما في: ((أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء)) للطباخ - ، حيث قال:
اعلم بأن حرمة الدخان***قال بـها جمع من الأعيان
إليهم يـهرع في الأنام***عليهم التعويل في الأحكام
حجتهم في تلك أصل مقتدى***في الشرع معلوماً ضرورياً غدا
وذاك كل ما أضر يحرم**والتبغ ضرار كما ستعلم
تلك مذاهب ثلاثة في التنباك ، وثمة مذهبان حكاهما بعضٌ ؛
ـ أولهما : ما ذكره علوي السقاف رحمه الله في : ((قمع الشهوة)) (ص136) بقوله : "من لم ير إطلاق القول بتحريم استعمال التنباك أو تحليله؛ لأنه يرى أن المقام مقام تفصيل ، والقاعدة : أن الإطلاق للحكم في مقام التفصيل خطأ، فيرى أن جميع الأحكام الشرعية الخمسة : الحرمة والكراهة والوجوب والندب والإباحة -تجري في مسألة استعمال التنباك - بحسب المقتضيات الوضعية الشرعية ، وذلك لما هو مقرر في الأصول أن لله عز وجل في كل فعل يفعله المكلف حكمين ، حكم تكليفي - وهو أحد الخمسة المذكورة - ، وحكم وضعي - أي : وضعه الشارع مُعَرِّفاً لتلك الأحكام من الأسباب والشروط والموانع - . قال صاحب هذا المذهب : ولم يثبت لهذا النبات الذي هو التنباك وصف ذاتي ولا أغلبي من الضرر البَيِّن في البدن كالسم ، ولا الضرر في العقل كالخمر والبنج والحشيشة حتى يدار عليه الأمر، ويحكم بقضية ذلك ، فلا بدع أن تجري الأحكام الخمسة التكليفية ، لكن لا سبيل إلى الجزم بحكم منها إلا بعد تحقق حكم ذلك الوضعي" ا.هـ.
ـ والثاني : مذهب التوقّف ومن الذاهبين هذا المذهب : أحمد بن علي السالمي رحمه الله في كتابه : ((عشبة الدخان)) - كما في : ((الأعلام))(2/105) للمراكشي - ، وذلك لتعارض الأدلة .
والخلاف في الدخان جارٍ إلى وقتنا هذا ، لكنه انحصر - في الجملة - في التحريم والكراهة ، فممن قال بالكراهة : ((الموسوعة الفقهية)) (ص54)، حيث جاء فيها ما نصه : "والخلاصة أن الدخان يحرم إذا ثبت ضرره لبعض الناس في العقل أو البدن ، أو كان شاربه مضطراً إلى صرف ثمنه في حاجاته وحاجات عياله الأساسية ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ؛ لأن رائحته كريهة ؛ ولأنه لا يخلو أبداً من نوع ضرر، ولا سيما الإكثار منه، فإن ضرره الصحي والمالي محقق ، والقليل منه يجر إلى الكثير" ا.هـ .
وبالتحريم جزم الأكثر ، كذا قيل ولَعَلَّه كذلك ، واستقراء المجامع الفقهية، ودُوْر الفتوى : يُنْبأ عن ذلك .
هذا وقد اشتهر خطر الدخان ، وبان ضرره ، حتى قَرَّر أعلامٌ وثقاتٌ عن أرباب الصِّحَّة والاختصاص : أن ضرره مُتَيَقَّن على عموم : (العقل) و(البدن) … ومثل ذلك لا يَسْتريب ذو علم وإنصاف في تحريمه وعدم جوازه ، ويَتْبع ذلك بيعه وشراؤه ، ويكفي في ذلك شيئان :-
ـ أولهما : ما أخرجه الإمام أحمد في ((المسند)) وابن ماجه في ((السنن)) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله r : (( لا ضرر ولا ضرار )) . قال المناوي رحمه الله في : ((فيض القدير)) (6/432) : " والحديث حَسّنه النووي في (( الأربعين )) قال : ورواه مالك مرسلاً،وله طرق يُقوِّى بعضها بعضاً . وقال العلائي : للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحّة أو الحسن المُحْتَجّ به " ا.هـ.
ـ والثاني : ما أخرجه البخاري ومسلم في ((صحيحهما)) من حديث المغيرة بن شعبة قال : (( نـهى الرسول r عن إضاعة المال )) .
تنبيـه :
قال العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : ((تحقيق البرهان)) (ص147): " تنبيه : يلزم على دعوى التحريم : عدم صحة بيع ما منه الدخان ، إن لم يكن في جهته نفع أخرى ؛ لأنه لا يَصِح إيراد العقد على ما لا منفعة فيه ، أو فيه منفعة لكنها محرمة . فإن كان فيها جهة نفعِ أخرى : صَحّ بيعه بلا نزاع " ا.هـ.
وَصْلٌ :
تعاطي بعض الفقهاء وأولي العلم لـ (التنباك) وما إليه : كان مشهوراً إلى زمن قريب ، ويشير إليه العلامة محمد الحامد رحمه الله - كما في ((ردود على أباطيل)) (ص647) - بقوله : " ولو أن الفقهاء الأحياء أفتوا بتحريمه، وفطموا أنفسهم عنه ، ونـهوا الناس عن تعاطيه : لكانوا الأسوة الحسنة ، ولأفلح الناس بهم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ا.هـ.
وممن كان يتعاطى الدخان بِشَرَهٍ الشيخ علي الأجهوري رحمه الله كما في: ((الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعدين)) (1/256) . وممن بلغنا خبره في الحجاز العلامة المُسْنِد الفاداني رحمه الله ، وقد كان من علماء الحرم المكي، والمجاورين له ! ، وغيره . وقد كان أهل الحجاز لا يستخبثون الدخان وما إليه ، قال العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : ((تحقيق البرهان)) (ص132) : "هذا ، وأهل الحجاز - سيما أهل مكة المشرفة - لا يستخبثونه " ا.هـ.
لكن استقر الشأن في الحجاز ونجد وما إليهما - ولله الحمد - على تحريمه ومنعه ، بل تُسْقَط به العدالة في ( المحاكم الشرعية ) ، ولا يكاد يفعله إلا السَّفَلة .
فائدة :
قال علوي السقاف رحمه الله في : ((قمع الشهوة)) (ص 137) : " أشار الحافظ في : ((الفتح)) إلى شيء حسن ، وهو أنه يجب على متعاطي المحرم : السعي في قطعه بالتدريج ، بأن يُقَلِّل ما اعتاده كل يوم ، فإنه إذا استمر على ذلك زال المحذور . وما ذكر إذا وقع مثله لشخص في استعمال التنباك جرى فيه ما ذكر كما هو ظاهر " ا.هـ . هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه .
الشيخ صالح بن محمد بن حسن الأسمري
قصيدة فيها نصيحة لكل مدخن ( لا أدري من قائلها ) أحببت إيرادها ههنا لتتم الفائدة :
يـاشـارب التـنـبـاك مـا أجـرأكا *** مـن ذا الـذي فـي شـربه أفتـاكا
أتـظـن أن شـرابـه مـسـتـعــذب *** أم هـل تـظـن بـأن فـيـه غـذاكا
هـل فـيـه نـفـع ظـاهـر لك يافتى *** كـلا فـلا فـيـه سـوى إيــذاكــا
ومـضـرة تـبـدو وخـبـث روائـح *** مـكـروهـة تـؤذي بـهـا جلساكا
وفـتـور جـسـم وارتخاء مـفاصل *** مع ضيق أنفاس وضعف قواكا
واتـلاف مـال لاتـجـد عـوضـاً له *** إلا دخـانـاً قـد حـشـى أحـشاكا
ورضـيـت فـيـه بـأن تكون مبذراً *** وأخـو الـمـبـذر لم يكن يخفاكا
فـإذا حـضرت بمجلس واستنشقوا *** مـن فيـك ريحاً يكرهون لقاكا
يـكـفـيـك ذمـاً فـيـه أن جـميع من *** كـان يـشــربه يـود فـكــاكـــا
فـارفـق بـنـفـسـك واتـبع آثار من *** أهـداك لا مـن فـيـه قد أغواكا
إن كـنـت شـهـمـاً فاجتنبه ولاتكن *** فـي شـربـه مـسـتـتـبعاً لهواكا
إنـي نـصـحـتك فاستمع لنصيحتي *** ونـهيـت فـاتبع قـول من ينهاكا
وبـذلـت قـولـي نـاصـحاً لك يافتى *** فـعـسـاك تقبل ما أقول عساكا
قصيدة للشاعر السوري زكي قنصل الذي عانى من التدخين وأثره السلبية على صحته فقال يخاطب لفافة التبغ
كم فراقٍ به تقرُّ عيوني =ولقاءٍ يهيجُ نارَ أسايا
ما أنا في هواكِ أولَ صبِّ =خفتُ أن يخنقَ الدخانُ صبايا
أنت سمٌّ بين الحنايا زعافٌ =كيف تستعذب السمومَ الحنايا
الجراثيم عششت في ثنايا.. =ك فلا مرحباً بهذي الثنايا..!
رُبَّ ليلٍ قضيته في سعال =وليال قضّيتها في رزايا
نمت منذ ابتعدتُ عنك قريراَ =مستريحاَ وكان نكداَ كرايا
وتمتعت بالغذاء.. وكانت =طيبات الغذاء عندي نفايا
يتهاداك في المجلس قوم =كيف تُستحسنُ الأفاعي هدايا؟!
ويح عشّاقك المساكين..! إني =لست أرثي إلا لهذي الضحايا
التَّبَغُ ( بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ) لَفْظٌ أَجْنَبِيٌّ دَخَلَ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ تَغْيِيرٍ , وَقَدْ أَقَرَّهُ مَجْمَعُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ . وَهُوَ نَبَاتٌ مِنْ الْفَصِيلَةِ الباذنجانية يُسْتَعْمَلُ تَدْخِينًا وَسَعُوطًا وَمَضْغًا , وَمِنْهُ نَوْعٌ يُزْرَعُ لِلزِّينَةِ , وَهُوَ مِنْ أَصْلٍ أَمْرِيكِيٍّ , وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ : الدُّخَانُ , وَالتُّتْن , وَالتُّنْبَاكُ .
لَكِنَّ الْغَالِبَ إطْلَاقُ هَذَا الْأَخِيرِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ التَّبَغِ كَثِيفٍ يُدَخَّنُ بِالنَّارَجِيلَةِ لَا بِاللَّفَائِفِ .
وَمِمَّا يُشْبِهُ التَّبَغَ فِي التَّدْخِينِ وَالْإِحْرَاقِ : الطُّبَّاقُ , وَهُوَ نَبَاتٌ عُشْبِيٌّ مُعَمِّرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْمُرَكَّبَاتِ الْأُنْبُوبِيَّةِ الزَّهْرِ , وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ , خِلَافًا لِلتَّبَغِ , وَالطُّبَّاقُ : لَفْظٌ مُعَرَّبٌ . وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ : الطُّبَّاقُ : الدُّخَانُ , يُدَخَّنُ وَرَقُهُ مَفْرُومًا أَوْ مَلْفُوفًا .
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ عَنْ الدُّخَّانِ : إنَّهُ حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْعَاشِرِ الْهِجْرِيِّ وَأَوَائِلِ الْقَرْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ , وَأَوَّلُ مَنْ جَلَبَهُ لِأَرْضِ الرُّومِ ( أَيْ الْأَتْرَاكِ الْعُثْمَانِيِّينَ ) الْإِنْكِلِيزُ , وَلِأَرْضِ الْمَغْرِبِ يَهُودِيٌّ زَعَمَ أَنَّهُ حَكِيمٌ , ثُمَّ جُلِبَ إلَى مِصْرَ , وَالْحِجَازِ , وَالْهِنْدِ , وَغَالِبِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّبَغِ :
حُكْمُ اسْتِعْمَالِهِ
مُنْذُ ظُهُورِ الدُّخَّانِ - وَهُوَ الِاسْمُ الْمَشْهُورُ لِلتَّبْغِ - وَالْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ , بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحَقُّقِ الضَّرَرِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ , وَفِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ , قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ , إذْ لَا نَصَّ فِي شَأْنِهِ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ حَرَامٌ , وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّهُ مُبَاحٌ , وَقَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ مَكْرُوهٌ .
وَبِكُلِّ حُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَفْتَى فَرِيقٌ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ , وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي :
الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ :
ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الشَّيْخُ الشرنبلالي , وَالْمَسِيرِيُّ , <102> وَصَاحِبُ الدُّرِّ الْمُنْتَقَى , وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيِّ .
وَقَالَ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : سَالِمٌ السَّنْهُورِيُّ , وَإِبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ , وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونُ , وَخَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ , وَابْنُ حَمْدُونٍ وَغَيْرُهُمْ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : نَجْمُ الدِّينِ الْغَزِّيِّ , وَالْقَلْيُوبِيُّ , وَابْنُ عَلَّانَ , وَغَيْرُهُمْ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبُهُوتِيُّ , وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ النَّجْدِيِّينَ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا مَنْ أَلَّفَ فِي تَحْرِيمِهِ كَاللَّقَانِيِّ وَالْقَلْيُوبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْفَكُّونِ , وَابْنِ عَلَّانَ . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ بِمَا يَأْتِي :
أَنَّ الدُّخَّانَ يُسْكِرُ فِي ابْتِدَاءِ تَعَاطِيهِ إسْكَارًا سَرِيعًا بِغَيْبَةٍ تَامَّةٍ , ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَطُولَ الْأَمَدُ جِدًّا , فَيَصِيرُ لَا يُحِسُّ بِهِ , لَكِنَّهُ يَجِدُ نَشْوَةً وَطَرَبًا أَحْسَنَ عِنْدَهُ مِنْ السُّكْرِ . أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْكَارِ : مُطْلَقُ الْمُغَطِّي لِلْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ , وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِمَنْ يَتَعَاطَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . وَهُوَ عَلَى هَذَا يَكُونُ نَجِسًا , وَيُحَدُّ شَارِبُهُ , وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ .
إنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُسْكِرُ , فَهُوَ يُحْدِثُ تَفْتِيرًا وَخَدْرًا لِشَارِبِهِ , فَيُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ , وَقَدْ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمُفَتِّرُ : مَا يُحْدِثُ الْفُتُورَ وَالْخِدْرَ فِي الْأَطْرَافِ وَصَيْرُورَتَهَا إلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ , وَيَكْفِي حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حُجَّةً , وَدَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ نَجِسًا وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ , وَيَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ كَالْكَثِيرِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ , إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا , وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ .
أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهِ الضَّرَرُ فِي الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ , فَهُوَ يُفْسِدُ الْقَلْبَ , وَيُضْعِفُ <103> الْقُوَى , وَيُغَيِّرُ اللَّوْنَ بِالصُّفْرَةِ , وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَكَاثُفِ دُخَّانِهِ فِي الْجَوْفِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ , كَالسُّعَالِ الْمُؤَدِّي لِمَرَضِ السُّلِّ , وَتَكْرَارُهُ يُسَوِّدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ , وَتَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحَرَارَةُ , فَتَكُونُ دَاءً مُزْمِنًا مُهْلِكًا , فَيَشْمَلُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَهُوَ يَسُدُّ مَجَارِيَ الْعُرُوقِ , فَيَتَعَطَّلُ وُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهَا إلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ , فَيَمُوتُ مُسْتَعْمِلُهُ فَجْأَةً .
ثُمَّ قَالُوا : وَالْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ مُضِرٌّ , قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : أَخْبَرَ بَعْضُ مُخَالِطِي الْإِنْكِلِيزِ أَنَّهُمْ مَا جَلَبُوا الدُّخَّانَ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ إجْمَاعِ أَطِبَّائِهِمْ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ مُلَازَمَتِهِ , وَأَمْرِهِمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَضُرُّ , لِتَشْرِيحِهِمْ رَجُلًا مَاتَ بِاحْتِرَاقِ كَبِدِهِ وَهُوَ مُلَازِمُهُ , فَوَجَدُوهُ سَارِيًا فِي عُرُوقِهِ وَعَصَبِهِ , وَمُسَوِّدًا مُخَّ عِظَامِهِ , وَقَلْبَهُ مِثْلَ إسْفَنْجَةٍ يَابِسَةٍ , فَمَنَعُوهُمْ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ , وَأَمَرُوهُمْ بِبَيْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِإِضْرَارِهِمْ . . . قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا هَذَا لَكَانَ بَاعِثًا لِلْعَقْلِ عَلَى اجْتِنَابِهِ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ , وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ , وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ , كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ } .
هَذَا وَفِي الْمَرَاجِعِ الْحَدِيثَةِ مَا يُثْبِتُ ضَرَرَ التَّدْخِينِ .
فِي التَّدْخِينِ إسْرَافٌ وَتَبْذِيرٌ وَضَيَاعٌ لِلْمَالِ , قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : لَوْ سُئِلَ الْفُقَهَاءُ - الَّذِينَ قَالُوا : السَّفَهُ الْمُوجِبُ لِلْحَجْرِ تَبْذِيرُ الْمَالِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ - عَنْ مُلَازِمِ اسْتِعْمَالِ الدُّخَّانِ , لَمَّا تَوَقَّفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَسَفَهِهِ , وَانْظُرْ إلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إضَاعَةِ الْأَمْوَالِ فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ , وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَفْسَدَهُ الدُّخَّانُ عَلَى الْمُتَرَفِّهِينَ بِهِ , وَسَمَاحَةِ أَنْفُسِهِمْ بِدَفْعِهَا لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ أَعْدَاءِ الدِّينِ , <104> وَمَنْعِهَا مِنْ الْإِعَانَةِ بِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَسَدِّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ .
صَدَرَ أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ مِنْ الْخَلِيفَةِ الْعُثْمَانِيِّ فِي وَقْتِهِ - بِنَاءً عَلَى فَتَاوَى عُلَمَاءِ عَصْرِهِ - بِمَنْعِ اسْتِعْمَالِ الدُّخَّانِ وَمُعَاقَبَةِ شَارِبِيهِ , وَحَرْقِ مَا وُجِدَ مِنْهُ . فَيُعْتَبَرُ مِنْ وُجُوهِ تَحْرِيمِهِ : الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ , فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجِبٌ فِي غَيْرِ مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَمُخَالَفَتُهُ مُحَرَّمَةٌ .
وَرَائِحَةُ الدُّخَّانِ مُنْتِنَةٌ مُؤْذِيَةٌ , وَكُلُّ رَائِحَةٍ مُؤْذِيَةٍ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ , وَالدُّخَّانُ أَشَدُّ مِنْ الْبَصَلِ وَالثُّومِ فِي الرَّائِحَةِ , وَقَدْ وَرَدَ مَنْعُ مَنْ تَنَاوَلَهُمَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ , وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ , وَالْبَصَلُ وَالثُّومُ رِيحُهُمَا مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ مُنْتِنًا , وَالدُّخَّانُ رِيحُهُ مُنْتِنٌ .
مَنْ زَعَمَ اسْتِعْمَالَهُ تَدَاوِيًا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتِعْمَالَ الْأَدْوِيَةِ , وَخَرَجَ بِهِ إلَى حَدِّ التَّفَكُّهِ وَالتَّلَذُّذِ , وَادَّعَى التَّدَاوِيَ تَلْبِيسًا وَتَسَتُّرًا حَتَّى وَصَلَ بِهِ إلَى أَغْرَاضٍ بَاطِنَةٍ مِنْ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ وَالْإِسْطَالِ , وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حُرْمَتُهُ , وَعَرَّفُوا الْعَبَثَ : بِأَنَّهُ فِعْلٌ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ , وَالسَّفَهُ : بِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا غَرَضَ فِيهِ أَصْلًا وَاللَّعِبُ : فِعْلٌ فِيهِ لَذَّةٌ . وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِحُرْمَةِ الْعَبَثِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ صَاحِبُ كِتَابِ الِاحْتِسَابِ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } وَصَاحِبُ الْكَافِي مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَةُ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ , وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ , وَمُلَاعَبَتُهُ امْرَأَتَهُ , فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } .
الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ :
ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ , وَقَدْ أَلَّفَ فِي إبَاحَتِهِ رِسَالَةً سَمَّاهَا ( الصُّلْحُ بَيْنَ الْإِخْوَانِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ ) وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ , وَابْنُ عَابِدِينَ , وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْعَبَّاسِيُّ الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ , وَالْحَمَوِيُّ شَارِحُ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ , وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي إبَاحَتِهِ سَمَّاهَا ( غَايَةُ الْبَيَانِ لِحِلِّ شُرْبِ مَا لَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ مِنْ الدُّخَّانِ ) <105> وَنَقَلَ فِيهَا الْإِفْتَاءَ بِحِلِّهِ عَمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , وَتَابَعَهُ عَلَى الْحِلِّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَمِنْهُمْ : الدُّسُوقِيُّ , وَالصَّاوِيُّ , وَالْأَمِيرُ , وَصَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : الْحِفْنِيُّ , وَالْحَلَبِيُّ , وَالرَّشِيدِيُّ , والشبراملسي , وَالْبَابِلِيُّ , وَعَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْحُسَيْنِيُّ الطَّبَرِيُّ الْمَكِّيُّ , وَلَهُ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا ( رَفْعُ الِاشْتِبَاكِ عَنْ تَنَاوُلِ التُّنْبَاكِ ) .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : الْكَرْمِيُّ صَاحِبُ دَلِيلِ الطَّالِبِ , وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي ذَلِكَ سَمَّاهَا ( الْبُرْهَانُ فِي شَأْنِ شُرْبِ الدُّخَّانِ ) .
كَذَلِكَ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بِإِبَاحَتِهِ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ بِمَا يَأْتِي :
نَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إسْكَارُهُ وَلَا تَخْدِيرُهُ , وَلَا إضْرَارُهُ ( عِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ ) وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ بَعْدَ اشْتِهَارِهِ , وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهِ , فَدَعْوَى أَنَّهُ يُسْكِرُ أَوْ يُخَدِّرُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ , فَإِنَّ الْإِسْكَارَ غَيْبُوبَةُ الْعَقْلِ مَعَ حَرَكَةِ الْأَعْضَاءِ , وَالتَّخْدِيرُ غَيْبُوبَةُ الْعَقْلِ مَعَ فُتُورِ الْأَعْضَاءِ , وَكِلَاهُمَا لَا يَحْصُلُ لِشَارِبِهِ . نَعَمْ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ يَحْصُلُ لَهُ إذَا شَرِبَهُ نَوْعُ غَشَيَانٍ . وَهَذَا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ . كَذَا قَالَ الشَّيْخُ حَسَنٌ الشَّطِّيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ : الْفُتُورُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمُبْتَدِئِ شُرْبِهِ لَيْسَ مِنْ تَغْيِيبِ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ , وَإِنْ سَلِمَ أَنَّهُ مِمَّا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَلَيْسَ مِنْ الْمُسْكِرِ قَطْعًا , لِأَنَّ الْمُسْكِرَ يَكُونُ مَعَهُ نَشْوَةٌ وَفَرَحٌ , وَالدُّخَّانُ لَيْسَ كَذَلِكَ , وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَنْ لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ , وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ , وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ , فَقَدْ يُغَيِّبُ عَقْلَ شَخْصٍ وَلَا يُغَيِّبُ عَقْلَ آخَرَ , وَقَدْ يُغَيِّبُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ .
الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّحْرِيمِ , فَيَكُونُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُبَاحًا , جَرْيًا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَعُمُومَاتِهِ , الَّتِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا حَيْثُ كَانَ حَادِثًا غَيْرَ مَوْجُودٍ زَمَنَ الشَّارِعِ , وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ بِخُصُوصِهِ , وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ , فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ , وَلَيْسَ <106> الِاحْتِيَاطُ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ الْكَرَاهَةِ اللَّذَيْنِ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ دَلِيلٍ , بَلْ فِي الْقَوْلِ بِالْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ , وَقَدْ تَوَقَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أُمِّ الْخَبَائِثِ - حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ , فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إذَا سُئِلَ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مُبَاحٌ , لَكِنَّ رَائِحَتَهُ تَسْتَكْرِهُهَا الطِّبَاعُ , فَهُوَ مَكْرُوهٌ طَبْعًا لَا شَرْعًا .
نَّ فَرْضَ إضْرَارِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ فَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ لَا لِذَاتِهِ , وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ دُونَ غَيْرِهِ , وَلَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ , فَإِنَّ الْعَسَلَ يَضُرُّ بَعْضَ النَّاسِ , وَرُبَّمَا أَمْرَضَهُمْ , مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ .
صَرْفُ الْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَرَفٍ , لِأَنَّ الْإِسْرَافَ هُوَ التَّبْذِيرُ , وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّبْذِيرَ بِأَنَّهُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ , فَإِذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِسَرَفٍ , وَدَعْوَى أَنَّهُ إسْرَافٌ فَهَذَا غَيْرُ خَاصٍّ بِالدُّخَّانِ .
اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ بِلَا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ بَاطِلٌ , إذْ لَيْسَ الصَّلَاحُ بِتَحْرِيمِهِ , وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ وَالدِّينُ الْمُحَافَظَةُ بِالِاتِّبَاعِ لِلْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ بِلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ , وَهَلْ الطَّعْنُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ , وَالْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ وَالطُّغْيَانِ بِسَبَبِ شُرْبِهِمْ الدُّخَّانَ , وَفِي الْعَامَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَضْلًا عَنْ الْخَاصَّةِ , صَلَاحٌ أَمْ فَسَادٌ ؟
حَرَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ أَفْتَى بِحُرْمَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ , لِأَنَّ فَتْوَاهُمْ إنْ كَانَتْ عَنْ اجْتِهَادٍ فَاجْتِهَادُهُمْ لَيْسَ بِثَابِتٍ , لِعَدَمِ تَوَافُرِ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنْ كَانَتْ عَنْ تَقْلِيدٍ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ , فَلَيْسَ بِثَابِتٍ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ الْفَتْوَى وَكَيْفَ يَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ ؟ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْحَقُّ فِي إفْتَاءِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْأُصُولِ , وَوَصَفَهُمَا بِأَنَّهُمَا نَافِعَانِ فِي الشَّرْعِ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ : الْإِبَاحَةُ , وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ : التَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } . <107>
ثُمَّ قَالَ : وَبِالْجُمْلَةِ إنْ ثَبَتَ فِي هَذَا الدُّخَّانِ إضْرَارٌ صَرَفَ عَنْ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ , وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إضْرَارُهُ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ . مَعَ أَنَّ الْإِفْتَاءَ بِحِلِّهِ فِيهِ دَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُبْتَلَوْنَ بِتَنَاوُلِهِ , فَتَحْلِيلُهُ أَيْسَرُ مِنْ تَحْرِيمِهِ , فَإِثْبَاتُ حُرْمَتِهِ أَمْرٌ عَسِيرٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ نَصِيرٌ . نَعَمْ لَوْ أَضَرَّ بِبَعْضِ الطَّبَائِعِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ , وَلَوْ نَفَعَ بِبَعْضٍ وَقُصِدَ التَّدَاوِي فَهُوَ مَرْغُوبٌ .
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : كَذَا أَجَابَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ حَيْدَرٍ الْكَرْدِيُّ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفِي تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ : مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُخْتَارِهِ , فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَغَبًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَحِيرَةً فِي دِينِهِمْ , إذْ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ لِأَمْرٍ مَا أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى إنْكَارِهِ .
الْقَائِلُونَ بِالْكَرَاهَةِ وَأَدِلَّتُهُمْ :
ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : ابْنُ عَابِدِينَ , وَأَبُو السُّعُودِ , وَاللَّكْنَوِيُّ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : الشَّيْخُ يُوسُفُ الصَّفْتِيُّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : الشِّرْوَانِيُّ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : الْبُهُوتِيُّ , وَالرَّحِيبَانِيُّ , وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْقُورُ التَّمِيمِيُّ .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي :
كَرَاهَةُ رَائِحَتِهِ , فَيُكْرَهُ قِيَاسًا عَلَى الْبَصَلِ النِّيءِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاتِ وَنَحْوِهَا .
عَدَمُ ثُبُوتِ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ , فَهِيَ تُورِثُ الشَّكَّ , وَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ , فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا أَوْرَدَهُ الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ
حُكْمُ بَيْعِ الدُّخَّانِ وَزِرَاعَتِهِ :
كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلدُّخَّانِ هُوَ فِي بَيَانِ حُكْمِ شُرْبِهِ , هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ , وَكَانَ التَّعَرُّضُ لِبَيَانِ حُكْمِ بَيْعِهِ أَوْ زِرَاعَتِهِ قَلِيلًا .
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ : إنَّ الَّذِينَ حَرَّمُوهُ يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُرْمَةَ بَيْعِهِ وَزِرَاعَتِهِ , وَاَلَّذِينَ أَبَاحُوهُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ وَزِرَاعَتُهُ . يَقُولُ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : الْحَاصِلُ أَنَّ الدُّخَّانَ فِي شُرْبِهِ خِلَافٌ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ , فَالْوَرَعُ عَدَمُ شُرْبِهِ , وَبَيْعُهُ وَسِيلَةً لِشُرْبِهِ , فَيُعْطَى حُكْمَهُ .
وَنُورِدُ فِيمَا يَلِي مَا أَمْكَنَ الْعُثُورُ عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ :
مِنْ الْحَنَفِيَّةِ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ <110> الشرنبلالي : أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الدُّخَّانِ , وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ , ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : مَا يُفِيدُ جَوَازَ زِرَاعَتِهِ وَبَيْعِهِ , فَقَدْ سُئِلَ فِي الدُّخَّانِ الَّذِي يُشْرَبُ فِي الْقَصَبَةِ , وَاَلَّذِي يُسْتَنْشَقُ بِهِ , هَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمَوَّلٌ ؟ فَإِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ أَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ , أَوْ كَيْفَ الْحَالُ ؟ .
فَأَجَابَ : نَعَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمَوَّلٌ , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَنْ اخْتَلَّتْ طَبِيعَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَصَارَ لَهُ كَالدَّوَاءِ , فَكُلٌّ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا مِنْ الْعِلَلِ , وَلَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُتَشَرِّعٌ فِي أَنَّهَا مُتَمَوَّلَةٌ , فَكَذَلِكَ هَذَانِ , كَيْفَ وَالِانْتِفَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنَافُسُ حَاصِلَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ .
فَإِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ أَحَدِهِمَا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ , وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِجَوَازِ بَيْعِ مُغَيِّبِ الْعَقْلِ بِلَا نَشْوَةٍ , لِمَنْ يَسْتَعْمِلُ مِنْهُ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ , وَاسْتَظْهَرَ فَتْوَاهُ سَيِّدِي إبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ .
كَذَلِكَ سُئِلَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ : عَنْ رَجُلٍ تَعَدَّى عَلَى بَصَلٍ لِآخَرَ أَوْ جَزَرٍ أَوْ خَسٍّ أَوْ دُخَّانٍ أَوْ مُطْلَقِ زَرْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ , فَمَاذَا يَلْزَمُهُ ؟ وَهَلْ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْحَصَادِ , أَوْ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ ؟ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَمَا الْحُكْمُ ؟ فَأَجَابَ : إنْ تَعَدَّى عَلَى الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أُغْرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعَدِّي عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ , وَإِنْ تَأَخَّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ حَتَّى رَجَعَ الزَّرْعُ لِحَالِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْقِيمَةُ وَيُؤَدَّبُ الْمُفْسِدُ , وَإِنْ تَعَدَّى بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أُغْرِمَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعَدِّي عَلَى الْبَتِّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشبراملسي عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : يَصِحُّ بَيْعُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِنَا , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ أَيْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ مَا مُلَخَّصُهُ جَوَازُ بَيْعِهِ . لِلْخِلَافِ فِي حُرْمَتِهِ وَلِانْتِفَاعِ بَعْضِ النَّاسِ بِهِ . كَمَا إذَا كَانَ يُعْلَمُ الضَّرَرُ بِتَرْكِهِ , وَحِينَئِذٍ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ , لَكِنْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِ قِيَاسًا . قَالَ : السُّمُّ مِنْ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتِ , إنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ , أَوْ كَانَ يَقْتُلُ قَلِيلُهُ , لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ , وَإِنْ اُنْتُفِعَ بِهِ وَأَمْكَنَ التَّدَاوِي بِيَسِيرِهِ جَازَ بَيْعُهُ , لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ الْمُبَاحِ .
<111> حُكْمُ الدُّخَّانِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ :
صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الدُّخَّانِ . قَالَ الدَّرْدِيرُ : مِنْ الطَّاهِرِ الْجَمَادِ , وَيَشْمَلُ النَّبَاتَ بِأَنْوَاعِهِ , قَالَ الصَّاوِيُّ : وَمِنْ ذَلِكَ الدُّخَّانُ وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ قَالَ الشبراملسي فِي الْحَاشِيَةِ : يَصِحُّ بَيْعُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِنَا , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ . وَوَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ وَحَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ وَحَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الْأَرْبَعِينَ : " قَاعِدَةُ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ "
( تَنْبِيهٌ )
تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : الْحَدِّ , وَالتَّنْجِيسِ , وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ . وَالْمُرَقِّدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا نَجَاسَةَ , فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ مَعَهُ أَوْ الْأَفْيُونِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا . هَذَا وَبَعْضُ مَنْ حَرَّمَ الدُّخَّانَ وَعَلَّلَ حُرْمَتَهُ بِالْإِسْكَارِ فَهِيَ عِنْدَهُ نَجِسَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ , إلَّا أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّخَّانَ طَاهِرٌ , فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : الْأَشْرِبَةُ الْجَامِدَةُ كَالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لَمْ نَرَ أَحَدًا قَالَ بِنَجَاسَتِهَا , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُرْمَةِ نَجَاسَتُهُ , كَالسُّمِّ الْقَاتِلِ , فَإِنَّهُ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ .
كَذَلِكَ لَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ , إلَّا أَنَّهُ جَاءَ فِي نِيلِ الْمَآرِبِ : الْمُسْكِرُ غَيْرُ الْمَائِعِ طَاهِرٌ .
تَفْطِيرُ الصَّائِمِ بِشُرْبِ الدُّخَّانِ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ يُفْسِدُ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ , كَذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لَوْ أُدْخِلَ الدُّخَّانُ حَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ شُرْبٍ , بَلْ بِاسْتِنْشَاقٍ لَهُ عَمْدًا , أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَى حَلْقِهِ بِدُونِ قَصْدٍ , كَأَنْ كَانَ يُخَالِطُ مَنْ يَشْرَبُهُ فَدَخَلَ الدُّخَانُ حَلْقَهُ دُونَ قَصْدٍ , فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ , إذَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِزَازُ مِنْ ذَلِكَ .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ , إذْ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ تَكُونُ بِالْجِمَاعِ فَقَطْ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ .
وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِمَضْغِ الدُّخَّانِ أَوْ <112> نُشُوقِهِ , لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْيِيفِ , وَيَصِلُ طَعْمُهُ لِلْحَلْقِ , وَيَتَكَيَّفُ بِهِ الدِّمَاغُ مِثْلُ تَكَيُّفِهِ بِالدُّخَّانِ الَّذِي يُمَصُّ بِالْعُودِ .
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ , وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَاهُ .
حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَنْعِ زَوْجَتِهِ مِنْ شُرْبِ الدُّخَّانِ :
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ , كَالْبَصَلِ وَالثُّومِ , وَمِنْ ذَلِكَ شُرْبُ الدُّخَّانِ الْمَعْرُوفِ , لِأَنَّ رَائِحَتَهُ تَمْنَعُ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ , خُصُوصًا إذَا كَانَ الزَّوْجُ لَا يَشْرَبُهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ .
التَّبَغُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ :
يَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ إنْ اعْتَادَتْ شُرْبَ الدُّخَّانِ تَفَكُّهًا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ تَوْفِيرُهُ لَهَا ضِمْنَ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الدَّوَاءِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ التَّفَكُّهِ , فَكُلٌّ مِنْ الدَّوَاءِ وَالتَّفَكُّهِ لَا يَلْزَمُهُ .
وَلَمْ يُصَرِّحْ الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ , إلَّا أَنَّ قَوَاعِدَهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الدَّوَاءَ وَالتَّفَكُّهَ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ .
حُكْمُ التَّدَاوِي بِالتَّبَغِ :
مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُحَرَّمَةَ النَّجِسَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا كَالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا .
أَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ .
فَمَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ الدُّخَّانِ وَأَنَّهُ يُسْكِرُ كَالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّدَاوِي بِهِ .
لَكِنَّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ طَاهِرٌ وَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ , كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِهِمْ . وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُ التَّدَاوِي بِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ الْمَالِكِيُّ : الدُّخَانُ مُتَمَوَّلٌ , لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَنْ اخْتَلَّتْ <113> طَبِيعَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَصَارَ لَهُ كَالدَّوَاءِ , فَهُوَ كَسَائِرِ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا مِنْ الْعِلَلِ .
إمَامَةُ شَارِبِ الدُّخَّانِ :
قَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الشَّيْخِ الْعِمَادِيِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَعْرُوفِ بِأَكْلِ الرِّبَا , أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , أَوْ يُدَاوِمُ الْإِصْرَارَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ , كَالدُّخَّانِ الْمُبْتَدَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
راجع الموسوعة الفقهية الكويتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق