الوقف الخيري وأثره في تاريخ المسلمين
الوقف الخيري وأثره في تاريخ المسلمين .. د.يوسف القرضاوي
المجتمع المسلم مجتمع متراحم متكافل، يرحم الكبير فيه الصغير، ويعطف فيه الغنيُّ على الفقير، ويأخذ القويُّ بيد الضعيف، وهو كما صوَّره الرسول الكريم: كالجسد الواحد[1]، وكالبنيان يشدُّ بعضه بعضا[2].
تسود هذا المجتمع عندما يستمسك بتعاليم الإسلام: عواطف خيِّرة، ومشاعر إنسانية نبيلة، تفيض بالخير والبرِّ، وتتدفَّق بالرحمة والإحسان، تجلَّت هذه المشاعر والعواطف فيما عُرف بنظام (الوقف الخيري) عند المسلمين.
وهذا النظام ثابت من عهد النبوة، ومن المعروف أن أول وقف عُرف في الإسلام، هو وقف عمر بن الخطاب.
فقد روى الجماعة، عن ابن عمر: أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضا بخيبر، لم أُصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: "إن شئتَ حبَّستَ أصلها وتصدَّقتَ بها". قال: فتصدَّق بها عمر - على أن لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث - في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متموِّل. وفي لفظ: غير متأثِّل مالا[3].
وفي رواية البخاري: "حبِّسْ أصلها، وسَبِّلْ ثمرتها". وفي أخرى له: "تصدَّق بثمره، وحبِّس أصله". وفي رواية للبيهقي: "تصدَّق بثمره وحبِّس أصله لا يباع ولا يورث"[4].
وفي حديث عمرو بن دينار قال في صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكِّل صديقا له غير متأثِّل. قال: وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر، ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم[5].
وفيه من الفقه: أن مَن وقف شيئا على صنف من الناس وولده منهم دخل فيه.
وعن عثمان: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدِم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رُومة، فقال: "مَن يشتري بئر رُومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟". فاشتريتها من صلب مالي[6]،[7].
فقد سجَّل التاريخ لكثير من أهل الخير والثراء من المسلمين: أنهم وقفوا - بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألاَّ ينقطع عملهم بعد موتهم - أموالهم كلَّها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإعانة المحروم، ومداواة المريض، وإيواء المشرَّد، وكفالة الأرملة واليتيم، وعلى كلِّ غرض إنساني شريف، بل أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان.
ولنقرأ هنا فقرات من بيان وزير الأوقاف المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، الذي ألقاه في مجلس الشعب المصري، مبينا مآثر الوقف الخيري الإسلامي.
قال رحمه الله: (ولقد تأخذ أحدنا الدهشة - وهو يستعرض حُجَج الواقفين - ليرى القوم في نبل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعلوِّ إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم: يتخيَّرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البرِّ يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة نسوق هذه الأمثلة:
وقف الأواني المكسورة
وهو وقف تُشتري منه صحاف الخزف الصيني، فكلُّ خادم كُسرت آنيته، وتعرَّض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحًا بدلاً منه. وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه.
وقف الكلاب الضالَّة
وهو وقف في عدَّة جهات يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذًا لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وقف إعارة الحليِّ في الأعراس
وهو وقف لإعارة الحُلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه. وبهذه يتيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحُلَّة لائقة، ولعروسه أن تجلَّى في حُلَّة رائقة، حتي يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
وقف الزوجات الغاضبات
وهو وقف يؤسَّس من رَيعه بيت، ويعدُّ فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من جفاء، وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف مؤنس المرضى والغرباء
وهو وقف يُنفق منه على عدَّة مؤذنين، من كلِّ رخيم الصوت، حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتِّل كلٌّ منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعيًا وراء التخفيف عن المريض، الذي ليس له مَن يخفِّف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له مَن يؤنسه.
وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء
وهو وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرِّضين يقفان قريبًا من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وربما نهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام!)[8].
فهذا لون من الإيحاء النفسي للمريض يقرِّب الشفاء، واكتساب العافية. وقد ثبت علميا: أن هذا له أثره الإيجابي في التعجيل بالشفاء بإذن الله.
وقف في بلاد المغرب لمن عجز عن دفع أجرة الحمام
وفي بلاد المغرب: عُرفت أنواع أخرى من الأوقاف، مثل: الوقف على مَن يريد دخول (الحمَّامات العامَّة) ولا يجد أجر الحمَّام، فيأخذ من هذا الوقف ما ينظِّف به جسده، ويقضي وطره.
وقف على نوع مهاجر من الطير
وفي مدينة فاس: وُجد وقف على نوع من الطير، يأتي إلى فاس في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن. كأنما شعر هؤلاء الخيِّرون من المسلمين: أن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء!!
الوقف على القطط التي لا مؤوي لها
ومما ذكره الأستاذ الدكتور السباعي في كتابه (اشتراكية الإسلام): وقف رعاية الحيوانات الأليفة التي لا تجد مَن يطعمها، كالقطط - ولا سيما المصابة بالعمى منها - مثل (بيت القطط) الذي قال: إنه كان إلى عهد قريب موجودا في سوق (ساروجة) بدمشق، وكان فيه ما يزيد على أربع مائة قطة من الفارهات السمان[9]!!
وهكذا سلك الواقفون كلَّ مسالك الخير، فلم يدعوا جانبًا من جوانب الحياة، دون أن يكون للخير نصيب فيه.
وهم بهذا إنما يصدرون عن إحساسات إنسانية عميقة، تنفذ إلى مواطن الحاجة التي تعرض للناس في كلِّ زمان ومكان. بل هي لم تقتصر على الإنسان، حتى شملت الطير والحيوان!!
ولا شكَّ أن العقيدة هي صاحبة الفضل في خلق هذه الأحاسيس الرقيقة، وإيقاظ تلك المشاعر السامية التي تنبَّهت لتلك الدقائق، في كلِّ زاوية من زوايا المجتمع، وكلِّ منحى من مناحي الحياة. ولم يكفِهم أن يكون برُّهم مقصورًا على حياتهم القصيرة، فأرادوها صدقة جارية، وحسنة دائمة، يُكتب لهم أجرها ما بقيت الحياة، وبقي الإنسان.
المؤسسات الخيرية في تاريخ المسلمين
ومن أبرز الدلائل على رسوخ معنى الخير، ومشاعر البرِّ والمرحمة، وعمق جذوره في تاريخ أمتنا: كثرة المؤسسات التي تُعنى بخير الإنسان، والبرِّ بالإنسان.
ويسرُّني أن أنقل هنا صفحات مشرقة مما كتبه الداعية الكبير العلاَّمة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه البديع (من روائع حضارتنا) عن هذه المؤسسات، قال:
(كانت هذه المؤسسات نوعين: نوعا تنشئه الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، ونوعا ينشئه الأفراد من أمراء وقوَّاد وأغنياء ونساء. ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدِّد أنواع المؤسسات الخيرية كلَّها، ولكن حسبنا أن نلمَّ بأهمِّها:
فمن أول المؤسسات الخيرية: المساجد، وكان الناس يتسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسِّسونها، وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد الملك من أموال بالغة على بناء الجامع الأُموي، مما لا يكاد يصدِّقه الإنسان لكثرة ما أنفق من مال، وما استخدم في إقامته من رجال.
ومن أهمِّ المؤسسات الخيرية: المدارس والمستشفيات. وسنفرد لها حديثا خاصًا إن شاء الله.
ومن المؤسسات الخيرية: بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر.
ومنها: التكايا والزوايا، التي ينقطع فيها مَن شاء لعبادة الله عزَّ وجلَّ.
ومنها: بناء بيوت خاصة للفقراء، يسكنها مَن لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا.
ومنها: السقايات، أي تسبيل الماء في الطرقات العامَّة للناس جميعًا.
ومنها: المطاعم الشعبية، التي كان يفرَّق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، ولا يزال عهدنا قريبًا بهذا النوع في كلٍّ من تكيَّة السلطان سليم، وتكيَّة الشيخ محيي الدين بدمشق.
ومنها: بيوت للحجاج في مكة، ينزلونها حين يفِدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمَّت أرض مكة كلَّها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج، لأنها كلُّها موقوفة على الحجاج.
ومنها: حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جدًا بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقُراها، حتى قلَّ أن يتعرَّض المسافرون - في تلك الأيام - لخطر العطش.
ومن المؤسسات الاجتماعية: ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور.
ومنها: ما كانت للمقابر يتبرَّع الرجل بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة.
ومنها: ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.
ومنها: المؤسسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعَدين والعميان والعجز، يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كلُّ ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضًا.
وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين، ورفع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب، لصيانة صحَّتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعَدين بمَن يقودهم ويخدمهم.
ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ... فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!
ومنها: مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية (نقطة الحليب) عندنا، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عزَّ وجلَّ، وقد كان من مَبَرَّات صلاح الدين: أنه جعل في أحد أبواب القلعة - الباقية حتى الآن في دمشق - ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كلِّ أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.
ومن أطرف المؤسسات الخيرية: وقف (الزبادي)[10]، للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنهم لو يصنعوا شيئًا.
وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات: المؤسسات التي أُقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق الذي يُقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفًا للخيول والحيوانات العاجزة المُسنَّة ترعى فيه حتى تلاقي حتفها)[11]
[1]- إشارة إلى حديث النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586)، وأحمد في المسند (18373).
[2]- إشارة إلى حديث سبق تخريجه صـ12.
[3]- سبق تخريجه صـ90.
[4]- رواه البيهقي في الكبرى كتاب الوقف (6/160).
[5]- رواه البخاري في الوكالة (2313).
[6]- رواه الترمذي في المناقب (3703)، وقال: حسن، والنسائي (3608)، والدراقطني (4/196)، كلاهما في الأحباس، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2921).
[7]- انظر: نيل الأوطار (6/127، 128) ط دار الجيل. بيروت.
[8]- من بيان لوزير الأوقاف الشيخ أحمد الباقوري عن الأوقاف ودورها، ألقاه في مجلس الشعب المصري.
[9]- انظر: اشتراكية الإسلام للسباعي صـ110 - 112.
[10]- جمع زبدية، وهي إناء من الفخار عادة يوضع فيه اللبن حتى يتخمر.
[11]- من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي (178 ـ 182).
المصدر موقع الدكتور يوسف القرضاوي
المجتمع المسلم مجتمع متراحم متكافل، يرحم الكبير فيه الصغير، ويعطف فيه الغنيُّ على الفقير، ويأخذ القويُّ بيد الضعيف، وهو كما صوَّره الرسول الكريم: كالجسد الواحد[1]، وكالبنيان يشدُّ بعضه بعضا[2].
تسود هذا المجتمع عندما يستمسك بتعاليم الإسلام: عواطف خيِّرة، ومشاعر إنسانية نبيلة، تفيض بالخير والبرِّ، وتتدفَّق بالرحمة والإحسان، تجلَّت هذه المشاعر والعواطف فيما عُرف بنظام (الوقف الخيري) عند المسلمين.
وهذا النظام ثابت من عهد النبوة، ومن المعروف أن أول وقف عُرف في الإسلام، هو وقف عمر بن الخطاب.
فقد روى الجماعة، عن ابن عمر: أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضا بخيبر، لم أُصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: "إن شئتَ حبَّستَ أصلها وتصدَّقتَ بها". قال: فتصدَّق بها عمر - على أن لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث - في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متموِّل. وفي لفظ: غير متأثِّل مالا[3].
وفي رواية البخاري: "حبِّسْ أصلها، وسَبِّلْ ثمرتها". وفي أخرى له: "تصدَّق بثمره، وحبِّس أصله". وفي رواية للبيهقي: "تصدَّق بثمره وحبِّس أصله لا يباع ولا يورث"[4].
وفي حديث عمرو بن دينار قال في صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكِّل صديقا له غير متأثِّل. قال: وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر، ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم[5].
وفيه من الفقه: أن مَن وقف شيئا على صنف من الناس وولده منهم دخل فيه.
وعن عثمان: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدِم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رُومة، فقال: "مَن يشتري بئر رُومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟". فاشتريتها من صلب مالي[6]،[7].
فقد سجَّل التاريخ لكثير من أهل الخير والثراء من المسلمين: أنهم وقفوا - بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألاَّ ينقطع عملهم بعد موتهم - أموالهم كلَّها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإعانة المحروم، ومداواة المريض، وإيواء المشرَّد، وكفالة الأرملة واليتيم، وعلى كلِّ غرض إنساني شريف، بل أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان.
ولنقرأ هنا فقرات من بيان وزير الأوقاف المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، الذي ألقاه في مجلس الشعب المصري، مبينا مآثر الوقف الخيري الإسلامي.
قال رحمه الله: (ولقد تأخذ أحدنا الدهشة - وهو يستعرض حُجَج الواقفين - ليرى القوم في نبل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعلوِّ إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم: يتخيَّرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البرِّ يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة نسوق هذه الأمثلة:
وقف الأواني المكسورة
وهو وقف تُشتري منه صحاف الخزف الصيني، فكلُّ خادم كُسرت آنيته، وتعرَّض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحًا بدلاً منه. وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه.
وقف الكلاب الضالَّة
وهو وقف في عدَّة جهات يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذًا لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وقف إعارة الحليِّ في الأعراس
وهو وقف لإعارة الحُلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه. وبهذه يتيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحُلَّة لائقة، ولعروسه أن تجلَّى في حُلَّة رائقة، حتي يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
وقف الزوجات الغاضبات
وهو وقف يؤسَّس من رَيعه بيت، ويعدُّ فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من جفاء، وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف مؤنس المرضى والغرباء
وهو وقف يُنفق منه على عدَّة مؤذنين، من كلِّ رخيم الصوت، حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتِّل كلٌّ منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعيًا وراء التخفيف عن المريض، الذي ليس له مَن يخفِّف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له مَن يؤنسه.
وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء
وهو وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرِّضين يقفان قريبًا من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وربما نهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام!)[8].
فهذا لون من الإيحاء النفسي للمريض يقرِّب الشفاء، واكتساب العافية. وقد ثبت علميا: أن هذا له أثره الإيجابي في التعجيل بالشفاء بإذن الله.
وقف في بلاد المغرب لمن عجز عن دفع أجرة الحمام
وفي بلاد المغرب: عُرفت أنواع أخرى من الأوقاف، مثل: الوقف على مَن يريد دخول (الحمَّامات العامَّة) ولا يجد أجر الحمَّام، فيأخذ من هذا الوقف ما ينظِّف به جسده، ويقضي وطره.
وقف على نوع مهاجر من الطير
وفي مدينة فاس: وُجد وقف على نوع من الطير، يأتي إلى فاس في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن. كأنما شعر هؤلاء الخيِّرون من المسلمين: أن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء!!
الوقف على القطط التي لا مؤوي لها
ومما ذكره الأستاذ الدكتور السباعي في كتابه (اشتراكية الإسلام): وقف رعاية الحيوانات الأليفة التي لا تجد مَن يطعمها، كالقطط - ولا سيما المصابة بالعمى منها - مثل (بيت القطط) الذي قال: إنه كان إلى عهد قريب موجودا في سوق (ساروجة) بدمشق، وكان فيه ما يزيد على أربع مائة قطة من الفارهات السمان[9]!!
وهكذا سلك الواقفون كلَّ مسالك الخير، فلم يدعوا جانبًا من جوانب الحياة، دون أن يكون للخير نصيب فيه.
وهم بهذا إنما يصدرون عن إحساسات إنسانية عميقة، تنفذ إلى مواطن الحاجة التي تعرض للناس في كلِّ زمان ومكان. بل هي لم تقتصر على الإنسان، حتى شملت الطير والحيوان!!
ولا شكَّ أن العقيدة هي صاحبة الفضل في خلق هذه الأحاسيس الرقيقة، وإيقاظ تلك المشاعر السامية التي تنبَّهت لتلك الدقائق، في كلِّ زاوية من زوايا المجتمع، وكلِّ منحى من مناحي الحياة. ولم يكفِهم أن يكون برُّهم مقصورًا على حياتهم القصيرة، فأرادوها صدقة جارية، وحسنة دائمة، يُكتب لهم أجرها ما بقيت الحياة، وبقي الإنسان.
المؤسسات الخيرية في تاريخ المسلمين
ومن أبرز الدلائل على رسوخ معنى الخير، ومشاعر البرِّ والمرحمة، وعمق جذوره في تاريخ أمتنا: كثرة المؤسسات التي تُعنى بخير الإنسان، والبرِّ بالإنسان.
ويسرُّني أن أنقل هنا صفحات مشرقة مما كتبه الداعية الكبير العلاَّمة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه البديع (من روائع حضارتنا) عن هذه المؤسسات، قال:
(كانت هذه المؤسسات نوعين: نوعا تنشئه الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، ونوعا ينشئه الأفراد من أمراء وقوَّاد وأغنياء ونساء. ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدِّد أنواع المؤسسات الخيرية كلَّها، ولكن حسبنا أن نلمَّ بأهمِّها:
فمن أول المؤسسات الخيرية: المساجد، وكان الناس يتسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسِّسونها، وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد الملك من أموال بالغة على بناء الجامع الأُموي، مما لا يكاد يصدِّقه الإنسان لكثرة ما أنفق من مال، وما استخدم في إقامته من رجال.
ومن أهمِّ المؤسسات الخيرية: المدارس والمستشفيات. وسنفرد لها حديثا خاصًا إن شاء الله.
ومن المؤسسات الخيرية: بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر.
ومنها: التكايا والزوايا، التي ينقطع فيها مَن شاء لعبادة الله عزَّ وجلَّ.
ومنها: بناء بيوت خاصة للفقراء، يسكنها مَن لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا.
ومنها: السقايات، أي تسبيل الماء في الطرقات العامَّة للناس جميعًا.
ومنها: المطاعم الشعبية، التي كان يفرَّق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، ولا يزال عهدنا قريبًا بهذا النوع في كلٍّ من تكيَّة السلطان سليم، وتكيَّة الشيخ محيي الدين بدمشق.
ومنها: بيوت للحجاج في مكة، ينزلونها حين يفِدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمَّت أرض مكة كلَّها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج، لأنها كلُّها موقوفة على الحجاج.
ومنها: حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جدًا بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقُراها، حتى قلَّ أن يتعرَّض المسافرون - في تلك الأيام - لخطر العطش.
ومن المؤسسات الاجتماعية: ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور.
ومنها: ما كانت للمقابر يتبرَّع الرجل بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة.
ومنها: ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.
ومنها: المؤسسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعَدين والعميان والعجز، يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كلُّ ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضًا.
وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين، ورفع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب، لصيانة صحَّتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعَدين بمَن يقودهم ويخدمهم.
ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ... فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!
ومنها: مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية (نقطة الحليب) عندنا، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عزَّ وجلَّ، وقد كان من مَبَرَّات صلاح الدين: أنه جعل في أحد أبواب القلعة - الباقية حتى الآن في دمشق - ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كلِّ أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.
ومن أطرف المؤسسات الخيرية: وقف (الزبادي)[10]، للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنهم لو يصنعوا شيئًا.
وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات: المؤسسات التي أُقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق الذي يُقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفًا للخيول والحيوانات العاجزة المُسنَّة ترعى فيه حتى تلاقي حتفها)[11]
[1]- إشارة إلى حديث النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586)، وأحمد في المسند (18373).
[2]- إشارة إلى حديث سبق تخريجه صـ12.
[3]- سبق تخريجه صـ90.
[4]- رواه البيهقي في الكبرى كتاب الوقف (6/160).
[5]- رواه البخاري في الوكالة (2313).
[6]- رواه الترمذي في المناقب (3703)، وقال: حسن، والنسائي (3608)، والدراقطني (4/196)، كلاهما في الأحباس، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2921).
[7]- انظر: نيل الأوطار (6/127، 128) ط دار الجيل. بيروت.
[8]- من بيان لوزير الأوقاف الشيخ أحمد الباقوري عن الأوقاف ودورها، ألقاه في مجلس الشعب المصري.
[9]- انظر: اشتراكية الإسلام للسباعي صـ110 - 112.
[10]- جمع زبدية، وهي إناء من الفخار عادة يوضع فيه اللبن حتى يتخمر.
[11]- من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي (178 ـ 182).
المصدر موقع الدكتور يوسف القرضاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق