الذكر وفضائله
الذكر وفضائله
. عن عبد الله بن بسر
قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام
قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل
خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
الحاشية رقم: 1
وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان
في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو
بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره
من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز
وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته
والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره
كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة
وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال
: 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما
[ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل
عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون
قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه
الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في
ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون
في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة
عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت
: قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل
خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث
، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين
على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع
به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم
، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما
في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من
عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر
عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس
بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين
الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة
، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة
: ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز
وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من
حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات
الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ،
ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان
" عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر
الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس
مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي
من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند
الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي
في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان
الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ،
[ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم
أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم
لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير
، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي
الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين
لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا
أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم
بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن
أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة
إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران
: 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم
مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ،
قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني
كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله
أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال
: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش
، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا
رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال
ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني
فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك
أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ،
ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا
[ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان
. ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ،
فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر
الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو
من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك
لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة
عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق
إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان
، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في
مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو
جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته .
وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ،
والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو
على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن
لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح
به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما
مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ
: ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع
، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة
تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال
. وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم
، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني
له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده
. كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518
] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما
استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى
تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر .
كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده
مكتوب
كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء
على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه
.
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري
على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله
، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله
" لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد :
لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني
إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره
زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي
القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه
، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب :
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري
النبض ينزعج عند ذكر المحبوب :
إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشوان وحن طروب
ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين
: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] .
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز
وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري
خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال
: كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم
على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا
، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ،
وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا
، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر
، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري
إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا
يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص
الأولياء بقوة ولايتهم .
إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت مفاصلها من هول ما تتذكر
وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد
أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال
الدم .
وما ذكرتكم إلا نسيتكم نسيان إجلال لا نسيان إهمال
إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا أجللت مثلكم يخطر على بالي
الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله
عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد
: 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب
السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر
آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال :
أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر
الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين
لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت
الآخرة إلا بعفوه ، ولا طابت الجنة إلا برؤيته .
أبدا نفوس الطالبيـ ــن إلى طلولكم تحن
وكذا القلوب بذكركم بعد المخافة تطمئن
جنت بحبكم ومن يهوى الحبيب ولا يجن
بحياتكم يا سادتي جودوا بوصلكم ومنوا
قد سبق حديث : اذكروا الله حتى يقولوا
: مجنون ولبعضهم :
لقد أكثرت من ذكرا ك حتى قيل وسواس
كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر ،
فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال
لا يا أخي ، ولكن هذا دواء الجنون .
وحرمة الود ما لي عنكم عوض وليس لي في سواكم سادتي غرض
وقد شرطت على قوم صحبتهم بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا
ومن حديثي بكم قالوا : به مرض فقلت : لا زال عني ذلك المرض
المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن
الذكر ، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم . قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين
كلموا الله كثيرا ، وكلموا الناس قليلا ، قالوا : كيف نكلم الله كثيرا ؟ قال : اخلوا
بمناجاته ، اخلوا بدعائه . وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه
، فكان [ ص: 522 ] يصلي جالسا ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول
: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وكان
بعضهم يصوم الدهر ، فإذا كان وقت الفطور ، قال : أحس نفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل
. قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من
ذكرني .
كتمت اسم الحبيب من العباد ورددت الصبابة في فؤادي
فواشوقا إلى بلد خلي لعلي باسم من أهوى أنادي
فإذا قوي حال المحب ومعرفته ، لم يشغله
عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بين الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ،
كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم : صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى
، وفي هذا المعنى قيل :
جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن
وقال غيره :
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وهذه كانت حال الرسل والصديقين ، قال
تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ الأنفال
: 45 ] . [ ص: 523 ] وفي " الترمذي " مرفوعا : يقول الله عز وجل : إن عبدي
كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه . وقال تعالى : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله
قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ النساء : 103 ] يعني الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال
: فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ النساء : 103 ] ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة
: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون [ الجمعة : 10 ] ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره . ولهذا ورد
فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند " و " الترمذي
" ، و " سنن ابن ماجه " عن عمر مرفوعا : من دخل سوقا يصاح فيها ويباع
، فقال : لا إله إلا وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت
بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة
، ورفع له ألف ألف درجة . وفي حديث آخر : ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين
، وذاكر الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس . [ ص: 524 ] قال أبو عبيدة
بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلب الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإن كان في السوق
وإن حرك به شفتيه فهو أفضل . وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة
. والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس
، فخلوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرقا ، ثم مات أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ،
فقال له : أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق ؟
الحديث الخمسون . عن عبد الله بن بسر
قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام
قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل
خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
الحاشية رقم: 2
فصل في وظائف الذكر الموظفة في اليوم
والليلة . معلوم أن الله عز وجل فرض على المسلمين أن يذكروه كل يوم وليلة خمس مرات
، بإقامة الصلوات الخمس في مواقيتها المؤقتة ، وشرع لهم مع هذه الفرائض الخمس أن يذكروه
ذكرا يكون لهم نافلة ، والنافلة : الزيادة ، فيكون ذلك زيادة على الصلوات الخمس ، وهي
نوعان : أحدهما : ما هو من جنس الصلاة ، فشرع لهم أن يصلوا مع الصلوات الخمس قبلها
، أو بعدها أو قبلها وبعدها سننا ، فتكون زيادة على الفريضة ، فإن كان في الفريضة نقص
، جبر نقصها بهذه النوافل ، وإلا كانت النوافل زيادة على الفرائض . وأطول ما يتخلل
بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بين [ ص: 525 ] صلاة العشاء وصلاة الفجر
، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، فشرع كل واحدة من هاتين الصلاتين صلاة تكون نافلة
؛ لئلا يطول وقت الغفلة عن الذكر ، فشرع ما بين صلاة العشاء ، وصلاة الفجر صلاة الوتر
وقيام الليل ، وشرع ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر صلاة الضحى . وبعض هذه الصلوات آكد
من بعض فآكدها الوتر ، ولذلك اختلف العلماء في وجوبه ، ثم قيام الليل ، وكان النبي
- صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه حضرا وسفرا ، ثم صلاة الضحى ، وقد اختلف الناس فيها
، وفي استحباب المداومة عليها ، وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة ، وورد الترغيب أيضا
في الصلاة عقيب زوال الشمس . وأما الذكر باللسان ، فمشروع في جميع الأوقات ، ويتأكد
في بعضها . فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات ، وأن يذكر الله عقيب كل صلاة
منها مائة مرة ما بين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل . ويستحب - أيضا - الذكر بعد الصلاتين
اللتين لا تطوع بعدهما ، وهما : الفجر والعصر ، فيشرع الذكر بعد صلاة الفجر إلى أن
تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهذان الوقتان - أعني وقت الفجر ووقت العصر
- هما أفضل أوقات النهار للذكر ، ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن
كقوله : وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 42 ] ، وقوله : واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا
[ الإنسان : 25 ] ، وقوله : وسبح بالعشي والإبكار [ آل عمران : 41 ] ، وقوله : فأوحى
إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ مريم : 11 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون
[ الروم : 17 ] ، وقوله : واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار [ غافر :
55 ] ، وقوله : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال
ولا تكن من الغافلين [ الأعراف : 205 ] ، وقوله : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
غروبها [ طه : 130 ] ، وقوله : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ ق : 39
] . [ ص: 526 ] وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر : صلاة الفجر وصلاة العصر ،
وهما أفضل الصلوات . وقد قيل في كل منهما : إنها الصلاة الوسطى وهما البردان اللذان
من حافظ عليهما دخل الجنة ، ويليهما من أوقات الذكر الليل . ولهذا يذكر بعد هذين الوقتين
في القرآن تسبيح الليل وصلاته . والذكر المطلق يدخل فيه الصلاة ، وتلاوة القرآن ، وتعلمه
، وتعليمه ، والعلم النافع ، كما يدخل فيه التسبيح والتكبير والتهليل ، ومن أصحابنا
من رجح التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر . وسئل الأوزاعي عن ذلك ، فقال
: كان هديهم ذكر الله ، فإن قرأ فحسن . وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل من التلاوة
، وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مائة مرة : إنه أفضل من التلاوة حينئذ
. والأذكار والأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصباح والمساء كثيرة
جدا .
الحديث الخمسون . عن عبد الله بن بسر
قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام
قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل
خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
الحاشية رقم: 3
ويستحب أيضا إحياء ما بين العشاءين
بالصلاة والذكر ، وقد تقدم حديث أنس أنه نزل في ذلك قوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن
المضاجع [ السجدة : 16 ] . ويستحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل ، كما دلت عليه
الأحاديث الصحيحة - وهو مذهب الإمام أحمد وغيره - حتى يفعل هذه الصلاة في أفضل وقتها
، وهو آخره ، ويشتغل منتظر هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول من الليل بالصلاة
، أو بالذكر وانتظار الصلاة في المسجد ، ثم إذا صلى العشاء ، وصلى بعدها ما يتبعها
من سننها الراتبة ، أو أوتر بعد ذلك إن كان يريد أن يوتر قبل النوم . [ ص: 527 ] فإذا
أوى إلى فراشه بعد ذلك للنوم ، فإنه يستحب له أن لا ينام إلا على طهارة وذكر ، فيسبح
ويحمد ويكبر تمام مائة ، كما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وعليا أن يفعلاه
عند منامهما ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- عند النوم ، وهي أنواع متعددة من تلاوة القرآن وذكر الله ، ثم ينام على ذلك . فإذا
استيقظ من الليل ، وتقلب على فراشه ، فليذكر الله كلما تقلب ، ففي " صحيح البخاري
" عن عبادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعار من الليل ، فقال
: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، سبحان
الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ،
ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : " ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ثم صلى
قبلت صلاته . وفي " الترمذي " عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال : من أوى إلى فراشه طاهرا يذكر الله حتى يدركه النعاس ، لم تمض ساعة من الليل
يسأل الله فيها شيئا من خير الدنيا والآخرة ، إلا أعطاه إياه . وخرج أبو داود معناه
من حديث معاذ ، وخرجه النسائي من حديث [ ص: 528 ] عمرو بن عبسة . وللإمام أحمد من حديث
عمرو بن عبسة في هذا الحديث : وكان أول ما يقول إذا استيقظ : سبحانك لا إله إلا أنت
فاغفر لي ، إلا انسلخ من خطاياه كما تنسلخ الحية من جلدها . وثبت أنه - صلى الله عليه
وسلم - كان إذا استيقظ من منامه يقول : الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه
النشور . ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد ، أتى بذلك كله على ما ورد عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - ، ويختم تهجده بالاستغفار في السحر ، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار
، وإذا طلع الفجر ، صلى ركعتي الفجر ، ثم صلى الفجر ، واشتغل بعد صلاة الفجر بالذكر
المأثور إلى أن تطلع الشمس على ما تقدم ذكره ، فمن كان حاله على ما ذكرنا ، لم يزل
لسانه رطبا بذكر الله ، فيستصحب الذكر في يقظته حتى ينام عليه ، ثم يبدأ به عند استيقاظه
، وذلك من دلائل صدق المحبة ، كما قال بعضهم : وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت
وقت هبوبي
عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به
جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ
.
الحاشية رقم: 4
وأما ما يفعله الإنسان في آناء الليل
والنهار من مصالح دينه ودنياه فعامة ذلك يشرع ذكر اسم الله عليه ، فيشرع له ذكر اسم
الله وحمده على أكله وشربه ولباسه وجماعه لأهله ودخول منزله ، وخروجه منه ، ودخوله
الخلاء ، وخروجه [ ص: 529 ] منه ، وركوبه دابته ، ويسمي على ما يذبحه من نسك وغيره
. ويشرع له حمد الله على عطاسه ، وعند رؤية أهل البلاء في الدين أو الدنيا ، وعند التقاء
الإخوان ، وسؤال بعضهم بعضا عن حاله ، وعند تجدد ما يحبه الإنسان من النعم ، واندفاع
ما يكرهه من النقم ، وأكمل من ذلك أن يحمد الله على السراء والضراء والشدة والرخاء
، ويحمده على كل حال . ويشرع له دعاء الله تعالى عند دخول السوق ، وعند سماع أصوات
الديكة بالليل ، وعند سماع الرعد ، وعند نزول المطر ، وعند اشتداد هبوب الرياح ، وعند
رؤية الأهلة ، وعند رؤية باكورة الثمار . ويشرع أيضا ذكر الله ودعاؤه عند نزول الكرب
وحدوث المصائب الدنيوية ، وعند الخروج للسفر ، وعند نزول المنازل في السفر ، وعند الرجوع
من السفر . ويشرع التعوذ بالله عند الغضب ، وعند رؤية ما يكره في منامه ، وعند سماع
أصوات الكلاب والحمير بالليل . وتشرع استخارة الله عند العزم على ما لا يظهر الخيرة
فيه . وتجب التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى
: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ آل عمران
: 135 ] ، فمن حافظ على ذلك ، لم يزل لسانه رطبا بذكر الله في كل أحواله .
عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به
جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ
.
الحاشية رقم: 5
[ ص: 530 ] فصل قد ذكرنا في أول الكتاب
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بجوامع الكلم ، فكان - صلى الله عليه وسلم
- يعجبه جوامع الذكر ، ويختاره على غيره من الذكر ، كما في " صحيح مسلم
" عن ابن عباس ، عن جويرية بنت الحارث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من
عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة ، فقال : ما
زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ قالت : نعم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم
- : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن : سبحان
الله وبحمده عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . وخرجه النسائي ، ولفظه
: سبحان الله ، والحمد الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر عدد خلقه ، ورضا نفسه
، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . وخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث سعد بن
أبي وقاص أنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى ، أو قال
: حصى تسبح به ، فقال : ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا وأفضل ؟ سبحان الله عدد ما خلق
في السماء ، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض ، وسبحان الله عدد ما بين ذلك ، وسبحان
الله عدد ما هو خالق ، والله أكبر مثل ذلك ، والحمد لله مثل ذلك ، ولا حول ولا قوة
إلا بالله مثل ذلك . [ ص: 531 ] وخرج الترمذي من حديث صفية ، قالت : دخل علي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقالت سبحت بهذه ، فقال
: ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به ؟ فقلت : علمني ، فقال : قولي : سبحان الله عدد خلقه
. وخرج النسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي أمامة أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - مر به وهو يحرك شفتيه ، فقال : ماذا تقول يا أبا أمامة ؟ قال : أذكر
ربي ، قال : ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل ؟ أن
تقول : سبحان الله عدد ما خلق ، سبحان الله ملء ما خلق ، سبحان الله عدد ما في الأرض
والسماء ، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء ، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه ،
وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه ، وسبحان الله عدد كل شيء ، وسبحان الله ملء كل شيء
، وتقول : الحمد لله مثل ذلك . [ ص: 532 ] وخرج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء .
وخرج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ : يا معاذ
، كم تذكر ربك كل يوم ؟ تذكره كل يوم عشرة آلاف مرة ؟ قال : كل ذلك أفعل ، قال : أفلا
أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف أن تقول : لا إله إلا الله عدد
ما أحصاه علمه لا إله إلا الله عدد كلماته ، لا إله إلا الله عدد خلقه ، لا إله إلا
الله زنة عرشه ، لا إله إلا الله ملء سماواته ، لا إله إلا الله ملء أرضه ، لا إله
إلا الله مثل ذلك معه ، والله أكبر مثل ذلك معه ، والحمد لله مثل ذلك معه . وبإسناده
أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة ، فقال : ألا أدلك على ما هو خير لك منه
؟ سبحان الله ملء البر والبحر ، سبحان الله ملء السماوات والأرض ، سبحان الله عدد خلقه
، ورضا نفسه ، فإذا أنت قد ملأت البر والبحر والسماء والأرض . وبإسناده عن المعتمر
بن سليمان التيمي قال : كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول : أمهلوا ، سبحان الله والحمد
لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله عدد ما خلق وعدد ما
هو خالق ، وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق ، وملء ما خلق وملء ما هو خالق ، وملء سماواته
، وملء أرضه ، ومثل ذلك وأضعاف ذلك ، وعدد خلقه ، وزنة عرشه ، ومنتهى رحمته ، ومداد
كلماته ، ومبلغ رضاه وحتى يرضى وإذا رضي ، وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى ، وعدد
ما هم ذاكروه فيما بقي ، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من [ ص: 533 ] الساعات
، وتنسم وتنفس من أبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة أمد من ذلك لا ينقطع أولاه ، ولا
ينفد أخراه . وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال : رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته
، فقلت : ما صنعت ؟ قال : خيرا ، فقلت : ترجو للخاطئ شيئا ؟ قال : يلتمس علم تسبيحات
أبي المعتمر نعم الشيء . قال ابن أبي الدنيا : وحدثني محمد بن أبي الحسين ، حدثني بعض
البصريين أن يونس بن عبيد رآه رجلا فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم ، فقال
: ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال ؟ قال : رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان
. وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه من الدعاء جوامعه ، ففي " سنن
أبي داود " عند عائشة ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الجوامع
من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك . وخرج الفريابي وغيره من حديث عائشة أيضا أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال لها : يا عائشة ، عليك بجوامع الدعاء : اللهم إني أسألك من
الخير كله عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله
، ما علمت منه وما لم أعلم . اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه محمد عبدك ونبيك ،
وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك ، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول
وعمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرب إليها من قول وعمل ، وأسألك ما قضيت لي من قضاء
، أن تجعل عاقبته رشدا وخرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه
" والحاكم ، وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء ، وعند [ ص: 534 ] الحاكم عليك بالكوامل
وذكره . وخرجه أبو بكر الأثرم وعنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ما
منعك أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه ؟ وذكر هذا الدعاء . وخرجه الترمذي من حديث أبي
أمامة قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا ، فقلنا
: يا رسول الله ، دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا ، فقال : ألا أدلكم على ما يجمع
ذلك كله ؟ تقولون : اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد ، ونعوذ بك من شر
ما استعاذ منه نبيك محمد ، وأنت المستعان ، وعليك البلاغ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله
. وخرجه الطبراني وغيره من حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول
في دعاء له طويل : اللهم إني أسألك فواتح الخير ، وخواتمه ، وجوامعه ، وأوله وآخره
، وظاهره ، وباطنه وفي " المسند " أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنا له يدعو ،
ويقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار
وسلاسلها وأغلالها ، فقال : لقد سألت الله خيرا كثيرا ، وتعوذت بالله من شر كثير ،
وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء
، وقرأ هذه الآية : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين [ الأعراف : 55 ] وإن
بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، [ ص: 535 ] وأعوذ
بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل . وفي " الصحيحين " عن ابن مسعود
، قال : كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : السلام على الله
، السلام على جبريل وميكائيل ، السلام على فلان وفلان ، فقال لنا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ذات يوم : إن الله هو السلام ، فإذا قعد أحدكم في الصلاة ، فليقل : التحيات
لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض ، أشهد
أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثم ليتخير من المسألة ما شاء .
وفي " المسند " عن ابن مسعود قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
علم فواتح الخير وجوامعه ، أو جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ، وإن كنا لا ندري ما نقول
في صلاتنا حتى علمنا ، فقال : قولوا : التحيات لله فذكره إلى آخره ، والله أعلم . آخر
الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم
الوكيل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق