بحث عن التصوف للإمام الشوكاني
بحث عن التصوف للإمام للشوكاني
بحث في التصوف
الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني
(2/1043-1055)
سأل كاتبها حسن بن قاسم المجاهد
– وفقه الله – سيدي مولاي العلامة النحرير، شيخ الإسلام وبدرُه محمد بن علي الشوكاني
– حفظه الله – وأمتع المسلمين بحياته – آمين آمين.
مضمونة: ما زال يخطر بذهن محبكم
من شأن المتصوف شيئا، هل عليه دليل أو من قال وقيل؟ وهل العلم علمان باطنٌ وظاهرٌ؟
والباطن يسمونه الطريقةَ والوصول إلى معرفته على تلك المراتب الذي رتبوها إلى حد الوصول،
وكلام أهل المذهب معروف، وبعض علماء الشافعية يقول: ما للشرع عليه اعتراض فهو مختونٌ.
وقد أوسع المقبلي بالعلم الشامخ في هذا البحث. وللعلامة الزمخشري مادة عند قوله تعالى:
(قل إن كنتم تحبون الله) إلخ. وإذا ظهر ما يخالف كما يقولون لهم المعنى إلخ. وأن كلما
صدر منهم عبادة فإما كرامات الأحياء الخارقة، وإما الإخبار بما سيكون من طريق التحدُّث
كما ثبت، وكما كان عمر – رضي الله عنه – فمن حسناتكم وتفضلاتكم الإفادة – كثر الله
فوائدكم، وأمتع الله المسلمين بحياتكم – آمين آمين. بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب
اعلم – وفقني الله وإياك – أن معنى
التصوف المحمود هو الزهد في الدنيا، حتى يستوي عنده ذهبها وترابها، ثم الزهد فيما يصدر
عن الناس من المدح والذم حتى يستوي عنده مدحهم وذمهم، ثم الاشتغال بذكر الله - سبحانه
– وبالعبادة المقربة لله، فمن كان هكذا فهو الصوفي حقا، وعند ذلك يكون من أطباء القلوب
فيداويها بما يمحو عنها الطواغيت الباطنة من الكبر، والحسد، والعجب، والرياء، وأمثال
هذه الغرائز الشيطانية التي هي أخطر المعاصي، وأقبح الذنوب، ثم يفتح الله له أبوابا
كان عنها محجوبا كغيره، لكنه لما أماط عن ظاهره وباطنه الذنوب الذي يصير بها قلبه وحواسه
في ظلمة، بل يصير بها جميع ظاهره وباطنه في غشاوة صار جسدا صافيا عن شوب الكدر، مطهراً
عن دنس الذنوب، فيبصر ويسمع ويفهم بحواس لا يحجبها عن حقائق الحق حاجب، ولا يحول بينها
وبين درك الصواب حائل. ويدل على ذلك أتم دلالة وأعظم برهان ما ثبت في البخاري وغيره
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يقول الله تعالى: من
عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة"، وفي رواية: "فقد آذنته بالحرب، وما
تقرب لي عبدي بمثل ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه،
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ونظره الذي ينظر به، ويده التي يبطش بها، ورجله
التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن أستعاذني لأعيذنه. وما
ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا
بد له منه".
ومعلوم أن من كان يبصر بالله – سبحانه
– ويسمع به، ويبطش به، ويمشي به له حال يخالف حال من لم يكن كذلك، لأنه ينكشف له الأمور
كما هي، وهذا هو سيد ما تجلى عنهم من المكاشفة، لأنه قد ارتفع عنهم حجب الذنوب، وذهب
عنهم أدران المعاصي. وغيرهم ممن لا يبصر بالله، ولا يسمع به، ولا يبطش به، ولا يمشي
به لا يدرك من ذلك شيئا بل هو محجوب عن الحقائق، غير مهتد إلى مستقيم الطرائق كما
قال الشاعر:
وكيف ترى ليلى بعــــين تـــرى بهـــا
*** سـواهـــا وما ظهـــــرها بالمدامع
ويلتـــذ منها بالحديث وقــــد جرى
*** حديــــث سواها في خروت المسامع
أجلك يا ليـــــــــلى عن العين
إنما *** أراك بقلب خاشع لك خاضـــع
وأما من صفى عن المكدر ، وسمع وأبصر
فهو كما قال الآخر :
الآن وادي الجــزاع أضحى ترابه
*** من المـس كافورا وأعواده زبدا
ومـــا ذاك إلا أن هنــد عشيـــــــة
*** تمشـت وجرحت في جوانبه بردا
ومما يدل على هذا المعنى الذي أفاده
حديث أبي هريرة حديث :" اتقــــــوا فراسة المؤمن ، فإنه يرى بنور الله
" وهو حديث صححه الترمذي، فإنه أفاد أن المؤمنين من عباد الله يبصرون بنور الله
ــ سبحانه ــ وهذا معنى ما في الحديث الأول من قوله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ
فبي يبصر. فما وقع من هؤلاء القوم الصالحين من المكاشفات هو من هذه الحيثية الواردة
في الشريعة المطهرة. وقد ثبت أيضاً في الصحيح عنه ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ أنه
قال" إنَّ في هذه الأمة محدثين، وأن منهم عمر" ففي هذا الحديث الصحيح فتح
باب المكاشفة لصالحي عباد الله ــ سبحانه ــ فيحدثون بالوقائع بنور الإيمان الذي هو
من نور الله ــ سبحانه ــ فتعرفونها كما هي حتى كأن محدثاً يخبرهم بها، ويخبرهم بمضمونها.
وقد كان عمر بن الخطــــاب ــ رضي الله عنه ــ يقع له من ذلك الكثير الطيب في وقائع
معروفة منقولةٍ في دواوين الإسلام، ونزل بتصديق ما تكلم به القرآن الكريم كقوله ــ
عز وجل ــ : {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } وقوله ــ سبحانه ــ
: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وقوله : { استغفر لهم أو لا تستغفر
لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فمن كان من صالحي العباد متصفاً بهذه
الصفات، متسماً بهذه السمات فهو رجل المعالم، وفرد الدهر وزين العصر. والاتصال به مما
تلين به القلوب، وتخشع له الأفئدة، وتجذب بالاتصال به العقول الصحيحه إلى مراضي الرب
ــ سبحانه ــ، وكلماته هي الترياق المجرب، وأشاربُهُ هي طب القلوب القاسية، وتعليماته
هي كيمياء السعادة، وإرشاداته هي الموصلةُ إلى الخير الأكبر، والكرامات الدائمة التي
لا نفاذ لها ولا انقطاع. ولم تصف البصائر ولا صَلحَت السرائر بمثل الاتصال بهؤلاء القوم
الذين هم خيرة الخيرة، وأشرف الذخيرة فيا لله قوم لهم السلطان الأكبر على قلوب هذا
العالم ! يجذبونها إلى طاعات الله ــ سبحانه ــ والإخلاص له، والاتكال عليه، والقرب
منه، والبعد عما يشتغل عنه، ويقطع عن الوصول إليه. وقلَّ أن يتصل بهم ويختلط بخيارهم
إلا من سبقت له السعادة، وجذبته العناية الربانية إليهم، لأنهم يخفون أنفسهم ويظهرون
في مظاهر الخمول. ومن عرفهم لم يدل عليهم إلا من أذن الله له، ولسان حاله يقول كما
قال الشاعر :
وكم سائل عن سر ليلى رددتُه ***
بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خيرنا فأنت أمينُها *** وما
أنا إن خيرتهم بأميـن
فيا طالب الخير إذا ظفرت يداك بواحد
من هؤلاء الذين هم صفوة الصفوة، وخيرة الخيرة فاشددهما عليه، واجعله مُؤْثَراً على
الأهل والمال، والقريب والحبيب، والوطن والسكن فإنا إن وزنا هؤلاء بميزان الشرعِ ،
واعتبرناهم بمعبر الدين وجدناهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون ، وقلنا
لمعاديهم، او القادح في عليِّ مقامهم : أنت ممن قال فيه الرب ــ سبحانه ــ كما حكاه
عنه رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ : " من عادى لي ولياً فقد بارزني
بالمحاربة وقد آذنته بالحرب"، لأنه لا عيب لهم إلا أنهم أطاعوا الله كما يجب،
وآمنو به كما يحبُّ، ورفضوا الدنيا الدنية، وأقبلوا على الله - عزّ وجل - في سرهم وجهرهم،
وظاهرهم وباطنهم.
وإذا فرضنا أن في المدعيين للتصوف
من لم يكن بهذه الصفات وعلى هذا الهدى القويم فإن بدا منه ما يخالف هذه الشريعة المطهرة،
وينافي منهجها الذي هو الكتاب والسنة فليس من هؤلاء، والواجب علينا ردُّ بدعته عليه،
والضرب بها في وجهه كما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "كل أمر
ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "كل
بدعة ضلالة". ومن أنكر علينا ذلك قلنا له: وزنَّا هذا بميزان الشرع فوجدناه مخالفا
له، ورددنا أمره إلى الكتاب والسنة فوجدناه مخالفا لهما، وليس الدين إلا كتاب الله
– سبحانه - وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والخارج عنهما المخالف لهما ضال مضل.
ولا يقدحُ على هؤلاء الأولياء وجود
من هو هكذا، فإنه ليس معدودا منهم، ولا سالكا طريقتهم، ولا مهتديا بهديهم. فاعرف هذا
فإن القدح في قوم بمجرد فرد أو أفراد منسوبين إليهم نسبة غير مطابقة للواقع لا يقع
إلا ممن لا يعرف الشرع، ولا يهتدي بهديه، ولا يبصر بنوره.
وعلى ذكرنا لحديث: "اتقوا فراسة
المؤمن"، فذكر قصة متعلقة به ذكرها من يوثق بنقله من أهل التاريخ، وهي أن الجنيد
ــ رحمه الله ــ أذن له شيخه أن يتكلم على الناس في جامع البلد الذي هو فيه بعد صلاة
الفجر فاعتذر له بأنه غير فصيح العبارة، وغير صالح لذلك فقال: لا عذر من ذلك. وكان
هذا دائرًا بينه وبينه في الليل، ولم يكن عندهما أحد، ولاخرج واحد منهما، فوقع التحدث
في ذلك البلد بأن الجنيد قد أذن له شيخه أن يتكلم على الناس بعد صلاة الفجر في الجامع،
وارتجت المدينة بهذا الخبر، فلم يحضر صلاة الفجر إلا وقد صار ذلك الجامع ممتلئاً من
الناس، وهم مزدحمون فيه، لأنه وصل إليه من لم يكن معتاداً للصلاة فيه شوقاً إلى كلام
الجنيد، مع أنه لم يكن إذ ذاك في رتبة الشيوخ، بل هو من جملة تلامذة شيخه، ولكن الأسرار
الربانية تعمل عملها، والعمل الصالح لا يخفى. فلما فرغ أهل الجامع من الصلاة تهيأ الجنيد
للكلام، وقد ألتف عليه الناس حتى كأنهم على موعد لذلك، وكأنه صاح بينهم صائح بما دار
بينه وبين شيخه تلك الليلة، فقبل أن يتكلم بدره واحد من بين أولئك المستمعين فقال:
يا شيخ: ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – "اتقوا فراسة المؤمن فإنه
يرى بنور الله"؟ فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أَسْلِمْ فقد آن لك أن تُسْلِمِ،
فقعد بين يديه وتكلم بالشهادتين، وذكر للجنيد ولذلك الجمع أنه من جملة النصارى الساكنين
بذلك البلد، وأنه لما سمع الناس يتحدثون تلك الليلة بأن الجنيد سيتكلم في الجامع بعد
صلاة الفجر بقي مفكراً، وأدرك في قلبه ميلاً إلى الإسلام، وعزم على حضور ذلك الجمع
مريداً لاختبار الجنيد بهذا الحديث، مع كونه قد لبس لباسَ الإسلام، وقال في نفسه: إن
كاشفني أسلمتُ، فكاشفه بما تقدَّم، وصار ذلك الرجل من خيار المسلمين، فانظر هذا الكشف
من مثل هذا الولي، واعرفْ به ما عند أفاضل هذه الطائفة من المواهب الربانية، واسأل
ربك أن يجعل لك نصيباً مما فاض عليهم من تفضُّلاتِه على عباده. اللهم يا ربَّ العالم،
ويا خالق الكل، ويا مستوي على عرشك اجعل لنا نصيباً مما مننت به على هؤلاء الصالحين،
وتفضلت به عليهم، فالأمرُ أمرك، والخير خيرك، ولا معطي غيرك.
وبالجملة فمن أراد أن يعرف أولياء
هذه الأمة، وصالحي المؤمنين المتفضل عليهم بالفضل الذي لا يعدله فضل، والخير الذي لا
يساويه خير فليطالع الحلية لأبي نعيم، وصفوة الصفوة لا بن الجوزي، فإنهما تحرَّيا ما
صحَّ، وأودعا كتابيهما من مناقب الأولياء المروية بالأسانيد الصحيحة ما يحدث بعضُه
بصنيع من يقف عليه إلى طريقتهم، والاقتداء بهم.
وأقل الأحوال أن يعرفَ مقادير أولياء
الله، وصالحي عباده، ويعلمَ أنهم القوم الذين لا يشقى جليسهم، ولا يُغْبَن من يَأتَسِي
بهم، ويمشي على طريقتهم، فإنَّ ذلك منه بمجرَّده منزعٌ من منازع الخير، ومهتع من مهاتع
الرشد. وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "أنت مع من أحببت" فمحبة
الصالحين قربةٌ لا تهمل، وطاعة لا تضيع، وإن لم يعمل كعملهم، ولا جهد نفسه كجهدهم لأنفسهم
.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية
. والحمد لله أولا وآخراً ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، ورضي الله عن
صحبه الراشدين.
كتبه : سيف بن علي العصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق