من أقوال الأئمة الأعلام فى الأسماء والصفات فى الكلام على الاستواء
( ثم استوى على العرش...الأعراف/54) (الرحمن على
العرش استوى...طه/5 )
قول الإمام مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول
والسؤال بدعة(وانتبه إلى كلمة "والسؤال بدعة" ) استوى بمعنى علا . وهذا قول مجاهد .. تلميذ حبر الأمة عبد الله بن
عباس رضى الله عنهما .. رواه الإمام البخاري فى كتاب التوحيد من جامعه الصحيح
والإمام
على رضى الله عنه يقول: إن الله خلق العرش إظهاراً لقدرته لا مكاناً لذاته وقد كان ولامكان وهو الآن علي ماكان .. والدلالة من الأسماء
الحسنى العلّي
مذهب الأئمة الكبار فى الصفات خارج الأسماء الحسنى
(أمروها كما جاءت وأن الظاهر غير مراد)
فأما الإمام
الشافعي فيقول : آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله و آمنا برسول الله و بما
قال رسول الله علي مراد رسول الله
أما كلام الإمام أحمد فيقول لا كيف ولا معنى
وفى مسألة الكلام عن الصفات التي خارج الأسماء
الحسنى
عصر الأئمة الكبار كمالك وغيره سكت الصحابة رضى
الله عنهم وسكت التابعون وتابعو التابعين عن هذه الصفات وكذلك الأئمة الكبار كمالك
والشافعي وأحمد عن الكلام فيها تماما وكان قولهم طول الوقت( أمروها كما جاءت) .ومنهم
من ثبت عنه التأويل لبعضها بأحاديث أُخرى.
فأمام قول الله عز وجل ( هو الذي أنزل عليك الكتاب
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون
آمنا به كل من عند ربنا .....إلى قوله.. إنك أنت الوهاب..آل عمران7-8 ) ونرى قول رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فى الحديث المتفق عليه( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه
منه فأولئك الذين سمى الله ) فتوافق سكوتهم مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
واَله وسلم على أن ما سكتوا عنه هو( المتشابه) ً على الظاهر كما يدعى بعض أصحاب المذهب
الآن والذي سكتوا عنه هو: الكلام عن اليدين والقدم والأصابع والنزول وغيرها من الصفات
التي خارج الأسماء الحسنى ..
فتوافق
كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجماع العلماء من القرون الخيرية
بالسكوت عن المتشابه ، فالذي تكلم بالمتشابه خالف الكتاب والسنة بفهم القرون الثلاثة
الأولى وكسر إجماعهم ، وأن الظاهر غير مراد حتى نقل عنهم العلامّة أبن كثير في تفسير
"ثم استوى على العرش" سورة الأعراف/54 بقوله وإنما نسلك في هذا المقام مذهب
السلف الصالح مالك والأوزاعى والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية
وغيرهم من أئمة المسلمين وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولاتشبيه ولاتعطيل و الظاهر
المتبادر إلى أذهان المشبهين منفى عن الله تبارك وتعالى فإن الله لا يشبهه شئ من خلقه
وليس كمثله شئ (وهو السميع البصير) ج2 ص220، ووضع (وهو السميع البصير) بين قوسين ونقلتها
كماهى هذه مسألة أولى ابتداءً بدلالة القرآن والسنة وعلماء الأمة في قرون الخيرية الثلاثة
التي لها المرجع في الفهم .
وفي شرح الإمام النووى6/37 مذهب جمهور السلف على
أنها حق على ما يليق بالله وأن ظاهرها المتعارف غير مراد ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد
تنزيه الله عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق والمذهب الثاني
التأويل وهو قول مالك والأوزاعى وبعض السلف ..وأقول أما المذهب القائل على الظاهر مع
نفى الكيفية فبدعة لم يقل به أحد من الأئمة الكبار
في الرد
علي من أثبت الفوقية
لقد سأل رسول الله الجارية أين الله قالت فى السماء
، وهذا حق وأقرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال الإمام أحمد : لا تحويه الجهات
الست كسائر المبتدعات ، وعلى ذلك قول أبى جعفر الطحاوى وأئمة أهل السنة بعدم إثبات
الجهة وليس معنى عدم إثبات الجهة معناه الحلول فى كل مكان .. الفرق بين قول الجهمية
( فى كل مكان) وبين قول أهل السـنة لا يحويه مكان قول الشيخ عبد الله زايد تعليقا على المسألة : ومن العجب
أن أهل هذا المذهب فى الزمان الذي نحياه الآن مازالوا يقولون بهذا وقد أظهر الله لنا
بالعلوم الحديثة كروية الأرض والسماء محيطة بنا من كل الجهات الست والزمن ناشئ من دوران
الأرض فقط لاغير ويقول أئمة أهل السنة الكبار "لا يحويه مكان ولا يجرى عليه زمان"وهم
يقولون الآن السماء فى جهة الفوقية ويجرى عليه زمان!!!فإنها لا تعمى الأبصار ولكنها
تعمى القلوب التي فى الصدور.وأنالا أقول بالعلم الحديث إلا إذا كان موافقاً للنص
في مسألة النزول
حديث النزول
على الظاهر
ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر
إلى السماء الدنيا
قال الإمام
مالك والأوزاعى ينزل ملك كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعل أتباعه بأمره استدلالاً
بالحديث الذي رواه الإمام النسائي وغيره وهذا ما نقله عنه ابن عبد البر والإمام النووي
وابن حجر ، وقال الإمام أحمد فى ذلك : لاكيف ولامعنى (فهو لا يقول بكيف ولا يقول فيه
بمعنى للحديث) ، وقال الإمام الشافعي على مراد رسول الله ،(وهذا يسمى تفويضاً وليس
إثباتاً علي الظاهر مع نفى الكيفية) وقال يحيى بن معين لاتحد فيه ولاتصفه وفى الاعتقاد
للبيهقى3/ 452قال حنبل بن إسحاق سألت أبا عبد الله (أحمد بن حنبل)عن الأحاديث التي
تُروى عن النبي إن الله ينزل فقال أبوعبدالله نؤمن بها ونصدق بها ولا نردعن رسول الله
شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاح قلت لأبى عبد الله: ينزل الله إلى السماء نزوله بعلمه
بماذا؟ فقال لي أسكت عن هذا، مالك ولهذا أمض الحديث على ماروى بلا كيف ولاحد إنما جاءت
الآثار وبما جاء به الكتاب قال الله فلا تضربوا لله الأمثال...النحل/74 ينزل كيف يشاء
بعلمه وقدرته وعظمته أحاط بكل شىءعلما لا يبلغ قدره واصف ولا ينأى عنه هرب هارب، وقال
الفضيل أمنت برب يفعل ما يشاء،وفى نفس المصدر 1/ 118سمعت سفيان بن عيينة قال كل ما
وصف الله من نفسه فى كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت، وفى كلام الربيع بن سليمان عن الشافعي
لا يقال للأصيل لمَّ وكيف ؟
وبوّب
الإمام البخاري على الحديث بقوله( باب فضل الصلاة والدعاء من آخر الليل).كل الأئمة
يردون
العلم لله ولا يتكلمون وكذلك الأئمة الكبار عدا أهل البدع في هذه المسألة وأولهم ابن
خزيمه المولود 223.
بعض أقوال هؤلاء الأئمة وفهمهم لذلك الأمر
، فقد
قال الإمام البيهقى في شعب الإيمان في 1/115 بعد نفى المثلية للمولى عز وجل مع خلقه
من كل الوجوه قال الشيخ : وجماع ذلك أنه ليس بجوهر ولا عرض فقد انتفى التشبيه لأنه
؛ لو كان عرضاً أو جوهراً لجاز عليه ما يجوز على سائر الجواهر والأعراض من حيث إنها
جواهر كالتأليف والتجسيم وشغل الأمكنة والحركة والسكون ولا ما يجوز على الأعراض من
حيث أنها أعراض كالحدوث وعدم البقاء .. انتهى
وفى مسند الربيع بن حبيب الأزدى نقل كلام ابن عمر
فى حديث الصخرة فارتعد ابن عمر فرقاً وصعقاً حيث وصف الله بالزوال والانتقال قال ابن
عمر هذا من كلام اليهود ( ج1 صـ 338 ) وفى المحلى عند ابن حزم ج1ص30 قال عن النزول
: فعل يفعله الله من قبول الدعاء فى هذه الأوقات ولا حركة لأن الحركة من صفات المخلوقين
حاشا لله تعالى منها .
فى عون المعبود ج4صـ 140 عن أبى محمد المزني بكلامه
فى حديث النزول والمجيء والإتيان قال:المجيء والإتيان صفتان منفيتان عن طريق الحركة
والانتقال من حال إلى حال..(وهذا نفى للظاهر)
وذكر أبو بكر البيهقى في شعب الإيمان ج3 صـ
380 في حديث النزول في ليلة النصف من شعبان عن الإمام أحمد وهذا النزول المراد به والله
أعلم فعلُ سماه الرسول نزولاً أو نزولَ ملكٍ.
وقال ابن حجر في فتح الباري ج11 صـ 129 في رواية
عن الدار قطني وقال أيضاً النزول محال على الله لان حقيقته الحركة من جهة العلو إلى
أسفل وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك فليتأول بأن المراد نزول ملك الرحمة
ونحوه أو يُفوَّض مع اعتقاد التنزيه..
وفى الاعتقاد للبيهقى ج1 صـ 116 بعد ذكر المجيء
و الإتيان والنزول وخلافه قال رحمه الله ؛ وهذا صحيح رواه جماعة من الصحابة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم أحد من الصحابة فى تأويله والتابعون على قسمين ؛ منهم
من قبله وآمن به ولم يأوله ووكل علمه إلى الله ونفى الكيفية والتشبيه ، ومنهم من قبل
وآمن به على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد .. انتهى
من أقوال الأئمة الأعلام فى الأسماء والصفات
منهج الدكتور يوسف القرضاوي في العقيدة
رأي الشيخ في آيات الصفات وأحاديثها
وللعلم فإن الشيخ في مسألة آيات الصفات يرى ترجيح
مذهب السلف على رأي الخلف‚ وهو في هذا موافق لشيخه البنا رحمه الله‚ يقول القرضاوي:
وأنا أرجح رأي السلف ـ وهو ترك الخوض في لجج التأويل‚ مع تأكيد التنزيه ـ فيما يتعلق
بشؤون الألوهية وعوالم الغيب والآخرة‚ فهو المنهج الأسلم‚ إلا ما أوجبته ضرورة الشرع
أو العقل أو الحس‚ في إطار ما تحتمه الألفاظ‚
هذا كلام الشيخ الذي ردده في كثير من كتبه‚ ولكنه
أفصح عن أمر آخر أكثر إيضاحا لموقفه من قضية الصفات في كتابه: «فصول في العقيدة بين
السلف والخلف» (تحت الطبع) وسأنقل هنا موقف الشيخ ‚ يقول الشيخ حفظه الله:
أود أن أبوح بسر للقارئ الكريم‚ فقد كنت كوّنت
رأيا منذ سنوات في موضوعنا هذا‚ وهو ما يتعلق بما سموه: (آيات الصفات) أو (أحاديث الصفات).
ويتلخص هذا الرأي أو هذا الموقف في ترجيح المذهب
المشهور عن السلف رضي الله عنهم‚ وهو: السكوت وعدم الخوض أو التفويض.
ولكني بعد أن عشت في الموضوع منذ سنوات‚ ثم عكفت
عليه في السنتين الأخيرتين‚ وتوسعت في القراءة والدراسة والبحث والمقارنة بين أقوال
المدارس المختلفة من المتكلمين والأثريين‚ أو السلف والخلف‚ أو الحنابلة وغيرهم‚من
المثبتين والمفوضين والمؤولين‚ من مبالغين ومعتدلين في كل فريق: اتضح لي بعد ذلك أمور
لم تكن واضحة عندي من قبل بالقدر الكافي‚ ورأيت أن من التبسيط المخل: أن نسكت ونغلق
أفواهنا عن الكلام في الموضوع‚ ونحسب أن القضية قد حسمت بذلك.
فالحق أن النصوص الواردة في الموضوع ليست كلها
في مستوى واحد‚ لا من حيث ثبوتها‚ ولا من حيث دلالتها‚ كما أن المروي عن السلف في هذا
الأمر ليس كله ذا مفهوم واحد أو نسق واحد.
فما خلاصة الموقف من هذه القضية التي طال فيها
الجدال‚ واستحال إلى صراع ونزال‚ أو حراب وقتال؟
أولا: النصوص التي تضيف إلى الله تعالى صفات هي
في البشر انفعالات نفسية‚ مثل: الرحمة والرضا والغضب‚ والمحبة والكراهية‚ والفرح والغيرة‚
والعجب ونحوها‚ وقد ثبتت بآيات القرآن العزيز‚ أو بالسنة الصحيحة: نثبت هذه الصفات
لله سبحانه وتعالى‚ كما أثبتها لنفسه‚ في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم‚
ونحن مطمئنون كل الاطمئنان‚ ولا نلتمس لها تأويلا‚ إذ لا حاجة إليه‚ ولا نتوقف فيها‚
لأنها بيّنة واضحة المعنى‚ وهذا هو مذهب السلف فيها.
فلا داعي لأن نقول: المراد بالرضا: إرادة الإنعام‚
أو الإنعام نفسه‚ أو بالغضب: إرادة الانتقام‚أو الانتقام ذاته‚ أو بالمحبة: إرادة الثواب‚
أو الثواب نفسه‚ لنردّ كل هذه الصفات إلى صفة الإرادة أو صفة القدرة‚ كما يفعل كثير
من المتكلمين.
ثانيا: النصوص التي تثبت الفوقية والعلو لله تعالى‚
نثبتها كما أثبتها الله تعالى لنفسه‚ لما جاءت به النصوص الغزيرة الوفيرة في القرآن
والسنة‚ مثل قوله تعالى: «أأمنتم من في السماء» «بل رفعه الله إليه» والأحاديث الكثيرة
التي ذكرت أن الله في السماء‚ أو فوق سبع سماوات: مثل: «يرحمكم من في السماء».
كل هذه النصوص نثبت ما دلت عليه من وصف لله تعالى‚
ولكنا نفسر هذا الإثبات بما فسره به المحققون من علماء المنهج السلفي‚ لا بما يفهمه
السطحيون من الحشوية الظاهرية‚ وبعض غلاة الحنابلة.
ثالثا: النصوص التي يوحي ظاهرها بإفادة التجسيم
والتركيب‚ لله عز وجل مثل النصوص التي تثبت لله تعالى: الوجه واليد واليدين والعين
والعينين والقدم والرجل والساق والأصابع والأنامل والساعد والذراع و الحقو والجنب‚
ونحوها‚ مما هو في المخلوق أعضاء وجوارح في الجسم‚ فهذه النصوص يرجح تأويلها إذا كان
التأويل قريبا غير بعيد‚ مقبولا غير متكلف‚ جاريا على ما يقتضيه لسان العرب وخطابهم‚
وهذا التأويل ليس واجبا‚ ولكنه أحق وأولى من الإثبات الذي قد يوهم إثبات المحال لله
تعالى‚ ومن السكوت والتوقف‚ ومن التأويل البعيد.
وهذا التأويل ليس لازما‚ فمن لم يسترح إليه يستطيع
أن يفوض في هذه النصوص‚ كما فوض كثيرون من السلف والخلف أو أن يثبت بلا كيف ‚ كما يرى
شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته: لزوم الإثبات بلا تكييف ولا تعطيل‚ ولا تشبيه ولا تمثيل.
وموقفنا هذا الذي اخترناه من جواز التأويل إن كان
قريبا مقبولا‚ كما قال ابن عبد السلام وابن دقيق العيد‚ أو اختيار مذهب السلف إن كان
التأويل غير قريب ولا مستساغ‚ سواء فسرنا مذهب السلف بالسكوت والتفويض أم فسرناه بالإثبات
بلا تكييف.
هذا الموقف قد اختاره الأئمة المعتدلون المرضيون
عند جمهور الأمة‚ مثل الإمام أبي سليمان الخطابي‚ والإمام أبي بكر البيهقي‚ والإمام
أبي زكريا النووي‚ والإمام ابن كثير‚ والحافظ بن حجر‚ وغيرهم.
لماذا يرجح الشيخ مذهب السلف
وقد ذهب الشيخ إلى ترجيح مذهب السلف‚ ولم يكن هذا
التأييد نابعا من هوى‚ ولا تماشيا مع الموجة التي تجعل بعضا من العلماء يحاولون عدم
التعرض لها‚ وإنما كان الترجيح لأمور‚ أهمها:
أولا: إن العقل الإنساني قاصر عن إدراك كنه صفات
الله تعالى‚ كما هو قاصر عن إدراك ذاته‚ فمن المحال أن يدرك المخلوق كنه الخالق‚ ويحيط
المحدود المحدث الفاني العاجز بالكائن المطلق الكامل الأزلي.
ثانيا: أننا لا نأمن -إذا خضنا لجة التأويل‚ وصرفنا
النصوص بإطلاق عن ظواهرها إلى معان نراها نحن بعقولنا أليق بكمال الله سبحانه- أن ننسب
إلى الله تعالى من الأوصاف ما لم يرده‚ وننفي عنه من الصفات ما لم يرد نفيه‚ وبذلك
نكون من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.
ثالثا: أن السلف يخشون من فتح باب التأويل: أن
يكون ذريعة لدخول الزنادقة والملاحدة وأعداء الإسلام الذين يريدون أن يهدموه من الداخل‚
كالباطنية ومن دار في فلكهم من الفلاسفة‚ ومنحرفي المتصوفة‚ وغلاة الفرق‚ ويعطيهم سندا‚
في صرف آيات الكتاب عن مدلولاتها وظواهرها.
رابعا: أن مذهب السلف أسلم بالإجماع‚ لأن فيه إثبات
ما أثبته الله تعالى‚ ونفي ما نفاه في كتابه وعلى لسان رسوله‚ مع الجزم بنفي التكييف
والتشبيه عن الله تعالى (ليس كمثله شيء).
خامسا:وهذا الوجه مبني على ما سبقه‚ من أن مذهب
السلف في التسليم -حسب ما ذكرناه- مسلم به ومتفق عليه من الجميع‚ والأولى في قضايا
العقيدة وأصول الدين: أن يعتصم الإنسان طالب النجاة بالمتفق عليه‚ فهو أحوط له‚ وأحزم
لأمره‚ وأصون لدينه.
سادسا: ولعل مما يؤيد ما قلناه في ترجيح مذهب السلف:
أننا وجدنا عددا من كبار الذين خاضوا لجج التأويل‚ ونصروا مذهب الخلف‚ عادوا في أواخر
أعمارهم إلى محجة السلف‚ وأيدوا وجهتهم.
كما أن الشيخ في مسألة آيات الصفات يرى ألا تجمع
في مكان واحد كما يفعل البعض‚ فيتوهم الله شخصا مكونا من أعضاء يقول الشيخ ـ حفظه الله
ـ: وتلك الحقيقة: أن تعرض هذه الصفات كما وردت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله‚ أعني:
أن تذكر مفرقة لا مجموعة‚ فكل مسلم يؤمن بها ويثبتها لله تعالى كما جاءت.
فليس مما يوافق الكتاب والسنة جمعها في نسق واحد
يوهم تصور ما لا يليق بكمال الله تعالى‚كما يقول بعضهم: يجب أن تؤمن بأن لله تعالى
وجها‚ وأعينا‚ ويدين‚ وأصابع‚ وساقا‚‚‚ إلخ‚فإن سياقها مجتمعة بهذه الصورة قد يوهم
بأن الله تعالى وتقدس كل مركب من أجزاء‚ أو جسم مكون من أعضاء.
ولم يعرضها القرآن الكريم ولا الحديث الشريف بهذه
الصورة‚ولم يشترط الرسول لدخول أحد في الإسلام أن يؤمن بالله تعالى بهذا التفصيل المذكور.
ولم يرد أن الصحابة وتابعيهم بإحسان كانوا يعلمون
الناس العقيدة بجمع هذه الصفات‚ كما تجمع في بعض الكتب المؤلفة في ذلك.
موقف الشيخ من العوام
ولما كانت هذه القضية من القضايا الشائكة‚ والتي
ربما يستعصي فهمها على عوام الناس‚ الذين لا يستطيعون الغوص في لجج العلم‚ فقد اختار
الشيخ موقفا خاصا للعوام ـ وهو موقف ابن الجوزي‚ وإمام الحرمين‚ والغزالي ـ قال فيه:
والذي أوثره وأرجحه هنا أن نعتصم بأمور أربعة:
1- أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه‚
وعلى لسان رسوله‚ فنصفه بما وصف به نفسه‚ وما تمدح لنا به‚ وأراد أن يعرفنا به من أوصافه
أو أفعاله‚ ولا نخاف من إطلاقها مادام القرآن قد أطلقها‚ والرسول قد ذكرها‚ فلسنا أغير
على ربنا منه عز وجل‚ ولا أغير عليه من رسوله صلى الله عليه وسلم‚ ولا أحرص على التقديس
والتنزيه لله جل شأنه منهما.
2- ألا نزيد من عند أنفسنا على ما وصف به نفسه‚
أو نغير عبارة القرآن أو السنة بعبارة من عندنا‚ فهذا قد يدخلنا في مأزِق‚ أو يوقعنا
في مزلق‚ تزل به أقدامنا‚ وإنما نلتزم العبارات الشرعية كما وردت.
3- ألا نجمع هذه الصفات أو الأفعال الموهمة لمشابهة
الخلق في نسق واحد‚ أو في سياق واحد‚ بل نوردها كما أوردها القرآن‚ وكما أوردتها السنة
في مناسباتها‚ وفي سياقاتها المختلفة.
4- أن نؤكد أبدا ما دلت عليه النصوص القاطعة‚ وأجمعت
عليه الأمة بكل طوائفها ومدارسها: سلفيين وخلفيين‚ من تنزيهه -جل ثناؤه- عن مشابهة
شيء من خلقه بحال من الأحوال‚ وكل ما وصف الله تعالى به نفسه‚ في كتابه أو على لسان
رسوله‚ مما يشترك فيه مع المخلوقين‚ فهو ثابت له سبحانه بما يليق بكماله وجلاله وعظمته‚
ويتنزه عن مشابهة المخلوقين فيه.
رأي الشيخ في الخلاف القائم بين أتباع السلف وأتباع
الخلف:
وقد أغضب الشيخ موقف المثبتين من المؤولين‚ وموقف
المؤولين من المثبتين‚ لأنه يرى أن الخلاف ليس خلافا كبيرا كما يتوهم البعض‚ وأنه لا
يوجب تكفير أحد الفريقين للآخر‚ أو حتى تأثيمه وتضليله‚ أو تبديعه وتفسيقه‚لذا قال
الشيخ:
أعتقد أن الخلاف بين المنهجين أو المذهبين لا يوجب
تكفير أحدهما للآخر‚ بمعنى الحكم عليه أنه كافر كفرا أكبر يخرج من ملة الإسلام !! فهذا
ما لا ينشرح له صدر مسلم ولا يقبله عقل عالم‚ بل أرى أن الخلاف في هذه القضية لا يحتمل
تأثيما ولا تفسيقا ولا تبديعا‚ إنما أقصى ما فيه: أن يكون خلافا بين مصيب ومخطئ‚ أو
مصيب وأصوب منه.
وكيف يجرؤ عالم متمكن: أن يفسق أو يؤثم أو يبدع
أساطين علماء الأمة‚ الذين حملوا شريعتها‚ وذادوا عن عقيدتها‚ وتصدوا لخصوم دعوتها‚
وعاشوا أعمارهم دعاة ومصلحين‚ وعلماء عاملين‚ أمثال الباقلاني‚ والاسفرايني‚ والماتريدي‚
والغزالي‚ والرازي‚ وابن عبد السلام‚ وابن دقيق العبد‚ والرافعي‚ والنووي‚ وابن الهمام‚
والزركشي‚ والعراقي‚ وابن حجر‚ والسيوطي‚ وغيرهم من الفحول المتبحرين في علوم العقيدة
والشريعة ؟!!
وهم ـ حين أولوا ما أولوا ـ لم يخرجوا عن سنن العربية
في مخاطباتها‚ ولهم سلف من الصحابة الذين روي عنهم التأويل كما روي عنهم التفويض ‚
أو الإثبات ‚ مثل ما روي عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما.
كما أنهم لم يقصدوا بذلك إلا أن يفهموا الناس معاني
كتاب الله ‚ وأن يدافعوا عنه أمام المحرِّفين والمبطلين.
وكما عاب الشيخ موقف السلفين ألقى كذلك باللوم
على المتطاولين من المؤولين فقال: وإذا كنا نعيب على بعض السلفيين غلوهم في تكفير بعض
المسلمين من المؤولين وغيرهم‚ أو تفسيقهم وتأثيمهم.فإننا نعيب كذلك على بعض مخالفيهم
الغلو في اتهام هؤلاء السلفيين بل أئمتهم وشيوخهم- بالضلال والمروق‚ وتقويلهم ما لم
يقولوه في دين الله .
ولكني أطالب إخواننا السلفيين هنا أن يكفوا عن
تكفير من يخالفهم فيما ذهبوا إليه من الإثبات المطلق ‚ وألا يعتبروا التأويل إذا أيدته
القرائن ضلالا ولا انحرافا‚ بله أن يكون كفرا ومروقا من الدين.
ويقول في كتاب آخر: ومع ترجيحي رأي السلف في ترك
التأويل في أمور الألوهية والغيب‚ لا أضلل المؤولين من كبار علماء الأمة‚ لا أكفرهم
ولا أفسقهم‚ لأنهم قصدوا بتأويلهم الدفاع عن أصول الدين في مواجهة أعدائه‚ ولأن تأويلهم
في إطار ما تحمله لغة العرب.
جمع أقوال الدكتور يوسف القرضاوى من منتدى ملتقى
الإخوان
من أقوال الأئمة الأعلام فى الأسماء والصفات
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من كتاب هموم داعية أهديكم هذه الكلمات للشيخ العلامة
محمد الغزالى رحمة الله عليه
ثم يعقبها موضوع السلفية التى نعرف ونحب ..
لا أدري لماذا يخالطني شعور بأني أعيش في القرن
السابع أيام سقوط "بغداد" ووفاة الدولة العباسية، أو بعد دلك بقرنين أيام
سقوط "غرناطة" واختفاء الإسلام من الأندلس؟!!
نعم أنا أحيا في القرن الخامس عشر للهجرة. والمسلمون
من خمس العالم ومنتشرون في كل القارات، بيد أن هزائم ثقيلة تنزل بهم، ومؤامرات لئيمة
تحاك لهم، وظلمات كثيفة تتجه إلى مستقبلهم، ويستحيل أن يبتسم مسلم مخلص وهو يرى هذا
الهوان يكتنف دينه وقومه!!
وكيف يبتسم وهو يرى الأخطار تتجه إلى قلب أمته
وأطرافها، والأعداء وهم جادون في الإجهاز عليها، ومع ذلك فجماهيرنا تلهو وتلعب!
إن الذنوب التي نقارفها، والتوافه التي تشغلنا
هي الثغرات التي ينفذ العدو إلينا منها، ويحكم قبضته علينا، ولا نزال نلفت الأنظار
إلى مصادر الخطر على حياتنا كلها إنها:
أولاً: مواريث الثقافة المغشوشة التي تحتضن البدع
والخرافات، ولا تعرف عادة من عبادة، ولا ركنا من نافلة، ولا دنيا من آخرة، ولا ترسم
للإسلام صورة صحيحة تبرز فيها أجهزته الرئية وسماته التابعة، وأهدافه الأولى، ومطالبه
الثانوية...
وثانيًا: ما وفد به الاستعمار الثقافي للحضارة
المنتصرة! إنها حضارة تعبد اللذة، تزدري الآخرة، وتنسى الله وتجحد حقوقه. وقد سخَّرت
الأرض-التي خلقها الله لعباده- لخدمة إلحادها على حين وقف المؤمنون الذين يجهلون قواها
لا يحسنون دفاعًا بل لا يستطيعون حراكًا...
إن الدعاة الحقيقيين للإسلام لابد أن يكتئبوا،
ولا يعني ذلك تكاسلاً واستسلامًا، إنهم يشمّرون عن سواعدهم ويرتبون صفوفهم، ويدافعون
عن دينهم، ولا يزالون في كفاح حتى يحكم الله لهم...
محمد الغزالي
03/12/1995
وإليك أيضا من كلمات الشيخ محمد الغزالى رحمة الله
عليه
قد أحزن عندما أبذل جهدي ثم لا أدري الثمرة المرتقبة،
ومع ما يخامرني من ضيق فإن ضميري يكون مستريحًا، وحسابي لنفسي لا يصحبه ندم أو خزي،
وقد يجري على لساني قول القائل: "صح مني العزم والدهر أبى" وحسبي ذلك تأساء
وتعزية..
والأمر على العكس تمامًا عندما أُفرط فأجني الخسار،
وعندما أُسيءُ البذر والحرث فأجد الحصاد الرديء فلا مكان هنا لاعتذار، ولا تقبل المكابرة
من مكابر..!!
بهذا المنطق العادل أريد أن يحاسب المسلمون أنفسهم،
إنهم أمة دعوة عالمية، فما الذي قدموه لهذه الدعوة على الصعيدين المحلي أو الدولي؟
ومحمد نبيهم رحمة للعالمين فما مجلى هذه الرحمة العامة فيما يسود العالم من أفكار وفلسفات
ومذاهب..؟
ليس هناك جهد إسلامي واضح لخدمة الرسالة الخاتمة
وتبصرة الناس لما فيها من حق وخير، بل الذي يقع داخل الأرض الإسلامية يثير الريب حول
القيمة الإنسانية لرسالة الإسلام ومدى انتفاع أهل الأرض منها، وتلك مصيبة طامة، أن
يعمل الإنسان ضد نفسه وسمعته!! وسواء درى أم لم يدر فتلك نتيجة تسوّد لها الوجوه..!!
والسنوات الأولى من القرن الخامس عشر للهجرة ضمت
في أضوائها هزائم قابضة، ذكرتني بـ "ابن الأثير" وهو يصف همجية التتار في
اجتياح بغداد وعواصف الدمار التي هبت على العالم الإسلامي يوم ذاك، وأين المؤرخ الكبير،
وهو يقول: ليت أمي لم تلدني لأشهد هذه الأحداث الجسام!!
إننا عشنا لنرى دك مدن عظام وتمزيق أمة كبيرة وغيبوبة
الوعي الإسلامي بإزاء آلام تحرك الرواسي!. ومع النشاط الهائل الذي يسود جبهة الأعداء
فقد رأيت بني قومي لا يزالون يمضغون خلافات جوفاء، وتسيطر عليهم أفكار ضحلة، وتسيرهم
أهواء قاتلة وشهوات غبية..!! ومن حقي وأنا أحد المشتغلين بالدعوة الإسلامية أن أُصرّح
بأشجاني وأن أبث همومي، إنه هم، وثان، وثالث..!!
أحيانًا نتحرك في موضعنا، وأحيانًا نسير في طريق
مسدود!، وأحيانًا نضرب عن يمين وشمال وكأن بيننا وبين الصراط المستقيم خصومة..!!
في عالم يبحث عن الحرية نصور الإسلام دين استبداد،
وفي عالم يحترم التجربة، ويتبع البرهان نصور الدين غيبيات مستوردة من عالم الجن، وتهاويل
مبتوتة الصلة بعالم الشهادة، وفي عالم تقارب فيه المتباعدون ليحققوا هدفًا مشتركًا.
فلا بأس أن يتناسوا أمورًا ليست ذات بال، في هذا الوقت ترى أناسًا من الدعاة يجترون
أفكارًا بشرية باعدت بين المسلمين من ألف عام، ليشقوا بها الصف ويمزقوا بها الشمل!!
إن الثقافة الإسلامية المعروضة تحتاج إلى تنقية
شاملة، وإن الدعاة العاملين في الميدان التقليدي يجب أن يغربلوا لنعدم السقط، وننفي
الغلط..
وفي هذا الكتاب نماذج محدودة لمثار الشكوى، ومصدر
الهم!!
والله من وراء القصد ...
محمد الغزالي
أكتوبر 1982م-ذي الحجة 1402هـ
السلفية التي نعرف ونحب
الهداة المبلغون عن الله جمّ غفير من بدء الخليقة
إلى ختام النبوات بصاحب الرسالة العظمى، تلك الرسالة التي سوف تصحب العالم حتى يومه
الأخير..
وهؤلاء الهداة تتفاوت أنصبتهم فيما أحرزوا من نجاح،
وفيما أُوتوا من مواهب، مثلما تتفاوت نجوم السماء قدرًا وسنى..!!
نعم، هناك نبي دعا فما استجاب له أحد، وهناك من
دعا فلباه نفر قلائل، وهناك من نجح في هداية قرية متوسطة العمران والسكان، وهناك من
قدر على تربية جيل مضى على الدرب قليلاً ثم أدركه الإعياءُ فتوقف..
وهناك من بلغ الحق واستحفظه صحبه، وما هي إلا سنون
طويلات أو قصيرات حتى تسرب الحق من أيديهم، فتلاشى مع الزمن، وحل مكانه باطل خدّاع..
الرسالة الخاتمة
ولكن من خمسة عشر قرنًا ظهر إنسان فذّ، رمق ببصيرته
القرون الماضية والقرون الآتية، وأمده الله بروح من عنده، فإذا هو يتحرك في صحراء الجزيرة
حاملاً البلاغ المبين، كانت الظلمة كثيفة والخصومة ملتهبة، وكسف الضلالة تتراكم في
الشرق والغرب، وكأنما نجح إبليس في إغواء البر والبحر فما يبدو بصيص أمل..
على أن الرسوم العربي الملهم، بدأ عمله بعزم يفل
الحديد، وشرع في تكوين الرجال الذين يؤمنون به، ويجاهدون معه، وأفلست كل المقاومات
في ثنيه عن وجهته، لقد مزق الحجب المسدلة على الفطرة، وانتعش العقل من غيبوبة رضّته
بالوثنية المخرّفة، وصاح في القلب الإنساني: ألا تستحي من البعد عن الذي خلق فسوى وقدر
فهدى..وأبصر الرجال من حوله الطريق، فالتقوا به واستمدوا من صلابته بأسًا في إحقاق
الحق وإبطال الباطل:
كذلك
أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن
قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب
(الرعد:30)
وتلاوة الرسوم ليست قراءة مجردة على نحو ما نألف!،
إن تلاوته دليل عمل ورسم منهج وإيضاح خطة، كما يعلن في زماننا أي حزب عن برنامجه العام
وإن كان الفرق بعيدًا..
ومنهاج الرسالة الخاتمة تغيير العالم أجمع، والعُدة
أُولئك الأصحاب الذين نفخ فيهم محمد من روحه، وفقّههم في كتابه، وجعل منهم أساتذة في فن الحكم، ورعاية الجماهير،
وحماية الحقوق، وتزكية السرائر، وبناء الأخلاق الحسنة، ودعم التقاليد الجميلة..>لك
كله في سياج من التوحيد المحض والعبادة النقية..
لا يدري أحد كيف صنع محمد هذا الجيل القوي الوفي الزكي!، لا يدري أحد ماذا
سكب في أفئدتهم من تقوى وفداء، وشهود لعظمة الله وإقبال على الدار الآخرة، لا يدري
أحد قوة الدفع وراء هذا الجيل الذي هزم فتن الحياة، وكيد الجبابرة، واستطاع بعظمة رائعة
أن يُسلّم القرآن الكريم للأجيال التابعة دينًا ودولة، وأن يجنّبه ما عرا الكتب الأولى
من تحريف وتصحيف..
أولئك هم سلفنا الصالح، الصالح لقيادة الحياة،
وإرث الآخرة، عن جدارة لا عن دعوى..أُصارح أنني معجب بمحمد وصحبه، مسحور بتربيته لهم وبجهادهم معه ومن بعده لاستبقاء الحق في الأرض،
ونفع العالمين به..
ألا ما أعظم صحابة محمد وما أكبر دينهم في رقابنا!
أتباع محمد صلى الله عليه وسلم
في الأوّلين والآخرين
والآن بعد مسيرة طويلة للإنسانية أنظر إلى نفسي
ومن حولي، فأجد الشبه قريبًا بين أعداء محمد في الأولين وأعدائه في الآخرين! على حين أجد الشبه بعيدًا بين أتباع محمد في الأولين وأتباعه في الآخرين..
إن صحابة محمد عندما قدموا كلمة التوحيد للناس قدموها على أنها فكاك لأعناقهم من ضروب
الوثنيات الدينية والاجتماعية والسياسية، فلا مكان في ظل الإسلام لفرعونية حاكمة، ولا
قارونية كانزة، ولا كهنوتية موجهة، ولا جماهير ذلول الظهر لكل راكب أو مستغل، ومن خلال
تعاليم الكتاب والسنة أدرك الناس دون تكلف ولا تقعر أن الحريات موطدة وأن الحقوق مصونة،
وأن العقل ينبغي أني فكر دون قيد، وأن أشواق الفطرة تلبي دون حرج، وأن الدولة في الإسلام
مع المظلوم حتى ينتصف وعلى الظالم حتى يعتدل، وأن الصيحة الوحيدة التي يصحو عليها النائم
ليصلي، ويصغي إليها المرهق قبل أن يدلف إلى فراشه ليرقد هي "الله أكبر الله أكبر"
فجرًا وعشاءً..
هذه هي الدنيا كما فهمناها من ديننا، بيد أن العالم
الإسلامي لا يعرف هذه المعالم في دنياه، وقد يسمع عن شيءٍ منها في العالم الذي لا يعرف
الإسلام..
ومما يثير الدهشة أن ناسًا من المتحدثين في الإسلام
لا يعرفون عن هذه المعالم شيئًا يُذكر، وعندما يتكلمون في الدعوة الإسلامية لا يعرجون
من قريب ولا بعيد على هذه المعالم..
إنني لا أُكلفهم باعتراض أوضاع فاسدة فهم دون ذلك!
وإنما أكلفهم ببيان الحقائق العلمية، وشرح المقررات
الإسلامية وحسب!
منذ أيام قُدِّمَ استجواب في "الكنيست"
اليهودي عن مقتل شاب عربي في إحدى المظاهرات، ويظهر أن مقدم الاستجواب من العرب الشيوعيين
في "دولة إسرائيل"..
ووقف "مناحم بيجن" يرد في غضب شديد ويقول:
تريدون أن تقيموا الدنيا وتقعدوها لمقتل شاب عربي؟! على حين خيم الصمت التام بعد مقتل
عشرة آلاف في "مدينة عربية مجاورة" وتسوية ثلث مساكنها بالأرض؟؟
وشعرت بالخزي وأنا أسمع الإجابة، وقلت لرجل يسمع
معي" إن "بيجن" هنا ينطبق عليه الحديث المشهور: "صدقك وهو كذوب".
وإذا كانت مجزرة "هذه المدينة" محنة
تقشعر منها الجلود، وتتقرّح العيون، فإن الصمت-الذي لفت نظر السفاح اليهودي "مناحم
بيجن" بعد وقوعها- محنة أنكى وأقسى..وقرأتُ في الصحف نبأ هذا الكاثوليكي الذي
تبنى ثلاثين ألف طفل مسلم في الصومال لينشئهم على النصرانية بداهة، وقلت: إن جزءًا
من المال العربي الضائع في أندية القمار كان يمكن أن يحفظ مستقبل هؤلاء..
وما أكثر يتامانا الذين استولت عليهم مؤسسات التنصير
جراء هذا التفريط..
الغرابة ليست في وقوع هذه الجرائم على فداحتها!
الغرابة في ذهول ناس من المتحدثين في الإسلام عنها، وعن المقدمات النفسية والفكرية
التي أدت إليها. إنني أرتاب في عقل هؤلاء أو دينهم.
فلنتأمل في ذاتنا نحن المسلمين! إننا نزيد على
ألف مليون من البشر، ونسكن أرضًا تمتد بين المحيطين الأطلسي والهادي، وتحتوي على معاقل
الممرات العالمية، ونملك ثلث ثروات العالم السائلة والجامدة، وهذه إمكانات تجعل منا
أُمة طليعة لا أمة ذَنَبًا..
وقد كان سلفنا أقل عددًا، وأفقر مالا، ويحيا على
أرض قفرة معزولة عن الحضارات الإنسانية الكبرى فكيف نجح وساد على حين أخفقنا وتخلفنا؟!
في اعتقادي أن الثقافات المسمومة التي نتناولها،
والأحوال المعوجة التي ألفناها هي التي أزرت بنا.!
إن الإسلام يدرس بطريقة جنونية، وشياطين الإنس
والجن يحرسون هذه الطريقة حتى تسلم لهم مكاسبهم الحرام وتبقى لهم زينة الحياة الدنيا..
ومع الإحساس العام بضرورة التغيير كي لا نفنى،
ومع أننا بصّرنا القاصرين بأسباب الانحراف ومصادر الشر، فإن المستقبل غامض إلا أن يشاء
الله..
خصومات علمية فات وقتها
وفيما كنت أُفكر في هذه الأمور وأمثالها،و طرق
بابي شاب وكان في عينيه بريق يدل على الذكاء الحماس معًا!
قال: قرأتُ بعض كتبك، ورأيت أن أستكمل معرفتك من
أسئلة أُوجهها إليك!
قلت له: حسبك سؤال واحد فلدي ما يشغلني..
قال: ما رأيك في "الفوقية" بالنسبة إلى
الله تعالى؟!
ومع تعوّدي لقاء شباب كثير من هذا الصنف إلا أن
السؤال فاجأني..
تريثت قليلا ثم شرعت أتكلم: لا أدري كيف أُجيبك؟
أنا مع أهل الإسلام كلهم أُسبح باسم ربي الأعلى وبين الحين والحين يطوف بي من إجلال
الله وإعظامه ما أظنني به واحدًا من الذين قيل لهم:
ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
(النحل:50)
تسألني عن هذه الفوقية؟ لا أدري!، أنا مع العقلاء
الذين يقولون: السماءُ فوقنا والأرض تحتنا، ثم إني بعدما اتسعت مداركي العلمية عرفت
أن الأرض التي أسكنها كرة دائرة طائرة، وأنها مع أخوات لها يتسقن في نظام مع أمهن الشمس
التي تجري هي الأخرى مع ولدات لها في مجرة معروفة الأبعاد والمدار.
وقد أحصى علماءُ الفلك مجرات كثيرة عامرة بالشموس
مثل مجرتنا وحسبوا بعد مطالعات ومتابعات أنهم عرفوا حدود الكون..
ثم كشفت لهم المراصد على مسافة ملايين الملايين
من السنين الضوئية أن هناك مجرات أُخرى أسطع ضوءًا وأشد تألقًا..فعرفوا أن الكون أرحب
مما يظنون..
أنا لم يهُلني أمر هذه الكشوف، وإنما زاد إعظامي
لربي، الذي بنى فأوسع، وذرأ فأبدع، إنه يهب لهذه الأكوان كلها وجودها وبقاءها لحظة
بعد أُخرى!.
وأذكر أني رأيت مرة أسرابًا من النمل تحف بقطعة
من الحلوى وتسلم فتاتها لأسراب أُخرى، رأيت أُلوفًا تأخذ من أُلوف، فاتجهت إلى السماء
وأنا أقول: وثم أُلوف مؤلفة من النجوم الثابتة والكواكب الدوّارة. إن الدقة التي تحكم
حياة النمل في جحوره هي الدقة التي تحكم الشموس في داراتها..رؤية تامة هناك وهناك
له
غيب السماوات والأرض أَبصِر بهِ وأَسمِع ما لهُم من دونهِ من وليٍ ولا يُشرِكُ في حُكمِهِ
أحدًا
(الكهف:26)
ما دامت السماءُ محيطة بنا فهي فوقنا وتحتنا، ونحن
على أرضنا قد نكون فوق قوم يعيشون على الأرض في جانب آخر منها..وعلى أية حال فالخالق
الأعلى له فوقية تقهر الخلائق جميعًا، وتستعلي وتستعلن على الجن والإنس والملائكة وسائر
الموجودات..ذاك ما أعرف، ولا أُحب إفساد النُظُم القرآني الكريم بتعاريفٍ ما أنزل الله
بها من سلطان.
عقيدة المسلم
قال الشاب: ألم تقرأ العقيدة الطحاوية؟ قلت: أُوصى
المسلمين أن يقرءوا القرآن، وألا يعملوا عقولهم في اكتناه المغيبات التي يستحيل إدراك
كنهها، وكذلك فعل سلفهم الصالح فأفلح..
قال الشاب: كتابك عقيدة المسلم؟ قلت: قررت فيه
ما سمعت الآن!..
قال: إنه يتجه مع مذهب السلف ولكنك تبعت في ترتيب
العقائد منهج أبو الحسن الأشعري وهو مؤوّل منحرف..قلت: رحم الله أبا الحسن وابن تيمية
كلاهما خدم الإسلام جهده، وغفر الله لهما ما يمكن أن يكون قد وقع في كلامهما من خطأ.
اسمع يا بني: لماذا تُحيون الخصومات العلمية القديمة؟
كانت هذه الخصومات -ودولة الإسلام ممدودة السلطة- خفيفة الضرر، وإنكم اليوم تجددونها
ودولة الإسلام ضعيفة، بل لا دولة له، فلم تعيدونها جذعة وتسكبون عليها من النفط ما
يزيدها ضرامًا؟
وجِّهوا الأمة إلى كتاب ربها وسُنًّة نبيِّها واشغلوهم
بما اشتغل به سلفنا الأول، اشتغل بالجهاد في سبيل الله فاعتز وساد مع ملاحظة أنهم يحررون
غيرهم، أما نحن فمُكلَّفون بتحرير أنفسنا.
قال الشاب وهو يتململ: حسبناك من السلف!! قلت:
إن انتماء إلى السلف شرف أتقاصر دونه وفي الوقت نفسه أحرص عليه، لقد جئت تسألني عن
قضية لو سُئِل عليها الأصحاب-رضي الله عنهم- لسكتوا..
وأغلب الظن أنك تود لو تعثرت في الإجابة حتى تتخذني
غرضًا أنت ومن وراءك، فلتعلم أن طهر النفس أرجح عند الله من إدراك الصواب..!
ليس سلفيّا من يجهل دعائم الإصلاح الخلقي والاجتماعي
والسياسي، كما جاء بها الإسلام، وأعلى رايتها السلف، ثم يجري هنا وهناك مذكيًا الخلاف
في قضايا تجاوزها العصر الحاضر، ورأى الخوض فيها مضيعة للوقت..
أما كان حسبنا منهج القرآن العزيز في تعليم العقائد؟.
في تعريف الناس بربهم نسمع قوله تعالى:
الله لا إله
إلا هو لهُ الأسماءُ الحُسنى
(طه:8)
والاستجابة الفطرية لدى سماع هذه الآية أن نقول:
عرفنا ربنا وما ينبغي له من نعوت الكمال!
ويقول تعالى:
فاعلم
أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات
(محمد:19)
والاستجابة الطبيعية لدى تلقي هذا الأمر أن نقول:
سمعًا وطاعة، علمنا أن الله واحد، ونستغفره من تقصيرنا في الوفاء بحقوقه..
ثم تتجه بعد ذلك جهود المربين والموجهين إلى تنمية
الإيمان النابت في مغارسه الصحيحة حتى يتحول من معرفة نظرية إلى خشية وتقوى وحياء وخشوع،
ولا نزال ننميه كما فعل سلفنا الصالح حتى يفعم المؤمن بمشاعر التمجيد، فيقول كما علمه
الرسوم الكريم: "يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك"، فإذا
واجه الموت في سلام أو حرب لم يجزع بل قال: "غدًا أُلاقي الأحبة محمدًا وحزبه"
كما هتف بذلك بلال.
أما جعل الإيمان قضايا جدلية فهذا الموت الأدبي
والمادي. ولو أن سلفنا مضى مع تيار الجدل ما فتح بالإسلام بلدًا، ولا شرح بالإيمان
صدرًا..
إن منهج القرآن الكريم في إنشاء العقائد وإنضاجها
خفيف رقيق أخف من الهواء وأرق من الماء، أما بعض الكتب التي تعرض العقائد في كثير من
الأعصار والأقطار فعلى نقيض ذلك، وقد ألّفت كتابي "عقيدة المسلم" وأنا متشبع
بهذه الأفكار، وأحسب أن الله نفع به كثيرًا..
إقحام السلف في فقه الفروع
على أن هناك أمورًا يُقحَم فيها السلف إقحامًا،
ولا علاقة لهم بها، فما دخل السلف في فقه الفروع واختلاف الأئمة فيه؟!
ومن الذي يزعم أن ابن حنبل هو ممثل السلفية في
ذلكم الميدان، وأن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي جاروا على الطريق، وأمسوا من الخلف لا
من السلف؟
إن هذا تفكير صبياني..وبعض من سُمّوا بالحنابلة
الذين حكى تاريخ بغداد أنهم كانوا يطاردون الشافعية لحرصهم على القنوت في صلاة الفجر
هم فريق من الهمل لا وزن لهم..وأنا موقن بأن الإمام أحمد نفسه لو رآهم لأنكر عليهم
وذم عملهم..!
التبعة ليست على رعاع يمزقون شمل الأمة بتعصبهم،
وإنما التبعة على علماء يعرفون أن رسول الله حكم بأن للمجتهد أجرين إذا أصاب، وأجرًا واحدًا إذا أخطأ.
ولو فرضنا جدلاً أن الحق مع الحنابلة والأحناف
في أنه لا قنوت في الفجر فمن الذي يحرم مالكًا والشافعي أجر المجتهد المخطئ.
وإذا كان من يخالفنا في الرأي مأجور فلم نسبّه
ونحرجه ونضيق عليه الخناق؟؟!
المشكلة التي نطلب من أُولي الألباب حلها هي معالجة
نفر منا لناس يرون الحق حكرًا عليهم وحدهم، وينظرون إلى الآخرين نظرًا انتقاص واستباحة!الواقع
أن الأمراض النفسية عند هؤلاء المتعصبين للفرعيات تسيطر على مسالكهم وهم –باسم الدين-
ينفسون عن دنايا خفية! وعندما يشتغل بالفتوى جزار فلن تراه أبدًا إلا باحثًا عن ضحية!!
وقريب من ذلك ما أقصه على ضيق تردد إن البعض يُنكر
المجاز، أو يستهجن القول به ويغمز إيمان الجانحين إليه.
سألني سائل: تذكر حديث الإبراد بصلاة الظهر؛ لأن
شدة الحر من فيح جهنم؟ قلت: نعم!. قال: جاء في الكلام عن فيح جهنم أن النار اشتكت إلى
الله قائلة: أكل بعضي بعضًا..فأذن لها بنفسين في الصيف والشتاء. فأشد ما تجدون من الحر
في الصيف فهو من أنفاس جهنم، وأشد ما تُحسّون من برد في الشتاء فهو من زمهرير النار!!..
قلت: ذلك تقريبًا معنى حديث. قال: أوتؤمن به؟ قلت:
لا أدري ماذا تريد؟ الإبراد بالظهر مطلوب تجنبًا لوقدة الحر ولا غضاضة في ذلك، يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
قال: أسألك عن المعنى المذكور في الحديث؟ أتؤمن
بأن جهنم شكت بالفعل وأن الله استمع إليها، ونفَّس عنها؟!..
قلت في برود: كون النار تكلمت بلسان فصيح وطلبت
ما طلبت فهم لبعض الناس ولهم أن يقفوا عند الظاهر الذي لا يتصورون غيره، وهناك رأي
آخر أنا أميل إليه وهو أن هذا أسلوب في تصوير المعاني يعتمد على المجاز والاستعارة..
وهنا تنمر السائل وبدأ في التشنج وقال: أكثير على
قدرة الله أن تتكلم النار؟ أما يقدر ربنا أن تتكلم الحجارة؟
وأجبته ببرود أكثر: ما دخل القدرة الإلهية هنا؟
إن العلماء يفهمون النصوص على ضوء اللغة العربية، وما نقل إلينا من تراكيبها، وقدرة
الله فوق الظن والتهم!
إن العرب الأقدمين أجروا على ألسنة الجماد والحيوان
كلامًا ما نعلم نحن أنه ليس على ظاهره، وقد ذكرت في مكان آخر المثل العربي "قال
الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني"
وجاء مثل آخر على لسان الثور المخدوع: "أُكلت
يوم أُكل الثور الأبيض"
والجدار ما تكلم، والثور ما نطق!..
ثم قلت يائسًا: ومع ذلك فإذا كنت ترى أن الجدار
نطق والثور تكلم فلك مذهبك، ولا دخل للسلف أو الخلف في الموضوع كله!
وعاد الشاب يقول: هل في القرآن مجاز؟
وكتمت الغيظ الذي يغلي في دمي، وقلت: ما لاكه بعض
العلماء في القرون الوسطى، ثم انتهوا منه وانتهى أهله، تريدون اليوم إحياءه وشغل الناس
به؟ مرة حديث الفوقية، ومرة حديث المجاز؟!!
حدثني عن هذه الآيات:
إنا
جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مُقحمون(8)
وجعلنا من بين أيديهم سدًَّا
(يس:8،9)
ترى هذه السدود هي السد العالي أو سد الفرات؟ وهل
الأغلال هنا هي القيود والتي توضع أحيانًا في أيدي المجاهدين..أم أن هناك مجازًا في
القرآن الكريم..؟
واستأنفت الكلام وأنا أتجه إلى الضحك..
لما سرّ المتنبي بشعب بوان وراقه الهواء والظل
وتسلل الأشعة بين الأوراق والغصون تصنع دوائر شتى على ثيابه قال:
وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيرًا تفر من البنان!
ثم قال في مجون لا يسوغ:
يقول بشعب بوان حصاني أَعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصـي وعلمكم مفارقة الجنــان
هل وقف حصان المتنبي وسط الحديقة الغنّاء وألقى
هذه الخطبة العصماء؟ أم أن المتنبي أنطق دابته بهذا الشعر؟ أظن الحكم على مذهبك أن
الحصان هو الذي فسق بهذا الكلام ضد الأنبياء ويجب ذبحه!!.
إن هذا الشاب وأمثاله معذورون، والوزر يقع على
من يوجههم، لأنه لا يفقه أزمات الحياة المعاصرة، ولا يرتفع إلى مستوى الأحداث، ولا
يحس آلام أُمته، ولا يخطر بباله ما يُبيَّت للأمة الإسلامية ودينها العظيم من مؤامرات.
إننا نريد ثقافة تجمع وتفرّق، وترحم المخطئ ولا
تتربص به المهالك، وتقصد إلى الموضوع ولا تتهارش على الشكل..
ولا أدري لماذا لا نؤثر العمل الصامت المنتج بدل
ذلك الجدل العقيم؟
حاجتنا إلى منهج يصل حاضرنا بغابرنا
لا أريد الإطالة في نقد انحرافاتنا الفكرية والنفسية،
وأُحب أن أخلص إلى منهج يصل حاضرنا بغابرنا، ويُنشئ خلفًا على غرار السلف، ويعيننا
على استدامة رسالتنا وهزيمة عدونا..
إننا لا نستطيع –فرادى- أن نحقق شيئًا طائلا، فالجماعة
من شعائر الإسلام، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب..
وفي الميدان الدولي نجح أعداؤنا في طي راية الخلافة،
وتقطيع أُمة التوحيد أُممًا شتى التحقت ذيولا بالكتل العالمية الكبرى، واصطبغت ثقافيًا
وسياسيًا بألوان أُخرى غير صبغة الله..
والمطلوب من الدعاة الراشدين أن يدركوا الأُمة
من الداخل، ويقفوا حركة التمزيق الفكري والروحي الوافدة من الخارج.
وذلك يفرض علينا إحياء الإخاء الديني، وتنشيط عواطف
الحب في الله، واختصار المسافات أو ردم الفجوات التي تفصل بين المنتسبين إلى الإسلام.
ولكي لا يكون ذلك خيالاً أو خطابة منبرية نرى صب
الأمة كلها في تجمعات ذات أهداف حقيقية، تجمعات تشبه حلقات الإخوان التي قام عليها
التحرك الإسلامي في نجد أو السودان أو مصر، تتعارف على نصرة الإسلام وتتجاوب بروح الله
وتتكاثر حتى تنضم المدن والقرى.
وأتخيل هذا التجمع على صورتين: الأولى أساسها وحدة
العمل، كالروابط المهنية والهندسية والقانونية والعلمية وغرف التجارة واتحاد الطلاب
والأندية الجامعية..إلخ.
والأخرى مُشكَّلة من طوائف متبانية جمعتها أسباب
دائمة أو طارئة.
عمل التجمعات الأولي: خدمة الإسلام في ميادينها
التخصصية، ومحو كل آثاره لتخلفنا الحضاري والمنافسة على السبق الشريف والحرص على نصرة
الإسلام بدءًا من قراءة العداد الكهربائي –مثلاً- إلى ملاحظة تسجيلات "الكمبيوتر".
وعمل التجمعات الأخيرة توثيق الروابط بين الأعضاء
الذين يتوزع نشاطهم على مجالات متباعدة، فالطبيب هنا قد يلتقي بموظف كتابي، والعامل
بشركة أقمشة قد يلتقي بعامل في شركة أدوية، والمحاسب قد يلتقي بمدرس، والنقّاش قد يلتقي
بصحافي..إلخ.
والمهم أن يرقب هؤلاء جميعًا أثر أعمالهم في النشاط
الإسلامي، وأن يتعاونوا على ما فيه الخير لدينهم وأُمتهم.ولا بأس أن يتزاوروا ويتهادوا
ويُعمِّقوا مشاعر الود بين أُسرهم وأولادهم، في نطاق الأدب الإسلامي المقرر..
وإنما دعاني إلى هذا الاقتراح ما يعانيه أهل الدين
من غربة، وما يعانيه الدين نفسه من خذلان في أخطر شئون الحياة، وما ينحصر فيه الدعاة
من كلام حسن أو ممل.
إن الوعظ أخف الواجبات التي يتطلبها الإسلام في
عصرنا.
الجهد الأول هو تحريك قافلة الإسلام التي توقفت
في وقت تقدّم فيه حتى عبيد البقر..
وقد تكون الكلمة الجارية داخل معهد، أو مصنع، أو
ديوان، أثقل في ميزان المؤمن من وعظ كثير..
وألفتُ النظر إلى منع الجدل الديني داخل هذه التجمعات،
وقبول جميع المذاهب الفقهية المعروفة، وتكريس الجهود والأوقات لرد العدوان على ديننا
وإعادة بناء أُمتنا على قواعدها الأولى..
فإذا كان لابد من بحث علمي، فليوكل كذلك ذلك إلى
الأخصائيين، وهم فيه أصحاب الرأي..
إنني –فيما بلوت- رأيت الخلاف الفقهي يتحول إلى
عناد شخصي، ثم إلى عداء ماحق للدين والدنيا، فكيف إذا تصور البعض أن الأمر ليس خلافًا
في الفروع، ولكنه خلاف في الأصول؟ المصيبة تكون أدهى وأمر..!
كتاب
هموم داعية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق