الطريقة النقشبندية
الطريقة مسلك خاص من مناهج التصوف يتخذه السالك للوصول إلى غاية هي الإيمان الكامل الذي يصل إلى عين اليقين أو حق اليقين. وهنا لا يكون الإيمان تقليديا أو استدلاليا يمكن تعرضه لهزة الشك إذ يرى بعين بصيرته فلا يؤثر فيه شيء وكما قال
الإمام الرباني في مكتوباته إن الفرق بين إيمان العلماء وبين إيمان المشايخ الكاملين للتصوف هو أن معرفة العلماء بالاستدلال وأن معرفة المتصوفين بالكشف والذوق وسواء كان الأساس استدلالات أو كشفا فإن الغاية هي تطبيق الشريعة المحمدية.
وكما أننا نجد في ميادين علوم الشريعة مجتهدين كباراً برزوا وتركوا مذاهب ومناهج مستقيمة فسرت للأجيال الإسلامية معاني الشريعة وأهدافها مثل الإمام مالك بن أنس (715 ـ 795)م وأبي حنيفة (699-767)م ومحمد بن إدريس الشافعي (767 ـ820)م وأحمد بن حنبل (780 ـ855)م ومجتهدين آخرين درسوا هذه العلوم وتبحروا فيها وكونوا مدارس متميزة فإننا نجد في ميادين علم التصوف رجالا فضلاء شقوا طرقا ومسالك اتخذها عشاق الروح للوصول إلى الإيمان الكامل من أمثال: الشيخ معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي، وذي النون المصري وعبد القادر الكيلاني، وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي وبهاء الدين النقشبند، والشيخ عمر السهروردي، وأبي الحسن الشاذلي، ونجم الدين الكبروي، وجلال الدين الرومي ومعين الدين الحسني الجشتي، وابي العباس التيجاني، وعشرات من هؤلاء الرجال الذين أسسوا طرقا خاصة لتربية السالك للوصول إلى نهاية المرام ولكنها تنبع جميعا من مصدر واحد، ومثل ذلك "في الأمور الدنيوية" إننا نصنع من الحنطة عشرات من أنواع الخبز وصوره ونصنع من اللحم والأرز عديد من الطعام ولكل مذاق يختلف عن الآخر بالرغم من وحدة الأساس والمادة ولكن الجميع يؤدي غرضا واحدا هو الشبع، والتمتع وبناء الجسم وتماسكه. وكما أن المذاهب الإسلامية تهدف إلى توضيح طرق العبادة وأحكام الشريعة والسنة النبوية لاتخاذها منهجا للحياة. فإن الطرق الصوفية تهدف أيضا إلى ترسيخ الإيمان الكامل، وإيصال السالك إلى الإيمان اليقين "عين اليقين" لكي يكون قلبه مطمئنا بالإضافة إلى دعوته لتطبيق تعاليم الشرعة. وللسلوك الصوفي النقشبندي منهج خاص لإيصال المريد إلى غايته فالطريقة القادرية مثلا تتخذ الذكر الجهري شعارا لها والطريقة المولوية تعرف بقراءة الأشعار والذكر وحفلات السماع وللنقشبندية أوراد خاصة بهم ومع اختلاف الطرق في الأوراد والذكر والشعارات فإنها تلتقي في هدف واحد هو معرفته سبحانه ورضوانه والقرب منه. وهي طرق حددها العارفون بالله من المشايخ المجتهدين في علم التصوف بهداية من ربهم سبحانه: (واتقوا الله ويعلمكم الله) البقرة (282) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69 فقد علمهم الله وهداهم ويتولون هم إرشاد مريديهم إلى هذه الطرق ومثل ذلك مثل الطبيب الذي يكتشف دواء لمرض فيصفه لمرضاه وهؤلاء أطباء القلوب تسلقوا معالي الآمال في معرفة الله فيرشدون السالكين للوصول إلى قمم الآمال ولاشك إنها جميعا تعود إلى سنة النبي وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومصدرها جميعا هو القرآن الكريم وخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وسلم).
المنهج النقشبندي
لا فرق بين الشريعة والطريقة ولكن الصوفي ينقطع للذكر والفكر فيصفو قلبه، ويزيد إيمانه فيكون عين اليقين فيطبق الشريعة بقلب ممتلئ الإيمان. ومن انحرف عن الشريعة برأت منه الطريقة. وبعد هذه المقدمة آن لنا أن نعرف:
1 ـ ما هو المنهج النقشبندي للوصول إلى قمم الآمال الروحية؟
2 ـ كيف بدأت النقشبندية؟ وسلسلة رجالها رحمهم الله.
3 ـ متى سميت هذه الطريقة بالنقشبندية؟ ولماذا؟
نشير أولا إلى أقوال لمشايخ التصوف قبل الشروع في الإجابة المفصلة: قال الشيخ عبد الله الدهلوي المتوفى في (1240) هـ: إن ثمرة هذه الطريقة "النقشبندية" هي الحضور الدائم في حضرة الحق تعالى وترسيخ العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة وإتباع سنة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم).
وفي كتاب الحديقة الندية للشيخ محمد بن سلمان البغدادي يروى أن الشيخ محمد مراد الازبكى قال: "إن الطريقة النقشبندية طريقة الصحابة الكرام باقية على أصلها، لم يزيدوا ولم ينقصوا وهي عبارة عن دوام العبودية ظاهرا وباطنا بكمال الالتزام بالسنة والعزيمة وتمام اجتناب البدعة والرخصة في جميع الحركات والسكنات من عادات ومعاملات مع دوام الحضور مع الله تعالى على طريق الذهول والاستهلاك" ونقل في نفس المصدر عن أبن حجر الهيتمي 909 ـ 974 هـ "الطريقة العلية السالمة من كدورات جهلة الصوفية هي الطريقة النقشبندية" قال مقدم كتاب القدسية: التصوف النقشبندي إتباع السنة وهو معتدل و وسط وأساسه تطبيق الشريعة وتجنب البدع. ويقول أيضاً: إن اعتدال السلوك النقشبندي وما فيه من إتباع الشريعة، ويسر الطريقة كان السبب في شيوع هذه الطريقة لاسيما بين علماء الدين فقلب الصوفي النقشبندي لله، وجسمه للناس. والحقيقة أن المشايخ الذين وصفوا هذه الطريقة مجمعون على أنها إتباع للشريعة أولا، والدوام على الذكر والفكر والعبودية والإخلاص والإيثار ونكران الذات ثانيا، وبالنسبة لجواب السؤال الأول نقول: جاء في كتاب إيضاح الطريق: إن النقشبنديين لهم ثلاث طرق للوصول إلى قمة المراد:
1ـ الدوام على الذكر.
2ـ المراقبة.
3 ـ طاعة المرشد.
لا بد من القول أن الخطوة الأولى هي التوبة أي الإقلاع عن كل عمل سيء بشكل بات.
وتطبيق تعاليم القرآن والسنة النبوية.
1 ـ الدوام على الذكر
وللذكر صورتان:
ـ ذكر "الله" ويعني ذكر الذات أو ذكر الجلالة.
ـ ذكر "لا اله إلا الله" ويعني النفي والإثبات.
ومن المعلوم أن الذكر عند النقشبندية ذكر خفي بالقلب.
أ ـ ذكر الله:
من آدابه: أن يكون الذاكر متوضئا وفي مكان طاهر هادئ مستقبلا للقبلة.
فيدعوه سبحانه لحفظه من وسوسة الشيطان والنفس ثم يستغفر الله. ويتذكر مرشده إن كان له مرشد. وبعد ذلك يبدأ بالذكر بقلبه. ولكن الذاكر يمكنه ذلك بكل صورة وفي أي وقت قال تعالى" الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات والأرض" آل عمران.
ومن آداب الذكر الصوفي النقشبندي: في البدء يلصق المريد لسانه بعرش فمه لمنعه من الحركة. ثم تذكر "الله" قلبيا. والقلب من لطائف الباطن وليس المراد به اللحم الصنوبري ولكنه تحت الثدي الأيسر قليلا ويتأمل عظمة "الله" لا شكل كتابة اسم "الله" "ليس كمثله شيء" فيؤمن أن الله موصوف بجميع صفات الكمال ومنزه عن كل نقص.
ولى الذاكر أن يكون دائم الذكر ليلا ونهارا ودون حركة من اللسان والبدن حتى يبدأ قلبه بالذكر، ويشعر هو به. ثم يتوجه إلى روحه التي في الجانب الآخر من الصدر تحت الثدي الأيمن بإصبعين. فيذكر الله به حتى يصبح الروح ذاكرا أيضاً، ثم يتوجه إلى لطيفة السر التي تقع فوق الثدي الأيسر بإصبعين مائلا إلى الصدر ثم إلى لطيفة الخفي الذي يقع وسط الصدر فيبدأ بالذكر.
وحين تبدأ لطائفة بالذكر تصبح كل لطيفة مصباحا مضيئا بنور خاص وتبدأ لطيفة النفس بالذكر وهي في الجبين وهي من عالم الخلق واللطائف الأخرى من عالم الأمر وهي لطائف معنوية يحس بها السالكون وحدهم وقد ذكرت سابقا. وبعد ذلك يبدأ دور"القالب" البدن المؤلف من العناصر إذ تبدأ كل ذرة في جسده بالذكر ويحس به السالك نفسه.
وقال الملا حامد البيساراني وهو احد علماء التصوف من النقشبنديين: منهم من يذكر الله في يوم واحد خمسة وعشرين ألف مرة واقلهم يذكر خمسة الآف مرة. وأتضح مما سبق أنهم وضعوا خمس مراحل لذكر اللطائف التي في عالم الأمر ومرحلتين للطائف عالم الخلق.
إذا للذكر سبع خطوات: وهذا معنى ما قاله الإمام الرباني "إن طريقتنا سبع خطوات" وقال بعضهم كناية: "الطريقة خطوتان" خطوة في عالم الأمر، و خطوة في عالم الخلق. وأن الدوام على الذكر يجعل اللطائف السبع وكل ذرة في الجسم تذكر "الله". وفي هذه الحال يشعر المريد بالراحة واللطافة في قلبه ووجدانه.
وتقال لهذه الحالة "سلطان الأذكار" أو "سلطان الذكر" وقد يصل إلى حالة يحس فيها الذاكر بعد مواظبته على الذكر أن العالم كله يذكر "الله" بل يسمع ذكر "الله" من كل ذرة في الكون وهذا الذكر يسمى ذكر "ماسوى". ويعني أن كل مخلوق يذكر الله سبحانه. وهذه من لطائف الطريقة الجليلة. وقد أشار إليها الشيخ عمر ضياء الدين قدس سره حين قال في إحدى قصائده الصوفية "اللطائف جميعها غارقة في ذكر الله".
ولابد من توضيح أن هذه الحالة هي ألف باء التصوف ومقدمته وهي من حالات التزكية أي تطهير اللطائف، وليست من حالات فناء اللطائف. ولكل لطيفة حالة فناء خاصة. وبعد فناء الكل يأتي البقاء وفي هذه المدة يطلع السالك على أسرار عجيبة ويمنح من ربه مواهب معنوية.
ذكرنا اللطائف تتحول إلى مصابيح مشرقة بالنور حين تبدأ بالذكر ويقولون: إن نور كل لطيفة تحت قدم واحد من الرسل والأنبياء أولي العزم وكل سالك يفتح له بسبب احد هذه اللطائف. فيكون له شبه بالخلق المعنوي لذلك النبي.
وهي علاقة معروفة لدى العارفين، حتى أنهم يدركون هذه العلاقة بعد موت أصحابها في قبورهم. فهذا خلقه محمدي و ذلك عيسوي ومن أدرك هذه الأمور بعين البصيرة كيف يتسلل الشك إلى إيمانه؟
لطيفة القلب تحت قدم آدم ولون نوره اصفر.
لطيفة الروح تحت قدم نبيين هما نوح وإبراهيم واللون احمر.
لطيفة السر تحت قدم موسى واللون ابيض.
لطيفة الخفي تحت قدم عيسى واللون اسود.
ولا تناقض بين النور ولون السواد فقد يكون السواد أجمل شيء كلون العين والحاجبين مثلا. ولطيفة الأخفى ولونها اخضر تحت قدم حضرة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم). فان كان للسالك مرشد فانه ينتقل بمريده من لطيفة إلى أخرى وان تم نور اللطيفة تلألأ هذا النور في وجه المريد فيحس به هو ومرشد.
واللطائف مثلها مثل الحواس وهي في عالم المادة واللطائف من عالم الباطن وبعد تزكية لطائف عالم الأمر تبدأ تزكية النفس، وهي من عالم الخلق وليس لها لون كالماء يتلون بما يدخل فيه وتزكيتها صعبة فهي من عالم الطبيعة وهي في الأساس أمّارة بالسوء ومنها تخرج كل الرغبات الخبيثة ولكن ذكر الله سبحانه يطهرها ويروضها.
ويري مشايخ التصوف أن هذا النوع من التزكية يحتاج إلى مرشد والمقصود بالمرشد العارف العابد الذي لاشك في ولايته واجتيازه هذه المقامات وهو إنسان بالاسم ولكنه قطعة من نور وملائكي الصنعة ورباني المسلك، ومن أصحاب المقامات العالية للبقاء بعد الفناء. ومثل هذا الإنسان لا يتصور منه الخيانة لأمة محمد ولا يعقل أن يكون هدفه من الإرشاد الدرجات الدنيوية أو المكتسبات المالية.
ومن السهل أن ينقاد المرء لشخص له هذه المواهب والصفات ويجعله أستاذه ومرشده.
قلنا: الذكر له صورتان:
أ ـ ذكر "الله" وقد ذكرناه.
ب ـ ذكر "لا اله إلا الله" وهو معروف بالنفي والإثبات وأن معظم السالكين يبدأ بذكر الله ثم بالنفي والإثبات وقد يقدم المرشد ويؤخر في ذلك حسب تشخيصه لحال السالك و هو أدرى به.
فلنعلم طريقة هذا الذكر: يتحلى بنفس الأدب والصورة التي ذكرناها من ذكر "الله" ثم يذكر بلسان الخيال كلمة "لا" ويمدها من تحت الصرة إلى الجبين وبعبارة أخرى يمد كلمة "لا"، من أسفل لطيفة الأخفى فوق لطيفة الخفى إلى لطيفة النفس في الجبين ثم من الوجه يمد كلمة (اله) إلى الثدي الأيمن إلى جانب لطيفة الروح ولطيفة أخفى ومن هناك يعيد كلمة "إلا" إلى ظهر الثدي الأيسر وهو محل لطيفة السر وبعد ذلك يضرب بالتخيل بلفظ الجلالة (الله) بقوة النفس المحبوس على سويداء القلب حتى يظهر أثرها وحرارتها في سائر الجسد بحيث يحرق جميع الأجزاء الفاسدة في البدن بتلك الحرارة، فيتنور ما فيه من الأجزاء الصالحة بنور الجلالة.
وبعد إكمال "لا اله إلا الله" بلسان الخيال وبالشكل الذي صورناه مرة أو ثلاث مرات أو أكثر يقول في حال التنفس "محمد رسول الله". وهذه صورة توضيحية لذكر لا اله إلا الله سرا وعلى الذاكر أن يفكر في المعنى لا في شكل "لا اله إلا الله" فيكون قصده في قلبه انه لا موجود بحق يستحق العبادة إلا الله وان العبودية هي هدف الذاكر.
ويقصد من قوله "لا اله" إن كل موجود فان ومن قوله "إلا الله" أن الله باق وحده. و من آداب الذكر سواء كان ذكر الله أو ذكر لا اله إلا الله : انه بعد الذكر يرتاح قليلا ومن هذه الاستراحة يقول : الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ولا اطلب من عبادتي سوى رضوانك، إني تخليت عن العالمين ولكن أرجو أن تهبني محبتك ومعرفتك. وعليه أن يتأمل بقلبه دون التفكير في الطلب المادي وهذه المراقبة
تسمى بـ "الوقوف القلبي". وبمناسبة الحديث عن الوقوف القلبي نقول إن للنقشبنديين (11) مادة، أو كلمة أو أحدى عشرة درجة وعمودا وقلنا سابقا أن الذي لا يتجاوز المقامات العشرة لا يبلغ درجة الفناء والبقاء وهي عبارة عن: التوبة، الإنابة، الزهد، القناعة، الورع، الصبر، الشكر، التوكل، التسليم، الرضا. وهي ما تسمى أيضاً بمقامات اليقين.
وبعد اجتياز طريق السلوك، على السالك أن يتحلى بأحد عشر خلقا وإلا لم يحصل على شيء، ثمانية منها مأثورة عن حضرة الشيخ عبد الخالق الغجدواني (575) هـ وبعدها ثلاثة عن الشيخ الأكبر السيد محمد بهاء الدين النقشبند والمجموع 11كلمة وهي: النظر إلى القدم، السفر في الوطن، الخلوة في الجلوة، الذكر الدائم، العودة من الذكر، اليقظة عند النفس، الحضور الدائم، حفظ آثار الذكر في القلب، والوقوف القلبي و الوقوف العددي والوقوف الزماني لبهاء الدين النقشبند.
وسنذكر معانيها. ويطلب السالك الفيض والرحمة من الله سبحانه متوجها إلى السماء رعاية للأدب لان الله سبحانه فوق كل شيء ليس له مكان وليس له زمان وللوقوف القلبي شرطان أولهما: يحاول أن لا يخطر على قلبه شيء من الخيالات وثانيها، إن خطر على قلبه خيال توقف عن الذكر كاللجام وجاهد لطرد الخيالات ثم يبدأ بالذكر من جديد ويسمى "بالتوقيف" ومن الأفضل توقف التنفس وقت الذكر وحسب نصائح المرشدين.
ومن هذه الحال تنشأ حرارة القلب، وشوق في الداخل، وتتولد المحبة وتطرد الوسوسة وتزال الحجب أمام السالكين شيئا فشيئا. ويتبين من هنا أن التصوف سلوكا ينبغي معرفة بميدانه. ويعني الوقوف العددي أن يكون الذكر بالوتر، مرة أو ثلاثا أو خمسا أو سبعاً هي درجة للسلوك النقشبندي. وله اثر في كشف أسرار الطريقة.
وعلى السالك أن يحاول أن يذكر "لا اله إلا الله" (21) مرة بنفس واحد فان فعله مع المراقبة والتحلي بالآداب التي ذكرناها فانه يحصل على ثمرات معنوية ويتطهر قلبه وتكشف له أسرار يحس بها، وقد ذكرناها، وان لم تحصل هذه الثمرات فانه لم يطبق شروطه فعليه بالتفكير لاكتشاف الخطأ وإن كان له مرشد فانه يأخذ بيديه إلى لب عمله.
ولا بد من العلم بأن هذه الشروط مثل الوقوف القلبي العددي أو التوقف عن التنفس وإمرار الذكر على اللطائف تكون سهلة بعد الاعتياد عليها.
كما أن الرياضة في بدايتها صعبة ثم يتمرن المرء عليها فقد يكون من الصعب أن يرفع عشرة كيلوات أولا ثم يسهل عليه رفع 100 ك فان الرياضة الروحية كذلك ولكن ثمرة الرياضة البدنية مادية وثمرة العبودية هي رضا الخالق وان الرياضة البدنية تتعطل في عمر معين وبعد مدة ولكن الرياضة الروحية تقوى ويكون مصباحا للناس.
وان الثمرة الأساسية لهذا الخلق هي التزكية كما هي الحال في ذكر "الله" أي تزكية اللطائف إذ بذكر الله تتزكي اللطائف واحدة بعد الأخرى ويشع منها النور ومن حيث أن هذا الذكر"لا اله إلا الله " يمر باللطائف كلها فإنها جميعا تشرق بالنور معا و يبدأ بالقلب أولا ً ثم تبدأ اللطائف الأخرى بالذكر ويشع نور خاص منها ويشعر بذلك السالك نفسه.
بعد أن ذكرنا الخطوة الأولى للنقشبندية وهي الذكر نأتي إلى الثانية:
2ـ المراقبة:وكل شرط ذكرناه للذكر فهو مطلوب للمراقبة أيضاً كالتوبة والاستغفار وغيرها وهي الاستعداد والجلوس في مكان هادئ وطرد الخيالات عن القلب والتوجه إلى باب الحق ويتضرع إلى ربه بكل مسكنة وبكل عشق من الباطن دون واسطة مرشد أو الذكر ويسأل الله أن يستمطر الرحمة والفيض والبركة على قلبه وباطنه وان يشرق قلبه بنور وجهه.
وحين يصبح التوجه إلى الحق ملكة و خلقا راسخا بسبب المواظبة ليلا و نهارا على هذه الحال يصل إلى حالة تسمى في التصوف بـ "التوجه إلى المذكور لا الذكر" أي التوجه إلى صاحب الاسم وهو الله، لا الاسم وهو الذكر. وبهذا يتجلى نور ربه في قلبه وتتحقق المشاهدة. وقال كبار المشايخ: الجذبة أي الانجذاب إلى الحق تتحقق عن طريق المراقبة بصورة أسرع من الذكر. ويقال أيضاً: أن المواظبة على المراقبة ترفع السالك المراقب إلى درجة الوزارة المعنوية وهي أعلى الدرجات. ومن ثمرات المراقبة إن هذا السالك المراقب يطاع في الملك والملكوت، ويكون عارفا بالباطن وآمرا على القلوب. ومن كان خلقه المراقبة فعليه ألاّ يغفل عن الذكر والعبادة وقيام الليل وأداء الصلوات. وقالوا أيضاً إن الاقتراب من هؤلاء الصالحين هو سبب الفوز والنجاح قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" التوبة 119 وقد تكشف أسرار لكبار السالكين في حال المراقبة فيعرفون أوضاع سلوكهم. وهذه معنى المراقبة الخاصة في الطريقة النقشبندية وقد بينا سابقا المعنى الآخر للمراقبة في التصوف وهو مراقبة النفس وكبح جماحها.
بينا اثنين من الطرق الثلاثة التي على السالك اتباعها للوصول الى غايته وهي:
1. الذكر
2. المراقبة
والآن نبين السبيل الثالث وهو:
3. طاعة المرشد:أي يكون السالك تلميذا لمرشد كامل، مطبقا لتوجيهاته بإخلاص وأدب كما هو الحال لتلميذ يتلقى العلم من أستاذه. وقال كبار علماء التصوف: إن هذا السلوك أسهل وهو اقرب لنيل الغاية ويسمى ذكر "الرابطة" وهو عبارة عن مواصلة العلاقة القلبية مع الله سبحانه فمن كان له مرشد فان هذه العلاقة تتم عن طريق قلب المرشد.
وكيفية ذلك: إن قلب السالك هنا يتعلق بقلب المرشد الذي لاشك في انه نوراني ويشرق فيه نور الله سبحانه، ونوره سبحانه مصدر الأنوار. وان نور الحق يشرق دائما في قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) كالكهرباء الذي يتوزع في الجهات كلها، وكالنهر الذي تتوزع جداوله في كل الأنحاء ولكل جدول عشرات من المزارع وآلاف من الأشجار تروى بها. وكذلك يتوزع الفيض والماء الزلال على العاشقين المحبين لكي تروى مزارع قلوبهم بهذا الفيض والبركة وتُثمر ثمراتها الطيبة.
والمرشد الكامل يحصل على نصيبه من هذه البركة وتوزعه على المريدين.
وذُكر أن الشاعر الصوفي مولوى بعث قصيدة إلى مرشده الشيخ عثمان النقشبندي قال فيها:
"أنت ساقي المزارع وكفيتهم جميعا بالكفاف
(ويقصد المزرعة الروحية)
أما مزرعتي فتشكو العطش وثماري تشكو الجفاف
هذا حيف: فافتح الجداول جدولاً بعد جدول وارو مزارعي"
ولابد من بيان أن هذه العلاقات هي روحية ومعنوية ولا تدرك الا بعين البصيرة ذلك أنها ليست بقنوات فيها المياه تجرى ولاهي علاقات مادية. فإذا ما استقرت الرابطة وتمكن المريد من ترسيخ هذه العلاقة فانه يستمد النور والبركة منها ويكون لهذا النور انعكاسات من اللطائف فتتزكى واحدة بعد الأخرى. وتعالج العلل والأمراض واحدة بعد الأخرى كعلة الحسد، ومرض الغرور، وطول الأمل، والتهالك على جمع المال، والأمراض المعنوية الخبيثة الأخرى، وعندما يتزكى باطن السالك من الغش واشتعل نور الحق في اللطائف وتبدأ اللطائف بالذكر فان المريد يصل حالة الحضور والمشاهدة وهي الأمل المنشود وبهذه الخطوة يطمئن قلبه وباطنه وتبدأ مرحلة "الأنفس" أي التوجه نحو مرحلة الفناء للوصول إلى منزلة البقاء.
وفي مبحث الذكر اشرنا إلى أن السالك يبدأ بالذكر القلبي حتى يصبح قلبه ذاكرا، ثم يبدأ يتنقل من ذكر لطيفة إلى ذكر لطيفة أخرى ولكنه في هذه الحال يعينه المرشد بالتوجه إليه.
وكيفيته: يتوجه بقلبه إلى إحدى لطائف السالك ويربطها بلطائفه ولا ريب في أن لطيفة المرشد ذاكرة ونورانية فتنعكس على لطيفة السالك فتصبح ذاكرة ونورانية وبعد أن يستقر وضع السالك بعد مهلة في اللطيفة الواحدة يتوجه المرشد إلى لطيفة أخرى لمريده لمهلة قصيرة وإذا كان للمريد شيء من الاستعداد لما يتحلى به من الذكاء فسرعان ما يصل الغاية وتتزكى لطائفه وكذلك فيما يتعلق باجتياز المقامات حتى يصل مرحلة الفناء والبقاء.
وفي هذه المرحلة يستغنى عن المرشد ويكون كاملا بالمعنى النسبي "والكمال المطلق لله وحده" ويرفع الله درجاته مادام الله سبحانه يريد علو منزلته كما انه ليس للعلم الظاهري المادي حدود وإن العالم يظل يطلب العلم ليزداد علمه وكذلك الغني يطلب مزيدا من الغنى وكذلك ليس للطف الله حد والإنسان الكامل الذي بلغ قمة الإنسانية هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ويليه بعده الأنبياء ثم الأولياء.
وفي عرف التصوف يعتبر السالك الذي منح درجة البقاء بعد الفناء انسانا كاملا، وهذه الدرجة كالدكتوراه في العلوم الدنيوية أو غيرها فيصبح أستاذا ومرشدا في سلكه. ولابد من التنبيه هنا على اشد ما يخاف منه في الطريقة النقشبندية: هو إن يأذن المرشد لمريديه بالرابطة دون أن يكون قد وصل مرتبة البقاء بعد الفناء.
وهي خطيئة كبيرة لأنها قد توقعه في شبهة الشرك أولا ويكون المرشد مسؤولا عنها، وتوقع المريد ثانيا في أمراض الوسوسة ومصائب أخرى عديدة فالإرشاد شيء وإجازة الرابطة شيء آخر. والإرشاد بمعنى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" واجب على كل مسلم والإرشاد للشريعة واجب علماء الدين، وبالنسبة للطريقة فعلى المرشد أن يصارح مريديه قائلا: إني أنصحكم وأرشدكم إلى التوبة ولكنى لست بمرشد كامل ولا يجوز لكم الرابطة معي. أو يقول كما قال (الأمير كولال) مرشد الشيخ النقشبند، له: إن حدود معرفتي هنا وعليك البحث عن مرشد آخر يعلمك بعدي.
وليس المقصود بالتوجه أن يكون المرشد متصلا بالمريد في المكان، ذلك أن المرشد الكامل يستطيع التوجه إلى مريده من مكان بعيد أيضاً ويدخل في قلبه المسرة الروحية ولكن القرب المكاني أفضل كما قلنا: أن التقرب من الصادقين سبب السعادة والفوز. فالرجل الصالح الولي حبيب الله والاقتراب من حبيب الله هو سبب لسعادة الدارين. فعلى المريد أن يطلب المساعدة من مرشده.
قال الشيخ عبد الله الدهلوي: مع أن الذكر اللساني لا يحقق أهداف السالك ما لم يتحول إلى ذكر قلبي ويصبح مَلَكَةً وخُلُقاً راسخاً فان الذكر اللساني مفيد وتكون للذاكر حظوة روحية معنوية إن تم حسب الشروط المذكورة.
ثم قال: على المريد أن يظل ذاكراً لله متذللا أمام باب الحق حتى في أوقات انشغاله بالإعمال الدنيوية وقال: "بركات من الله تنزل ولكن لقلوب المؤمنين تعجل". وهذه تسمى حال "الخلوة في الجلوة" ومعناها انه مع الحق ولو كان مع الخلق وهذا معنى ما قيل: الصوفي كائن.
(بالجسم كائن مع الناس وبالروح كائن عنهم).
والخلوة في الجلوة إحدى صفات ودرجات السالكين للطريقة النقشبندية. وقد بينا سابقا أن أمراض القلب هي الصفات الخبيثة كالحسد والحقد.... وغيرها من الأمراض والمسلم الحقيقي من طهر قلبه من هذه الأمراض، ولكنه أمر صعب وإلا عولجت مشكلات الإنسان. وفي الحال التي يكون للسالك مرشد فانه يتولى معالجة هذه الأمراض وتخليص قلب مريده منها.
وإن طَبّق السالك آداب الذكر المعروفة وتمسك بذكر "لا اله إلا الله" فتسهل عليه معالجة أمراضه القلبية. وحين يقول "لا اله" يتخيل معه طرد الحسد، وان لا حسد في قلبه ولاشيء في قلبه "إلا الله" فيشعر بنظافة قلبه من الحسد وهكذا الأمر بالنسبة لكل رذيلة. ومن الناس من ليست له بعض الرذائل كالكذب والكبر مثلا فيحقق في حال نفسه وما فيها من الرذائل. وبهذا النوع من الذكر يطهر قلبه منها.
ويقول في بعض الأحيان معترفا في قلبه: أنى مبتلى بهذه الرذيلة فجنبني منها فيتخلص منها واحدة بعد الأخرى ببركة هذا الذكر. وهذا التطهير القلبي والتزكية، وإشراق اللطائف، والتنقل من خطوة إلى أخرى وهي سبع خطوات تسمى "السفر في الوطن" أي الارتحال قلبيا من مركز إلى مركز حتى تتطهر جميعا، وهو أيضاً التأمل في النفس لكشف الأمراض لمعالجتها قال تعالى "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" والصوفي في هذه المرحلة يعيش مع الذكر ويعاف كل شيء عدا ذكر ربه وكما قالوا: كل شيء ماعدا ذكر الله سبحانه نزع للروح ولو كان طعام السكر.
وفي القرآن الكريم "واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" الجمعة 10 ومن حصل على بركة معنوية وأحس بها فعليه العمل للمحافظة عليها، فان ذهبت عاد إلى الذكر إلى أن يستعيد البركة وتصبح البركة حالا دائما وخلقا مستمرا.
وقد ذكرنا في تعريف اللوامع أن المريد المبتدئ يرى شعاع النور في قلبه ولكنه يذهب ولا يستقر، ويتكرر حتى يألف ويستقر في القلب. وبعد هذا نأتي إلى "جذبة القبول". وهي اسم للسالكين يطلق عليهم عندما تتوجه إليهم حالة خاصة فينجذبون فيها إلى ربهم فيكون محمودا عند ربه فان نضجت الجذبة وظهرت تسري بين حنايا قلبه فيوضات إلهية يحس بها السالك المجذوب فتلتذ روحه ويُسَر وقد يسعد بها السالك سعادة تفقده وعيه. فان استدامت هذه الحالة فانه يقرب من حالة الحضور والفناء وهذه الحالة تسمى "حقيقة الذكر" لأنه من المرحلة الأولى لهبوب البركة كانت الصورة ومن حالة الحضور تكون الحقيقة وتسمى هذه الحال: (درج النهاية في البداية) أو اندراج النهاية في البداية وهذه لا تحصل في يوم أو مرة، ولكل شيء وقته ومدته وحسابه.
أما الثمار الطيبة المتنوعة للطائف ولكل عبادة كالتهجد وقراءة القرآن الكريم فإنها لا تعد ولا تحصى وقد ذكر الإمام الرباني في مكتوباته البركات الخاصة لكل حالة وفي الطرق الصوفية العديدة، فانه كان مرشدا للطرق القادرية، والسهروردية، والجشتية والكبروية، بالإضافية إلى كونه من كبار مشايخ النقشبندية.
قال الشيخ عبد الله الدهلوي: بركة الصالحين قد تنزل كضياء من الشمس فتدخل القلب في زاوية وقد تكون كسحاب يعم جوانب القلب، أو كصبا لطيف أو كمطر، أو نهر، أو كخيمة من حرير تشمل البدن كله أو كالندى الذي ينزل على القلب.
وقال أيضاً: قد يحصل الشوق والدفء الروحي لسالكي الطريقة الجشتية، ويحصل الصفاء واللمعان لسالكي الطريقة القادرية، ويحصل لسالكي الطريقة النقشبندية الغياب وفقدان الوعي، أما السهروردية فآثارها هي آثار النقشبندية نفسها. هذه قطرة من بحر التصوف. وباقة ورد من حديقة غناء تشمل الأرض كلها، أردت بها بيان قدر منه لكم لا الإحاطة به فان عالم التصوف في حقيقته هو عالم معرفة الله سبحانه وهو عالم لا نهاية له ولا حد له لا في أوله ولا في أخره.
ولتوضيح مصطلح "درج النهاية في البداية" أو "اندراج النهاية في البداية" نقول كما أن الاندراج يعني استقرار حقيقة الذكر في القلب وهو ما اشرنا إليه سابقا فان له صورة أخرى هي: قد ينتقل المرشد بمريده في حال توجهه إلى مقامات كبيرة فيريه إياها، أو يبقيه هناك مدة يظن فيها انه قد حل هناك فيعيده إلى مقامه الأول وهدفه تشويق المريد وحثه على العمل للوصول إليها بقلب مشتاق ملهوف.
ومثله مثل الأمور الدنيوية حين يدعى إنسان إلى قصور فخمة ويقال له انك إن وصلت إلى ذلك المقام أصبحت صاحب هذه القصور، فإذا كان ممن يرغب في الدنيا فانه يعمل بشوق اكبر للحصول عليها حقيقة. ومن صور الاندراج انه قد يحصل الكشف للسالك وتبدو له بعض الأسرار كأن يكشف له حال الميت صالحا أم لا، وهو في الحقيقة لم يصل إلى هذا الحد الذي يدرك بقوته المعنوية هذه الأحوال. وحكمة ذلك دعوته للخوف والأمل "الخوف والرجاء" ويصل إلى "عين اليقين". ومن صوره انه يجتاز المريد المراحل كلها ويقترب من الوصول حتى يصبح خليفة دون أن يكون صاحب البركات، ولكن قوته الباطنية تقع في ظل القوة الباطنية للمرشد، ويسمى اصطلاحا "في ظل المرشد" أو في ظل القطب واصطلح عليه أيضاً بضمنية المرشد، وهذا الخليفة لا يعرف إن هذه القوة ليست له وهي لمرشده، وصادف مرارا أن كبار المشايخ يرسلون خلفاءهم في هذه الحالة للإرشاد. تبين أن درج النهاية اكبر من غيرها. فقد يحتار الناس من هذه المواهب والكرامات والبركات التي تظهر على هذا الخليفة الذي لا يختلف توجهه عن توجه شيخه وهو يعالج أمراض القلب العديدة، ويوصل السالك،
ولكنها في نفس الوقت اختبار للمرشد ليكتشف قابليته فقد يسقط الخلفاء في الامتحان ويسيطر الغرور عليهم ويظنون أنها من قدراتهم وان لم ينجحوا فإنهم لن يرجعوا إلى مقاماتهم الأصلية بل قد يطردون مدة وان نجحوا يعادون إلى مقاماتهم ولكن هذه الدورة مفيدة إن اعتبر بها وحافظ على الأدب إذ يرفع درجاته وقد اطلع على المقامات العليا وعندما يرجع إلى محله السابق فانه يتنبه إلى أن هذه القوى لم تكن له وإنما هي لمرشده.
أين هو من هذه المقامات؟ فعليه عمل شاق ورياضة دائمة للوصول إليها. وهذه الصور المختلفة لدرج النهاية في البداية تابعة لرغبة المرشد ذلك انه أستاذ القلب، وخبيره وطبيبه وهو ادرى بحاجة كل مريد ومداها.
إن منهج سلوك اللطائف بشكل مقسم هو منهج الإمام الرباني، أما خلفاؤه ومنهم نجله الشيخ محمد معصوم استصعبوا هذا العمل فاكتفوا بتربية لطيفة القلب في عالم الأمر، ولطيفة النفس في عالم الخلق وإيصالها، أما اللطائف الأخرى فتربيتها بالتزكية حتى وصول مرحلة الفناء والبقاء.
وقال الشيخ عبد الله الدهلوي: نحن نأخذ بالرأي الأخير، ولذا نقول: إن المرشد النقشبندي هو الذي يختار ما يراه الأفضل والضروري لمريده لاسيما بالنسبة لمن يجري تربيتهم عن طريق الرابطة، وعندما تبدأ اللطائف بالذكر يحظى بحضور الحق ولهذا الحضور أنواع وقد وضع كبار السالكين لكل نوع من الحضور إسماً وذلك لمعرفة وإفهام المريدين. وإن كان حضور الحق مقابل حضور الحق بحيث لم يسكرك هذا الحضور فتنسى الناس، ولم يؤثر في حضورك الناس، فيسمى "ذكر القلب" وان كان حضور الحق غالباً فهذا "ذكر الروح" وإن انساك هذا الحضور نفسك ولكن لم تنس الخلق فهو "ذكر السر" فان انساك حضور الحق نفسك والخلق فهو "ذكر الخفي".
فما هو الحضور؟ وكيف الإحساس به؟ قال: إن استطاع المريد النظر إلى قلبه وعرف انه قريب من الله سبحانه فهذا هو الحضور وحتى إذا لم يكن دائما فانه واضح للسالك. و قد يقل الحضور بسبب انشغال المريد بكسب الدنيا وان كان حضوره بشكل "كأنك تراه" وفي كل وقت وحال، حين الكلام وحين السكوت، وعند السرور والغضب، و أصبح الحضور ملكة فهذه الحال تسمى"الوعي الدائم" وهو التذكر الدائم.
وهي إحدى أسس الطريقة النقشبندية. وتبذل هذه المحاولات، ذلك انه قد سعد بعين بصيرته بالرؤية والمشاهدة و قد يشعر السالك في هذه الحال انه يشاهد بعين البصر لا بعين البصيرة إذ يغلب عليه الحضور فيتلفظ بكلمات يفهم منها الحلول والاتحاد، والحقيقة انه في حال حضور وما يقوله يعتبر شطحات تخرج من فمه وقد يقال له انك قلت كذا وكذا فلا يصدق كما هو حال السكران بعد إفاقته.
وهذه الرؤية تشبه الرؤية المنامية التي هي رؤية خاصة. و لا يمكن رؤية الله بعين البصر في هذه الدنيا فان سمعنا أمرا مخالفا من مجذوب فعلينا أن نعلم يقصد ما يحس به في نفسه لا في الواقع. وقال الشيخ عبد الله الدهلوي: و بعد هذه الحالة "عين اليقين" تبدأ "المراقبة المعية" كما قال سبحانه وتعالى..(وهو معكم أينما كنتم) الحديد 4.
وهنا أجيز للذكر باللسان وهذا النوع من القرابة يعتبر من الولاية الصغرى وهي أول درجة الأولياء وهي قطع المسافة في ظل "أسماء الله" وهذا المقام يسمى مقام الجذبة فيتحقق له الشعور بالبركة، والخفقان، والشوق و البكاء والذوق والتوحيد الفعلي وتجليات نور الحق ورؤية الوحدة والكثرة وحالات الإنس والهيمان والوحشة والحيرة كما لا يخفى على أرباب هذه الولاية، ويتحقق أيضاً الاستغراق في بحر المعرفة فينقطع عن علاقاته بالناس وينسى ما سوى الله ويسلم قلبه من الخطرات والوساوس.
وهذه تتحقق في مرحلة الولاية و يتحقق هنا أيضاً فناء القلب أي الدوام على حالة السكر الروحي وطرد ما سوى الله في قلبه. ويقول احد الشعراء بهذه الدرجة ما معناه:
متى افترق عن نفسي ولا يبقى أنا وأنت و الباقي هو الله وهذه حالة المعية أو المراقبة المعية. سبق أن ذكرنا إن الله قريب منا وفي القرآن الكريم "نحن اقرب إليكم من حبل الوريد" والعبد أيضاً لسبب تزكية باطنه يشعر بهذا القرب والحقيقة أن كل عبد قريب منه و لكن الطاهر يحس بالقرب أما الذي لم يتزك قلبه فانه لا يشعر بنعم الله، و تحدث الشيخ عبد الله عن أربعة أنواع من الفناء فقال:
1 _ فناء الخلق: وهو أن لا يخاف من أحد و لا يرجو أحد إلا الله.
2 _ فناء الرغبة: فالسالك هنا لا يرغب إلا في القرب منه سبحانه.
3 _ فناء الإرادة: فلا تبقى له ويكون كالميت فلا يطلب شيئا.
4 _ فناء الأفعال: لا تبقى له قدرة على أي فعل فيريد كل شيء من ربه أو عندما تنتهي قدرته على الفعل يتولى الله سبحانه أعماله، وهذه إشارة إلى الحديث القدسي "ما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها".
كما ذكرنا سابقا: يقول النقشبنديون إن مقام الولاية عبارة عن عشرة مقامات هي: التوبة، الإنابة، الزهد، القناعة، الورع، الصبر، الشكر، التوكل، التسليم، الرضا.
وفي النقشبندية أن مقام الولاية وفناء القلب لا يكفي ليكون الشيخ مرشدا ولا يكون كذلك إلا بعد فناء النفس وتحقق كمالات الولاية الكبرى فيكون صالحا للإجازة المطلقة في الإرشاد.
إن في حال فناء القلب تزول الخطرات من القلب فتنزل في النفس وفي حال فناء النفس التي مكانها في الجبين لا يبقى مكان للخطرات.
وهذه الدرجات التي يقطعها السالك في رحلته إلى الله سبحانه من أولها إلى الدرجة التي لا يعلمها إلا الله وقد يحس بها السالك شبهت بالدوائر.
وهذه الدوائر تشتمل على جميع اللطائف والمنح والمواهب في مقدمتها تسمى دائرة الإمكان وفي آخرها دائرة اللاتعيين، وهي عشرون دائرة، وفي هذه الدوائر قال بعضهم: إذا أزيل حجاب على خد المحبوب يظهر حجاب آخر، وإذا قطع حجاب يظهر حجاب آخر.
وقد تحدث الإمام الرباني في مكتوب انه والشيخ عبد الله الدهلوي في كتابه إيضاح الطريق عن هذه الدوائر وهي اسم معنوي ولكنه يشبه فعلا الدوائر وواضح عند سالكي الطريقة النقشبندية وسأتناولها باختصار:
على السالك قبل كل شيء أن يقطع دائرة الإمكان وهي تمام عالم الخلق والأمر والعروج بتزكية هذا العالم، وهو عبارة عن تزكية اللطائف الخمس وتزكية النفس والعناصر الأربعة وطبيعة الجسم، فإن أكمل مسيرة هذه الدائرة بالتزكية تخلص من دائرة الإمكان ووصل إلى الدائرة الثانية و هي الولاية الصغرى التي هي ولاية الأولياء وفي هذه الولاية يبدأ السير والعروج نحو قمة المطلوب في ظلال الأسماء والصفات ومن هذا الموطن يتحقق الشروع في حقيقة الفناء "الجذبة" من ثمراته.
وبعد العروج من الدائرة السابقة بطريقة السير في ظل أسماء الله يكون ذلك شروعا في الولاية الكبرى وهي مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالأصالة و وصول أصحابهم الكرام إلى هذه الدائرة بالتبعية ومن وصل إلى هذه الدائرة فقد اجتاز مقام "فناء النفس". إن فناء النفس وفناء القلب يختلفان عن تزكية القلب أو تزكية النفس فالتزكية هي للابتداء وهي تهيئة للقلب ليس إلا، ولكن فناء اللطائف مقام أعلى وهو آخر درجة، ودائرة الولاية الكبرى لها ثلاث دوائر وقوس واحد أي ثلاث دوائر ونصف دائرة يحس بها السالك وعليه أن يجتازها واحدة بعد الأخرى بكل قوة ورجولة كما هو حال السالك في طريق جبلي أو طريق صحراوي.
والسالك نفسه يعرف أين هو!! ويتم السير في هذا الطريق في ظل الأسماء والصفات و ثمار السالك من هذه الدائرة هي الفناء الحقيقي، حقيقة الإسلام، وشرح الصدر، ومقام دوام الشكر والرضا، دائرة الولاية العليا وهي دائرة الملا الأعلى من الملائكة والأرواح وتحصل للصالحين بالتبعية.
وفصل الإمام الرباني ذلك فقال: ان عمر الإنسان كله لا يكفي لاجتياز خطوة في هذا الميدان لولا عناية الله سبحانه، و في هذا الموضوع يشير إلى قوله تعالى "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" المعارج 4.
فلا يمكن العروج إلى هذا المقام إلا بعون منه سبحانه ومن ثماره النور الذي يحصل للسالك فيتذكر الوقت الذي كان في سلطان الأذكار وحصل له مثله ولكن أين هذا النور من ذلك؟ وهو مقام عظيم ورفيع. وحيث أن هذه الولاية أصلا للملأ الأعلى فتحصل للسالك علاقة بالأرواح والملائكة ويدرك الأسرار التي كانت من ثمار لطيفة السر، ولطيفة الأخفى، فهنيئا لأرباب النعيم نعيمهم. ثم تبدأ الرحلة في دائرة كمالات النبوة. وفي هذه الدائرة يحصل التجلي الذاتي دون غطاء الأسماء والصفات. ويقول: ان تقدم خطوة هنا أفضل من مقامات الولايات، إذ يتحقق الحضور دون تردد أو خفقان قلب ويتحقق برد اليقين، وهو لا يبلغه الحال و لا المقام، وهنا أيضاً تظهر له علوم الشريعة وهي مقام خاص بالأنبياء أساسا يرثه الأولياء بإتباع طريقهم. واقتبس هنا مما كتبه الشيخ عبد الله الدهلوي في كتابه إيضاح الطريق مكتفيا ببعض الأمور المهمة في هذا الموضوع، والدوائر الأخرى هي سير في الكمالات حيث يحصل كمال بعد كمال لكبار رجال التصوف مثل: دائرة كمال الرسالة، دائرة كمال أولى العزم، دائرة حقيقة الكعبة، دائرة حقيقة القرآن، دائرة حقيقة الصلاة، المعبودية المحضة.
ومن هنا يتوقف السير بالقدم ويبدأ السير النظري فيرى بعين البصيرة هذه المقامات، فيرون بهذه العين "دائرة الخلية" وهي مقام سيدنا إبراهيم خليل الله، و الأنبياء الآخرون تابعون له في هذا المقام "اتبع ملة إبراهيم حنيفا" النحل 123 كما تقول في الصلاة" اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم" ومعنى كما صليت هو التبعية.
وتمسى هذه الدائرة بالحقيقة الإبراهيمية. ثم دائرة "المحبة الصرفة الذاتية" التي تظهر لكبار السالكين و يقع من مركزها الحقيقة الموسوية وهي دائرة حقيقة موسى، ثم دائرة المحبية والمحبوبية الممتزجتين وهي: دائرة الحقيقة المحمدية، وهي دائرة عظيمة.ثم الدائرة المحبوبية الصرفة الذاتية وهي الحقيقة الأحمدية ثم دائرة الحب الصرف ويأتي بعدها "اللا تعيينية" وهي الدائرة التي لا يبلغها احد بالسير القدمي بل بالسير النظري. وقد يحظى السالك بمقام معين (بالتبعية) وهي في اصطلاحهم كالضمنية والظلية ومعناه: إن صاحب المقام (البركة) يأخذ صديقه المحبوب بالتبعية إلى مقام ليس له فهو تابع وليس بصاحب مقام و هو يحترم في هذا المقام تقديرا لمضيفه ، كما هو الحال في أمور الدنيا وعلاقاتها، وأساسه هو حب أبي بكر رضي الله عنه لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث قال صلى الله عليه وسلم "ما صب الله شيئا في صدري إلا وصببته في صدر أبي بكر".
ثم قال الشيخ عبد الله الدهلوي في آخر الموضوع: إن درجات الولاية الثلاث "الصغرى الكبرى العليا" والكمالات الثلاثة النبوة والرسالة وأولي العزم، والحقائق السبع (حقيقة الكعبة، القرآن، الصلاة، الإبراهيمية، الموسوية، المحمدية، الأحمدية) وبعدها دوائر المحبة الصرفة واللاتعيينية، لا تحصل لكل من سلك من إتباع الطرق.
بعضهم يبلغ ولاية القلب وقد لا يتجاوز دائرة الإمكان، و بعضهم يصل إلى الولاية الكبرى وقليل منهم يبلغ الولاية العليا، و الأقل منهم يبلغ الكمالات الثلاثة وأين من يبلغ الحقائق السبع وأعلاها ؟؟
الكلمات الإحدى عشرة في الطريقة النقشبندية
إن مبنى الطريقة النقشبندية على العمل بإحدى عشرة كلمة وقاعدة صوفية استمدت من التجربة السلوكية لمشايخ الطريقة ثمان منها مأثورة عن الشيخ عبد الخالق الغجدواني (575 هـ) وثلاث منها مأثورة عن الشيخ الأكبر محمد بهاء الدين النقشبند (717ـ791 هـ). وقد عُلِمَ أن النقشبندية أُسست على القلب، والذكر هو التأمل في اسمه تعالى حتى يبدأ القلب وكل الجسد بالذكر وثمرته تطهير القلب من الرذائل ودوام الحضور. والحقيقة أن المقصود هو المذكور والقرب من الحق والذكر وسيلة للقرب وحين يتجلى نور الله في القلب ويتحقق الحضور لا يبقى الذكر إذ يكون المذكور حاضرا وهذا القرب كما قلنا ليس بقرب الذات من الذات وليس بقرب الجسد من ذات الله سبحانه بل بقرب الباطن من نور الله سبحانه وهذا القرب يدرك بعين القلب لا بعين الرأس أي بالبصيرة لا بالبصر. وكما قلنا إن المثال على ذلك هو الرؤية في المنام. فبأي عين نرى في المنام؟ وبذلك نقرب المعنى في نفوسنا. وهذه الكلمات هي:
1 ـ اليقظة عند النفس
2 ـ النظر إلى القدم
3 ـ السفر في الوطن
4 ـ الخلوة في الجلوة
5 ـ الذكر الدائم
6 ـ العودة من الذكر إلى الذات
7 ـ حراسة القلب من الغفلات والخواطر، أو الحضور الدائم
8 ـ حفظ آثار الذكر في القلب
9 ـ الوقوف الزماني
10 ـ الوقوف العددي
11 ـ الوقوف القلبي
1 ـ اليقظة عند النفس: "هوش دردم"
ومعنا حفظ النَفَس عن الغفلة عند دخوله وخروجه وبينهما ليكون قلبه حاضرا مع الله في جميع الأنفاس فلا تتوزع خيالاته على أمور دنيوية. قال النقشبند: إن عمل السالك متعلق بنفسه، فعليه أن يعلم فيما إذ أمر نفسه مع الحضور أو مع الغفلة لكي يبقى السالك في الذكر ولا يتوزع باله على الماضي أو المستقبل في حال الغفلة.
قال الشيخ عبيد الله الأحرار 809 ـ 895 هـ وهو احد كبار النقشبندية: أهم عمل في الطريقة النقشبندية هو مراقبة النفس حتى لا يخرج في الغفلة، ومن لم يفكر فيها يقال له انه (فقد نفسه). وقال الشيخ سعد الدين الكاشغري وهو معاصر الشيخ عبيد الله: معنى اليقظة عند النفس هو أن لا يغفل السالك من نفس إلى نفس وان يتنفس مع الحضور وان لا يخلو النفس عن الحق. وباختصار تعنى هذه الكلمة عند رجال الطريقة النقشبندية اليقظة والدقة والفكر عند التنفس وهو درجة من درجات الطريقة وإذا أضاع السالك نفسا له فكأنه ارتكب ذنبا، إن ضياع النفس هو ضرر له.
2 ـ النظر إلى القدم: "نظر بر قدم"
يرى البعض أن معناه: على الصوفي في حال مشيه في الطريق أن يكون نظره مركزا على موضع قدمه حتى لا يتوزع باله وعقله على أنحاء كثيرة، وحتى يكون عقله وفكره مع الله فلا يغتر بجمال ومتاع الدنيا وهذا عمل محمود ولكن الإمام الرباني يقول: النظر على القدم هي حال"السفر في الوطن" وهما معنويان والمقصود بهذه الكلمة: هو أن السالك قبل أن يسير من مقام إلى مقام أعلى عليه أن ينظر بعين البصيرة إلى هذا المقام قبل أن يخطو على قدمه المعنوي. وفي مبحث الدوائر اشرنا إلى أن المسيرة بالقدم تصل إلى نهاية مقامات الحقائق وآخرها حقيقة الصلاة ثم تبدأ الرحلة النظرية. وقال الإمام الرباني، إن السير النظري كالاستطلاع للسير على القدم لعروج المقامات وقبل أن يخطو بقدمه إلى المقام الجديد فعليه أن يتحقق فيه ويعرف مكانه، فيخطو إلى المقام الجديد، ويقال لهذا التحقق في المقام الجديد "النظر إلى القدم" لذلك يشبه حالة السفر في الوطن ذلك أن النظر على القدم يعنى الرحلة من مقام إلى مقام وهي نفس معنى السفر في الوطن. والتحقق في موضع القدم في حال السفر يعني النظر على القدم وهو تبصير السالك بدرجته ومنزلته في مستقبله. وبعد مرحلة الرحلة على القدم تبدأ مرحلة نظر السالك، والسالك يرى المقامات الكبرى بالنظر فقط.
يقول فخر الدين الكاشفي في الرشحات: النظر على القدم يشير إلى مدى تقدم السالك في مسلك التصوف للعروج إلى مقامات الوجود، وتجاوز عقدة الأنانية. وله كتاب مهم موسوم بـ (الأصول النقشبندية) محفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية.
3 ـ السفر في الوطن: "سفر در وطن" وله معان:
المعنى الأول:
لا نشك في أن السفر بالمعنى المعروف مفيد لرفد الخبرة وتوسعة الإدراك، والسير في الأرض يورث العبرة في النظر إلى المخلوقات، ويوجه أبصار الإنسان إلى عظمة خالقه. فالسفر باعث للتفكر وقد مدح الله سبحانه المتفكرين في خلق السموات والأرض وقرنهم بالذاكرين قال تعالى "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض" آل عمران 191 ثم مدح السائحين في الأرض وقرنهم بالتائبين العابدين. فقال سبحانه "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله" التوبة 112 وفي سورة التحريم "تائبات عابدات سائحات".
وفي القرآن الكريم عناية خاصة بالسائرين في الأرض للاعتبار بما جرى على الأرض عقابا للمعتدين، أو دلالة على التغيرات في أمور الحياة. يقول سبحانه في أربعة مواضع من القرآن الكريم "أفلم يسيروا في الأرض".
وفي ثلاثة مواضع "قل سيروا في الأرض".
وفي موضعين "أو لم يسيروا في الأرض".
وهي حث للمسلمين على السفر وعلى التجول في الأرض ليزداد إيمانهم بالله سبحانه. ألا يعنى ذلك أن أساس هذه القاعدة الصوفية النقشبندية هو الخلق الإسلامي القرآني ؟؟
المعنى الثاني:
هو البحث عن المرشد الصالح فقد أوصى كبار المشايخ بسفر المريدين للبحث عن مرشد كامل ولكنهم قالوا فعند ذلك على السالك أن يطيع كل ما يأمر به المرشد وان رحلة مولانا خالد النقشبندي من العراق إلى الشام والحجاز، ومن الحجاز إلى كردستان ومنها إلى إيران والأفغان وكابل وقندهار إلى أن يصل إلى حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي ويحظى بأمنيته في حضرة هذا المرشد الكامل تعتبر من الرحلات الصوفية المهمة في هذا المجال وكذلك رحلة الإمام الغزالي من طوس إلى بغداد ومنها إلى الشام والحجاز للبحث عن مرشد مثال آخر لهذه الرحلات.
المعنى الثالث:
وهو المعنى المعنوي في المصطلح النقشبندي: يقول النقشبنديون إن المعنى المعنوي لهذه الكلمة عبارة عن محاولة السالك للانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة وهو سفر من عالم الخلق إلى الحق وهو ابتعاد عن مغريات الدنيا والتقرب من مالك الدارين وهو سفر من حال ومقام إلى حال ومقام أحسن وأعلى.
4 ـ الخلوة في الجلوة: "خلوت در انجمن"
ومعناه أن جسده مع الخلق وقلبه مع ربه.
والخلوة نوعان:
والنوع الأول (خلوة مادية): وهي عبارة عن انتقال السالك إلى زاوية معزولة للتعبد والتأمل وهذه نافعة للسالك لضبط حواسه وإمكان التركيز على قلبه والانهماك في حال قلبه ومن المعلوم انه كلما استطاع تعطيل الصفات الخارجية من العمل تزداد الصفات الباطنية نشاطا وعملا وبهذا يقرب من عالم الملكوت بشكل أحسن.
والنوع الثاني (خلوة القلب): بحيث لا يغفل عن ذكر ربه حتى إذا كان مع الناس ومشغولا بالكسب والذهاب والإياب فيبقى قلبه ذاكرا ولا يغفل عن ربه قال تعالى "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" النور37 والمقصود هنا المعنى الثاني. قال الشيخ محمد أمين الكردي في كتابه تنوير القلوب "فمعناه أن يكون قلب السالك حاضرا مع الحق في الأحوال كلها غائبا عن الخلق مع كونه بين الناس".
ويستحسن معظم كبار علماء التصوف أن يبقى قريبا من الناس، عاملا بالكسب الحلال بعد أن يستقر السالك ويتقدم في سلوكه. قال الشيخ أبو سعيد الخراز المتوفى279هـ:
ليس الكامل من صدر عنه أنواع الكرامات وإنما الكامل الذي يقعد بين الخلق يبيع ويشتري معهم ويتزوج ويختلط بالناس ولا يغفل عن الله لحظة واحدة .ويقولون (الصوفي كائن بائن) أي بالظاهر والجسم كائن مع الخلق والباطن والقلب بائن عنهم.
قال الإمام الرباني:
الخلوة في الجلوة فرع للسفر في الوطن ذلك انه متى يتيسر السفر في الوطن يسافر في خلوة الوطن أيضاً في نفس الجلوة ولا تتطرق تفرقة الافاق إلى حجرة الأنفس. وقال : هذا العمل في البداية صعب ولكنه سرعان ما يسهل وقال: هذه الموهبة في طريقتنا للمبتدئين أما في الطرق الأخرى فهي للمنتهين.
ذلك أنها تحصل في السير في الأنفس وهي بداية الطريقة النقشبندية والسير الافاقي يحصل مع السير في الأنفس والسالكون من الطرق الأخرى عليهم أن يكملوا السير الافاقي ثم يبدءوا بالسير في الأنفس.
وللتوضيح نقول: أن السير الآفاقي هو سير في عالم المادة وفي عالم الخلق.
إما السير في الأنفس فهو عبور المقامات القلبية الباطنية وتسمى اللطائف وهي من عالم الأمر، والأسرار والأنوار التي تكشف خارج القلب هي من عالم الخلق أي الآفاقي وما تكشف في القلب وترى فهي للأنفس وعالم الأمر. والتحلي بهذه الصفات والقدرة على تحقيق هذه الأعمال هي من مواهب هؤلاء السالكين الذين ملكوا هذه الدرجات بما قدموا من الذكر والعبودية والصدق والمجاهدة.
5 ـ الذكر الدائم (يادكرد):
والذكر بالمعنى العام الذي يشمل ذكر اسم الجلالة والتأمل، والصلاة وقراءة القرآن الكريم والدعاء هو أساس السلوك الصوفي، والغالب الشائع من معانية هو ذكر اسم الجلالة "الله" والتأمل. والذكر قد يكون جهرا وقد يكون سرا والسلوك النقشبندي يعتمد الذكر السري وله صورتان: ذكر "الله" عز وجل، والنفي والإثبات "لا اله إلا الله" وفي الحديث الشريف (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا اله إلا الله)
وهذه الطريقة كانت تسمى الطريقة الخواجية ، باسم مرشدها الأكبر المعروف بخواجه عبد الخالق الغجدواني، وهو الذي أسس الذكر السري في الطريقة النقشبندية وروجه وابتكر هذه النصائح التي نحن بصدد بيانها، وقد ظل الذكر الجهري معمولا به بجانب الذكر الخفي عند السالك إلى عهد الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي وهو رئيس الطريقة النقشبندية إذ قرر أن الطريقة هي الذكر القلبي لا غير، وأضاف ثلاث نصائح أخرى إلى كلمات الغجدواني وهي: الوقوف القلبي والوقوف العددي والوقوف الزماني فأصبحت(11) كلمة أو نصيحة.
والمقصود بالذكر هنا هو مداومة الذكر والتذكر، والفائدة في الذكر القلبي انه لا يحتاج إلى صوت أو حرف أي القول باللسان فيستطيع أن يذكر السالك حتى في خضم العمل ولكن الذكر اللساني لا يتحقق في حال العمل ولاسيما في حال الكلام مع الناس.
وهذا الذكر القلبي يتطلب المداومة حتى يتحقق للذاكر السالك الحضور الدائم مع المذكور وهو الله سبحانه وهدفه هو هذا الحضور وحينذاك يدرك السالك بحسه الباطني وبعين بصيرته أنه حاضر أمام ربه ويرى البركات وهي حالة المشاهدة.
وقد ذكرنا إن منهم من يذكر الله في يوم واحد(25)ألف مرة واقل الذكر بالنسبة للمبتدئين(5) آلاف مرة، وبعد أن يبلغ مرحلة الحضور لا يبقى للعدد مفهوم وكذلك الذكر اللساني ذلك أن المذكور، وهو الله قد أحاط بقلبه والسالك يقطع المقامات.
6 ـ العودة من الذكر إلى الذات "بازكشت":
ومعناها رجوع الذاكر من النفي والإثبات "لا اله إلا الله" بعد إطلاق نفسه إلى المناجاة بهذه الكلمة الشريفة باللسان أو بالقلب "الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي" وذلك لطرد كل الخيالات من قلبه حتى يفنى من نظره وجود جميع الخلق.
7 ـ حراسة القلب من الغفلات أو الحضور الدائم."نكاه داشت":
ومعناه أن يحفظ المريد قلبه من دخول الخواطر ولو لحظة فان خطر على قلبه شيء حق أم باطلا فعليه يوقف ذكره حتى ينتهي من طرد الخواطر فيبدأ بالذكر من جديد. وجاء في كتاب(مناهج السير) للسيد أبي الحسن زيد المجددي الفاروقي مطبوع في دلهي 1957: إن هذا التوقف معناه انه على السالك أن يحافظ على الثمار من البركات التي حصل عليها بمداومة الذكر أو على درجة الحضور والمشاهدة التي حصل عليها باستقامته على الذكر فلا يسمح بتسلل الخطرات إلى قلبه.
وفي كتاب رشحات عين الحياة (المطبوع 1912 في كانبيرا) ينقل فخر الدين على الكاشفي عن سعد الدين الكاشغري: على السالك أن يتمرن ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات يوميا حسب طاقته على حبس ذهنه وفكره القلبي بحيث لا يخطر في قلبه شيء ولا يبقى في قلبه غير الله سبحانه ويرى بعضهم أن التوقف خاص بذكر النفي والإثبات (لا اله إلا الله) وهو أن يرسخ معنى الذكر في قلبه ويحبسه لكي يدوم المعنى وهو انه "لا اله إلا الله" فان لم يستطع فلا يحصل له الحضور القلبي. وان هذه المحاولة كما يبدو تهدف إلى دوام الحضور، ذلك ان حضور القلب وحفظ الباطن عن كل الخطرات والخيالات من أهم مقاصد الصوفية يرعاها المتصوفون، وهي درجة من درجات التصوف. وللمشايخ أقوال ونصائح عديدة في هذا المجال. ويجب أن نعلم بأنه ليس المقصود أن لا يمر أي خاطر في القلب ولكن معناه هو أن لا يستقر ويكون كالأوراق التي تمر سريعا على الماء الجاري ولا تتوقف.
وفي كتاب الحدائق الوردية للسيد عبد المجيد الخاني رواية عن علاء الدين العطار يقول "إن منع الخطرات والخيالات عن التسلل إلى القلب صعب وشاق ولكن عليكم العمل على طردها وعدم إبقائها". وقال: إني حرست قلبي عشرين سنة من الخطرات والخيالات ومع ذلك تسللت إلى قلبي بعد كل هذه المدة ولكنها لم تستقر.
8 ـ المشاهدة "ياد داشت":
التوجه الخاص لمشاهدة أنوار الذات، وتسمى أيضاً عين اليقين، والشهود.
قال الشيخ محمد أمين الكردي: هي كناية عن حضور القلب مع الله تعالى على الدوام في كل حال من غير تكلف ولا مجاهدة وهذا الحضور في الحقيقة لا يتيسر إلا بعد طي مقامات الجذبة وقطع منازل السلوك. وقال أيضاً: والحق انه لا يستقيم إلا بعد الفناء التام والبقاء السابغ فالمشاهدة "يادداشت" هي ثمرة عمل السالك وهي عبارة عن حال المريد بعد الوصول إلى غايته وقد تكون ثمرة الذكر أو المراقبة أو مساعدة المرشد، ويصلها السالك بعد قطع كل الحواجز.
قال الشيخ عبيد الله الأحرار: تعني هذه الكلمة "المشاهدة يادداشت" مشاهدة الحق بالحب الذاتي، وهو حضور لا غياب فيه، يغطي الحب السالك بصورة دائمة وقيل أيضاً (يادكرد) هو الدوام على الذكر و"الرجوع" بمعنى انه بعد أي توقف من الذكر يعود السالك إلى قلبه ليقول: (الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي) و"التوقف" (حراسة القلب) هي حراسة هذه الحالة دون أن يذكر شيئا. فالمشاهدة هي دوام حراسة هذه الحالة والمحافظة على الحضور.
أما الكلمات الثلاث التي أضافها الشيخ النقشبند إلى القواعد الثماني فهي:
9 ـ الوقوف الزماني:
وهو المحاسبة القلبية ومعناه انه ينبغي على السالك بعد مضي كل ساعتين أو ثلاث إن يلتفت إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث فان كانت حالة الحضور مع الله تعالى شكر الله تعالى على هذا التوفيق وان كانت حالة الغفلة استغفر منها وأناب.
وجاء في كتاب الرشحات أن الشيخ بهاء الدين النقشبند قال: الوقوف الزماني هو أن يكون السالك واعيا لحاله عارفا بما هو فيه هل يستحق الشكر عليه أو يجب عليه الاعتذار فان كان حسنا شكر الله عليه وان كان غير ذلك اعتذر قال مولانا يعقوب الجرخي هو احد المريدين الكبار للشيخ النقشبند: أن الشيخ محمد بهاء الدين النقشبند كان ينصح السالك الذي ابتلي بحال القبض بالاستغفار وينصح السالك الذي أسعده الله بحال البسط بان يشكر الله سبحانه. فالوقوف الزمني هو مراقبة الحالين القبض والبسط ويفهم أيضاً أن حالة البسط أساسها اليقظة وحالة القبض أساسها الغفلة.
10 ـ الوقوف العددي:
وهو المحافظة على عدد الو ترفي النفي والإثبات ثلاثا أو خمسا "لا اله إلا الله" ومنهم من يستطيع الذكر (21) مرة بنفس واحد، فهذه المراقبة العددية تسمى الوقوف العددي فالسالك واقف متيقظ بضبط نفسه على الذكر بالوتر وهذا الذكر بالقلب وبالباطن وكذلك عده بالقلب وبالباطن وليس باللسان ولهذا الوقوف ثمرة معنوية كبيرة وقد جربه المشايخ والمريدون وهو من بديهيات الطريقة.
قال الشيخ عبد الرحمن الجامي (817 ـ 898 هـ) (وهو مؤلف نفحات الإنس) في رسالته النورية ( وهي مخطوطة في دار الكتب المصرية):
حكمة الوقوف العددي هي معرفة السالك متى وفي أي عدد من الذكر تحصل له ثمرته؟ فان بلغ (21) مرة ولم يشعر بالثمرة المعنوية فان علامة واضحة لنقصان شروطه وانه يراقب العدد ليعرف فيما إذ حصلت له البركة أم لا .... فان لم تحصل البركة من (21) مرة فعليه أن يبحث عن سر نقص عمله.
قال الشيخ النقشبند: إن هذا الوقوف العددي هدفه ضبط فكر السالك وعقله لكي لا يشتط ويذهب إلى هناك أو هنا.
قال علاء الدين العطار: ليس المهم من الثمرة كثرة الذكر بل المهم هو التيقظ والمراقبة ويتحقق في الوقوف الزمني والعددي.
11 ـ الوقوف القلبي:
قال الشيخ عبد الله الدهلوي: انه عبارة عن تنبه السالك لحال قلبه بمراقبته ومحاولة الاطلاع على انه ذاكر أم لا وعليه أن يتوجه بقلبه إلى ذاته سبحانه دون أن يتصور القلب، أو الاسم.
فالوقوف القلبي هو حراسة القلب لكي يذكر الله دائما ولا يغفل عنه ويكون القصد من الذكر، (المذكور) لا الكلمة وينتظر السالك البركة متوجها إلى السماء ومع أن الله سبحانه في كل مكان فان السماء بالاعتبار الإنساني هي مركز العلو والبركة.
ويرى الشيخ محمد بهاء الدين النقشبند: إن الوقوف القلبي أفضل من الوقوف الزماني والوقوف العددي ، ذلك انه مع أهمية الوقوفين الزمني والعددي لإستحصال البركات فان فقد إنهما لا يؤثر في السلوك الصوفي، ولكن الوقوف القلبي ضروري فان فقده السالك الذاكر وأصبح ذكره مجرد حركة اللسان أو القلب دون الوعي فانه لا يحصل على شيء.
السلسلة الذهبية
إن الطريقة النقشبندية تصعد سلسلة بعد سلسلة إلى أن تصل إلى نبينا الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولها ثلاث سلاسل:
السلسلة الأولى: السلسلة المتصلة بآل البيت وتسمى السلسلة الذهبية وهي:
1 ـ الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
2 ـ الإمام علي عليه السلام
3 ـ الإمام الحسين عليه السلام
4 ـ الإمام زين العابدين عليه السلام
5 ـ الإمام الباقر عليه السلام
6 ـ الإمام جعفر الصادق
7 ـ الإمام موسى الكاظم
8 ـ الإمام الرضا
9 ـ الشيخ معروف الكرخي
10 ـ السري السقطي
11 ـ الجنيد البغدادي
12 ـ الشيخ أبو علي الرودباري
13 ـ أبو عثمان المغربي
14 ـ أبو القاسم الجرجاني
15 ـ الشيخ أبو علي الفارمدي
وتلتقي السلاسل الثلاث عند الشيخ أبي علي الفارمدي وله الإجازة المطلقة من الجانبين وقد التقت سلسلتان عند الشيخ معروف سابقا .
السلسلة الثانية :
1 ـ الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
2 ـ الإمام علي عليه السلام
3 ـ الشيخ حسن البصري
4 ـ الشيخ داود الطائي
5 ـ الشيخ معروف الكرخي
فقد أجيز الشيخ معروف من السلسلتين، وكما الإمام جعفر الصادق من طرف جده الإمام علي ووالد أمه سيدنا أبي بكر الصديق. والختم عبارة عن ذكر في الفجر وذكر في المغرب تؤديه حلقات السالكين النقشبنديين يتذكرون الموت أولا، ويتخيلون المرشد ثم يرتلون الصلوات ويقولون لا حول ولا قوة إلا بالله.
يا باقي أنت الباقي بالقدر المعين ثم يقرءون القرآن ويقدمون مثل ثوابه إلى روح مرشدهم ومرشد مرشدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الوقت تطفأ الشموع، ويغمضون عيونهم لمنع الخطرات من التسلل إلى قلوبهم ومن اجل التركيز ولكل شيء هنا قدر معلوم، وقد يشارك المرشد معهم وقد يتوجه بقلبه إلى قلب المريدين وينالهم من الحظوظ ويسمى بالتوجه وقد ينيب أحيانا بعض خلفائه للتوجه وهو دليل بلوغ الخليفة إلى مستوى الإرشاد والتوجيه ولكنه بداية الطريقة.
وقد يستفاد من المرشد إن كان حقيقيا دون حضوره وسلم.يد المرشد مريده بما لا يستطيع المريد الوصول إليه ولو عمل لذلك عشر سنوات.
1 ـ سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم .
2 ـ سيدنا أبو بكر الصديق.
3 ـ سلمان الفارسي.
4 ـ قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
5 ـ سيدنا جعفر الصادق.
6 ـ أبو يزيد البسطامي.
7 ـ أبو الحسن الخرقاني.
8 ـ أبو علي الفارمدي.
9 ـ يوسف الهمداني.
10 ـ ( الشيخ عبد الخالق الغجدواني ).
11 ـ الشيخ عارف ريوكري.
12 ـ الشيخ محمود إنجير فغنوي.
13 ـ الشيخ علي الرامتيني.
14 ـ الشيخ محمد بابا سماسي.
15 ـ الشيخ السيد كلال.
16 ـ ( الشيخ محمد بهاء الدين النقشبند ).
17 ـ شيخ علاء الدين العطار.
18 ـ شيخ يعقوب الجرخي.
19 ـ شيخ عبيد الله الأحرار.
20 ـ شيخ محمد القاضي الزاهد.
21 ـ درويش محمد.
22 ـ محمد خواجكي امكني.
23 ـ الشيخ محمد باقي.
24 ـ ( الإمام الرباني الشيخ احمد الفاروقي المجدد ).
25 ـ الشيخ محمد معصوم.
26 ـ السيد محمد سيف الدين.
27 ـ السيد نور محمد البدواني.
28 ـ شمس الدين حبيب الله جان جانان.
29 ـ الشيخ عبد الله الدهلوي.
30 ـ الشيخ مولانا خالد ذو الجناحين.
31 ـ الشيخ عثمان سراج الدين النقشبندي.
32 ـ الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي.
33 ـ الشيخ عمر ضياء الدين النقشبندي.
34 ـ الشيخ محمد علاء الدين النقشبندي.
35 ـ الشيخ محمد عثمان سراج الدين النقشبندي الثاني.
متى سميت هذه الطريقة بالنقشبندية؟ و لماذا؟
إن الطريقة النقشبندية إتباع مطلق وكامل للدين الإسلامي الحنيف والسنة المطهرة. ومعلوم أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين تميز عن الآخرين بمداومة الذكر والعبادة والجهاد ولكن شرف الصحبة أعلى وأجمل لذلك سموا جميعا بالأصحاب وكذلك الأمر مع التابعين الذين ظهر الميل إلى العزلة الصوفية في عهدهم، فان لقب التابعين ظل هو السمة الأظهر للجميع وفي منتصف القرن الثاني الهجري بدأ وصف حياة العزلة والانزواء. وفي أواخر القرن الثاني الهجري أطلق الصوفي لأول مرة على العابدين الذين لم تخدعهم مغريات الدنيا وظلوا مستقيمين على العبودية المطلقة لله سبحانه كما كان كبار الأصحاب و التابعين.
ولاشك بعد هذا التحقيق في أن لباس الصوف الملائم لهذا الميل وهذه الحياة هو السبب في إطلاق اسم "الصوفي" على هؤلاء العابدين الناسكين في الزاوية المعزولة. قالت رابعة العدوية شهيدة العشق الصوفي وهي في سكرات الموت لصاحبة لها: إذا مت اغسليني واكفنيني في عباءتي هذه التي من الصوف. وفي كتاب تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار: 513 – 586 يقول: كان الحسن البصري لا يبدأ بالوعظ إلى أن تحضر رابعة العدوية وكان يقول: إن بركة وعظي تأتي من هذه العجوز التي تغطي نفسها بالصوف. واقصد إن هذه المرأة الصوفية كانت تلبس الصوف مع إن البصرة حارة!! وهنا مقصدان آخران من هذه المقدمة أولها، أن اسم الطريقة ليس موجودا ومعروفا، والمتداول من الألقاب المميزة: الأصحاب والتابعون كما إن اسم المذاهب لم يكن موجودا أو معروفا ثم تجدد المذهب والطريقة باسم قادته وكبار مؤسسيها، فلولا أبو حنيفة والشافعي لما وجد المذهب الحنفي والشافعي ولولا عبد القادر الكيلاني وبهاء الدين النقشبندي لما وجدت الطريقة القادرية والنقشبندية.
ويقول أصحاب الطريقة النقشبندية أن طريقتهم كانت تسمى "الصدّيقية" نسبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم سميت "الطيفورية" نسبة إلى أبي يزيد البسطامي واسمه طيفور. ولا يعني ذلك أن أبا بكر وعليا سمى مذهبا خاصا والمقصود أن السلسلة من ما تحلى بسيدنا أبو بكر الصديق بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما صب الله في صدري شيئا إلا و صببته في صدر أبي بكر" وهذا ليس بمادي بل حب معنوي يعني المعرفة والحكمة، وهي أسرار تسبب السعادة وتسمى هذه الحالة في علم التصوف، بـ (الضمنية) فيشاركه في هذه النعمة. وسميت بعد ذلك بالنقشبندية نسبة إلى بهاء الدين النقشبند.
وقد سميت هذه الطريقة أيضا بعد نقشبند باسم أشهر الرجال فيها، مثل عبيد الله الأحرار والإمام الرباني المجدد ومولانا خالد النقشبندي، فقيل، الأحرارية، المجددية، الخالدية، ويلاحظ أن أحدا منهم لم يستطع إخفاء اسم "النقشبند"، حتى الإمام الرباني، ولا تزال النقشبندية هي العلم: ولم يدع احد منهم أنهم وصلوا مقاما أعلى من مقامه، كما أن أحدا لم يدع الوصول إلى مقام الشيخ عبد القادر الكيلاني إلى الآن.
تحميل الموضوع ملف وورد :
الإمام الرباني في مكتوباته إن الفرق بين إيمان العلماء وبين إيمان المشايخ الكاملين للتصوف هو أن معرفة العلماء بالاستدلال وأن معرفة المتصوفين بالكشف والذوق وسواء كان الأساس استدلالات أو كشفا فإن الغاية هي تطبيق الشريعة المحمدية.
وكما أننا نجد في ميادين علوم الشريعة مجتهدين كباراً برزوا وتركوا مذاهب ومناهج مستقيمة فسرت للأجيال الإسلامية معاني الشريعة وأهدافها مثل الإمام مالك بن أنس (715 ـ 795)م وأبي حنيفة (699-767)م ومحمد بن إدريس الشافعي (767 ـ820)م وأحمد بن حنبل (780 ـ855)م ومجتهدين آخرين درسوا هذه العلوم وتبحروا فيها وكونوا مدارس متميزة فإننا نجد في ميادين علم التصوف رجالا فضلاء شقوا طرقا ومسالك اتخذها عشاق الروح للوصول إلى الإيمان الكامل من أمثال: الشيخ معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي، وذي النون المصري وعبد القادر الكيلاني، وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي وبهاء الدين النقشبند، والشيخ عمر السهروردي، وأبي الحسن الشاذلي، ونجم الدين الكبروي، وجلال الدين الرومي ومعين الدين الحسني الجشتي، وابي العباس التيجاني، وعشرات من هؤلاء الرجال الذين أسسوا طرقا خاصة لتربية السالك للوصول إلى نهاية المرام ولكنها تنبع جميعا من مصدر واحد، ومثل ذلك "في الأمور الدنيوية" إننا نصنع من الحنطة عشرات من أنواع الخبز وصوره ونصنع من اللحم والأرز عديد من الطعام ولكل مذاق يختلف عن الآخر بالرغم من وحدة الأساس والمادة ولكن الجميع يؤدي غرضا واحدا هو الشبع، والتمتع وبناء الجسم وتماسكه. وكما أن المذاهب الإسلامية تهدف إلى توضيح طرق العبادة وأحكام الشريعة والسنة النبوية لاتخاذها منهجا للحياة. فإن الطرق الصوفية تهدف أيضا إلى ترسيخ الإيمان الكامل، وإيصال السالك إلى الإيمان اليقين "عين اليقين" لكي يكون قلبه مطمئنا بالإضافة إلى دعوته لتطبيق تعاليم الشرعة. وللسلوك الصوفي النقشبندي منهج خاص لإيصال المريد إلى غايته فالطريقة القادرية مثلا تتخذ الذكر الجهري شعارا لها والطريقة المولوية تعرف بقراءة الأشعار والذكر وحفلات السماع وللنقشبندية أوراد خاصة بهم ومع اختلاف الطرق في الأوراد والذكر والشعارات فإنها تلتقي في هدف واحد هو معرفته سبحانه ورضوانه والقرب منه. وهي طرق حددها العارفون بالله من المشايخ المجتهدين في علم التصوف بهداية من ربهم سبحانه: (واتقوا الله ويعلمكم الله) البقرة (282) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69 فقد علمهم الله وهداهم ويتولون هم إرشاد مريديهم إلى هذه الطرق ومثل ذلك مثل الطبيب الذي يكتشف دواء لمرض فيصفه لمرضاه وهؤلاء أطباء القلوب تسلقوا معالي الآمال في معرفة الله فيرشدون السالكين للوصول إلى قمم الآمال ولاشك إنها جميعا تعود إلى سنة النبي وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومصدرها جميعا هو القرآن الكريم وخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وسلم).
المنهج النقشبندي
لا فرق بين الشريعة والطريقة ولكن الصوفي ينقطع للذكر والفكر فيصفو قلبه، ويزيد إيمانه فيكون عين اليقين فيطبق الشريعة بقلب ممتلئ الإيمان. ومن انحرف عن الشريعة برأت منه الطريقة. وبعد هذه المقدمة آن لنا أن نعرف:
1 ـ ما هو المنهج النقشبندي للوصول إلى قمم الآمال الروحية؟
2 ـ كيف بدأت النقشبندية؟ وسلسلة رجالها رحمهم الله.
3 ـ متى سميت هذه الطريقة بالنقشبندية؟ ولماذا؟
نشير أولا إلى أقوال لمشايخ التصوف قبل الشروع في الإجابة المفصلة: قال الشيخ عبد الله الدهلوي المتوفى في (1240) هـ: إن ثمرة هذه الطريقة "النقشبندية" هي الحضور الدائم في حضرة الحق تعالى وترسيخ العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة وإتباع سنة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم).
وفي كتاب الحديقة الندية للشيخ محمد بن سلمان البغدادي يروى أن الشيخ محمد مراد الازبكى قال: "إن الطريقة النقشبندية طريقة الصحابة الكرام باقية على أصلها، لم يزيدوا ولم ينقصوا وهي عبارة عن دوام العبودية ظاهرا وباطنا بكمال الالتزام بالسنة والعزيمة وتمام اجتناب البدعة والرخصة في جميع الحركات والسكنات من عادات ومعاملات مع دوام الحضور مع الله تعالى على طريق الذهول والاستهلاك" ونقل في نفس المصدر عن أبن حجر الهيتمي 909 ـ 974 هـ "الطريقة العلية السالمة من كدورات جهلة الصوفية هي الطريقة النقشبندية" قال مقدم كتاب القدسية: التصوف النقشبندي إتباع السنة وهو معتدل و وسط وأساسه تطبيق الشريعة وتجنب البدع. ويقول أيضاً: إن اعتدال السلوك النقشبندي وما فيه من إتباع الشريعة، ويسر الطريقة كان السبب في شيوع هذه الطريقة لاسيما بين علماء الدين فقلب الصوفي النقشبندي لله، وجسمه للناس. والحقيقة أن المشايخ الذين وصفوا هذه الطريقة مجمعون على أنها إتباع للشريعة أولا، والدوام على الذكر والفكر والعبودية والإخلاص والإيثار ونكران الذات ثانيا، وبالنسبة لجواب السؤال الأول نقول: جاء في كتاب إيضاح الطريق: إن النقشبنديين لهم ثلاث طرق للوصول إلى قمة المراد:
1ـ الدوام على الذكر.
2ـ المراقبة.
3 ـ طاعة المرشد.
لا بد من القول أن الخطوة الأولى هي التوبة أي الإقلاع عن كل عمل سيء بشكل بات.
وتطبيق تعاليم القرآن والسنة النبوية.
1 ـ الدوام على الذكر
وللذكر صورتان:
ـ ذكر "الله" ويعني ذكر الذات أو ذكر الجلالة.
ـ ذكر "لا اله إلا الله" ويعني النفي والإثبات.
ومن المعلوم أن الذكر عند النقشبندية ذكر خفي بالقلب.
أ ـ ذكر الله:
من آدابه: أن يكون الذاكر متوضئا وفي مكان طاهر هادئ مستقبلا للقبلة.
فيدعوه سبحانه لحفظه من وسوسة الشيطان والنفس ثم يستغفر الله. ويتذكر مرشده إن كان له مرشد. وبعد ذلك يبدأ بالذكر بقلبه. ولكن الذاكر يمكنه ذلك بكل صورة وفي أي وقت قال تعالى" الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات والأرض" آل عمران.
ومن آداب الذكر الصوفي النقشبندي: في البدء يلصق المريد لسانه بعرش فمه لمنعه من الحركة. ثم تذكر "الله" قلبيا. والقلب من لطائف الباطن وليس المراد به اللحم الصنوبري ولكنه تحت الثدي الأيسر قليلا ويتأمل عظمة "الله" لا شكل كتابة اسم "الله" "ليس كمثله شيء" فيؤمن أن الله موصوف بجميع صفات الكمال ومنزه عن كل نقص.
ولى الذاكر أن يكون دائم الذكر ليلا ونهارا ودون حركة من اللسان والبدن حتى يبدأ قلبه بالذكر، ويشعر هو به. ثم يتوجه إلى روحه التي في الجانب الآخر من الصدر تحت الثدي الأيمن بإصبعين. فيذكر الله به حتى يصبح الروح ذاكرا أيضاً، ثم يتوجه إلى لطيفة السر التي تقع فوق الثدي الأيسر بإصبعين مائلا إلى الصدر ثم إلى لطيفة الخفي الذي يقع وسط الصدر فيبدأ بالذكر.
وحين تبدأ لطائفة بالذكر تصبح كل لطيفة مصباحا مضيئا بنور خاص وتبدأ لطيفة النفس بالذكر وهي في الجبين وهي من عالم الخلق واللطائف الأخرى من عالم الأمر وهي لطائف معنوية يحس بها السالكون وحدهم وقد ذكرت سابقا. وبعد ذلك يبدأ دور"القالب" البدن المؤلف من العناصر إذ تبدأ كل ذرة في جسده بالذكر ويحس به السالك نفسه.
وقال الملا حامد البيساراني وهو احد علماء التصوف من النقشبنديين: منهم من يذكر الله في يوم واحد خمسة وعشرين ألف مرة واقلهم يذكر خمسة الآف مرة. وأتضح مما سبق أنهم وضعوا خمس مراحل لذكر اللطائف التي في عالم الأمر ومرحلتين للطائف عالم الخلق.
إذا للذكر سبع خطوات: وهذا معنى ما قاله الإمام الرباني "إن طريقتنا سبع خطوات" وقال بعضهم كناية: "الطريقة خطوتان" خطوة في عالم الأمر، و خطوة في عالم الخلق. وأن الدوام على الذكر يجعل اللطائف السبع وكل ذرة في الجسم تذكر "الله". وفي هذه الحال يشعر المريد بالراحة واللطافة في قلبه ووجدانه.
وتقال لهذه الحالة "سلطان الأذكار" أو "سلطان الذكر" وقد يصل إلى حالة يحس فيها الذاكر بعد مواظبته على الذكر أن العالم كله يذكر "الله" بل يسمع ذكر "الله" من كل ذرة في الكون وهذا الذكر يسمى ذكر "ماسوى". ويعني أن كل مخلوق يذكر الله سبحانه. وهذه من لطائف الطريقة الجليلة. وقد أشار إليها الشيخ عمر ضياء الدين قدس سره حين قال في إحدى قصائده الصوفية "اللطائف جميعها غارقة في ذكر الله".
ولابد من توضيح أن هذه الحالة هي ألف باء التصوف ومقدمته وهي من حالات التزكية أي تطهير اللطائف، وليست من حالات فناء اللطائف. ولكل لطيفة حالة فناء خاصة. وبعد فناء الكل يأتي البقاء وفي هذه المدة يطلع السالك على أسرار عجيبة ويمنح من ربه مواهب معنوية.
ذكرنا اللطائف تتحول إلى مصابيح مشرقة بالنور حين تبدأ بالذكر ويقولون: إن نور كل لطيفة تحت قدم واحد من الرسل والأنبياء أولي العزم وكل سالك يفتح له بسبب احد هذه اللطائف. فيكون له شبه بالخلق المعنوي لذلك النبي.
وهي علاقة معروفة لدى العارفين، حتى أنهم يدركون هذه العلاقة بعد موت أصحابها في قبورهم. فهذا خلقه محمدي و ذلك عيسوي ومن أدرك هذه الأمور بعين البصيرة كيف يتسلل الشك إلى إيمانه؟
لطيفة القلب تحت قدم آدم ولون نوره اصفر.
لطيفة الروح تحت قدم نبيين هما نوح وإبراهيم واللون احمر.
لطيفة السر تحت قدم موسى واللون ابيض.
لطيفة الخفي تحت قدم عيسى واللون اسود.
ولا تناقض بين النور ولون السواد فقد يكون السواد أجمل شيء كلون العين والحاجبين مثلا. ولطيفة الأخفى ولونها اخضر تحت قدم حضرة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم). فان كان للسالك مرشد فانه ينتقل بمريده من لطيفة إلى أخرى وان تم نور اللطيفة تلألأ هذا النور في وجه المريد فيحس به هو ومرشد.
واللطائف مثلها مثل الحواس وهي في عالم المادة واللطائف من عالم الباطن وبعد تزكية لطائف عالم الأمر تبدأ تزكية النفس، وهي من عالم الخلق وليس لها لون كالماء يتلون بما يدخل فيه وتزكيتها صعبة فهي من عالم الطبيعة وهي في الأساس أمّارة بالسوء ومنها تخرج كل الرغبات الخبيثة ولكن ذكر الله سبحانه يطهرها ويروضها.
ويري مشايخ التصوف أن هذا النوع من التزكية يحتاج إلى مرشد والمقصود بالمرشد العارف العابد الذي لاشك في ولايته واجتيازه هذه المقامات وهو إنسان بالاسم ولكنه قطعة من نور وملائكي الصنعة ورباني المسلك، ومن أصحاب المقامات العالية للبقاء بعد الفناء. ومثل هذا الإنسان لا يتصور منه الخيانة لأمة محمد ولا يعقل أن يكون هدفه من الإرشاد الدرجات الدنيوية أو المكتسبات المالية.
ومن السهل أن ينقاد المرء لشخص له هذه المواهب والصفات ويجعله أستاذه ومرشده.
قلنا: الذكر له صورتان:
أ ـ ذكر "الله" وقد ذكرناه.
ب ـ ذكر "لا اله إلا الله" وهو معروف بالنفي والإثبات وأن معظم السالكين يبدأ بذكر الله ثم بالنفي والإثبات وقد يقدم المرشد ويؤخر في ذلك حسب تشخيصه لحال السالك و هو أدرى به.
فلنعلم طريقة هذا الذكر: يتحلى بنفس الأدب والصورة التي ذكرناها من ذكر "الله" ثم يذكر بلسان الخيال كلمة "لا" ويمدها من تحت الصرة إلى الجبين وبعبارة أخرى يمد كلمة "لا"، من أسفل لطيفة الأخفى فوق لطيفة الخفى إلى لطيفة النفس في الجبين ثم من الوجه يمد كلمة (اله) إلى الثدي الأيمن إلى جانب لطيفة الروح ولطيفة أخفى ومن هناك يعيد كلمة "إلا" إلى ظهر الثدي الأيسر وهو محل لطيفة السر وبعد ذلك يضرب بالتخيل بلفظ الجلالة (الله) بقوة النفس المحبوس على سويداء القلب حتى يظهر أثرها وحرارتها في سائر الجسد بحيث يحرق جميع الأجزاء الفاسدة في البدن بتلك الحرارة، فيتنور ما فيه من الأجزاء الصالحة بنور الجلالة.
وبعد إكمال "لا اله إلا الله" بلسان الخيال وبالشكل الذي صورناه مرة أو ثلاث مرات أو أكثر يقول في حال التنفس "محمد رسول الله". وهذه صورة توضيحية لذكر لا اله إلا الله سرا وعلى الذاكر أن يفكر في المعنى لا في شكل "لا اله إلا الله" فيكون قصده في قلبه انه لا موجود بحق يستحق العبادة إلا الله وان العبودية هي هدف الذاكر.
ويقصد من قوله "لا اله" إن كل موجود فان ومن قوله "إلا الله" أن الله باق وحده. و من آداب الذكر سواء كان ذكر الله أو ذكر لا اله إلا الله : انه بعد الذكر يرتاح قليلا ومن هذه الاستراحة يقول : الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ولا اطلب من عبادتي سوى رضوانك، إني تخليت عن العالمين ولكن أرجو أن تهبني محبتك ومعرفتك. وعليه أن يتأمل بقلبه دون التفكير في الطلب المادي وهذه المراقبة
تسمى بـ "الوقوف القلبي". وبمناسبة الحديث عن الوقوف القلبي نقول إن للنقشبنديين (11) مادة، أو كلمة أو أحدى عشرة درجة وعمودا وقلنا سابقا أن الذي لا يتجاوز المقامات العشرة لا يبلغ درجة الفناء والبقاء وهي عبارة عن: التوبة، الإنابة، الزهد، القناعة، الورع، الصبر، الشكر، التوكل، التسليم، الرضا. وهي ما تسمى أيضاً بمقامات اليقين.
وبعد اجتياز طريق السلوك، على السالك أن يتحلى بأحد عشر خلقا وإلا لم يحصل على شيء، ثمانية منها مأثورة عن حضرة الشيخ عبد الخالق الغجدواني (575) هـ وبعدها ثلاثة عن الشيخ الأكبر السيد محمد بهاء الدين النقشبند والمجموع 11كلمة وهي: النظر إلى القدم، السفر في الوطن، الخلوة في الجلوة، الذكر الدائم، العودة من الذكر، اليقظة عند النفس، الحضور الدائم، حفظ آثار الذكر في القلب، والوقوف القلبي و الوقوف العددي والوقوف الزماني لبهاء الدين النقشبند.
وسنذكر معانيها. ويطلب السالك الفيض والرحمة من الله سبحانه متوجها إلى السماء رعاية للأدب لان الله سبحانه فوق كل شيء ليس له مكان وليس له زمان وللوقوف القلبي شرطان أولهما: يحاول أن لا يخطر على قلبه شيء من الخيالات وثانيها، إن خطر على قلبه خيال توقف عن الذكر كاللجام وجاهد لطرد الخيالات ثم يبدأ بالذكر من جديد ويسمى "بالتوقيف" ومن الأفضل توقف التنفس وقت الذكر وحسب نصائح المرشدين.
ومن هذه الحال تنشأ حرارة القلب، وشوق في الداخل، وتتولد المحبة وتطرد الوسوسة وتزال الحجب أمام السالكين شيئا فشيئا. ويتبين من هنا أن التصوف سلوكا ينبغي معرفة بميدانه. ويعني الوقوف العددي أن يكون الذكر بالوتر، مرة أو ثلاثا أو خمسا أو سبعاً هي درجة للسلوك النقشبندي. وله اثر في كشف أسرار الطريقة.
وعلى السالك أن يحاول أن يذكر "لا اله إلا الله" (21) مرة بنفس واحد فان فعله مع المراقبة والتحلي بالآداب التي ذكرناها فانه يحصل على ثمرات معنوية ويتطهر قلبه وتكشف له أسرار يحس بها، وقد ذكرناها، وان لم تحصل هذه الثمرات فانه لم يطبق شروطه فعليه بالتفكير لاكتشاف الخطأ وإن كان له مرشد فانه يأخذ بيديه إلى لب عمله.
ولا بد من العلم بأن هذه الشروط مثل الوقوف القلبي العددي أو التوقف عن التنفس وإمرار الذكر على اللطائف تكون سهلة بعد الاعتياد عليها.
كما أن الرياضة في بدايتها صعبة ثم يتمرن المرء عليها فقد يكون من الصعب أن يرفع عشرة كيلوات أولا ثم يسهل عليه رفع 100 ك فان الرياضة الروحية كذلك ولكن ثمرة الرياضة البدنية مادية وثمرة العبودية هي رضا الخالق وان الرياضة البدنية تتعطل في عمر معين وبعد مدة ولكن الرياضة الروحية تقوى ويكون مصباحا للناس.
وان الثمرة الأساسية لهذا الخلق هي التزكية كما هي الحال في ذكر "الله" أي تزكية اللطائف إذ بذكر الله تتزكي اللطائف واحدة بعد الأخرى ويشع منها النور ومن حيث أن هذا الذكر"لا اله إلا الله " يمر باللطائف كلها فإنها جميعا تشرق بالنور معا و يبدأ بالقلب أولا ً ثم تبدأ اللطائف الأخرى بالذكر ويشع نور خاص منها ويشعر بذلك السالك نفسه.
بعد أن ذكرنا الخطوة الأولى للنقشبندية وهي الذكر نأتي إلى الثانية:
2ـ المراقبة:وكل شرط ذكرناه للذكر فهو مطلوب للمراقبة أيضاً كالتوبة والاستغفار وغيرها وهي الاستعداد والجلوس في مكان هادئ وطرد الخيالات عن القلب والتوجه إلى باب الحق ويتضرع إلى ربه بكل مسكنة وبكل عشق من الباطن دون واسطة مرشد أو الذكر ويسأل الله أن يستمطر الرحمة والفيض والبركة على قلبه وباطنه وان يشرق قلبه بنور وجهه.
وحين يصبح التوجه إلى الحق ملكة و خلقا راسخا بسبب المواظبة ليلا و نهارا على هذه الحال يصل إلى حالة تسمى في التصوف بـ "التوجه إلى المذكور لا الذكر" أي التوجه إلى صاحب الاسم وهو الله، لا الاسم وهو الذكر. وبهذا يتجلى نور ربه في قلبه وتتحقق المشاهدة. وقال كبار المشايخ: الجذبة أي الانجذاب إلى الحق تتحقق عن طريق المراقبة بصورة أسرع من الذكر. ويقال أيضاً: أن المواظبة على المراقبة ترفع السالك المراقب إلى درجة الوزارة المعنوية وهي أعلى الدرجات. ومن ثمرات المراقبة إن هذا السالك المراقب يطاع في الملك والملكوت، ويكون عارفا بالباطن وآمرا على القلوب. ومن كان خلقه المراقبة فعليه ألاّ يغفل عن الذكر والعبادة وقيام الليل وأداء الصلوات. وقالوا أيضاً إن الاقتراب من هؤلاء الصالحين هو سبب الفوز والنجاح قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" التوبة 119 وقد تكشف أسرار لكبار السالكين في حال المراقبة فيعرفون أوضاع سلوكهم. وهذه معنى المراقبة الخاصة في الطريقة النقشبندية وقد بينا سابقا المعنى الآخر للمراقبة في التصوف وهو مراقبة النفس وكبح جماحها.
بينا اثنين من الطرق الثلاثة التي على السالك اتباعها للوصول الى غايته وهي:
1. الذكر
2. المراقبة
والآن نبين السبيل الثالث وهو:
3. طاعة المرشد:أي يكون السالك تلميذا لمرشد كامل، مطبقا لتوجيهاته بإخلاص وأدب كما هو الحال لتلميذ يتلقى العلم من أستاذه. وقال كبار علماء التصوف: إن هذا السلوك أسهل وهو اقرب لنيل الغاية ويسمى ذكر "الرابطة" وهو عبارة عن مواصلة العلاقة القلبية مع الله سبحانه فمن كان له مرشد فان هذه العلاقة تتم عن طريق قلب المرشد.
وكيفية ذلك: إن قلب السالك هنا يتعلق بقلب المرشد الذي لاشك في انه نوراني ويشرق فيه نور الله سبحانه، ونوره سبحانه مصدر الأنوار. وان نور الحق يشرق دائما في قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) كالكهرباء الذي يتوزع في الجهات كلها، وكالنهر الذي تتوزع جداوله في كل الأنحاء ولكل جدول عشرات من المزارع وآلاف من الأشجار تروى بها. وكذلك يتوزع الفيض والماء الزلال على العاشقين المحبين لكي تروى مزارع قلوبهم بهذا الفيض والبركة وتُثمر ثمراتها الطيبة.
والمرشد الكامل يحصل على نصيبه من هذه البركة وتوزعه على المريدين.
وذُكر أن الشاعر الصوفي مولوى بعث قصيدة إلى مرشده الشيخ عثمان النقشبندي قال فيها:
"أنت ساقي المزارع وكفيتهم جميعا بالكفاف
(ويقصد المزرعة الروحية)
أما مزرعتي فتشكو العطش وثماري تشكو الجفاف
هذا حيف: فافتح الجداول جدولاً بعد جدول وارو مزارعي"
ولابد من بيان أن هذه العلاقات هي روحية ومعنوية ولا تدرك الا بعين البصيرة ذلك أنها ليست بقنوات فيها المياه تجرى ولاهي علاقات مادية. فإذا ما استقرت الرابطة وتمكن المريد من ترسيخ هذه العلاقة فانه يستمد النور والبركة منها ويكون لهذا النور انعكاسات من اللطائف فتتزكى واحدة بعد الأخرى. وتعالج العلل والأمراض واحدة بعد الأخرى كعلة الحسد، ومرض الغرور، وطول الأمل، والتهالك على جمع المال، والأمراض المعنوية الخبيثة الأخرى، وعندما يتزكى باطن السالك من الغش واشتعل نور الحق في اللطائف وتبدأ اللطائف بالذكر فان المريد يصل حالة الحضور والمشاهدة وهي الأمل المنشود وبهذه الخطوة يطمئن قلبه وباطنه وتبدأ مرحلة "الأنفس" أي التوجه نحو مرحلة الفناء للوصول إلى منزلة البقاء.
وفي مبحث الذكر اشرنا إلى أن السالك يبدأ بالذكر القلبي حتى يصبح قلبه ذاكرا، ثم يبدأ يتنقل من ذكر لطيفة إلى ذكر لطيفة أخرى ولكنه في هذه الحال يعينه المرشد بالتوجه إليه.
وكيفيته: يتوجه بقلبه إلى إحدى لطائف السالك ويربطها بلطائفه ولا ريب في أن لطيفة المرشد ذاكرة ونورانية فتنعكس على لطيفة السالك فتصبح ذاكرة ونورانية وبعد أن يستقر وضع السالك بعد مهلة في اللطيفة الواحدة يتوجه المرشد إلى لطيفة أخرى لمريده لمهلة قصيرة وإذا كان للمريد شيء من الاستعداد لما يتحلى به من الذكاء فسرعان ما يصل الغاية وتتزكى لطائفه وكذلك فيما يتعلق باجتياز المقامات حتى يصل مرحلة الفناء والبقاء.
وفي هذه المرحلة يستغنى عن المرشد ويكون كاملا بالمعنى النسبي "والكمال المطلق لله وحده" ويرفع الله درجاته مادام الله سبحانه يريد علو منزلته كما انه ليس للعلم الظاهري المادي حدود وإن العالم يظل يطلب العلم ليزداد علمه وكذلك الغني يطلب مزيدا من الغنى وكذلك ليس للطف الله حد والإنسان الكامل الذي بلغ قمة الإنسانية هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ويليه بعده الأنبياء ثم الأولياء.
وفي عرف التصوف يعتبر السالك الذي منح درجة البقاء بعد الفناء انسانا كاملا، وهذه الدرجة كالدكتوراه في العلوم الدنيوية أو غيرها فيصبح أستاذا ومرشدا في سلكه. ولابد من التنبيه هنا على اشد ما يخاف منه في الطريقة النقشبندية: هو إن يأذن المرشد لمريديه بالرابطة دون أن يكون قد وصل مرتبة البقاء بعد الفناء.
وهي خطيئة كبيرة لأنها قد توقعه في شبهة الشرك أولا ويكون المرشد مسؤولا عنها، وتوقع المريد ثانيا في أمراض الوسوسة ومصائب أخرى عديدة فالإرشاد شيء وإجازة الرابطة شيء آخر. والإرشاد بمعنى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" واجب على كل مسلم والإرشاد للشريعة واجب علماء الدين، وبالنسبة للطريقة فعلى المرشد أن يصارح مريديه قائلا: إني أنصحكم وأرشدكم إلى التوبة ولكنى لست بمرشد كامل ولا يجوز لكم الرابطة معي. أو يقول كما قال (الأمير كولال) مرشد الشيخ النقشبند، له: إن حدود معرفتي هنا وعليك البحث عن مرشد آخر يعلمك بعدي.
وليس المقصود بالتوجه أن يكون المرشد متصلا بالمريد في المكان، ذلك أن المرشد الكامل يستطيع التوجه إلى مريده من مكان بعيد أيضاً ويدخل في قلبه المسرة الروحية ولكن القرب المكاني أفضل كما قلنا: أن التقرب من الصادقين سبب السعادة والفوز. فالرجل الصالح الولي حبيب الله والاقتراب من حبيب الله هو سبب لسعادة الدارين. فعلى المريد أن يطلب المساعدة من مرشده.
قال الشيخ عبد الله الدهلوي: مع أن الذكر اللساني لا يحقق أهداف السالك ما لم يتحول إلى ذكر قلبي ويصبح مَلَكَةً وخُلُقاً راسخاً فان الذكر اللساني مفيد وتكون للذاكر حظوة روحية معنوية إن تم حسب الشروط المذكورة.
ثم قال: على المريد أن يظل ذاكراً لله متذللا أمام باب الحق حتى في أوقات انشغاله بالإعمال الدنيوية وقال: "بركات من الله تنزل ولكن لقلوب المؤمنين تعجل". وهذه تسمى حال "الخلوة في الجلوة" ومعناها انه مع الحق ولو كان مع الخلق وهذا معنى ما قيل: الصوفي كائن.
(بالجسم كائن مع الناس وبالروح كائن عنهم).
والخلوة في الجلوة إحدى صفات ودرجات السالكين للطريقة النقشبندية. وقد بينا سابقا أن أمراض القلب هي الصفات الخبيثة كالحسد والحقد.... وغيرها من الأمراض والمسلم الحقيقي من طهر قلبه من هذه الأمراض، ولكنه أمر صعب وإلا عولجت مشكلات الإنسان. وفي الحال التي يكون للسالك مرشد فانه يتولى معالجة هذه الأمراض وتخليص قلب مريده منها.
وإن طَبّق السالك آداب الذكر المعروفة وتمسك بذكر "لا اله إلا الله" فتسهل عليه معالجة أمراضه القلبية. وحين يقول "لا اله" يتخيل معه طرد الحسد، وان لا حسد في قلبه ولاشيء في قلبه "إلا الله" فيشعر بنظافة قلبه من الحسد وهكذا الأمر بالنسبة لكل رذيلة. ومن الناس من ليست له بعض الرذائل كالكذب والكبر مثلا فيحقق في حال نفسه وما فيها من الرذائل. وبهذا النوع من الذكر يطهر قلبه منها.
ويقول في بعض الأحيان معترفا في قلبه: أنى مبتلى بهذه الرذيلة فجنبني منها فيتخلص منها واحدة بعد الأخرى ببركة هذا الذكر. وهذا التطهير القلبي والتزكية، وإشراق اللطائف، والتنقل من خطوة إلى أخرى وهي سبع خطوات تسمى "السفر في الوطن" أي الارتحال قلبيا من مركز إلى مركز حتى تتطهر جميعا، وهو أيضاً التأمل في النفس لكشف الأمراض لمعالجتها قال تعالى "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" والصوفي في هذه المرحلة يعيش مع الذكر ويعاف كل شيء عدا ذكر ربه وكما قالوا: كل شيء ماعدا ذكر الله سبحانه نزع للروح ولو كان طعام السكر.
وفي القرآن الكريم "واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" الجمعة 10 ومن حصل على بركة معنوية وأحس بها فعليه العمل للمحافظة عليها، فان ذهبت عاد إلى الذكر إلى أن يستعيد البركة وتصبح البركة حالا دائما وخلقا مستمرا.
وقد ذكرنا في تعريف اللوامع أن المريد المبتدئ يرى شعاع النور في قلبه ولكنه يذهب ولا يستقر، ويتكرر حتى يألف ويستقر في القلب. وبعد هذا نأتي إلى "جذبة القبول". وهي اسم للسالكين يطلق عليهم عندما تتوجه إليهم حالة خاصة فينجذبون فيها إلى ربهم فيكون محمودا عند ربه فان نضجت الجذبة وظهرت تسري بين حنايا قلبه فيوضات إلهية يحس بها السالك المجذوب فتلتذ روحه ويُسَر وقد يسعد بها السالك سعادة تفقده وعيه. فان استدامت هذه الحالة فانه يقرب من حالة الحضور والفناء وهذه الحالة تسمى "حقيقة الذكر" لأنه من المرحلة الأولى لهبوب البركة كانت الصورة ومن حالة الحضور تكون الحقيقة وتسمى هذه الحال: (درج النهاية في البداية) أو اندراج النهاية في البداية وهذه لا تحصل في يوم أو مرة، ولكل شيء وقته ومدته وحسابه.
أما الثمار الطيبة المتنوعة للطائف ولكل عبادة كالتهجد وقراءة القرآن الكريم فإنها لا تعد ولا تحصى وقد ذكر الإمام الرباني في مكتوباته البركات الخاصة لكل حالة وفي الطرق الصوفية العديدة، فانه كان مرشدا للطرق القادرية، والسهروردية، والجشتية والكبروية، بالإضافية إلى كونه من كبار مشايخ النقشبندية.
قال الشيخ عبد الله الدهلوي: بركة الصالحين قد تنزل كضياء من الشمس فتدخل القلب في زاوية وقد تكون كسحاب يعم جوانب القلب، أو كصبا لطيف أو كمطر، أو نهر، أو كخيمة من حرير تشمل البدن كله أو كالندى الذي ينزل على القلب.
وقال أيضاً: قد يحصل الشوق والدفء الروحي لسالكي الطريقة الجشتية، ويحصل الصفاء واللمعان لسالكي الطريقة القادرية، ويحصل لسالكي الطريقة النقشبندية الغياب وفقدان الوعي، أما السهروردية فآثارها هي آثار النقشبندية نفسها. هذه قطرة من بحر التصوف. وباقة ورد من حديقة غناء تشمل الأرض كلها، أردت بها بيان قدر منه لكم لا الإحاطة به فان عالم التصوف في حقيقته هو عالم معرفة الله سبحانه وهو عالم لا نهاية له ولا حد له لا في أوله ولا في أخره.
ولتوضيح مصطلح "درج النهاية في البداية" أو "اندراج النهاية في البداية" نقول كما أن الاندراج يعني استقرار حقيقة الذكر في القلب وهو ما اشرنا إليه سابقا فان له صورة أخرى هي: قد ينتقل المرشد بمريده في حال توجهه إلى مقامات كبيرة فيريه إياها، أو يبقيه هناك مدة يظن فيها انه قد حل هناك فيعيده إلى مقامه الأول وهدفه تشويق المريد وحثه على العمل للوصول إليها بقلب مشتاق ملهوف.
ومثله مثل الأمور الدنيوية حين يدعى إنسان إلى قصور فخمة ويقال له انك إن وصلت إلى ذلك المقام أصبحت صاحب هذه القصور، فإذا كان ممن يرغب في الدنيا فانه يعمل بشوق اكبر للحصول عليها حقيقة. ومن صور الاندراج انه قد يحصل الكشف للسالك وتبدو له بعض الأسرار كأن يكشف له حال الميت صالحا أم لا، وهو في الحقيقة لم يصل إلى هذا الحد الذي يدرك بقوته المعنوية هذه الأحوال. وحكمة ذلك دعوته للخوف والأمل "الخوف والرجاء" ويصل إلى "عين اليقين". ومن صوره انه يجتاز المريد المراحل كلها ويقترب من الوصول حتى يصبح خليفة دون أن يكون صاحب البركات، ولكن قوته الباطنية تقع في ظل القوة الباطنية للمرشد، ويسمى اصطلاحا "في ظل المرشد" أو في ظل القطب واصطلح عليه أيضاً بضمنية المرشد، وهذا الخليفة لا يعرف إن هذه القوة ليست له وهي لمرشده، وصادف مرارا أن كبار المشايخ يرسلون خلفاءهم في هذه الحالة للإرشاد. تبين أن درج النهاية اكبر من غيرها. فقد يحتار الناس من هذه المواهب والكرامات والبركات التي تظهر على هذا الخليفة الذي لا يختلف توجهه عن توجه شيخه وهو يعالج أمراض القلب العديدة، ويوصل السالك،
ولكنها في نفس الوقت اختبار للمرشد ليكتشف قابليته فقد يسقط الخلفاء في الامتحان ويسيطر الغرور عليهم ويظنون أنها من قدراتهم وان لم ينجحوا فإنهم لن يرجعوا إلى مقاماتهم الأصلية بل قد يطردون مدة وان نجحوا يعادون إلى مقاماتهم ولكن هذه الدورة مفيدة إن اعتبر بها وحافظ على الأدب إذ يرفع درجاته وقد اطلع على المقامات العليا وعندما يرجع إلى محله السابق فانه يتنبه إلى أن هذه القوى لم تكن له وإنما هي لمرشده.
أين هو من هذه المقامات؟ فعليه عمل شاق ورياضة دائمة للوصول إليها. وهذه الصور المختلفة لدرج النهاية في البداية تابعة لرغبة المرشد ذلك انه أستاذ القلب، وخبيره وطبيبه وهو ادرى بحاجة كل مريد ومداها.
إن منهج سلوك اللطائف بشكل مقسم هو منهج الإمام الرباني، أما خلفاؤه ومنهم نجله الشيخ محمد معصوم استصعبوا هذا العمل فاكتفوا بتربية لطيفة القلب في عالم الأمر، ولطيفة النفس في عالم الخلق وإيصالها، أما اللطائف الأخرى فتربيتها بالتزكية حتى وصول مرحلة الفناء والبقاء.
وقال الشيخ عبد الله الدهلوي: نحن نأخذ بالرأي الأخير، ولذا نقول: إن المرشد النقشبندي هو الذي يختار ما يراه الأفضل والضروري لمريده لاسيما بالنسبة لمن يجري تربيتهم عن طريق الرابطة، وعندما تبدأ اللطائف بالذكر يحظى بحضور الحق ولهذا الحضور أنواع وقد وضع كبار السالكين لكل نوع من الحضور إسماً وذلك لمعرفة وإفهام المريدين. وإن كان حضور الحق مقابل حضور الحق بحيث لم يسكرك هذا الحضور فتنسى الناس، ولم يؤثر في حضورك الناس، فيسمى "ذكر القلب" وان كان حضور الحق غالباً فهذا "ذكر الروح" وإن انساك هذا الحضور نفسك ولكن لم تنس الخلق فهو "ذكر السر" فان انساك حضور الحق نفسك والخلق فهو "ذكر الخفي".
فما هو الحضور؟ وكيف الإحساس به؟ قال: إن استطاع المريد النظر إلى قلبه وعرف انه قريب من الله سبحانه فهذا هو الحضور وحتى إذا لم يكن دائما فانه واضح للسالك. و قد يقل الحضور بسبب انشغال المريد بكسب الدنيا وان كان حضوره بشكل "كأنك تراه" وفي كل وقت وحال، حين الكلام وحين السكوت، وعند السرور والغضب، و أصبح الحضور ملكة فهذه الحال تسمى"الوعي الدائم" وهو التذكر الدائم.
وهي إحدى أسس الطريقة النقشبندية. وتبذل هذه المحاولات، ذلك انه قد سعد بعين بصيرته بالرؤية والمشاهدة و قد يشعر السالك في هذه الحال انه يشاهد بعين البصر لا بعين البصيرة إذ يغلب عليه الحضور فيتلفظ بكلمات يفهم منها الحلول والاتحاد، والحقيقة انه في حال حضور وما يقوله يعتبر شطحات تخرج من فمه وقد يقال له انك قلت كذا وكذا فلا يصدق كما هو حال السكران بعد إفاقته.
وهذه الرؤية تشبه الرؤية المنامية التي هي رؤية خاصة. و لا يمكن رؤية الله بعين البصر في هذه الدنيا فان سمعنا أمرا مخالفا من مجذوب فعلينا أن نعلم يقصد ما يحس به في نفسه لا في الواقع. وقال الشيخ عبد الله الدهلوي: و بعد هذه الحالة "عين اليقين" تبدأ "المراقبة المعية" كما قال سبحانه وتعالى..(وهو معكم أينما كنتم) الحديد 4.
وهنا أجيز للذكر باللسان وهذا النوع من القرابة يعتبر من الولاية الصغرى وهي أول درجة الأولياء وهي قطع المسافة في ظل "أسماء الله" وهذا المقام يسمى مقام الجذبة فيتحقق له الشعور بالبركة، والخفقان، والشوق و البكاء والذوق والتوحيد الفعلي وتجليات نور الحق ورؤية الوحدة والكثرة وحالات الإنس والهيمان والوحشة والحيرة كما لا يخفى على أرباب هذه الولاية، ويتحقق أيضاً الاستغراق في بحر المعرفة فينقطع عن علاقاته بالناس وينسى ما سوى الله ويسلم قلبه من الخطرات والوساوس.
وهذه تتحقق في مرحلة الولاية و يتحقق هنا أيضاً فناء القلب أي الدوام على حالة السكر الروحي وطرد ما سوى الله في قلبه. ويقول احد الشعراء بهذه الدرجة ما معناه:
متى افترق عن نفسي ولا يبقى أنا وأنت و الباقي هو الله وهذه حالة المعية أو المراقبة المعية. سبق أن ذكرنا إن الله قريب منا وفي القرآن الكريم "نحن اقرب إليكم من حبل الوريد" والعبد أيضاً لسبب تزكية باطنه يشعر بهذا القرب والحقيقة أن كل عبد قريب منه و لكن الطاهر يحس بالقرب أما الذي لم يتزك قلبه فانه لا يشعر بنعم الله، و تحدث الشيخ عبد الله عن أربعة أنواع من الفناء فقال:
1 _ فناء الخلق: وهو أن لا يخاف من أحد و لا يرجو أحد إلا الله.
2 _ فناء الرغبة: فالسالك هنا لا يرغب إلا في القرب منه سبحانه.
3 _ فناء الإرادة: فلا تبقى له ويكون كالميت فلا يطلب شيئا.
4 _ فناء الأفعال: لا تبقى له قدرة على أي فعل فيريد كل شيء من ربه أو عندما تنتهي قدرته على الفعل يتولى الله سبحانه أعماله، وهذه إشارة إلى الحديث القدسي "ما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها".
كما ذكرنا سابقا: يقول النقشبنديون إن مقام الولاية عبارة عن عشرة مقامات هي: التوبة، الإنابة، الزهد، القناعة، الورع، الصبر، الشكر، التوكل، التسليم، الرضا.
وفي النقشبندية أن مقام الولاية وفناء القلب لا يكفي ليكون الشيخ مرشدا ولا يكون كذلك إلا بعد فناء النفس وتحقق كمالات الولاية الكبرى فيكون صالحا للإجازة المطلقة في الإرشاد.
إن في حال فناء القلب تزول الخطرات من القلب فتنزل في النفس وفي حال فناء النفس التي مكانها في الجبين لا يبقى مكان للخطرات.
وهذه الدرجات التي يقطعها السالك في رحلته إلى الله سبحانه من أولها إلى الدرجة التي لا يعلمها إلا الله وقد يحس بها السالك شبهت بالدوائر.
وهذه الدوائر تشتمل على جميع اللطائف والمنح والمواهب في مقدمتها تسمى دائرة الإمكان وفي آخرها دائرة اللاتعيين، وهي عشرون دائرة، وفي هذه الدوائر قال بعضهم: إذا أزيل حجاب على خد المحبوب يظهر حجاب آخر، وإذا قطع حجاب يظهر حجاب آخر.
وقد تحدث الإمام الرباني في مكتوب انه والشيخ عبد الله الدهلوي في كتابه إيضاح الطريق عن هذه الدوائر وهي اسم معنوي ولكنه يشبه فعلا الدوائر وواضح عند سالكي الطريقة النقشبندية وسأتناولها باختصار:
على السالك قبل كل شيء أن يقطع دائرة الإمكان وهي تمام عالم الخلق والأمر والعروج بتزكية هذا العالم، وهو عبارة عن تزكية اللطائف الخمس وتزكية النفس والعناصر الأربعة وطبيعة الجسم، فإن أكمل مسيرة هذه الدائرة بالتزكية تخلص من دائرة الإمكان ووصل إلى الدائرة الثانية و هي الولاية الصغرى التي هي ولاية الأولياء وفي هذه الولاية يبدأ السير والعروج نحو قمة المطلوب في ظلال الأسماء والصفات ومن هذا الموطن يتحقق الشروع في حقيقة الفناء "الجذبة" من ثمراته.
وبعد العروج من الدائرة السابقة بطريقة السير في ظل أسماء الله يكون ذلك شروعا في الولاية الكبرى وهي مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالأصالة و وصول أصحابهم الكرام إلى هذه الدائرة بالتبعية ومن وصل إلى هذه الدائرة فقد اجتاز مقام "فناء النفس". إن فناء النفس وفناء القلب يختلفان عن تزكية القلب أو تزكية النفس فالتزكية هي للابتداء وهي تهيئة للقلب ليس إلا، ولكن فناء اللطائف مقام أعلى وهو آخر درجة، ودائرة الولاية الكبرى لها ثلاث دوائر وقوس واحد أي ثلاث دوائر ونصف دائرة يحس بها السالك وعليه أن يجتازها واحدة بعد الأخرى بكل قوة ورجولة كما هو حال السالك في طريق جبلي أو طريق صحراوي.
والسالك نفسه يعرف أين هو!! ويتم السير في هذا الطريق في ظل الأسماء والصفات و ثمار السالك من هذه الدائرة هي الفناء الحقيقي، حقيقة الإسلام، وشرح الصدر، ومقام دوام الشكر والرضا، دائرة الولاية العليا وهي دائرة الملا الأعلى من الملائكة والأرواح وتحصل للصالحين بالتبعية.
وفصل الإمام الرباني ذلك فقال: ان عمر الإنسان كله لا يكفي لاجتياز خطوة في هذا الميدان لولا عناية الله سبحانه، و في هذا الموضوع يشير إلى قوله تعالى "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" المعارج 4.
فلا يمكن العروج إلى هذا المقام إلا بعون منه سبحانه ومن ثماره النور الذي يحصل للسالك فيتذكر الوقت الذي كان في سلطان الأذكار وحصل له مثله ولكن أين هذا النور من ذلك؟ وهو مقام عظيم ورفيع. وحيث أن هذه الولاية أصلا للملأ الأعلى فتحصل للسالك علاقة بالأرواح والملائكة ويدرك الأسرار التي كانت من ثمار لطيفة السر، ولطيفة الأخفى، فهنيئا لأرباب النعيم نعيمهم. ثم تبدأ الرحلة في دائرة كمالات النبوة. وفي هذه الدائرة يحصل التجلي الذاتي دون غطاء الأسماء والصفات. ويقول: ان تقدم خطوة هنا أفضل من مقامات الولايات، إذ يتحقق الحضور دون تردد أو خفقان قلب ويتحقق برد اليقين، وهو لا يبلغه الحال و لا المقام، وهنا أيضاً تظهر له علوم الشريعة وهي مقام خاص بالأنبياء أساسا يرثه الأولياء بإتباع طريقهم. واقتبس هنا مما كتبه الشيخ عبد الله الدهلوي في كتابه إيضاح الطريق مكتفيا ببعض الأمور المهمة في هذا الموضوع، والدوائر الأخرى هي سير في الكمالات حيث يحصل كمال بعد كمال لكبار رجال التصوف مثل: دائرة كمال الرسالة، دائرة كمال أولى العزم، دائرة حقيقة الكعبة، دائرة حقيقة القرآن، دائرة حقيقة الصلاة، المعبودية المحضة.
ومن هنا يتوقف السير بالقدم ويبدأ السير النظري فيرى بعين البصيرة هذه المقامات، فيرون بهذه العين "دائرة الخلية" وهي مقام سيدنا إبراهيم خليل الله، و الأنبياء الآخرون تابعون له في هذا المقام "اتبع ملة إبراهيم حنيفا" النحل 123 كما تقول في الصلاة" اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم" ومعنى كما صليت هو التبعية.
وتمسى هذه الدائرة بالحقيقة الإبراهيمية. ثم دائرة "المحبة الصرفة الذاتية" التي تظهر لكبار السالكين و يقع من مركزها الحقيقة الموسوية وهي دائرة حقيقة موسى، ثم دائرة المحبية والمحبوبية الممتزجتين وهي: دائرة الحقيقة المحمدية، وهي دائرة عظيمة.ثم الدائرة المحبوبية الصرفة الذاتية وهي الحقيقة الأحمدية ثم دائرة الحب الصرف ويأتي بعدها "اللا تعيينية" وهي الدائرة التي لا يبلغها احد بالسير القدمي بل بالسير النظري. وقد يحظى السالك بمقام معين (بالتبعية) وهي في اصطلاحهم كالضمنية والظلية ومعناه: إن صاحب المقام (البركة) يأخذ صديقه المحبوب بالتبعية إلى مقام ليس له فهو تابع وليس بصاحب مقام و هو يحترم في هذا المقام تقديرا لمضيفه ، كما هو الحال في أمور الدنيا وعلاقاتها، وأساسه هو حب أبي بكر رضي الله عنه لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث قال صلى الله عليه وسلم "ما صب الله شيئا في صدري إلا وصببته في صدر أبي بكر".
ثم قال الشيخ عبد الله الدهلوي في آخر الموضوع: إن درجات الولاية الثلاث "الصغرى الكبرى العليا" والكمالات الثلاثة النبوة والرسالة وأولي العزم، والحقائق السبع (حقيقة الكعبة، القرآن، الصلاة، الإبراهيمية، الموسوية، المحمدية، الأحمدية) وبعدها دوائر المحبة الصرفة واللاتعيينية، لا تحصل لكل من سلك من إتباع الطرق.
بعضهم يبلغ ولاية القلب وقد لا يتجاوز دائرة الإمكان، و بعضهم يصل إلى الولاية الكبرى وقليل منهم يبلغ الولاية العليا، و الأقل منهم يبلغ الكمالات الثلاثة وأين من يبلغ الحقائق السبع وأعلاها ؟؟
الكلمات الإحدى عشرة في الطريقة النقشبندية
إن مبنى الطريقة النقشبندية على العمل بإحدى عشرة كلمة وقاعدة صوفية استمدت من التجربة السلوكية لمشايخ الطريقة ثمان منها مأثورة عن الشيخ عبد الخالق الغجدواني (575 هـ) وثلاث منها مأثورة عن الشيخ الأكبر محمد بهاء الدين النقشبند (717ـ791 هـ). وقد عُلِمَ أن النقشبندية أُسست على القلب، والذكر هو التأمل في اسمه تعالى حتى يبدأ القلب وكل الجسد بالذكر وثمرته تطهير القلب من الرذائل ودوام الحضور. والحقيقة أن المقصود هو المذكور والقرب من الحق والذكر وسيلة للقرب وحين يتجلى نور الله في القلب ويتحقق الحضور لا يبقى الذكر إذ يكون المذكور حاضرا وهذا القرب كما قلنا ليس بقرب الذات من الذات وليس بقرب الجسد من ذات الله سبحانه بل بقرب الباطن من نور الله سبحانه وهذا القرب يدرك بعين القلب لا بعين الرأس أي بالبصيرة لا بالبصر. وكما قلنا إن المثال على ذلك هو الرؤية في المنام. فبأي عين نرى في المنام؟ وبذلك نقرب المعنى في نفوسنا. وهذه الكلمات هي:
1 ـ اليقظة عند النفس
2 ـ النظر إلى القدم
3 ـ السفر في الوطن
4 ـ الخلوة في الجلوة
5 ـ الذكر الدائم
6 ـ العودة من الذكر إلى الذات
7 ـ حراسة القلب من الغفلات والخواطر، أو الحضور الدائم
8 ـ حفظ آثار الذكر في القلب
9 ـ الوقوف الزماني
10 ـ الوقوف العددي
11 ـ الوقوف القلبي
1 ـ اليقظة عند النفس: "هوش دردم"
ومعنا حفظ النَفَس عن الغفلة عند دخوله وخروجه وبينهما ليكون قلبه حاضرا مع الله في جميع الأنفاس فلا تتوزع خيالاته على أمور دنيوية. قال النقشبند: إن عمل السالك متعلق بنفسه، فعليه أن يعلم فيما إذ أمر نفسه مع الحضور أو مع الغفلة لكي يبقى السالك في الذكر ولا يتوزع باله على الماضي أو المستقبل في حال الغفلة.
قال الشيخ عبيد الله الأحرار 809 ـ 895 هـ وهو احد كبار النقشبندية: أهم عمل في الطريقة النقشبندية هو مراقبة النفس حتى لا يخرج في الغفلة، ومن لم يفكر فيها يقال له انه (فقد نفسه). وقال الشيخ سعد الدين الكاشغري وهو معاصر الشيخ عبيد الله: معنى اليقظة عند النفس هو أن لا يغفل السالك من نفس إلى نفس وان يتنفس مع الحضور وان لا يخلو النفس عن الحق. وباختصار تعنى هذه الكلمة عند رجال الطريقة النقشبندية اليقظة والدقة والفكر عند التنفس وهو درجة من درجات الطريقة وإذا أضاع السالك نفسا له فكأنه ارتكب ذنبا، إن ضياع النفس هو ضرر له.
2 ـ النظر إلى القدم: "نظر بر قدم"
يرى البعض أن معناه: على الصوفي في حال مشيه في الطريق أن يكون نظره مركزا على موضع قدمه حتى لا يتوزع باله وعقله على أنحاء كثيرة، وحتى يكون عقله وفكره مع الله فلا يغتر بجمال ومتاع الدنيا وهذا عمل محمود ولكن الإمام الرباني يقول: النظر على القدم هي حال"السفر في الوطن" وهما معنويان والمقصود بهذه الكلمة: هو أن السالك قبل أن يسير من مقام إلى مقام أعلى عليه أن ينظر بعين البصيرة إلى هذا المقام قبل أن يخطو على قدمه المعنوي. وفي مبحث الدوائر اشرنا إلى أن المسيرة بالقدم تصل إلى نهاية مقامات الحقائق وآخرها حقيقة الصلاة ثم تبدأ الرحلة النظرية. وقال الإمام الرباني، إن السير النظري كالاستطلاع للسير على القدم لعروج المقامات وقبل أن يخطو بقدمه إلى المقام الجديد فعليه أن يتحقق فيه ويعرف مكانه، فيخطو إلى المقام الجديد، ويقال لهذا التحقق في المقام الجديد "النظر إلى القدم" لذلك يشبه حالة السفر في الوطن ذلك أن النظر على القدم يعنى الرحلة من مقام إلى مقام وهي نفس معنى السفر في الوطن. والتحقق في موضع القدم في حال السفر يعني النظر على القدم وهو تبصير السالك بدرجته ومنزلته في مستقبله. وبعد مرحلة الرحلة على القدم تبدأ مرحلة نظر السالك، والسالك يرى المقامات الكبرى بالنظر فقط.
يقول فخر الدين الكاشفي في الرشحات: النظر على القدم يشير إلى مدى تقدم السالك في مسلك التصوف للعروج إلى مقامات الوجود، وتجاوز عقدة الأنانية. وله كتاب مهم موسوم بـ (الأصول النقشبندية) محفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية.
3 ـ السفر في الوطن: "سفر در وطن" وله معان:
المعنى الأول:
لا نشك في أن السفر بالمعنى المعروف مفيد لرفد الخبرة وتوسعة الإدراك، والسير في الأرض يورث العبرة في النظر إلى المخلوقات، ويوجه أبصار الإنسان إلى عظمة خالقه. فالسفر باعث للتفكر وقد مدح الله سبحانه المتفكرين في خلق السموات والأرض وقرنهم بالذاكرين قال تعالى "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض" آل عمران 191 ثم مدح السائحين في الأرض وقرنهم بالتائبين العابدين. فقال سبحانه "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله" التوبة 112 وفي سورة التحريم "تائبات عابدات سائحات".
وفي القرآن الكريم عناية خاصة بالسائرين في الأرض للاعتبار بما جرى على الأرض عقابا للمعتدين، أو دلالة على التغيرات في أمور الحياة. يقول سبحانه في أربعة مواضع من القرآن الكريم "أفلم يسيروا في الأرض".
وفي ثلاثة مواضع "قل سيروا في الأرض".
وفي موضعين "أو لم يسيروا في الأرض".
وهي حث للمسلمين على السفر وعلى التجول في الأرض ليزداد إيمانهم بالله سبحانه. ألا يعنى ذلك أن أساس هذه القاعدة الصوفية النقشبندية هو الخلق الإسلامي القرآني ؟؟
المعنى الثاني:
هو البحث عن المرشد الصالح فقد أوصى كبار المشايخ بسفر المريدين للبحث عن مرشد كامل ولكنهم قالوا فعند ذلك على السالك أن يطيع كل ما يأمر به المرشد وان رحلة مولانا خالد النقشبندي من العراق إلى الشام والحجاز، ومن الحجاز إلى كردستان ومنها إلى إيران والأفغان وكابل وقندهار إلى أن يصل إلى حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي ويحظى بأمنيته في حضرة هذا المرشد الكامل تعتبر من الرحلات الصوفية المهمة في هذا المجال وكذلك رحلة الإمام الغزالي من طوس إلى بغداد ومنها إلى الشام والحجاز للبحث عن مرشد مثال آخر لهذه الرحلات.
المعنى الثالث:
وهو المعنى المعنوي في المصطلح النقشبندي: يقول النقشبنديون إن المعنى المعنوي لهذه الكلمة عبارة عن محاولة السالك للانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة وهو سفر من عالم الخلق إلى الحق وهو ابتعاد عن مغريات الدنيا والتقرب من مالك الدارين وهو سفر من حال ومقام إلى حال ومقام أحسن وأعلى.
4 ـ الخلوة في الجلوة: "خلوت در انجمن"
ومعناه أن جسده مع الخلق وقلبه مع ربه.
والخلوة نوعان:
والنوع الأول (خلوة مادية): وهي عبارة عن انتقال السالك إلى زاوية معزولة للتعبد والتأمل وهذه نافعة للسالك لضبط حواسه وإمكان التركيز على قلبه والانهماك في حال قلبه ومن المعلوم انه كلما استطاع تعطيل الصفات الخارجية من العمل تزداد الصفات الباطنية نشاطا وعملا وبهذا يقرب من عالم الملكوت بشكل أحسن.
والنوع الثاني (خلوة القلب): بحيث لا يغفل عن ذكر ربه حتى إذا كان مع الناس ومشغولا بالكسب والذهاب والإياب فيبقى قلبه ذاكرا ولا يغفل عن ربه قال تعالى "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" النور37 والمقصود هنا المعنى الثاني. قال الشيخ محمد أمين الكردي في كتابه تنوير القلوب "فمعناه أن يكون قلب السالك حاضرا مع الحق في الأحوال كلها غائبا عن الخلق مع كونه بين الناس".
ويستحسن معظم كبار علماء التصوف أن يبقى قريبا من الناس، عاملا بالكسب الحلال بعد أن يستقر السالك ويتقدم في سلوكه. قال الشيخ أبو سعيد الخراز المتوفى279هـ:
ليس الكامل من صدر عنه أنواع الكرامات وإنما الكامل الذي يقعد بين الخلق يبيع ويشتري معهم ويتزوج ويختلط بالناس ولا يغفل عن الله لحظة واحدة .ويقولون (الصوفي كائن بائن) أي بالظاهر والجسم كائن مع الخلق والباطن والقلب بائن عنهم.
قال الإمام الرباني:
الخلوة في الجلوة فرع للسفر في الوطن ذلك انه متى يتيسر السفر في الوطن يسافر في خلوة الوطن أيضاً في نفس الجلوة ولا تتطرق تفرقة الافاق إلى حجرة الأنفس. وقال : هذا العمل في البداية صعب ولكنه سرعان ما يسهل وقال: هذه الموهبة في طريقتنا للمبتدئين أما في الطرق الأخرى فهي للمنتهين.
ذلك أنها تحصل في السير في الأنفس وهي بداية الطريقة النقشبندية والسير الافاقي يحصل مع السير في الأنفس والسالكون من الطرق الأخرى عليهم أن يكملوا السير الافاقي ثم يبدءوا بالسير في الأنفس.
وللتوضيح نقول: أن السير الآفاقي هو سير في عالم المادة وفي عالم الخلق.
إما السير في الأنفس فهو عبور المقامات القلبية الباطنية وتسمى اللطائف وهي من عالم الأمر، والأسرار والأنوار التي تكشف خارج القلب هي من عالم الخلق أي الآفاقي وما تكشف في القلب وترى فهي للأنفس وعالم الأمر. والتحلي بهذه الصفات والقدرة على تحقيق هذه الأعمال هي من مواهب هؤلاء السالكين الذين ملكوا هذه الدرجات بما قدموا من الذكر والعبودية والصدق والمجاهدة.
5 ـ الذكر الدائم (يادكرد):
والذكر بالمعنى العام الذي يشمل ذكر اسم الجلالة والتأمل، والصلاة وقراءة القرآن الكريم والدعاء هو أساس السلوك الصوفي، والغالب الشائع من معانية هو ذكر اسم الجلالة "الله" والتأمل. والذكر قد يكون جهرا وقد يكون سرا والسلوك النقشبندي يعتمد الذكر السري وله صورتان: ذكر "الله" عز وجل، والنفي والإثبات "لا اله إلا الله" وفي الحديث الشريف (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا اله إلا الله)
وهذه الطريقة كانت تسمى الطريقة الخواجية ، باسم مرشدها الأكبر المعروف بخواجه عبد الخالق الغجدواني، وهو الذي أسس الذكر السري في الطريقة النقشبندية وروجه وابتكر هذه النصائح التي نحن بصدد بيانها، وقد ظل الذكر الجهري معمولا به بجانب الذكر الخفي عند السالك إلى عهد الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي وهو رئيس الطريقة النقشبندية إذ قرر أن الطريقة هي الذكر القلبي لا غير، وأضاف ثلاث نصائح أخرى إلى كلمات الغجدواني وهي: الوقوف القلبي والوقوف العددي والوقوف الزماني فأصبحت(11) كلمة أو نصيحة.
والمقصود بالذكر هنا هو مداومة الذكر والتذكر، والفائدة في الذكر القلبي انه لا يحتاج إلى صوت أو حرف أي القول باللسان فيستطيع أن يذكر السالك حتى في خضم العمل ولكن الذكر اللساني لا يتحقق في حال العمل ولاسيما في حال الكلام مع الناس.
وهذا الذكر القلبي يتطلب المداومة حتى يتحقق للذاكر السالك الحضور الدائم مع المذكور وهو الله سبحانه وهدفه هو هذا الحضور وحينذاك يدرك السالك بحسه الباطني وبعين بصيرته أنه حاضر أمام ربه ويرى البركات وهي حالة المشاهدة.
وقد ذكرنا إن منهم من يذكر الله في يوم واحد(25)ألف مرة واقل الذكر بالنسبة للمبتدئين(5) آلاف مرة، وبعد أن يبلغ مرحلة الحضور لا يبقى للعدد مفهوم وكذلك الذكر اللساني ذلك أن المذكور، وهو الله قد أحاط بقلبه والسالك يقطع المقامات.
6 ـ العودة من الذكر إلى الذات "بازكشت":
ومعناها رجوع الذاكر من النفي والإثبات "لا اله إلا الله" بعد إطلاق نفسه إلى المناجاة بهذه الكلمة الشريفة باللسان أو بالقلب "الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي" وذلك لطرد كل الخيالات من قلبه حتى يفنى من نظره وجود جميع الخلق.
7 ـ حراسة القلب من الغفلات أو الحضور الدائم."نكاه داشت":
ومعناه أن يحفظ المريد قلبه من دخول الخواطر ولو لحظة فان خطر على قلبه شيء حق أم باطلا فعليه يوقف ذكره حتى ينتهي من طرد الخواطر فيبدأ بالذكر من جديد. وجاء في كتاب(مناهج السير) للسيد أبي الحسن زيد المجددي الفاروقي مطبوع في دلهي 1957: إن هذا التوقف معناه انه على السالك أن يحافظ على الثمار من البركات التي حصل عليها بمداومة الذكر أو على درجة الحضور والمشاهدة التي حصل عليها باستقامته على الذكر فلا يسمح بتسلل الخطرات إلى قلبه.
وفي كتاب رشحات عين الحياة (المطبوع 1912 في كانبيرا) ينقل فخر الدين على الكاشفي عن سعد الدين الكاشغري: على السالك أن يتمرن ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات يوميا حسب طاقته على حبس ذهنه وفكره القلبي بحيث لا يخطر في قلبه شيء ولا يبقى في قلبه غير الله سبحانه ويرى بعضهم أن التوقف خاص بذكر النفي والإثبات (لا اله إلا الله) وهو أن يرسخ معنى الذكر في قلبه ويحبسه لكي يدوم المعنى وهو انه "لا اله إلا الله" فان لم يستطع فلا يحصل له الحضور القلبي. وان هذه المحاولة كما يبدو تهدف إلى دوام الحضور، ذلك ان حضور القلب وحفظ الباطن عن كل الخطرات والخيالات من أهم مقاصد الصوفية يرعاها المتصوفون، وهي درجة من درجات التصوف. وللمشايخ أقوال ونصائح عديدة في هذا المجال. ويجب أن نعلم بأنه ليس المقصود أن لا يمر أي خاطر في القلب ولكن معناه هو أن لا يستقر ويكون كالأوراق التي تمر سريعا على الماء الجاري ولا تتوقف.
وفي كتاب الحدائق الوردية للسيد عبد المجيد الخاني رواية عن علاء الدين العطار يقول "إن منع الخطرات والخيالات عن التسلل إلى القلب صعب وشاق ولكن عليكم العمل على طردها وعدم إبقائها". وقال: إني حرست قلبي عشرين سنة من الخطرات والخيالات ومع ذلك تسللت إلى قلبي بعد كل هذه المدة ولكنها لم تستقر.
8 ـ المشاهدة "ياد داشت":
التوجه الخاص لمشاهدة أنوار الذات، وتسمى أيضاً عين اليقين، والشهود.
قال الشيخ محمد أمين الكردي: هي كناية عن حضور القلب مع الله تعالى على الدوام في كل حال من غير تكلف ولا مجاهدة وهذا الحضور في الحقيقة لا يتيسر إلا بعد طي مقامات الجذبة وقطع منازل السلوك. وقال أيضاً: والحق انه لا يستقيم إلا بعد الفناء التام والبقاء السابغ فالمشاهدة "يادداشت" هي ثمرة عمل السالك وهي عبارة عن حال المريد بعد الوصول إلى غايته وقد تكون ثمرة الذكر أو المراقبة أو مساعدة المرشد، ويصلها السالك بعد قطع كل الحواجز.
قال الشيخ عبيد الله الأحرار: تعني هذه الكلمة "المشاهدة يادداشت" مشاهدة الحق بالحب الذاتي، وهو حضور لا غياب فيه، يغطي الحب السالك بصورة دائمة وقيل أيضاً (يادكرد) هو الدوام على الذكر و"الرجوع" بمعنى انه بعد أي توقف من الذكر يعود السالك إلى قلبه ليقول: (الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي) و"التوقف" (حراسة القلب) هي حراسة هذه الحالة دون أن يذكر شيئا. فالمشاهدة هي دوام حراسة هذه الحالة والمحافظة على الحضور.
أما الكلمات الثلاث التي أضافها الشيخ النقشبند إلى القواعد الثماني فهي:
9 ـ الوقوف الزماني:
وهو المحاسبة القلبية ومعناه انه ينبغي على السالك بعد مضي كل ساعتين أو ثلاث إن يلتفت إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث فان كانت حالة الحضور مع الله تعالى شكر الله تعالى على هذا التوفيق وان كانت حالة الغفلة استغفر منها وأناب.
وجاء في كتاب الرشحات أن الشيخ بهاء الدين النقشبند قال: الوقوف الزماني هو أن يكون السالك واعيا لحاله عارفا بما هو فيه هل يستحق الشكر عليه أو يجب عليه الاعتذار فان كان حسنا شكر الله عليه وان كان غير ذلك اعتذر قال مولانا يعقوب الجرخي هو احد المريدين الكبار للشيخ النقشبند: أن الشيخ محمد بهاء الدين النقشبند كان ينصح السالك الذي ابتلي بحال القبض بالاستغفار وينصح السالك الذي أسعده الله بحال البسط بان يشكر الله سبحانه. فالوقوف الزمني هو مراقبة الحالين القبض والبسط ويفهم أيضاً أن حالة البسط أساسها اليقظة وحالة القبض أساسها الغفلة.
10 ـ الوقوف العددي:
وهو المحافظة على عدد الو ترفي النفي والإثبات ثلاثا أو خمسا "لا اله إلا الله" ومنهم من يستطيع الذكر (21) مرة بنفس واحد، فهذه المراقبة العددية تسمى الوقوف العددي فالسالك واقف متيقظ بضبط نفسه على الذكر بالوتر وهذا الذكر بالقلب وبالباطن وكذلك عده بالقلب وبالباطن وليس باللسان ولهذا الوقوف ثمرة معنوية كبيرة وقد جربه المشايخ والمريدون وهو من بديهيات الطريقة.
قال الشيخ عبد الرحمن الجامي (817 ـ 898 هـ) (وهو مؤلف نفحات الإنس) في رسالته النورية ( وهي مخطوطة في دار الكتب المصرية):
حكمة الوقوف العددي هي معرفة السالك متى وفي أي عدد من الذكر تحصل له ثمرته؟ فان بلغ (21) مرة ولم يشعر بالثمرة المعنوية فان علامة واضحة لنقصان شروطه وانه يراقب العدد ليعرف فيما إذ حصلت له البركة أم لا .... فان لم تحصل البركة من (21) مرة فعليه أن يبحث عن سر نقص عمله.
قال الشيخ النقشبند: إن هذا الوقوف العددي هدفه ضبط فكر السالك وعقله لكي لا يشتط ويذهب إلى هناك أو هنا.
قال علاء الدين العطار: ليس المهم من الثمرة كثرة الذكر بل المهم هو التيقظ والمراقبة ويتحقق في الوقوف الزمني والعددي.
11 ـ الوقوف القلبي:
قال الشيخ عبد الله الدهلوي: انه عبارة عن تنبه السالك لحال قلبه بمراقبته ومحاولة الاطلاع على انه ذاكر أم لا وعليه أن يتوجه بقلبه إلى ذاته سبحانه دون أن يتصور القلب، أو الاسم.
فالوقوف القلبي هو حراسة القلب لكي يذكر الله دائما ولا يغفل عنه ويكون القصد من الذكر، (المذكور) لا الكلمة وينتظر السالك البركة متوجها إلى السماء ومع أن الله سبحانه في كل مكان فان السماء بالاعتبار الإنساني هي مركز العلو والبركة.
ويرى الشيخ محمد بهاء الدين النقشبند: إن الوقوف القلبي أفضل من الوقوف الزماني والوقوف العددي ، ذلك انه مع أهمية الوقوفين الزمني والعددي لإستحصال البركات فان فقد إنهما لا يؤثر في السلوك الصوفي، ولكن الوقوف القلبي ضروري فان فقده السالك الذاكر وأصبح ذكره مجرد حركة اللسان أو القلب دون الوعي فانه لا يحصل على شيء.
السلسلة الذهبية
إن الطريقة النقشبندية تصعد سلسلة بعد سلسلة إلى أن تصل إلى نبينا الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولها ثلاث سلاسل:
السلسلة الأولى: السلسلة المتصلة بآل البيت وتسمى السلسلة الذهبية وهي:
1 ـ الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
2 ـ الإمام علي عليه السلام
3 ـ الإمام الحسين عليه السلام
4 ـ الإمام زين العابدين عليه السلام
5 ـ الإمام الباقر عليه السلام
6 ـ الإمام جعفر الصادق
7 ـ الإمام موسى الكاظم
8 ـ الإمام الرضا
9 ـ الشيخ معروف الكرخي
10 ـ السري السقطي
11 ـ الجنيد البغدادي
12 ـ الشيخ أبو علي الرودباري
13 ـ أبو عثمان المغربي
14 ـ أبو القاسم الجرجاني
15 ـ الشيخ أبو علي الفارمدي
وتلتقي السلاسل الثلاث عند الشيخ أبي علي الفارمدي وله الإجازة المطلقة من الجانبين وقد التقت سلسلتان عند الشيخ معروف سابقا .
السلسلة الثانية :
1 ـ الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
2 ـ الإمام علي عليه السلام
3 ـ الشيخ حسن البصري
4 ـ الشيخ داود الطائي
5 ـ الشيخ معروف الكرخي
فقد أجيز الشيخ معروف من السلسلتين، وكما الإمام جعفر الصادق من طرف جده الإمام علي ووالد أمه سيدنا أبي بكر الصديق. والختم عبارة عن ذكر في الفجر وذكر في المغرب تؤديه حلقات السالكين النقشبنديين يتذكرون الموت أولا، ويتخيلون المرشد ثم يرتلون الصلوات ويقولون لا حول ولا قوة إلا بالله.
يا باقي أنت الباقي بالقدر المعين ثم يقرءون القرآن ويقدمون مثل ثوابه إلى روح مرشدهم ومرشد مرشدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الوقت تطفأ الشموع، ويغمضون عيونهم لمنع الخطرات من التسلل إلى قلوبهم ومن اجل التركيز ولكل شيء هنا قدر معلوم، وقد يشارك المرشد معهم وقد يتوجه بقلبه إلى قلب المريدين وينالهم من الحظوظ ويسمى بالتوجه وقد ينيب أحيانا بعض خلفائه للتوجه وهو دليل بلوغ الخليفة إلى مستوى الإرشاد والتوجيه ولكنه بداية الطريقة.
وقد يستفاد من المرشد إن كان حقيقيا دون حضوره وسلم.يد المرشد مريده بما لا يستطيع المريد الوصول إليه ولو عمل لذلك عشر سنوات.
1 ـ سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم .
2 ـ سيدنا أبو بكر الصديق.
3 ـ سلمان الفارسي.
4 ـ قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
5 ـ سيدنا جعفر الصادق.
6 ـ أبو يزيد البسطامي.
7 ـ أبو الحسن الخرقاني.
8 ـ أبو علي الفارمدي.
9 ـ يوسف الهمداني.
10 ـ ( الشيخ عبد الخالق الغجدواني ).
11 ـ الشيخ عارف ريوكري.
12 ـ الشيخ محمود إنجير فغنوي.
13 ـ الشيخ علي الرامتيني.
14 ـ الشيخ محمد بابا سماسي.
15 ـ الشيخ السيد كلال.
16 ـ ( الشيخ محمد بهاء الدين النقشبند ).
17 ـ شيخ علاء الدين العطار.
18 ـ شيخ يعقوب الجرخي.
19 ـ شيخ عبيد الله الأحرار.
20 ـ شيخ محمد القاضي الزاهد.
21 ـ درويش محمد.
22 ـ محمد خواجكي امكني.
23 ـ الشيخ محمد باقي.
24 ـ ( الإمام الرباني الشيخ احمد الفاروقي المجدد ).
25 ـ الشيخ محمد معصوم.
26 ـ السيد محمد سيف الدين.
27 ـ السيد نور محمد البدواني.
28 ـ شمس الدين حبيب الله جان جانان.
29 ـ الشيخ عبد الله الدهلوي.
30 ـ الشيخ مولانا خالد ذو الجناحين.
31 ـ الشيخ عثمان سراج الدين النقشبندي.
32 ـ الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي.
33 ـ الشيخ عمر ضياء الدين النقشبندي.
34 ـ الشيخ محمد علاء الدين النقشبندي.
35 ـ الشيخ محمد عثمان سراج الدين النقشبندي الثاني.
متى سميت هذه الطريقة بالنقشبندية؟ و لماذا؟
إن الطريقة النقشبندية إتباع مطلق وكامل للدين الإسلامي الحنيف والسنة المطهرة. ومعلوم أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين تميز عن الآخرين بمداومة الذكر والعبادة والجهاد ولكن شرف الصحبة أعلى وأجمل لذلك سموا جميعا بالأصحاب وكذلك الأمر مع التابعين الذين ظهر الميل إلى العزلة الصوفية في عهدهم، فان لقب التابعين ظل هو السمة الأظهر للجميع وفي منتصف القرن الثاني الهجري بدأ وصف حياة العزلة والانزواء. وفي أواخر القرن الثاني الهجري أطلق الصوفي لأول مرة على العابدين الذين لم تخدعهم مغريات الدنيا وظلوا مستقيمين على العبودية المطلقة لله سبحانه كما كان كبار الأصحاب و التابعين.
ولاشك بعد هذا التحقيق في أن لباس الصوف الملائم لهذا الميل وهذه الحياة هو السبب في إطلاق اسم "الصوفي" على هؤلاء العابدين الناسكين في الزاوية المعزولة. قالت رابعة العدوية شهيدة العشق الصوفي وهي في سكرات الموت لصاحبة لها: إذا مت اغسليني واكفنيني في عباءتي هذه التي من الصوف. وفي كتاب تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار: 513 – 586 يقول: كان الحسن البصري لا يبدأ بالوعظ إلى أن تحضر رابعة العدوية وكان يقول: إن بركة وعظي تأتي من هذه العجوز التي تغطي نفسها بالصوف. واقصد إن هذه المرأة الصوفية كانت تلبس الصوف مع إن البصرة حارة!! وهنا مقصدان آخران من هذه المقدمة أولها، أن اسم الطريقة ليس موجودا ومعروفا، والمتداول من الألقاب المميزة: الأصحاب والتابعون كما إن اسم المذاهب لم يكن موجودا أو معروفا ثم تجدد المذهب والطريقة باسم قادته وكبار مؤسسيها، فلولا أبو حنيفة والشافعي لما وجد المذهب الحنفي والشافعي ولولا عبد القادر الكيلاني وبهاء الدين النقشبندي لما وجدت الطريقة القادرية والنقشبندية.
ويقول أصحاب الطريقة النقشبندية أن طريقتهم كانت تسمى "الصدّيقية" نسبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم سميت "الطيفورية" نسبة إلى أبي يزيد البسطامي واسمه طيفور. ولا يعني ذلك أن أبا بكر وعليا سمى مذهبا خاصا والمقصود أن السلسلة من ما تحلى بسيدنا أبو بكر الصديق بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما صب الله في صدري شيئا إلا و صببته في صدر أبي بكر" وهذا ليس بمادي بل حب معنوي يعني المعرفة والحكمة، وهي أسرار تسبب السعادة وتسمى هذه الحالة في علم التصوف، بـ (الضمنية) فيشاركه في هذه النعمة. وسميت بعد ذلك بالنقشبندية نسبة إلى بهاء الدين النقشبند.
وقد سميت هذه الطريقة أيضا بعد نقشبند باسم أشهر الرجال فيها، مثل عبيد الله الأحرار والإمام الرباني المجدد ومولانا خالد النقشبندي، فقيل، الأحرارية، المجددية، الخالدية، ويلاحظ أن أحدا منهم لم يستطع إخفاء اسم "النقشبند"، حتى الإمام الرباني، ولا تزال النقشبندية هي العلم: ولم يدع احد منهم أنهم وصلوا مقاما أعلى من مقامه، كما أن أحدا لم يدع الوصول إلى مقام الشيخ عبد القادر الكيلاني إلى الآن.
تحميل الموضوع ملف وورد :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق