مسائل منتقدة على الاحناف - مختلفة
قال صاحب الهداية: (ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات، وإنما تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين). الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 461)، والعناية (3/ 461)، ونصب الراية (3/ 410).
وقال السرخسي في المبسوط (5/ 137):
"ولا يجوز شهادة امرأة واحدة على الرضاع أجنبية كانت أو أم أحد الزوجينِ، ولا يفرق بينهما بقولها، ويسعه المقام معها حتى يشهد على ذلك رجلانِ أو رجل وامرأتان عدول، وهذا عندنا". وراجع: بدائع الصنائع (4/ 14)، وتبيين الحقائق (2/ 187).
وقال خليل في مختصره: "ويثبت الرضاع برجل وامرأة وبامرأتينِ إن فشا قبل العقد، وهل تشترط العدالة مع الفشو تردد، وبرجلينِ لا بامرأة ولو فشا ونُدِبَ التنزه مطلقًا". المنتقى شرح الموطأ (5/ 222)، وراجع مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 540)، وشرح الخرشي (4/ 183)، ومنح الجليل (4/ 383).
وقال الشافعي في الأم (5/ 32): "تجوز شهادة النساء في الرضاع كما تجوز شهادتهن في الولادة، ولو رأى ذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان جازت شهادتهم في ذلك، ولا تجوز شهادة النساء في الموضع الذي ينفردن فيه إلا بأن يكنَّ حرائر عدولًا بوالغ ويكنَّ أربعًا؛ لأن الله عز وجل إذا أجاز شهادتهن في الدين جعل امرأتين تقومان مقام رجل بعينه". وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (8/ 300)، ونهاية المحتاج (7/ 185)، ومغني المحتاج (5/ 143).
وقال ابن قدامة في المغني (8/ 152): "شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كان مَرْضِيَّة. وبهذا قال طاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبدالعزيز. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقبل إلا شهادة امرأتين. وهو قول الحكم؛ لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى. وعن أحمد رواية ثالثة: أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة وتستحلف مع شهادتها. وهو قول ابن عباس [روى عبدالرزاق في مصنفه (7/ 482)، (8/ 335) عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: شهادة المرأة الواحدة جائزة في الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف مع شهادتها. قال: وجاء ابن عباس رجل فقال: زعمت فلانة أنها أرضعتني وامرأتي وهي كاذبة. فقال ابن عباس: انظروا فإن كانت كاذبة فسيصيبها بلاء. قال: فلم يحل الحول حتى برص ثديها]، وإسحاق".
يتبين من هذا أن مذهب جمهور العلماء عدم ثبوت الرضاع بشهادة المرأة الواحدة، وذهب الحنابلة إلى ثبوته بذلك مع اختلاف عن أحمد فيه.
واستدل الحنابلة على ذلك بحديث عقبة بن الحارث وحديث ابن عمر المذكورينِ في أول المسألة. واستدلوا أيضًا بما رواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري: أن عثمان فرَّق بين أهل أبيات بشهادة امرأة.
ورواه أيضًا عن ابن جرير عن ابن شهاب قال: جاءت امرأة سوداء في إمارة عثمان إلى أهل ثلاثة أبيات قد تناكحوا فقالت: أنتم بني وبناتي. ففرق بينهم. [مصنف عبدالرزاق (7/ 482)، (8/ 334)].
وقد أجاء الجمهور عن حديث عقبة بحمل النهي في قوله: (فنهاه عنها). على التنزيه، وبحمل الأمر في قوله: (دعها عنك). للإرشاد. راجع: فتح الباري (5/ 962).
يقول الإمام الشافعي في الأم (5/ 37): "إعراضه صلى الله عليه وسلم يشبه أن يكون لم ير هذا شهادة تلزمه، وقوله: (وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما). يشبه أن يكون كره له أن يقيم معها وقد قيل: إنها أخته من الرضاعة، وهذا معنى ما قلنا من أن يتركها ورعًا لا حكمًا". وراجع: معرفة السنن والآثار (11/ 271).
وقال السرخسي في المبسوط (5/ 137): "وحديث عقبة بن الحارث دليلنا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية، فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك، ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال، أمره أن يفارقها احتياطًا، والدليل عليه أن تلك الشهادة كانت عن ضغن، فإنه قال: جاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت تشهد على الرضاع [أخرج نحوه الدارقطني في سننه (4/ 177) ولفظه: فدخلت علينا امرأة سوداء فسألت فأبطأنا عليها، فقالت: تصدقوا عليَّ، فوالله لقد أرضعتكما جميعًا. ويؤيده رواية البخاري (5104) بلفظ: فقالت لي: قد أرضعتكما وهي كاذبة.] ، وبالإجماع بمثل هذه الشهادة لا تثبت الحرمة، فعرفنا أن ذلك كان احتياطًا على وجه التنزه، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله: (كيف وقد قيل). وعندنا إذا وقع في قلبه أنها صادقة فالأحوط أن يتنزه عنها ويأخذ بالثقة، سواء أخبرت بذلك قبل عقد النكاح أو بعد عقد النكاح، وسواء شهد به رجل أو امرأة".
وأما حديث ابن عمر فهو حديث ضعيف، في إسناده محمد بن عيثم قال عنه النسائي وغيره: متروك. وقال أبو حاتم: لا يُكتب حديثه. وقال ابن معين: كذاب. وقال الدارقطني: ضعيف -راجع ترجمته في تهذيب الكمال (25/ 594)، وميزان الاعتدال (3/ 617)-. وشيخه محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني قال عنه أبو حاتم والبخاري والنسائي: منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف -راجع ترجمته في ميزان الاعتدال (3/ 644)-.
قال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 464): "فهذا إسناد ضعيف لا تقوم بمثله الحجة، محمد بن عيثم يُرمى بالكذب وابن البيلماني ضعيف. وقد اختُلف عليه في متنه فقيل هكذا، وقيل: رجل وامرأة، وقيل رجل وامرأتان".
وأما ما روي عن عثمان فهو معارض بما روي عن عمر والمغيرة وعلي وابن عباس: أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، فقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزها. عزاه الحافظ في الفتح (5/ 269) إلى أبي عبيد.
وروى البيهقي في السنن الكبرى (7/ 463) عن زيد بن أسلم: أن رجلًا وامرأته أتيا عمر بن الخطاب وجاءتْ امرأة فقالت: إني أرضعتكما. فأبى عمر بن الخطاب أن يأخذ بقولها فقال: دونك امرأتك.
قال البيهقي: هذا مرسل.
ورواه من وجه آخر مرسلًا عن عكرمة بن خالد المخزومي: أن عمر بن الخطاب أُتي في امرأة شهدت على رجل وامرأته أنها أرضعتهما فقال: لا، حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
بعد هذا البيان يتضح أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة ليس فيه مخالفة للحديث كما ظنَّ ابن أبي شيبة، وقد اتفق أبو حنيفة مع مالك والشافعي على أن حديث عقبة محمولٌ على الورع والتنزه عن الشبهات وليس حكمًا واجبًا، وما كان كذلك لا يوصف بمخالفة الحديث.
ثامنًا: مَسْأَلَةُ ذَكَاةِ جَنِينِ الذَّبِيحَةِ
اقتباس:
(1) حَدَّثَنَا حَفْصٌ وَعَبْدُالرَّحِيمِ بنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْمُجَالِدِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ جَبْرِ بْنِ نُوفِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِذَا أَشْعَرَ). أخرجه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا تَكُونُ ذَكَاتُهُ ذَكَاةَ أُمِّهِ.
***
إذا خرج جنين ميتًا من بطن أمه بعد ذبحها، أو وُجد ميتًا في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح، فهو حلالٌ. رُوي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر.
وقال ابن عمر: ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر. ورُوي ذلك عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ والزهري والحسن وقتادة ومالكٍ والليث والحسن بن صالحٍ وأبي ثورٍ.
وقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد وابن حزم: لا يحل إلا أن يخرج حيًّا فيذكى؛ لأنه حيوانٌ ينفرد بحياته، فلا يتذكى بذكاة غيره كما بعد الوضع.
قال ابن المنذر: "كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوا، إلى أن جاء النعمان فقال: لا يحل؛ لأن ذكاة نفسٍ لا تكون ذكاة نفسين ولا أحسب أصحابه وافقوه عليه". راجع: المغني (9/ 319)، ونصب الراية (6/ 52)، والمحلى (6/ 96).
قال صاحب الهداية: "(ومن نحر ناقةً أو ذبح بقرةً فوجد في بطنها جنينًا ميتًا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول زفر والحسن بن زيادٍ، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: إذا تم خلقه أكل. وهو قول الشافعي". الهداية وشروحها: فتح القدير (9/ 498)، والعناية (9/ 498)، ونصب الراية (6/ 50).
وقال الخرقي: "وذكاتها ذكاة جنينها، أشعر أو لم يشعر". المغني (9/ 319)، وراجع: الفروع (16/ 316)، والإنصاف (10/ 402)، وإعلام الموقعين (2/ 254).
وقال الخرشي شارح مختصر خليل: "(وذكاة الجنين ذكاة أمه إن تم بشعرٍ) يعني أن الجنين إذا ذكيت أمه فذكاتها ذكاةٌ له بشرطين: أن يتم خلقه، وأن ينبت شعره، فيؤكل حينئذٍ إن خرج ميتًا، ويستحب نحوه إن كان من الإبل وذبحه إن كان من غيرها، ليخرج الدم من جوفه، فإن فقد الشرطان أو أحدهما لم يؤكل خرج حيًّا أو ميتًا". مختصر خليل وشروحه: شرح الخرشي (3/ 24)، والتاج والإكليل (4/ 342)ن ومواهب الجليل (3/ 221)، ومنح الجليل (2/ 449). وراجع: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 18).
وقال النووي في المجموع شره المهذب (9/ 145): "مذهبنا أن الحيوان المأكول إذا ذكي فخرج من جوفه جنينٌ ميتٌ حلَّ، وبه قال العلماء كافةٍ من الصحابة والتابعين". وراجع المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 165)، ونهاية المحتاج (8/ 158)، وتحفة المحتاج (9/ 390).
قال ابن حزم في المحلى بالآثار (6/ 96): "وكل حيوانٍ ذكي فوجد في بطنه جنينٌ ميتٌ، وقد كان نفخ فيه الروح بعد فهو ميتةٌ لا يحل أكله، فلو أدرك حيًّا فذكي حلَّ أكله".
-أدلة المالكية:
استدل المالكية بروايات الحديث التي جاءت مقيدة بالإشعار؛ كالرواية التي ذكرها ابن أبي شيبة في أول المسألة من حديث أبي سعيد وكرواية الحاكم لحديث ابن عمر مرفوعًا: (ذكاة الجنين إذا أشعر ذكاة أمه) -المستدرك على الصحيحين (4/ 128)-. وبقول الزهري: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه -سيأتي ذكره في كلام ابن حبان عند تخريج حديث كعب بن مالك-. وبقول ابن المسيب: ذكاة ما في بطن الذبيحة في ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره -أخرجه مالك في الموطأ (2/ 491)0.
وقد خلت الروايات الصحيحة للحديث من هذا القيد فلم يأخذ به الجمهور، يقول ابن عبدالبر في التمهيد (23/ 76، 77): "وهذا القول ليس فيه رد للآثار المرفوعة؛ بل هو تفسير لها، وهو أولى ما قيل في هذا الباب؛ لأنه إذا لم يتم خلقه ولا نبت شيء من شعره، فهو في حكم مضغة الدم".
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بحديث: (ذكاة الجنين بذكاة أمه). وقد رُوي من حديث أحد عشر صحابيًّا: أبي سعيد، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبي أيوب، وابن مسعودـ، وابن عباس، وكعب بن مالك، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وعلي ابن أبي طالب.
1- فحديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهذا لفظه، ولفظ أبي داود قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه) -سبق تخريجه في أول المسألة-. ومجالد بن سعيد ليس بالقوي [قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه. وقال عنه أحمد: ليس بشيء يرفع حديثًا كثيرًا لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس. وقال ابن معين: لا يحتج بحديثه. وفي رواية: ضعيف واهي الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال النسائي: ثقة. وفي موضع آخر: ليس بالقوي. راجع تهذيب الكمال (27/ 219)، وميزان الاعتدال (3/ 438)] ، ولكن تابعه يونس ابن أبي إسحاق وهو صدوق فيه لين [قال عنه ابن مهدي: لم يكن به بأس. وقال يحيى بن سعيد: كانت فيه غفلة. وقال أحمد: كذا وكذا. قال الذهبي: وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا إلا أنه لا يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (32/ 492)، وميزان الاعتدال (4/ 482)] كما عند أحمد -في مسنده (3/ 39)- وابن حبان -في صحيحه (13/ 207)-، ورواه أحمد في المسند (1/ 31) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد. والعوفي ضعيف [قال أحمد: ضعيف الحديث. وقال أيضًا: كان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لين. وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه. وقال الجوزجاني: مائل. وقال النسائي: ضعيف. راجع تهذيب الكمال (20/ 145)، وميزان الاعتدال (3/ 79)].
2- وأما حديث جابر: فأخرجه أبو داود في سننه (2828) عن عبيدالله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). وعبيدالله ابن أبي زياد ليس بالقوي [قال عنه يحيى القطان: كان وسطًا لم يكن بذاك. وقال أحمد ويحيى بن معين: ليس به بأس. وقال يحيى في رواية: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ولا المتين، هو صالح الحديث، يكتب حديثه. وقال أبو داود: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: ليس به بأس. وفي موضع آخر: ليس بالقوي. وفي آخر: ليس بثقة. راجع تهذيب الكمال (19/ 41)، وميزان الاعتدال (3/ 8)]. ولكن أخرجه الحاكم في المستدرك من طرق زهري بن معاوية وهو ثقة عن أبي الزبير عن جابر وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه [المستدرك على الصحيحين (1/ 127)، والسنن الكبرى للبيهقي (9/ 334)]. وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 273) من طريق ابن أبي ليلى [قال عنه أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: ليس بذاك. وقال شعبة: ما رأيت أسوأ من حفظه. وقال يحيى القطان: سيء الحفظ جدًّا. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: صالح ليس بأقوى ما يكون. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيء الحفظ، شُغل بالقضاء فساء حفظه. وقال الدارقطني: رديء الحفظ كثير الوهم. وقال العجلي: كان فقيهًا صدوقًا، صاحب سنة، جائز الحديث. وقال الذهبي: صدوق إمام سيء الحفظ وقد وثق. تهذيب الكمال (25/ 624)، وميزان الاعتدال (3/ 416)]، وأبو يعلى في مسنده (3/ 343) من طريق حماد ابن شعيب [ضعفه ابن معين وغيره، وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. ميزان الاعتدال (1/ 596)] كلاهما عن أبي الزبير عن جابر، فهذه المتابعات تقوي الحديث.
3- وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 128) عن عبدالله بن سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وقال: إسناد صحيح. وليس كما قال، فعبدالله بن سعيد المقبري متروك [قال عنه أحمد: ليس بذاك. وقال مرة: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء. ومرة قال: ضعيف. وقال البخاري: تركوه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الفلاس: منكر الحديث متروك. وقال الدارقطني: متروك ذاهب. راجع: تهذيب الكمال (15/ 31)، وميزان الاعتدال (2/ 429)]، وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) عن عمر بن قيس عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة، وعلته عمر بن قيس وهو المعروف بسَنْدَل، فإنه متروك [تركه أحمد والنسائي والدارقطني، وقال يحيى: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد أيضًا: أحاديثه بواطيل. راجع: تهذيب الكمال (21/ 487)، وميزان الاعتدال (3/ 218)].
4- وأما حديث ابن عمر: فأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 128) من طريق محمد بن إسحاق، والدارقطني في سننه (4/ 271) من طريق عبيدالله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: (ذكاة الجنين إذا أشعر ذكاة أمه). وقد اختُلف في رفعه ووقفه ورجح أبو حاتم رواية من وقفه [العلل لابن أبي حاتم (2/ 44)].
5- وأما حديث أبي أيوب: فرواه الحاكم أيضًا في المستدرك (4/ 128) عن شعبة عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب مرفوعًا. قال الحاكم: "ربما توهم متوهم أن حديث أبي أيوب صحيح، وليس كذلك، ومن تأمل هذا الباب من أهل الصنعة قضى فيه العجب أن الشيخين لم يخرجاه في الصحيحين". وابن أبي ليلى ضعيف كما سبق، فهو صدوق سيء الحفظ وقد سبقت ترجمته.
6- وأما حديث ابن مسعود: فأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله -قال: أراه رفعه- قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). ورجاله رجال الصحيح، إلا أن شيخ شيخه أحمد بن الحجاج بن الصلت ذكره الذهبي في ((ميزانه)) -ميزان الاعتدال (1/ 89)- ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكر له حديثًا ثم قال: هو آفته. وراجع: تاريخ بغداد (4/ 117).
7- وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) أيضًا عن موسى بن عثمان الكندي عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رفعه. وموسى بن عثمان متروك [قال عنه أبو حاتم: متروك. وقال ابن عدي: حديثه ليس بالمحفوظ. ميزان الاعتدال (1/ 89)].
8- وأما حديث كعب بن مالك: فأخرجه الطبراني في ((معجمه)) -المعجم الكبير (19/ 78)- عن إسماعيل ابن مسلم المكي عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك، مرفوعًا نحوه. وإسماعيل بن مسلم البصري المكي ضعيف الحديث [قال أبو زرعة: بصري ضعيف. وقال أحمد وغيره: منكر الحديث. وقال النسائي وغيره: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال علي بن المديني: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. راجع: تهذيب الكمال (3/ 198)، وميزان الاعتدال (1/ 248)].
قال ابن حبان في كتاب المجروحين (1/ 121): "إسماعيل بن مسلم المكي أبو ربيعة ضعيف، ضعفه ابن المبارك، وتركه يحيى وعبدالرحمن بن مهدي، روي عن الزهري عن عبدالله بن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعًا. فذكره ثم قال: وإنما هو عن الزهري، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. هكذا قاله ابن عُيينة وغيره من الثقات، وليس هذا هو إسماعيل بن مسلم البصري العبدي، صاحب المتوكل، ذاك ثقة".
9، 10- وأما حديث أبي أمامة وأبي الدرداء: فأخرجه الطبراني أيضًا في معجمه الكبير (8/ 102) عن بشر بن عمارة عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد عن أبي الدرداء وأبي أمامة مرفوعًا. وبشر بن عمار ضعيف [قال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال البخاري: تعرف وتنكر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد. وقال ابن عدي: لم أر في حديثه حديثًا منكرًا، وهو عندي حديثه إلى الاستقامة أقرب. تهذيب الكمال (4/ 137)، وميزان الاعتدال (1/ 321)].
11- وأما حديث علي: فأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) من طريق موسى بن عثمان عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليٍّ مرفوعًا. والحارث الأعور ضعيف [قال شعبة: لم يسمع أبو إسحاق منه إلا أربعة أحاديث. وكذلك قال العجلي وزاد: وسائر ذلك إنما هو كتاب أخذه. وقال ابن المديني: كذاب. وقال ابن معين: ضعيف. وفي رواية: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي ولا ممن يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. تهذيب الكمال (5/ 244)، وميزان الاعتدال (1/ 435)]، وموسى ابن عثمان متروك كما سبق.
فالحديث بمجموع طرقه ومتابعاته وشواهده يصلح للاحتجاج لا سيما من حديث أبي سعيد وجابر، وقد نفى ذلك عبدالحق في ((أحكامه)) فقال: "هذا حديث لا يحتج بأسانيده كلها". وأقره ابنا لقطان عليه - نقله عنهما الزيلعي في نصب الراية (6/ 52) . وقال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 156): "وهذه الأخبار كلها واهية السند عند أهل النقل، كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وبيان ضعفها واضطرابها".
وقد ردَّ ذلك القولَ الحافظُ ابن حجر فقال في تلخيص الحبير (4/ 156): "والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر".
وقد نازع الحنفية الجمهور في الاستدلال بالحديث من جهة الثبوت ومن جهة المعنى، فأما الثبوت فهم يضعفونه من جميع طرقه كما سبق من كلام الجصاص، وأما المعنى فيتأولونه: ذكاة الجنين كذكاة أمه، أي ذكوه كما تذكون أمه.
يقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 156): "يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاةٌ له، ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكى أمه، وأنه لا يؤكل بغير ذكاةٍ، كقوله تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران: 133]، معناه: كعرض السماوات والأرض، وكقول القائل: قولي قولك ومذهبي مذهبك. والمعنى: قولي كقولك ومذهبي كمذهبك".
قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 164): "يُروى هذا الحديث بالرفع والنصب، فمن رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو ذكاة الجنين، فتكون ذكاة الأم هي ذكاة الجنين فلا يحتاج إلى ذبح مستأنف، ومن نصب كان التقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه، فحذف المصدر وصفته وأقام المضاف إليه مقامه، فلا بد عنده من ذبح الجنين إذا خرج حيًّا، ومنهم من يرويه بنصب الذكاتين، أي ذكوا الجنين ذكاة أمه".
وقال المنذري في ((مختصره)): "وقد رَوى هذا الحديث بعضهم لغرض له: (ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه). بنصب ذكاة الثانية، لتوجب ابتداء الذكاة فيه إذا خرج، ولا يكتفي بذكاة أمه، وليس بشيء وإنما هو بالرفع، كما هو المحفوظ عن أئمة هذا الشأن، وأبطله بعضهم بقوله: فإن ذكاته ذكاة أمه؛ لأنه تعليل لإباحته من غير إحداث ذكاة". نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (6/ 52).
وتمسك الجمهور برواية أبي داود لحديث أبي سعيد؛ لأن سياقها يبطل تأويل الحنفية، ولأن الجنين لا يمكن ذبحه فجُعل ذكاة الأم ذكاة له، قياسًا على الصيد.
-أدلة الحنفية والظاهرية:
قال الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَمُ) وقال في آخرها: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) [المائدة: 3] فحرم الله الميتة مطلقًا واستثنى المذكى منها، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الذكاة في المقدور على ذكاته في النحر والليلة، وفي غير المقدور على ذكاته بسفح دمه في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنهر الدم بما شئت) -أخرجه أبو داود (2824)، والنسائي (4304)-. وقوله في المعراض: (كل ما خزق وما أصاب بعرضه فلا تأكل) -أخرجه البخاري (5477)، ومسلم (5081)-. فلما كانت الذكاة منقسمةً إلى هذين الوجهين، وحكم الله بتحريم الميتة حكمًا عامًّا، واستثنى منه المذكي بالصفة التي ذكرنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه الصفة موجودةً في الجنين، كان محرمًا بظاهر الآية، واحتج من أباح ذلك بأخبارٍ واهية السند محتملة أن يكون معناها موافقًا للآية، فلم يجز أن تخصص الآية بخبر الواحد واهي السند محتمل لموافقتها. راجع: أحكام القرآن للجصاص (1/ 156)، وبدائع الصنائع (5/ 42).
قال ابن حزم في المحلى (6/ 96): "وقد احتج المخالفون بأخبارٍ واهيةٍ، ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلنا به مسارعين، وإذا لم يصح عنه فلا يحل ترك القرآن لقول قائلٍ أو قائلين".
وبذلك يتضح أن الحنفية لم يأخذوا بالأخبار الواردة في هذه المسألة لمخالفتها لعموم القرآن، وقد عُلم في منهج الحنفية أن ذك من أسباب ردهم لخبر الواحد؛ لأنهم يعتبرون تخصيص عموم القرآن نسخًا، والنسخ لا يصلح إلا بالمتواتر أو بالمشهور، فضلًا على أنهم لا يثبتون خبر الواحد في هذه المسألة، وهذا لا يعد مخالفة للحديث كما زعم ابن أبي شيبة، ومذهب الحنفية في هذه المسألة يتفق ومنهجهم النقدي في قبول الأخبار، مما يؤكد ضرورة معرفة مناهج الفقهاء قبل دراسة مذاهبهم.
تاسعًا: مَسْأَلَةُ لَحْمِ الْخَيْلِ
اقتباس:
(1) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ أَوْ أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِهِ. أخرجه البخاري (5510، 5511، 5512)، ومسلم (5137).
(2) حَدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو عَن جَابِرٍ قَالَ: أَطْعَمَنَا النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لُحُومَ الخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُر. رواه الترمذي (1905)، والنسائي (4328) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر، ورواه البخاري (4219)، ومسلم (5134) من طريق حماد بن زيد عن عمرو عن محمد بن علي بن الحسين عن جابر. فكأن عمرًا سمع الحديث بواسطة وبغير واسطة، فكان مرة يرويه هكذا ومرة هكذا.
(3) حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَكَلْنَا لُحُومَ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ. أخرجه مسلم (5136).
وذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا تُؤْكَلُ.
***
اختلف الفقهاء في حكم لحوم الخيل، فقال الشافعي وأحمد وأكثر العلماء: يباح أكلها. وقال مالك: تكره. وقال أبو حنيفة: تحرم. وفي رواية: تكره. والأول أصح. وخالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا بقول الشافعي وأحمد، وهو مارجحه الطحاوي لصحة أدلة الإباحة وتظاهرها.
قال صاحب الهداية: "(ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة رحمه الله) وهو قول مالكٍ. وقال أبو يوسف ومحمدٌ والشافعي -رحمهم الله- لا بأس بأكله. ثم قيل: الكراهة عنده كراهة تحريمٍ، وقيل: كراهة تنزيهٍ، والأول أصح". الهداية وشروحها: فتح القدير (9/ 500)، والعناية (9/ 500)، ونصب الراية (6/ 61). وراجع: مشكل الآثار (4/ 63)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 270)، وبدائع الصنائع (5/ 38).
وقال الشارح: "مبنى اختلاف المشايخ في قول أبي حنيفة على اختلاف اللفظ المروي عنه، فقد رُوي عنه أنه قال: رخص بعض العلماء في حلم الخيل، فأما أنا فلا يُعجبني أكله. وهذا يلوِّح إلى التنزيه، ورُوي عنه أنه قال: أكرهه. وهو يدل على التحريم؛ لأنه روي أن أبا يوسف سأل أبا حنيفة: إذا قلتَ في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال: التحريم". تكلمة فتح القدير (9/ 501).
وقال مالكٌ في الموطأ (2/ 498): "إن أحسن ما سمعت في الخيل والبغال والحمير أنها لا تؤكل؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [النحل: 8] وقال تبارك وتعالى في الأنعام: (لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [غافر: 79]، فذكر الله الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، وذكر الأنعام للركوب والأكل".
وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ (3/ 132): "الخيل عند مالكٍ مكروهةٌ وليست بمحرمةٍ ولا مباحةٍ على الإطلاق".
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (9/ 5): "مذهبنا أن لحم الخيل حلالٌ لا كراهة فيه وبه قال أكثر العلماء". وراجع: الأم (2/ 275)، والمنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 147)، وتحفة المحتاج (9/ 379)، ونهاية المحتاج (8/ 152).
وقال ابن قدامة في المغني (9/ 327): "وتباح لحوم الخيل كلها عرابها وبراذينها -الخيل العراب أي عربية منسوبة إلى العرب، فرقوا بين الخيل والناس، فقالوا في الناس: عرب وأعراب، وفي الخيل: عراب. وأما البراذين من الخيل فهي ما كان من غير نتاج العرب، وهي جمع برذون. راجع: لسان العرب مادتي: (عرب وبرذن)-. نص عليه أحمد. وبه قال ابن سيرين، وروي ذلك عن ابن الزبير، والحسن، وعطاءٍ، والأسوط بن يزيد. وبه قال سعيد بن جبير، وحماد بن زيدٍ، والليث، وابن المبارك، والشافعي، وأبو ثورٍ. وحرمها أبو حنيفة. وكرهه مالكٌ، والأوزاعي، وأبو عبيدٍ". وراجع: المحلى لابن حزم (6/ 78).
-أدلة الحنفية والمالكية:
1- أخرج أبو داود في سننه (3790)، والنسائي (4332)، وابن ماجه (3198) من طريق صالح بن يحيى بن المقدام ابن معديكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع.
قال أبو داود: "لا بأس بلحوم الخيل وليس العمل عليه، وهذا منسوخٌ، قد أكل لحوم الخيل جماعةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ منهم ابن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وسويد بن غفلة وكانت قريشٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تذبحها".
قال الدارقطني في سننه (4/ 287): "هذا حديث ضعيف. ورَوى عن موسى بن هارون أنه قال: لا يُعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده" -وصالح بن يحيى قال عنه البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ. وقال الذهبي: روى عنه ثور ويحيى بن جابر وسليمان بن سليم وقد وثق. وقال ابن حجر: لين. التاريخ الكبير (4/ 292)، والثقات (6/ 459)، وميزان الاعتدال (2/ 304)، والتقريب (2894)-. وقال أحمد: حديث خالد ليس له إسناد جيد، وفيه رجلان لا يعرفان، فلا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر. المغني (9/ 327).
2- واستدلوا أيضًا بالآيات التي ذكرها الإمام مالك في كلامه السابق وذلك من وجهينِ: أحدهما: أن لام كي بمعنى الحصر، وذلك أنه أخبر تعالى أنه إنما خلقها للركوب والزينة، قصد بذلك الامتنان علينا وإظهار إحسانه إلينا، فدلَّ على أنه جميع ما أباحه لنا منها، ولو كانت فيها منفعةٌ غيرها لذكرها، ليبين إنعامه علينا أو ليظهر إباحة ذلك إلينا، فإن إخباره تعالى أنه خلقها لهذا المعنى دليلٌ على أنه جميع التصرف المباح فيها. الوجه الثاني: أنه ذكر الخيل والبغال والحمير فأخبر تعالى أنه خلقها للركوب والزينة، وذكر الأنعام فأخبر أنه خلقها لنركب منها ونأكل، فلما عدل في الخيل والبغال والحمير عن ذكر الأكل دلَّ ذلك على أنه لم يخلقها لذلك وإلا بطلت فائدة التخصيص بالذكر". المنتقى شرح الموطأ (3/ 132)، والهداية مع تكلمة فتح القدير (9/ 500).
وقد أجاب النووي عن هذا الاستدلال بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتهما مقصورةٌ على ذلك، وإنما خص هذان بالذكر؛ لأنهما معظم المقصود من الخيل؛ كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ) [المائدة: 3]؛ فذكر اللحم؛ لأنه معظم المقصود، وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه، ولهذا سكت عن حمل الأثقات عن الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ) [النحل: 7] ولم يلزم من هذا تحريم حمل الأثقال على الخيل. المجموع شرح المهذب (9/ 5).
3- ومن جملة ما استدلوا به: أن الخيل آلة إرهاب العدو فيكره أكله احترامًا له؛ ولهذا يضرب له بسهمٍ في الغنيمة، ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد. الهداية مع تكملة فتح القدير (9/ 500).
-أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة في إباحة لحم الخيل والتي ذكرت في أول المسألة مع عدم المعارض الصحيح لها، وبأنه حيوانٌ طاهرٌ مستطابٌ، ليس بذي نابٍ ولا مخلبٍ فيحل كبهيمة الأنعام، ولأنه داخلٌ في عموم الآيات والأخبار المبيحة.
وقد أجاب ابن العربي على الاستدلال بحديث جابر بأنه حكاية حالٍ وقضية في عينٍ؛ فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورةٍ، ولا يحتج بقضايا الأحوال المحتملة. أحكام القرآن لابن العربي (3/ 221).
وقد عارض الحنفية حديث جابر بحديث خالد ورجحوه عليه؛ لأنه محرم [الهداية مع تكملة فتح القدير (9/ 500)]، وقد تقدم أن حديث خالد إما منسوخ وإما ضعيف، وعلى الأمرين لا يصلح للمعارضة.
ولهذا كله نجد أن الطحاوي وهو ناصر مذهب أبي حنيفة والمخرج لأدلته، يرجح إباحة أكل لحوم الخيل على خلاف مذهب إمامه، مما يدل على نصفته وعدم تعصبه، على خلاف ما شاع بين طائفة من أن أتباع المذاهب يتعصبون لأئمتهم، جهلًا منهم بحال أئمة السلف، وترديدًا لدعاوى باطلة.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 210): "ذهب قومٌ إلى هذه الآثار فأجازوا أكل لحوم الخيل، وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمدٌ، واحتجوا لذلك بتواتر الآثار في ذلك وتظاهرها، ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرقٌ، ولكن الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحتْ وتواترتْ أولى أن يقال بها من النظر، ولا سيما إذ قد أخبر جابر بن عبدالله في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لحوم الخيل في وقت منعه إياهم من لحوم الحُمُر الأهلية، فدلَّ ذلك على اختلاف حكم لحومهما".
وبعد كلام الطحاوي لا يسعنا إلا موافقة ابن أبي شيبة فيما قاله من مخالفة مذهب أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة؛ لصحة أدلة الإباحة وتظاهرها وعدم المعارض الصحيح لها.
مَسْأَلَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمَيَةِ عَمْدًا
هذه المسألة عند الحنفية معدودة من أمثلة مخالفة الحديث للكتاب.
اختلف الفقهاء فيمن ترك التسمية على الذبيحة والصيد ناسيًا أو عامدًا، فقال مالك وأبو حنيفة: إن تركها عمدًا لم تؤكل الذبيحة ولا الصيد، فإن نسي التسمية عند الذبيحة وعند الإرسال على الصيد أُكلت. وقال الشافعي: تؤكل الذبيحة والصيد في الوجهين جميعًا تعمد ذلك أو نسيه. وفرق أحمد بين الذبيحة والصيد، فقال في الذبيحة بقول مالك وأبي حنيفة، وقال في الصيد: من ترك التسمية عامدًا أو ناسيًا لم يؤكل.
قال صاحب الهداية: "وإن ترك التسمية عمدًا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيًا أكل، والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء، وعلى هذا الخلاف إذ ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب وعند الرمي". الهداية وشروحها: فتح القدير (9/ 490)، والعناية (9/ 490)، ونصب الراية (6/ 36).
وقال مالك في المدونة (1/ 532): "لا بد من التسمية عند الرمي وعند إرسال الجوارح وعند الذبح، وإن نَسِي التسمية في ذلك كله أكل وسمَّى الله، وإن ترك التسمية عمدًا لم تؤكل". وراجع: التمهيد (22/ 301)، والتاج والإكليل شرح مختصر خليل (4/ 329).
وقال النووي في روضة الطالبين (3/ 205): "التسمية مستحبة عند الذبح والرمي إلى الصيد وإرسال الكلب، فلو تركها عمدًا أو سهوًا حلت الذبيحة، لكن تركها عمدًا مكروه على الصحيح". وراجع: معرفة السنن والآثار (13/ 446).
وقال ابن قدامة في المغني (9/ 293): "ومَن ترك التسمية على الصيد عامدًا أو ساهيًا لم يؤكل، وإن ترك التسمية على الذبيحة عامدًا لم تؤكل، وإن تركها ساهيًا أكلت".
-(أدلة الجمهور):
1- استدل الجمهور بعموم قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121]، وظاهر الآية موجب لتحريم ما تُرك اسم الله عليه ناسيًا كان ذلك أو عامدًا، إلا أن الدلالة قد قامت على أن النسيان غير مراد به؛ للحديث المشهور: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) -أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 150) عن أبي بكرة بلفظ: (رفع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان والأمر يُكرهون عليه). وابن ماجه (43، 20، 45، 2045) عن أبي ذر بلفظ: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وعن ابن عباس بلفظ: (إن الله وضع عن أمتي...)-.
2- وأخرج الدارقطني في سننه (4/ 296)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 239) من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن معقل بن عبيدالله الجزري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم يكفيه اسمه، فإن نَسِي أن يُسمِّي حين يذبح فليسم، وليذكر الله ثم ليأكل).
ومحمد بن يزيد بن سنان ليس بالقوي -محمد بن يزيد بن سنان الجزري هو ابن أبي فروة الرهاوي قال عنه أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. راجع: تهذيب الكمال (27/ 20)-، والصحيح أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس، كما رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 239) من طريق سعيد بن منصور والحميدي، ورواه عبدالرزاق في مصنفه (4/ 479) ثلاثتهم قالوا؛ حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء حدثنا عين يعني عكرمة عن ابن عباس قال: إن في المسلم اسم الله، فإن ذَبَحَ وَنَسِيِ أن يذكر اسم الله فليأكل، وإن ذبح المجوسي وذكر اسم الله فلا تأكل.
فزادوا في إسناده أبا الشعثاء جابر بن زيد وأقفوه على ابن عباس.
3- وأخرج البخاري (5486)، ومسلم (5083) من طريق الشعبي عن عدي بن حاتم قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فأكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه). قلت: إني أُرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر، لا أدري أيهما أخذه. فقال: (لا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره).
-(أدلة الشافعية):
1- استدل الشافعية على أن التسمية ليست شرطًا بأن الله تعالى أباح لنا ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة: 5] وهم لا يذكرونها.
2- وأما قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121] ففيه تأويلان: أحدهما: أن المراد ما ذكر عليه اسم غير الله، يعني ما ذبح للأصنام؛ بدليل قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة: 3] وسياق الآية دال عليه فإنه قال: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) والحالة التي يكون فيها فسقًا هي الإهلال لغير الله. قال تعالى: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام: 145].
ثانيهما: أن المراد به الميتة بدليل ما ورد في سبب نزول الآية، فقد رُوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِم) [الأنعام: 121] يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا. فأنزل الله: (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) -البخاري (5486)، ومسلم (5083). وعليه فلا مخالفة بين الأحاديث الدالة على عدم اشتراط التسمية وبين الآية.
3- ومما يدل على عدم اشتراط التسمية ما أخرجه البخاري (5507) عن عائشة: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومًا يأتون باللحم لا ندري أّذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سموا الله عليه أنتم وكلوه). قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. فلو كانت التسمية شريطة لما حلت الذبيحة مع الشك في وجودها؛ لأن الشك في الشريطة شك فيما شرطت له.
4- وروى أبو داود في المراسيل (1/ 278) من طريق ثور بن يزيد عن الصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله). وفيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي مجهول، فلم يروِ عنه غير ثور بن يزيد، ولا يعرف حاله ولا يعرف بغير هذا الحديث. راجع: تهذيب الكمال (13/ 232).
5- ويشهد له ما أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 295) من حديث أبي هريرة قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل منا يذبح وينسى أن يُسمِّي الله. قال: (اسم الله على كل مسلم). وفي لفظ: (على فم كل مسلم). وراجع: الموسوعة الفقهية (21/ 190). وهذا عام في الناسي والمتعمد؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فالملة تقوم مقام التسمية في الناسي والعامد.
ولذلك كله صرف الشافعية الأمر الوارد بالتسمية من الوجوب إلى الاستحباب.
قال الجصاص في أحكام القرآن (3/ 11): "فإن قيل: إن المراد بالنهي في الآية الميتة أو الذبائح التي ذبحها المشركون فهي مقصورة الحكم ولم يدخل فيها ذبائح المسلمين.
قيل له: نزول الآية على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه؛ بل الحكم للعموم إذا كان أعم من السبب، فلو كان المراد ذبائح المشركين لذكرها ولم يقتصر على ذكر ترك التسمية، وقد علمنا أن المشركين وإن سموا على ذبائحهم لم تؤكل مثل ذلك، على أنه لم يرد ذبائح المشركين؛ إذ كانت ذبائحهم غير مأكولة سموا الله عليها أو لم يسموا، وقد نصَّ الله تعالى على تحريم ذبائح المشركين في غير هذه الآية، وهو قوله تعالى: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة: 3] وأيضًا فلو أراد ذبائح المشركين أو الميتة لكانت دلالة الآية قائمة على فساد التذكية بترك التسمية؛ إذ جعل ترك التسمية علمًا لكونه ميتة، فدل ذلك على أن كل ما تركت التسمية عليه فهو ميتة".
يتضح من ذلك أن عدم قبول الحنفية للأخبار التي استدل به الشافعية هو مخالفتها لعموم الآيات المشترطة للتسمية، قال الجصاص في أحكام القرآن (3/ 11): "فأما من أباح أكله مع ترك التسمية عمدًا فقوله مخالف للآية غير مستعمل لحكمها بحال، هذا مع مخالفته للآثار المروية في إيجاب التسمية على الصيد والذبيحة".
***
راجع كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" الصفحات (175-179).
مَسْأَلَةُ القَضَاءِ بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ
أما هذه المسألة فهي معدودة من أمثلة مخالفة الحديث للكتاب، ومخالفة خبر الواحد للسنة المعروفة.
اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب، فقال أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والنخعي والأوزاعي: لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد ويمين في شيء. وقال مالك والشافعي وأحمد: يحكم به في الأموال خاصة. ورُوي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وهو قول الفقهاء السبعة، وعمر بن عبدالعزيز، والحسن، وشُرِيح، وربيعة، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود. راجع: أحكام الجصاص (1/ 701)، والتمهيد (2/ 154)، والأم (6/ 273)، والمغني (10/ 158).
-(أدلة الجمهور):
احتج الجمهور بحديث قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بيمين وشاهد. وهو حديث صحيح، رُوي من طرق كثيرة مشهورة، وسأذكر أصح هذه الطرق وأشهرها:
1- روى مسلم (4569) من طريق سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: أن رسول الله قضى بيمين وشاهد.
ورواه أبو داود (3609) من طريق عبيدالرزاق عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس بمعناه. قال عمرو: في الحقوق.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بالانقطاع في موضعين:
الموضع الأول: قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 145): "حديث ابن عباس منكر؛ لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء، فكيف يحتجون به في مثل هذا".
وأجاب البيهقي على الطحاوي فقال كما في معرفة السنن والآثار (14/ 287): "والذي يقتضيه مذهب أهل الحفظ والفقه في قبول الأخبار أنه متى ما كان قيس بن سعد ثقة، والراوي عنه ثقة، ثم يروي عن شيخ يحتمله سنه ولقيه، وكان غير معروف بالتدليس كان ذلك مقبولًا، وقيس بن سعد مكي وعمرو بن دينار مكي، وقد روى قيس عمَّن هو أكبر منه سنًّا وأقدم موتًا من عمرو بن دينار؛ كعطاء ابن أبي رباح ومجاهد بن جبر، وقد رَوَى عن عمرو بن دينار مَنْ كان في قرن قيس وأقدم لقيًا منه؛ كأيوب السختياني، فإنه رأى أنس بن مالك وروى عن سعيد بن جبير، ثم روى عن عمرو بن دينار، فمن أين جاء إنكار رواية قيس عن عمرو؟ غير أنه روى عنه ما يخالف مذهب هذا الشيخ -يعني الطحاويَّ- ولم يمكنه أن يطعن فيه بوجهٍ آخر، فزعم أنه منكر". وراجع: نصب الراية (5/ 146)، وتهذيب الكمال (24/ 47)، (22/ 5).
الموضع الثاني: قال الترمذي في العلل الكبير (1/ 204): "سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي من ابن عباس هذا الحديث".
2- روى أبو داود (3610)، والترمذي (1393)، وابن ماجه (2368)من طريق عبدالعزيز الدراوردي عن ربيعة ابن أبي عبدالرحمن عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. قال عبدالعزيز: فذكرت ذلك لسهيل فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبدالعزيز: وقد كان أصابت سهيلًا علةٌ أذهبت بعض عقله وَنَسِي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه.
ورواه أبو داود (3611) من طريق سليمان بن بلال عن ربيعة عن سهيل عن أبيه به. وقال سليمان: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث فقال: ما أعرفه. فقلت له: فإن ربيعة أخبرني به عنك. قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 282): "رجاله مدنيون ثقات ولا يضره أن سهيل ابن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة؛ لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه".
3- روى الترمذي (1394)، وابن ماجه (2369) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.
وقد أورد الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 282) جملة من الأحاديث التي عمل بها الحنفية والتي تتضمن الزيادة على عموم القرآن، وأجابوا بأنها أحاديث مشهورة فوجب العمل بها لشهرتها، ثم قال الحافظ: "فيقال لهم وحديث القضاء بالشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة بل ثبت من طرق صحيحة متعددة... وفي الباب عن نحو من عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف وبدون ذلك تثبت الشهرة". وقال ابن عبدالبر في التمهيد (2/ 136): "هو الذي لا يجوز عندي خلافه لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعَمِل أهل المدينة به قرنًا بعد قرن".
-(أدلة الحنفية):
1- احتج الحنفية بقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282]، وهو يوجب بإطلاقه رد حديث القضاء بالشاهد واليمين، وبيان ذلك أن الله عز وجل قد قصر الشهادة المطلوبة على نوعين: رجلين، ورجل وامرأتين، فجاء الحديث وزاد نوعًا آخر، وهو اليمين مع الشاهد والزيادة عن النص نسخ عندهم، ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز، وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون.
وقد ذكر الجصاص وجوهًا كثيرةً لمخالفة حديث القضاء بالشاهد واليمين لهذه الآية، ترجع محصلتها جميعًا إلى ما ذكرته، ومن هذه الوجوه:
الأول: أن قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ) يقتضي إلزام الحاكم الحكم بالعدد المذكور في الشهادة؛ لأن الغرض من الشهادة إثبات الحق بها عند التجاحد؛ كقوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4] وقوله تعالى: (فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] وكما لم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور في الحد، كذلك العدد المذكور في الشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه، وفي تجويز أقل منه مخالفة الكتاب، كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين، أو حد الزنا تسعين كان مخالفًا للآية.
الثاني: أن الآية انتظمت شيئين من أمر الشهود، أحدهما: العدد، والآخر: الصفة، وهي أن يكونوا أحرارًا مرضيين، لقوله تعالى: ( مِنْ رِجَالِكُمْ) [البقرة: 282] وقوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على ما دونها، لم يجز إسقاط العدد؛ إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها، وهو العدد الوعدالة والرضا، فغير جائز إسقاط واحد منهما؛ والعدد أَوْلَى بالاعتبار من العدالة والرضا؛ لأنا لعدد معلوم من جهة اليقين، والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة، فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر، لم يجز إسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين.
الثالث: أن الله لما أراد الاحتياط في إجازة شهادة النساء، أوجب شهادة المرأتين وقال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) [البقرة: 282] ثم قال: (ذَلِكُم أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ للِشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُواْ) [البقرة: 282] فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان. وفي مضمون ذلك ما ينفي قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد، لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك وأكبر التهمة، وذلك خلاف مقتضي الآية.
فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من هذه الوجوه، ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والثيقة على ما بين الله في هذه الآية، وقصد به من المعاني المقصودة بها.
2- وقد استدل الحنفية أيضًا على بطلان هذا الحديث بمخالفته للسنة المشهورة، وهي من القواعد المعتبرة عند الحنفية، وقد ذكروا أنه خالف عدة أحاديث؛ منها:
أ- ما رواه الترمذي (1391) -وقال: هذا حديث في إسناده مقال- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: (البينة على المدعي واليمين على المُدعى عليه). ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين اليمين والبينة، فغير جائز أن تكون اليمين بينة؛ لأنه لو جاز أن تسمي اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل: البينة على المدعي والبينة على المدعى عليه. وقوله: (البينة) اسم للجنس، فاستوعب ما تحتها، فما من بينة إلا وهي التي على المدعي، فإذن لا يجوز أن يكون عليه اليمين. وهذا الخبر وإن كان وروده من طريق الآحاد فإن الأمة قد تلقته بالقبول والاستعمال فصار في حيز المتواتر.
ب- ما رواه الشيخان -البخاري (2268)، ومسلم (4567)- عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المُدعى عليه). فحوى هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين:
أحدهما: أن يمينه دعواه لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد، فلو استحق بيمينه كان مستحقًا بدعواه، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
والثاني: أن دعواه؛ لما كانت قوله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحق بها شيئًا، لم يجز أن يستحق بيمينه؛ إذ كانت يمينه قوله.
جـ - ما رواه الشيخان أيضًا -البخاري (2670)، ومسلم (373)-: أن الأشعث بن قيس الكندي قال: كان بيني وبين رجل خصومة في شيء، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (شاهداك أو يمينه).
د- ما رواه مسلم (375) عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه في قصة الخضرمي الذي ادعى أرضًا كانت بيد الكندي فجحد الكندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للخضرمي: (ألك بينة). قال: لا. قال: (فلك يمينه) قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. فقال: (ليس لك منه إلا ذلك).
فَنَفَى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأشعث أن يستحق شيئًا بغير شاهدين، وأخبر في حديث وائل أنه لا شيء له غير ذلك. فدل ذلك على أنه لا يستحق شيئًا بشاهد ويمين.
-فرد الحنفية حديث قضاء النبي صلى الله عليه وسلم مع الشاهد. لمخالفته الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البينة على مَن ادعى واليمين على المدعى عليه). وقالوا: إن المخالفة فيه من وجهين:
أحدهما: أن في هذا الحديث بيان أن اليمين في جانب المنكر دون المدعي.
والثاني: أن فيه بيان أنه لا يجمع بين اليمين والبينة فلا تصلح اليمين متممة للبينة بحال.
يتخلص مما سبق أن الحنفية ردوا أخبار القضاء بالشاهد واليمين من عدة وجوه:
أحدها: فساد طرقها. والثاني: نسيان المروي عنه روايتها. والثالث: مخالفتها لظاهر القرآن. والرابع: مخالفتها للسنة المشهورة. والخامس: أنها لو سلمت من الطعن والفساد لما دلَّت على قول المخالف. والسادس: احتمالها لموافقة الكتاب.
راجع: أحكام القرآن للجصاص (1/ 701-709)، وشرح معاني الآثار (4/ 144-148)، والفصول في الأصول (1/ 193)، ونصب الراية (5/ 144)، وكشف الأسرار (3/ 9)، وأصول السرخسي (1/ 364).
وقد جرت بصدد هذه المسألة مناظرات كثيرة بين الشافعي وبعض الحنفية، ذكرها الشافعي في مواضع من الأم (7/ 36، 90) أجاب خلالها الشافعي عن حجج الحنفية، وقد أعرضتُ عن ذكرها حتى لا نخرج عن المقصود من ذكر المسألة.
***
ويرُاجع: منهج الحنفية في نقد الحديث (182-187)، (193).
مسألة زكاة مال اليتيم
من أمثلة إعراض الصحابة عن خبر الواحد عند الحنفية.
اختلف العلماء في زكاة مال اليتيم على أقوال:
الثول الأول: أنها تجب ويخرجها الولي. وهو قول عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر. وبه قال جابر بن زيد وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك والحسن بن صالح وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وطاوس.
القول الثاني: أنه لا زكاة فيه وهو قول إبراهيم النخعي وأبي وائل وابن جبير وشريح.
القول الثالث: أن فيه الزكاة لكن الولي لا يخرجها؛ بل يحصيه فإذا بلغ أعلمه ليزكي عن نفسه. وهو قول ابن مسعود، وبه قال الأَوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وقال: إنه متى أخرجها ضمن ولم تُجعل له ولاية الأداء.
القول الرابع: تجب لكن يخرجها الولي من الأموال الظاهرة، كالإبل والبقر والغنم، ولا يخرجها من الذهب والفضة. وهو قول الحسن البصري وابن شبرمة.
القول الخامس: لا تجب في الأموال الظاهر ولا الباطنة إلا مما أخرجت أرضه. وهو قول أبي حنيفة. وقيل: إنه لم يقسم هذا التقسيم أحد قبله. راجع: فتاوى السبكي (1/ 187)، والمدونة (1/ 308)، والأم (2/ 30)، والمغني (2/ 256).
قال محمد بن الحسن في كتاب الحجة (1/ 459): "قال أبو حنيفة: لا زكاة في مال اليتيم ولا يجب عليه الزكاة حتى تجب الصلاة. وقال أهل المدينة: نرى أن تؤخذ زكاة مال اليتيم. قال محمد: قد جاءت في هذا آثار مختلفة وأحبها إلينا أن لا نزكي حتى يبلغ". وراعج: المبسوط (2/ 162)، والهداية وشروحها: فتح القدير (2/ 157)، والعناية (2/ 157)، ونصب الراية (2/ 388).
-أدلة الحنفية:
1- أخرج أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر).
قال السرخسي في المبسوط (2/ 162): "وفي إجراء الزكاة عليه إجراء القلم عليه، فإن الوجوب يختص بالذمة ولا يجب في ذمة الولي، فلا بد من القول بوجوبه على الصبي".
وأُجيب بأن الحديث اقتضى رفع خطاب التكليف، وأن الصبي ليس مكلفًا ولا مخاطبًا بأدائها ولا قائل به، وإنما الخطاب بها من باب خطاب الوضع وهو غير مرفوع بالحديث، والمكلف بإخراجها من مال الصبي هو الولي، كما يُخرج سائر ما يجب في مال الصبي.
قال السبكي في إبراز الحكم من حديث رُفع القلم (ص 60، 84) -وهو مطبوع بتحقيق وتخريج المؤلف-: "ومبنى الخلاف بين الإِمَامَيْنِ على أن المغلب عليها شائبة العبادة أو النفقة فأبو حنيفة غلب شوب العبادة فلم يوجبها، والشافعي غلب شوب النفقات فأوجبها، ويقول: إن الله فرض في أموال الأغنياء الزكاة لكفاية الفقراء، فكما تجب عليه نفقة قريبة تجب الزكاة، وليست داخلة في خطاب التكليف الذي اقتضى الحديث رفعه". وراجع: فتاوى السبكي (1/ 187)، والتحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 30).
2- أخرج الدارقطني في سننه (2/ 112) من طريق ابن لَهِيعة عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا يجب على مال الصغير زكاة حتى تجلب عليه الصلاة. قال الدارقطني: "وابن لهيعة لا يحتج به". ورواه محمد بن الحسن في الحجة (1/ 459) بلفظ: ليس في مال اليتيم زكاة.
3- أخرج ابن أبي شيبة (2/ 379)، وعبدالرزاق (4/ 69) في مصنفيهما، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 318) من طريق ليث عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقول: أحص ما يجب في مال اليتيم من الزكاة، فإذا بلغ وأُونس منه رشدًا فادفعه، فإن شاء زكاة وإن شاء تركه. وليث ابن أبي سليم ضعيف -ليث بن أبي سليم قال عنه أحمد: مضطرب الحديث، ولكن حدَّث عنه الناس. وقال ابن معين: ضعيف إلا أنه يكتب حديثه. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث. وقال أبو زرعة: لين الحديث لا تقوم به الحجة. تهذيب الكمال (24/ 279)، وميزان الاعتدال (3/ 420)-، ومجاهد لم يدرك ابن مسعود -كما قال الشافعي في الأم (2/ 30)، ورواه عنه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 108)-. والأثر مع ضعفه فيه إشارة إلى أنه تجب عليه الزكاة، وليس للولي ولاية الأداء. المبسوط (2/ 162).
-أدلة الجمهور:
1- أخرج الترمذي من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: (ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة).
قال الترمذي: في إسناده مقال؛ لأن المثنى يضعف في الحديث.
والمثنى بن الصباح قال عنه أحمد: لا يُسوى حديثه شيئًا مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه ولا يُترك. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لين الحديث. وقال الترمذي: يضعف في الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (27/ 203)، وميزان الاعتدال (3/ 435).
طرق آخر: رواه الدارقطني من طريق عبيد بن إسحاق العطار [عبيد بن إسحاق العطار قال عنه البخاري: عنده مناكير. وقال الأزدي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وأما أبو حاتم فَرَضِيَه. وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر. ميزان الاعتدال (3/ 18)]، عن مندل بن علي [مندل بن علي قال عنه أحمد: ضعيف الحديث. وقال ابن معين: ليس به بأس يكتب حديثه. وفي رواية: ليس بشيء. وقال العجلي: جائز الحديث وكان يتشيع. وقال أبو زرعة: لين الحديث. وقال النسائي: ضعيف. تهذيب التهذيب (10/ 298)، تهذيب الكمال (28/ 493)، ميزان الاعتدال (4/ 180)]، عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احفظوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة). وعبيد بن إسحاق ومندل ضعيفان.
طريق آخر: رواه الدارقطني في سننه (2/ 110) عن محمد بن عبيدالله العرزمي [محمد بن عبيدالله العزرمي قال عنه أحمد: ترك الناس حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء لا يُكتب حديثه. وقال البخاري: تركه ابن المبارك ويحيى. وقال الفلاس: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. تهذيب الكمال (26/ 41)، وميزان الاعتدال (3/ 635)] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في مال اليتيم زكاة). والعرزمي متروك الحديث.
2- أخرج الطبراني في المعجم الأوسط (4/ 264) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة). قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 67): "أخبرني سيدي وشيخي أن إسناده صحيح". اهـ.
قلت: في إسناده فرات بن محمد القيرواني كان يغلب عليه الرواية والجمع ومعرفة الأخبار، وكان ضعيفًا متهمًا بالكذب أو معروفًا به. راجع: لسان الميزان (4/ 432).
3- روى الشافعي في الأم (2/ 32) عن عبدالمجيد عن ابن جريح عن يوسف بن ماهك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى حتى لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة). ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 108).
قال السبكي في الفتاوى (1/ 187): "مرسل صحيح، والمرسل إذا اعتضد بقول الصحابي جاز الأخذ به عندنا، وكذا إذا اعتضد بقول أكثر أهل العلم أو بالقياس، وكل ذلك حاصل هاهنا، وأما عند الحنفية فالمرسل مثل المسند أو أقوى، فما لهم لم يأخذوا به هاهنا".
اقتباس: المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عمرو بن الحسن المصري
شروط قبول المرسل عند الشافعي:
مذهب الإمام الشافعي هو قبول المرسل من كبار التابعين بشرط الاعتبار في الحديث المرسل والراوي المرسل.
أما الاعتبار في الحديث فهو أن يعتضد بواحدٍ من أربعةِ أمورٍ:
1- أن يروى مسندًا من وجه آخر.
2- أو يروى مرسلًا بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأَوَّلِ، فيدل ذلك على تعدد مخرج الحديث.
3- أو يوافقه قول بعض الصحابة.
4- أو يكون قد قال به أكثر أهل العلم.
وأما الاعتبار في راوي المرسل فأن يكون الراوي إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولًا ولا مرغوبًا عنه في الرواية. وراجع: الرسالة للشافعي ص(461- 467)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(371).
فالمرسل عند الإمام الشافعي إذا أسند من وجه آخر دلَّ ذلك على صحته، وهذا مما اعترض الحنفية فيه على الإمام الشافعي، فقيل: غذا أُسند المرسل من وجه آخر: فإما أن يكون سند هذا المتصل مما تقوم به الحجة أو لا، فإن كان مما تقوم به الحجة فلا معنى للمرسل هنا ولا اعتبار به؛ لأن العمل إنما هو بالمسند لا به، وإن كان المسند مما لا تقوم به الحجة لضعف رجاله، فلا اعتبار به حينئذ إذا كنت لا تقبل المرسل؛ لأنه لم يعضده شئ.
وجواب هذا: أن مراده ما إذا كان طريق المسند مما تقوم بها الحجة، وقولهم لا معنى للمرسل حينئذ ولا اعتبار به، فجوابه: ليس كذلك من وجهين/
أحدهما؛ أن المرسل يُقوَّى بالمسند ويتبين به صحته، ويكون فائدتهما حينئذ الترجيح على مسند آخر يعارضه لم ينضم إليه مرسل ولا شك أن هذه فائدة مطلوبة.
ثانيهما؛ أن المسند قد يكون في درجة الحسن وبانضمام المرسل إليه يقوي كل منهما بالآخر، ويرتقي الحديث بهما إلى درجة الصحة، وهذا أمر جليل أيضًا ولا ينكره إلا مَن لا مذاق له في هذا الشأن.
والمرسل عند الشافعي أيضًا إذا عضده مرسل مثله بسند آخر غير سند الأول، فإنه حينئذ يقوى، ولكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أُسند من وجه آخر. وقد اعترض الحنفية أيضًا فيه على الإمام الشافعي، وقالوا: هذا ليس فيه إلا أنه انضم غير مقبول عنده إلى مثله، فلا يفيدان شيئًا، كما إذا انضمت شهادة غير العدل إلى مثلها.
وجوابه أيضًا بمثل ما تقدم: أنه بانضمام أحدهما إلى الآخر قوى الظن أن له أصلًا، وإن كان كلٌّ منهما لا يُفيد ذلك بمجرده، وهذا كما قيل في الحديث الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ راويه وكثرة غلطه، لا من جهة اتهامه بالكذب، إذا روى مثله بسند آخر، نظير هذا السند في الرواة، فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن؛ لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر. راجع: جامع التحصيل للعلائي ص(41)، والإرشاد ص(81)، وكشف الأسرار (3/ 3).
وتأول الحنفية الحديث بأن المراد بالصدقة النفقة؛ لأن نفقة المرء على نفسه صدقة، ولأنه أضاف الأكل إلى جميع المال، والنفقة هي التي تأتي على جميع المال، وأما الزكاة فلا تذهب بجميع المال لأنها إذا نقص عن النصاب لم تجب. المبسوط (2/ 162).
وأُجيب عنه بأن حمل الصدقة على النفقة مجاز لا يُصار إليه إلا عند الضرورة، وذهابه بالزكاة يعني ذهاب أكثره وإن كان مجازًا لكنه أرجح من المجاز الأول، وهب تهيأ لهم هذا البحث في لفظ الصدقة فما يقولون في لفظ الزكاة وليس قابلًا لهذا التأويل. فتاوى السبكي (1/ 187).
وأما الآثار ن الصحابة فكثيرة؛ منها:
1- رو الدارقطني في سننه (2/ 110) من طريث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد ابن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة.
قال البيهقي في السنن الكبرى (4/ 108): "إسناد صحيح وله شواهد عن عمر".
طريق آخر: رواه الشافعي في الأم (2/ 30) عن عمرو بن دينار ومحمد بن سيرين. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 379) عن الزهري ومكحول أربعتهم عن عمر مرسلًا؛ لأن جميعهم لم يدرك عمر.
طربق آخر: ورواه الدارقطني في سننه (2/ 110) من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن حميد بن هلال قال: سمعت أبا محجن أو ابن محجن وكان خادمًا لعثمان ابن أبي العاص قال: قدم عثمان ابن أبي العاص على عمر بن الخطاب فقال له عمر: كيف متجر أرضك، فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة تفنيه. قال: فدفعه إليه.
2- روى مالك في الموطأ (590)، والشافعي من طريقه في الأم (2/ 30)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108) عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة تليني وأخًا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.
3- روى الدارقطني في سننه (2/ 112)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 379)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108) عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى: أن عليًّا زكى أموال بني أبي رافع، فلما دفعهم إليهم وجدوها بنقصٍ فقالوا: إنا وجدناها بنقص. فقال عليٌّ: أترون أن يكون عندي مال لا أزكيه.
4- روى الشافعي في الأم (2/ 30) عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يزكي مال اليتيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 379)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/ 69)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108).
5- روى ابن أبي شيبة (2/ 379)، وعبدالرزاق (4/ 101) في مصنفيهما عن أبي الزبير عن جابر: في مال اليتيم زكاة.
ولخص السبكي أدلة الشافعي تلخيصًا حسنًا في عبارات رصينة موجزة فقال كما في الفتاوى (1/ 187): "مستند الشافعي في إيجاب الزكاة في مال اليتيم: الآيات الكريمة الآمرة بإيتاء الزكاة، والآيات الكريمة المقتضية أنها في عين المال، والأحاديث الصحيحة الشهيرة الكثيرة، وفعل السعاة، وتحقيق القول بالعموم في جميع ذلك، ومرسل صحيح وهو عند أبي حنيفة كالمسند أو أقوى، وأحاديث ضعيفة، وآثار عظيمة عن أكابر الصحابة، ولم يثبت مخالف منهم، ومعنى النفقة القرابة. فهذه عشرة أمور متضافرة يثبت الوجوب بأقل منها".
ولا شك أن هذه الأمور ترجح مذهب الشافعي في هذه المسألة، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام أنه لم يثبت في المسألة حديث مرفوع مما يدل على صحة ما قرره الحنفية، فإن الصحابة اختلفوا في وجوب الزكاة في مال الصبي، وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلًا، فعُرف أنه غير ثابت؛ إذ لو كان ثابتًا لاشتهر فيهم، وجرتْ المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف.
***
ويُراجع: منهج الحنفية في نقد الحديث (237-242).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق