إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور
تأليف العلامة الحافظ المغربي ابو الفيض احمد بن الصديق الغماري الحسني _رحمه الله تعالى _
-------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد فإنك سألت عن حكم البناء على القبور هل هو جائز كما جرى عليه عمل السلف والخلف شرقاً وغرباً أو هو ممنوع كما يذهب إليه القرنيون (1)[1] ومن يستصوب رأيهم ويستحسن مذهبهم من أهل هذه البلاد ممن خفي عليه أمرهم وراج عليه تمويههم فقام يدعو إلى هدم ما بني من القباب على قبور الأولياء والصالحين متمسكاً في ذلك بأحاديث أرسلها وهي.
ما رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة من حديث أبي الهياج الأسدي عن علي (عليه السلام) أنه قال له أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
وما رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ وكذلك هو عند أحمد ومسلم والنسائي بنحوه.
وما رواه أبو داود عن القاسم قال: دخلت على عائشة (رضي الله عنها) فقلت يا أمه بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرضة الحمراء.
وما رواه أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرفوعاً شبراً أو نحو شبر.
وما رواه الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن غنيم بن بسطام قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زمن عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع.
وذكرت أنه أشكل عليك أمر هذه الأحاديث ولم تدر وجه الجمع بينها وبين ما اتفقت عليه الأمة المعصومة في اتفاقها من الخطأ على بناء الأحواش والقباب والمساجد قديماً وحديثاً بمشارق الأرض ومغاربها على القبور، ورجوت أن نبين لك على وجه الجمع بين ذلك ونوضح لك الحق في المسألة، ونذكر لك من دلائل القول المختار ما يسفر عن وجه الصواب ويزيح عنه كل شك وارتياب.
فأجبناك إلى ما سألت على قدر الوسع والطاقة وما أرانا الله تعالى من وجه الصواب في المسألة ورسمناه لك في هذا الجزء الذي سميناه.
إحياء المقبور
من أدلة جواز بناء المساجد على القبور
ونرجو الله تعالى أن ينفع به كل من وقف عليه ممن تحلى بحلية الإنصاف وتخلى عن رذيلة التعصب والاعتساف إنه كريم وهاب.
تقديم
سيدي أحمد بن الصديق الغماري
فصل في جواز الدفن
أعلم أن البناء على القبر إما يكون قبل الدفن بأن يدفن الميت في بيت أو مسجد أو حوش أو قبة أعدها لدفنه، وإما أن يكون البناء حادثاً بعد الدفن، وهذا الأخير إما أن يكون على نفس القبر وإما أن يكون حول القبر قريباً منه على قدره أو بعيداً عنه متسعاً، وهذا الثاني إما أن يكون مسجداً يصلي فيه وإما أن يكون قبة أو حوشاً والميت إما من عامة الناس وإما من العلماء والأولياء الصالحين.
أما الدفن في البناء فلا شبهة في جوازه كما نص عليه الفقهاء إلا أحمد بن حنبل (رحمه الله) رأى مع الجواز أن الدفن في مقابر المسلمين أولى مراعاة لعمل أكثر الناس، ورأى أن دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البناء لأجل التمييز اللائق بمقامه الأرفع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا لا يخفي ما فيه لأنه تخصيص بدون مخصص.
وقد روى ابن سعد في الطبقات قال أخبرنا محمد بن ربيعة الكلابي عن إبراهيم بن زيد عن يحيى بن مهامة هو عثمان بن عفان قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " إنما تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح "، ومعلوم أن الأرواح تقبض غالباً في البيوت فمقتضى هذا أن الدفن في البناء أولى لكن وقع في هذه الرواية اختصار فقد روي الحديث من وجوه متعددة مرسلاً وموصولاً من حديث أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) مرفوعاً بلفظ " ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض " وفي لفظ " ما توفي الله نبياً قط إلا دفن حيث تقبض روحه " رواهما ابن سعد وغيره وهو صريح في عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وقد اتفق الصحابة على دفن أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق بعد هذا وجه لما قاله أحمد (رحمه الله).
فصل في البناء بعد الدفن
وأما البناء بعد الدفن إذا كان في الملك فكره الجمهور كراهة تنزيه إذا أمن نبش سارق أو سبع أو سيل وقصد به إحكام البناء والبقاء والزينة وإلا جاز عندهم، وزاد المالكية التصريح بحرمته إذا قصد به المباهاة وأجازه آخرون مطلقاً، ولو قصد به المباهاة كما في الدار المختار وحواشيه. وقيد الأكثرون جوازه إذا قصد به التمييز وصرح أكثرهم بحرمته ووجوب هدمه إذا وقع في الأرض الموقوفة للدفن ومنهم من قيده بما إذا كان كبيراً زائداً على قدر القبر وهذا أمر خارج عن حكم البناء نفسه، وفصل جماعة بين ما كان فوق القبر نفسه وبين ما كان حوله دائرً به كالحوش فأجازه الأكثرون، ومنهم من قيد بما إذا كان صغيراً على قدر الحاجة ولم يسقف ولم تطل أسواره ومنهم من صرح بجوازه ولو كان بيتاً وهو قول المحققين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال ابن حزم في المحلى: فإذا بني عليه بيت أو قائم لم يكره ذلك اهـ .
وقال ابن مفلح في كتاب الفروع من فقه الحنابلة: وذكر صاحب المستوعب والمحرر: لا بأس بقية وبيت وحظيرة في ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه اهـ وهو قول ابن القصار وجماعة من المالكية كما حكاه الحطاب في شرح المختصر.
فصل في نصوص علماء المذهب
وهذا في حق عامة الناس وأما الأولياء والصالحون فنص جماعة على جوازه، بل استحبابه في حقهم تعظيماً لحرمتهم وحفظاً لقبورهم من الامتهان والاندثار الذي يعدم معه الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم.
وقد أفتى العز بن عبد السلام بهدم القباب والبيوت والأبنية الكثيرة الواقعة في قرافة مصر، لأنها واقعة في أرض موقوفة على دفن المسلمين واستثنى من ذلك قبة الإمام الشافعي قال: لأنها مبنية في دار ابن عبد الحكم وهذا منه ذهاب إلى جواز بناء القباب على مثل قبر الإمام الشافعي (رضي الله عنه) إذا كان ذلك في الملك ولم يكن في أرض الحبس.
بل أفتى الحافظ السيوطي باستثناء قبور الأولياء والصالحين ولو كانت في الأرض المحبسة ووافقه جماعة ممن جاءوا بعده من فقهاء الشافعية وقد ذكر هو ذلك في جزئه الذي سماه " بذل المجهود في خزانة محمود " فقال: الوجه الرابع أن من قواعد الشرع أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه وذلك معلوم. فإذا كان هذا في نص الشارع ففي نص الواقف أولى فيقال إن مقصود الواقف تمام النفع وتمام الحفظ، فإذا وجد من يحتاج إلى الانتفاع بها في تصنيف وذلك لا يمكن على الوجه الأتم في المدرسة ووثق بتمام حفظه وصونه جاز الإخراج له، ويستثنى من المنع ويخص عموم لفظ الواقف بهذا المعنى المستنبط كما خصص عموم قوله تعالى: (أو لامستم النساء) واستثنى منه المحارم بالمعنى المستنبط وهو الشهوة، ولا دليل لاستثناء المحارم من آية أو حديث سوى هذا الاستنباط فكذلك هنا. وقد ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه أن في بعض السنين ببغداد منع معلمو الأطفال من تعليمهم في المساجد إلا رجلا واحدا كان موصوفاً بالخير فاستثنوه من المنع، وأنهم استفتوا الماوردي صاحب الحاوي من أئمتنا والقدوري من أئمة الحنفية وغيرهما فأفتوا باستثنائه واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم بسدل كل خوخة في السجد إلا خوخة أبي بكر فقاسوا استثنائهم لهذا الرجل على استثناء خوخة أبي بكر، وهذا الاستنباط دقيق لا يدركه إلا أئمة المجتهدون كالماوردي والقدوري ونحوهما. وقد استندت إلى قولهم هذا قديماً حين استفتيت في أبنية القرافة فأفتيت بهدمها كما هو المنقول إلا مشاهد الصالحين فاستندت في هذا الاستثناء إلى ما صنعه الماوردي والقدوري اهـ.
وهذا إنما هو لأجل كونها واقعة في الأرض الموقوفة وأما ما لم يكن فيها فقوله فيه الجواز مطلقاً.
وفي حواشي البجيرمي على شرح الخطيب على متن أبي شجاع: ولو وجدنا بناء في أرض مسبلة ولم يعلم أصله ترك لاحتمال أنه وقع بحق قياساً على ما قرروه في الكنائس. نعم استثنى بعضهم قبور الأنبياء والشهداء والصالحين ونحوهم قال البرماوي. وعبارة الرحماني: نعم قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقية لإحياء الزيارة والتبرك قال الحلبي ولو في مسبلة وأفتى به وقال أمر به الشيخ الزيادي مع ولايته اهـ.
وفي المنتزع المختار من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار يعني الزيدية مع حواشيه: والثاني من المكروهات الأناقة بقبر الميت وهو أن يرفع بناؤه زائداً على قدر شبر فإن ذلك مكروه، وإنما يكره إذا كان الميت غير فاضل مشهور الفضل ولا بأس بما يكون تعظيماً لمن يستحقه كالمشاهد والقباب التي تعمر للأئمة والفضلاء فلو أوصى من لا يستحق القبة والتابوت بأن يوضع على قبره قال المؤيد بالله يمتثل لأنه مباح وقيل لا اهـ (1)[2] .
وفي شرح العميري على العمل الفاسي والعمل بالبناء على القبور جاز أيضاً وقد كتب شيوخنا سيدي عبد القادر الفاسي: في ذلك بما نص المراد منه ولم ينزل الناس يبنون على مقابر الصالحين وأئمة الإسلام شرقاً وغرباً كما هو معلوم وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشي والحفر وغير ذلك، والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها، ولو وقعت المحافظة من الأمم المتقدمة على قبور الأنبياء لم تندرس وتجهل بل اندرس أيضاً كثير من قبور الأولياء والعلماء لعدم الاهتمام بها وقلة الاعتناء بأمرهم اهـ، ذكر ذلك لمن سأله عن البناء على ضريح مولانا عبد السلام بن مشيش نفعنا الله به وما يؤثر في النهي عن البناء على القبر إنما ذاك حيث يكون القصد به المباهاة والمفاخرة اهـ.
وفي مسائل المسناوي أنه سئل عن البناء على قبر الرجل والمرأة اللذين ترجى بركتهما في الحياة وبعد الموت بقصد التمييز والتعظيم لقبره ومقامه ويكون البناء حسناً بالتزليج هل يجوز ذلك أم لا؟ وعلى الجواز فهل من أنفق على ذلك البناء من ماله أو صنعه بيده يثاب على ذلك أو لا ثواب له؟. فأجاب إن البناء على من ذكر بقصد ما ذكر جائز بل مطلوب إذا كان في أرض مملوكة للباني لما ذكره بعض المحققين من شيوخ شيوخنا أن فيه جلب مصلحة الانتفاع بالصالحين ودفع مفسدة امتهانهم بالحفر والمشي وغير ذلك. إذ لولا البناء لاندرست قبورهم كما اندرست قبور الأنبياء عليهم السلام فتبطل زيارتهم وهي مطلوبة شرعاً – كما لا يخفى وقد أشار إلى مطلوبيتها وما فيها من الفوائد الشيخ الإمام العارف الرباني أبو إسحاق إبراهيم التازي الوهراني في قصيدته التي أولها.
زيارة أرباب التقى مرهم يبري ومفتاح أبواب السعادة والخير
وفي نوادر الأصول عن فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تأتي قبر حمزة (رضي الله عنه) في كل عام فترمه وتصلحه لئلا يندرس أثره فيخفى على زائره وفي فتاوى ابن قداح: إذا جعل على قبر من أهل الخير علامة فهو حسن والعلامة المميزة هو البناء الخاص لاشتراك غيره اهـ.
وفي شرح السجلماسي على العمل الفاسي: مما جرى به العمل لفاس وغيره تحلية قبور الصالحين بالبناء عليها تعظيماً، كما أفتى به الإمام سيدي عبد القادر الفاسي والد الناظم ثم ذكر فتواه السابقة، ثم قال جواز البناء على القبور منقول عن ابن القصار وإذا كان ذلك على مطلق القبور مع عدم قصد المباهاة كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعاً أجوز، بل حيث كان القصد بالبناء التعظيم ينبغي أن يكون مشرفاً بالبناء على البيوت بالنقش والتزويق، لأن ذلك كله من كمال التعظيم اهـ باختصار.
وفي شرح الرسالة لجسوس ويكره البناء على القبور وقد يجرم وقد يجوز إذا كان للتمييز ويستثنى قبور أهل العلم والصلاح فيندب لينتفع بزيارتهم.. بذلك جرى العمل عند الناس شرقاً وغرباً من غير نكير اهـ.
وفي شرح التوبشتي على المصابيح: وقد أباح السلف البناء على قبور المشايخ والعلماء المشهورين ليزورهم الناس وليستريحوا بالجلوس فيها اهـ.
وفي شرح زين العرب على المصابيح أيضاً: وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين يزورها الناس وليستريحوا إليها بالجلوس في البناء الذي على قبورهم مثل الرباطات والمساجد اهـ.
وفي مصباح الأنام وجلاء الظلام للعلامة علي بن أحمد الحداد: ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين مخالفاً للإجماع السكوتي على الأنبياء والصالحين عصور ودهور صالحة. قال تلميذ ابن تيمية الإمام بن مفلح الحنبلي في الفصول: القبة والحظيرة في التربة يعني على القبر إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبله كره للتضييق بلا فائدة ويكون استعمالاً للمسبلة فيما لم توضع له اهـ. قال ابن القيم الحنبلي: ما أعلم تحت أديم السماء أعلم في الفقه على مذهب أحمد من ابن مفلح اهـ. وقوله في المسبلة بلا فائدة إشارة إلى أن المقبور غير عالم وولي أما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام وينتفع الزائر بذلك من الحر والبرد والمطر والريح والله أعلم لأن الوسائل لها حكم المقاصد.
فصل في صحة الوقف لضرائح الأولياء
قال ابن حجر في التحفة في كتاب الوصايا: ويظهر أخذا مما مر ومما قالوه في النذر للقبر المعروف جواز صحتها كالوقف لضريح الشيخ الفلاني ويصرف في مصالح قبره والبناء الجائز عليه ومن يخدمونه أو يقرءون عليه. ويؤيد ذلك ما مر آنفاً من صحتها ببناء قبة على قبر ولي وعالم. أما إذا قال الشيخ الفلاني ولم ينو ضريحه ونحوه فهي باطلة أي الوصية اهـ، ونص أيضاً على أن القبة في غير مسبلة على العالم والولي من القرب، فقال في التحفة في باب الوصية: وإذا أوصى لجهة عامة فالشرط أن لا يكون معصية.. إلى أن قال وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة على قبر عالم في غير مسبلة اهـ. ومنعه في المسبلة على العالم ونحوه رده عليه الحلبي المحشي على المنهج وعبارته، واستثنى قبور الأنبياء (عليهم السلام) والصحابة (رضي الله عنهم) والعلماء والأولياء (رحمهم الله) فلا تحرم عمارتها في المسبلة لأنه يحرم نبشهم والدفن في محلهم، ولأن في البناء تعظيماً لهم وإحياء لزيارتهم ولا تغتر بما وقع لابن حجر كغيره في هذا المحل أي في المسبلة لا في المملوكة اهـ.
قال طاهر بن محمد العلوي: وإنما جعل ابن حجر وغيره القبة على الولي في غير المسبلة والموقوفة قربة لأن العلماء نصوا على أن تمييز العالم والصوفي حياً وميتاً مطلوب أخذا من قوله في حق نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقد علمت أن القبة من عصور وقرون عليهم وعلى الأنبياء (عليهم السلام) قال ابن حجر في شرح العباب: وأما المحرمات فلم يعهد في زمان من الأزمنة إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم عليها كيف وهذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة وإذا عصمت من ذلك كان إطباقهم جميعاً خاصتهم وعامتهم على أمر حجة على جوازه في أي زمان كان سواء الأزمنة الأولى أ, الأزمنة المتأخرة، وكلام الأصوليين صريح في أن الإجماع الفعلي حجة كالقولي اهـ.
فصل في جواز تزيين المساجد
وفي رسالة الشيخ الطيب ابن كيران: وقد اختار غير واحد من الشيوخ الجواز في بناء القباب على الصالحين وتعليق ستور الحرير وغيره وإيقاد المصابيح ونحو ذاك، ثم ذكر كلام الفاسي السابق وأقوال المالكية التي ذكرها الخطاب ثم قال: وفي مسائل الصلاة من نوازل البرزلي سئل عز الدين عن نصب الشموع والقناديل في المساجد للزينة لا للوقود وعن تعليق الستور فيها هل هو جائز أم لا؟. وكذلك فعل مثله في مشاهد العلماء وأهل الصلاح فأجاب: تزيين المساجد بالشمع والقناديل لا بأس به لأنه نوع من الاحترام والإكرام، وكذلك الستور وإن كانت من الحرير احتمل أن تلحق بالتزيين بقناديل الذهب والفضة واحتمل أن يجوز ذلك قولاً واحداً لأن أمر الحرير أهون من الذهب والفضة. ولذلك يجوز استعمال المنسوج من الحرير وغيره إذا كان الحرير مغلوباً ولا يجوز مثل ذلك في الذهب والفضة، ولم تزل الكعبة تستر إكراماً لها واحتراماً فلا يعد لحاق غيرها من المساجد بها وإن كانت الكعبة أشد حرمة من سائر المساجد. وأما مشاهد العلماء وأهل الصلاح فحكمها حكم البيوت فما جاز في البيوت جاز فيها وما لا فلا اهـ .
فصل في الخلاف في جواز البناء حول القبور
وفي رسالة الشيخ إسماعيل التميمي التونسي: وأما البناء على القبور إذا كان حولها كالقبة والبيت والمدرسة وكان في ملك الباني فذهب اللخمي إلى المنع وذهب ابن القصار إلى الجواز ووافقه ابن رشد على ذلك فنقل عنه المواق البناء على نفس القبر مكروه وأما البناء حوله فإنما يكره من جهة التضييق على الناس ولا بأس به في الأملاك اهـ. ومن المعلوم في المذهب تقديم قول ابن رشد على اللخمي قضاء وفتياً لا سيما وقد وافق في ذلك ابن القصار وهو من كبار الأئمة النظار، وقد أشار بن ناجي إلى ترجيحه واعترض على المازري تشهيره للمنع قائلاً: لا أعرف من قال به إلا اللخمي قال يمنع بناء البيوت لأن ذلك مباهاة ولا يؤمن أن يكون فيها من الفساد. ولقائل أن يقول لا خلاف بينهما، لأن اللخمي علل بالمباهاة وعدم أمن الفساد وابن القصار لا يخالفه في ذلك، والكلام مفروض في الجواز الذاتي إذا سلم المحل مما يؤدي إلى المنع. فالقولان في وفاق ويصير البناء على قبور الصالحين قبة أو بيتاً أو مدرسة أو نحوها جائزاً من حيث ذاته وظاهر كلام من تكلم على الجواز أنه يجوز بناء مسجد عليه. ونقل بعض شراح الرسالة عن جمال الدين الأفقهي أنه استثنى بناء المسجد ولعله لما ورد من النهي في ذلك، والنهي معلل بسد الذريعة لأنه يؤدي إلى الصلاة إلى القبر فيؤدي إلى عبادتها فالمنع فيه عرض يزول بزوال ذلك العارض وكلامنا في جوازه من حيث ذاته اهـ.
هذا محصل ما لفقهاء المذاهب الأربعة وغيرها في المسألة. والصحيح الذي يدل عليه الدليل ويقتضيه النظر أن البناء حول القبر جائز سواء كان حوشاً أو بيتاً أو قبة أو مسجداً، وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات أمر خارج عن حكم البناء في ذاته، لأنها عوارض لها حكم خاص بها يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها ككونه في الأرض الموقوفة أو المسبلة أو قصد به المباهاة أو الزينة ونحو ذلك مما يذكرونه فإنه لا تعلق له بحكم البناء فلا نتعرض له لأنه خروج عن الموضوع، وإنما المقصود بيان حكم البناء في ذاته وهو جائز حول القبر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس كما سنذكره بعد أن نقدم مقدمة تمهد السبيل لقبول تلك الأدلة وتزيح الأشكال الواردة عليها من النصوص المعارضة لها بتحقيق معناها وبيان مراد الشارع ومقصوده منها بياناً يجمع بين ما يبدو ظاهراً من التعارض بينها فنقول:
اعلم أن الخلاف في جواز البناء حول القبور إنما نشأ من الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أو لا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً. فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي لاتفاف بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف. ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته. واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع.
فصل في بيان الخطأ في فهم المعنى وفي فهم مراد الشارع
أما الخطأ في المعنى فإن القائل بالكراهة فهم أن النهي عن البناء عام والدليل يدل على أنه خاص بالبنا الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف على الموضوع للاستعلاء. فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة، فإن اللفظ لا يتناوله وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به (1)[3] وهي متعددة كما سأذكره.
وأما الخطأ في فهم مراد الشارع ومقصوده فإن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البناء على القبر على أقوال:
بيان العلة التي اختلف في النهي من أجلها
وسرد الأقوال فيها وهي ثمانية
القول الأول
إن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار. ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة، بل هو من الفقهاء من لا يقول بنسخه ويتمسك بوجوب الوضوء منه، ولهذا المعنى لم يخصصوا النهي بظاهر القبر بل كرهوا البناء بالأجر داخل القبر لأن العلة واحدة بل هي داخل القبر أولى لقرب ما مسته النار من الميت وملاصقته لجسمه، وكأنهم أخذوا هذا من وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجريدة الرطبة على القبرين وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ". فرأوا أن ما مسته النار أشد من اليابس بالشمس والهواء. وهذا القول حكاه الحافظ العراقي في شرح الترمذي وذكره جمع من الفقهاء في كتبهم.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أرقم وجماعة.
قال ابن أبي شيبة ثنا معتمر بن سليمان عن ثابت بن زيد قال حدثني حمادة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم قال: مات ابن لزيد يقال له سويد فاشترى غلام له أو جارية جصاً وآجره، فقال له زيد: ما تريد إلى هذا؟. قال: أردت أن أبني قبره وأجصصه. قال: جفوت ولغوت لا يقربه شيء مسته النار.
وقال أيضا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ليث عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً ولا تقربوني جصاً ولا آجراً ولا عوداً ولا تصحبنا امرأة.
وقال أيضاً حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره الآجرة. وقال أيضاً حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم.
حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر ويستحبون القصب ويكرهون الخشب.
القول الثاني
إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه. قالوا: ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه. ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه.
قال ابن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحق عن تمامة بن شفي قال خرجنا غزاة في زمن معاوية إلى هذا الدرب وعلينا فضالة بن عبيد، قال فتوفى ابن عم لي يقال له نافع فقام معنا فضالة على حفرته، فلما دفناه قال: خففوا عن حفرته فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر بتسوية القبر.
القول الثالث
إن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله.
قال ابن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي فزارة عن مولى ابن عباس قال: قال لي ابن عباس: إذا رأيت القوم قد دفنوا ميتاً فأحدثوا في قبره ما ليس في قبور المسلمين فسوه بين قبور المسلمين. ونص على هذا أيضاً بعض الفقهاء كالعدوي في حاشيته على شرح الرسالة وغيره.
القول الرابع
إن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد، كما رغب فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) رواه أحمد والطحاوي من حديث جرير. والأربعة من حديث ابن عباس. واللحد إذا وع البناء عليه لم يبق سبيل إلى دفن الغير فيه. ذكره بعض الفقهاء وشراح الحديث وأشار إليه السرخسي في المبسوط .
القول الخامس
إن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه. وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين ذكره ابن قدامة في المغني وأشار إليه ابن مفلح في الفروع.
القول السادس
إنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة، وهذا نص عليه الشافعي في الأم، والسرخسي في المبسوط، وابن قدامة في المغني، وكثير من الفقهاء الحنفية.
القول السابع
إنه يدعو إلى الجلوس على القبر. والجلوس عليه منهي عنه لما فيه من أذاية الميت بامتهانه ولهذا استحبوا أن يكون القبر مسنماً ولا يكون مسطحاً لأن التسنيم يمنه من الجلوس، ذكره بعضهم.
القول الثامن
إنه يحول بين الميت وسماع النداء والذكر وتلاوة ما يتلى على قبره من القرآن وسلام المسلم عليه. ذكره ابن قدامة في المغني ونقله الحطاب عن بعض فقهائهم.
وذكره جمع منالشافعية واستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((لا يزال الميت يسمع الأذان مالم يطين قبره)). وعلوم أن طمس القبر بالبناء أشد من طمسه بالطين والحديث المذكور هكذا يحتجون به من غير عزو ولا بيان حال وهو عند الحاكم في تاريخ نيسابور والديلي في مسند الفردوس من طريقه، ثم من رواية محمد بن القاسم بن مجمع ثنا أبو مقاتل السمرقندي ثنا محمد بن ثابت الأنصاري عن كثير بن شنطير عن الحسن عن عبد الله بن مسعود وكثيراً ليس بشيء وبأن أبا مقاتل قال ابن مهدي لا تحل الرواية عنه قال ابن الجوزي: غير أن المتهم بوضعه هو محمد بن القاسم فإنه كان عالماً رأساً في الذابين الوضاعين اهـ ولم يتعقبه الحافظ السيوطي بشيء وهكذا يحتج الفقهاء في أكثر مسائلهم بالموضوع والمنكر والواهي بعد اتفاقهم على عدم جواز الاحتجاج به.
فهذه العلل إنما يأتي أكثرها في البناء الواقع فوق القبر، لأنه الذي يقع به الثقل والطمس المانع من السماع والتشبه بالكفار ويمكن من الجلوس على القبر ويمنع من الدفن معه ويلتصق بالقبر وفوق الميت ما مسته النار لا مكان حول القبر بعيداً عنه كالقبة والبيت والمدرسة ونحوها. أما التعليل بكونه من الزينة التي لا تنبغي لأهل الآخرة فعله باطلة من وجهين:
أحدهما: أن البناء على القبر ليس من الزينة في شيء ولا يراد به الزينة وإنما يراد به حفظ القبر من الدوس والامتهان واندثار الأثر الذي لا يعرف معه القبر، وإذا قصد به بعضهم الزينة وفعل به ما هو منها فذاك أمر زائد على البناء، فيكون الحكم متعلقاً به لا بنفس البناء.
ويقال حينئذ في تزيين بناء القبر وتزويقه والتغالي فيه مكروه أو محرم لا أصل البناء
الآخر: أن كون الزينة الدنيوية لا تنبغي لأهل الآخرة دعوى مجردة عن الدليل فهي باطلة. فأن الشارع أم بتزيين الميت وتحسين كفنه وتطييبه. ونص الفقهاء على استحباب تقليم أظافره وإصلاح شعر لحيته ورأسه ونحو ذلك من أمور الزينة التي لم تطلب للحي إلا في العيدين والجمعة. وأيضاً فلو فرضنا أن البناء من زينة الدنيا فهو في الدنيا لأهل الدنيا، لأن ظاهر المقبرة من الدنيا، وإنما الآخرة باطنها فهو تعليل باطل. وكذلك التعليل بالتمييز فإن التمييز وصف لازم لكل شيء إذ ما من شيء إلا وله ما يميزه عن غيره، ولو سلمنا كراهته فإن ذلك خاص بما لا نفع فيه ولا حاجة تدعو إليه إلا قصد التمييز عن الناس والترفع عنهم، وليس البناء على القبر كذلك. نعم يقعالتمييز بالقباب للأولياء والصالحين، لأن الشرع أمر بتعظيمهم وحض على تمييزهم وتخصيصهم بالاحترام، بل أمر بتمييز كل من له رتبة ومنزلة ولو كانت دنيوية فقال: ((أنزلوا الناس منازلهم)) وكذلك كانت معاملته صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الخلق، ودلت أصول شريعته على ذلك ونص عليه الفقهاء والصوفية والأولياء الذين هم أبعد الناس من التصنع والتزلف كما بيناه في غير هذا الموضع، فلم يبق مقبولاً إلا العلل الأخرى وهي خاصة بالبناء الواقع على نفس القبر فوقه لا الذي حوله دائراً به، فلذلك كان مخطئاً من حمل النهي على العموم وأدخل فيه القباب والمدارس والأحواش، لأنها غير داخلة في النهي.
فصل في النهي عن بناء المساجد على القبور
وهذه العلل إنما هي في النهي الوارد في مطلق البناء، وأما النهي عن بناء المساجد على القبور فاتفقوا على تعليله بعلتين:
إحداهما: أنه يؤدي إلى تنجيس المسجد لأن غير المقبرة أطهر منها كما يقول الشافعي في الأم وغيره.
الأخرى: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة، لأنه إذا وقع في المسجد وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه ويؤدي بهم فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه إذا كان في قبلة المسجد فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك.
قال الشافعي في الأم: وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى ويصلى عليه وهو غير مسوى أو يصلى إليه وإن صلى إليه أجزأه وقد أساس. وأخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب)). فأكره هذا للسنة والآثار، وإنما كره والله تعالى أعلم أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً ، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد، ولئلا يوطأ ولأن مستودع الموتى من الأرض ليس بأنظف الأرض وغيره من الأرض أنظف اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها اهـ.
وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في الأصل الخامس عشر بعد أن أورد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاطمة عليها السلام: ((لو بلغت معهم الكدى – أي المقبرة – لما رأيت الجنة حتى يراها جدك أو أبيك)) ما نصه: بعث الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمحو آثار الجاهلية وكان من شأنهم إذا مات لهم ميت أن يخمشوا الوجوه وينتفوا الشعور ويشقوا الجيوب ويخرقوا البيوت فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((ليس منا من حلق أو خرق أو سلق)) ولعن في حديث آخر ناشرات الشعور واللاتي ينعين بأصوات الحمير ونهاهم عنزيارة القبور لحداثة عهدهم بالكفر لما في زيارة القبور من الفتنة حتى استحكم إسلامهم وصاروا أهل يقين وبر وتقوى وصارت القبور فزوروها فإن لكم فيها معتبراً)) وسكت عن ذكر النساء لضعفهن ورقتهم وسرعة افتتانهن، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمنعهن من حضور الجنائز. وفي حديث أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى نسوة في جنازة فقال لهن: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)) وعن أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جنازة فرأى نسوة فقال: ((أتحملنه)). قلن لا قال أتدفنه))؟ قلن لا قال: ((فارجعن مأزورات غير مأجورات)) وعن ابن عباس ((رضي الله عنهما)) قال: "" لعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) فبقى الحظر عليهم إلى آخر الدهر. فإن تخلت امرأة عن هذه الأمور فأتت قبراً لترمه أو تسلم أو تدعو أو تعتبر فهي خارجة من النهي، ثم روى (1)[4] عن فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تأتي قبر حمزة (رضي الله عنه)) في كل عام فترمه وتصلحه.وروى عن غير واحدة من النساء أنها كانت تأتي قبور الشهداء فتسلم عليهم.
فأما مرمة القبر فلئلا يندرس أثره فينبش عنه إذا ذهب رسمه فتبطل الزيارة وهي حق من الحقوق ليس كالذي يسلم من بعد، والتشديد الذي جاء في حديث فاطمة نراه في بدء الأمر ولا نعلم ذلك يحرم الجنة، لكن معناه أن من فعل ذلك كان يخاف عليه أن يسلبه الله الإيمان فإذا سلبه لم ير الجنة أبداً، وأعظم نعمة الله على عبده الإسلام وللإسلام سنن ومنا كمنار الطريق فإذا عمل عملاً يكون فيه إحياء سنن الجاهلية التي أطفأها الله تعالى بسيف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كفر منه الإسلام، والكفور ممقوت غير مأمون عليه السلب. فكأن إتيان المقابر من سنن الجاهلية فغلظ الزجر لتموت تلك السنن اهـ ولا يحصى من نص من الفقهاء وشراح الحديث على أن العلة في النهي عن اتخاذ المساجد على القبر هي خشية العبادة.
فصل في التعليل بخشية عبادة القبر
وإذا ثبت ذلك فالعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين وتنشئتهم على التوحيد الخالص واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والإيجاد والتدبير والتصريف. لا فاعل غيره ولا مؤثر في ملكه سواه وأن المخلوق الحي لا قدرة له على جلب منفعة لنفسه زلا دفع مضرة عنها إلا بخلق الله تعالى وإيجاده فضلاً عن الميت المقبور، وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين، فإن من يتخذها عليهم لا يفعل ذلك لأجل أن يعبدهم ويتخذ قبورهم مساجد يسجد إليها من دون الله تعالى، أو يجعلها قبلة يصلى إليها، بل هذا ما سمع في هذه الأمة ولا وجد قط من مسلم يدين بدين الإسلام.
وإنما قصد بتلك القباب مجرد الاحترام وتعظيم قبور الصالحين وحفظها من الامتهان والاندراس الذي ينعدم به الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم، فإذا فرض وجود من بنى قبة أو مسجداً على قبر ليعبده ويتخذه قبلة فهذا كافر مرتد يجب قتله وهدم ما بناه، لأنه لم يبن مسجداً بل بنى كنيسة في صورة مسجد مع أن شيئاً من هذا لم يقع في هذه الأمة والحمد لله.
وكون بعض جهلة العوام يأتي عند قبور الصالحين من التعظيم ما يشبه صورته صورة العبادة لا يكون موجباً لكراهة البناء، لأن ذلك لم يأت من جهة البناء ولا هو العلة فيه، إنما علته الجهل بطرق التعظيم والحد اللائق به شرعاً، ولو كان البناء هو علة ذلك للزم ألا يتخلف عند وجوده مع أن جل من يزور الأولياء المتخذ عليهم القباب والمساجد لا يوجد منه ذلك، وإنما يوجد من قليلين جداً من بعض جهلة العوام. كما أنه يلزم أن لا يوجد إلا عند القبور المبني عليها مع أننا نرى بعض الجهلة يفعل ذلك أيضاً ببعض قبور الأولياء التي لم يبن عليها مسجد ولا قبة ةليس عليهم بناء أصلاً، ونراهم يحلفون بهم وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولا شك.
وهم مع ذلك بعيدون عن قبورهم بل وعن مدنهم وعن أقطارهم فكثير من جهلة العوام بالمغرب ينطق بما هوكفر صراح في حق مولانا عبد القادر الجيلاني (رضي الله عنه) الموجود ضريحه ببغداد وبعد ما بين العراق والمغرب بعد بين المشرق والمغرب وكلهم لم يروا قبر الجيلاني ولا رأوا من رآه ولا من رأى من رآه إلى ما شئت من الإضافات، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء فيسجد له ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده ويجعل يديه من ورائه علامة على التسليم وفرط التضرع والإلتجاء ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى.
بل رأيت أنا من يفعل هذا بقبور الأولياء ورأيت من يفعله مع الأحياء منهم فلو كان جهلهم هذا يوجب تحريم البناء على القبر لأوجب تحريم الصلاح والولاية وتقوى الله تعالى التي ينشأ عنها اعتقادهم المؤدي إلى افتنان الجهلة بهم.
فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر مولانا عبد السلام ابن مشيش (رضي الله عنه) إنه الذي خلق الدين والدنيا !. ومنهم من قال والمطر نازل بشدة: يا مولانا عبد السلام ألطف بعبادك !!. فهذا كفر لم ينشأ عن مسجد ولا قبة فإن القطب ابن مشيش (رضي الله عنه) ليس عليه مسجد ولا زاوية ولا قبة، وإنما هو على رأس جبل بعيد عن الأبنية وحوله حوش بسيط غير مسقف، وداخل الحوش شجر وعشب وأحجار. والقبر لا يظهر له أثره ولا يعرف موضعه أحد، ومع هذا وصل اعتقاد العوام فيه إلى ما سمعت !. وكم من ولي عليه قبة عظيمة ومسجد ضخم واسع لا يزوره أحد بالإضافة إلى أنه يعتقد فيه إلى هذا الحد فإذا ليس ذلك من البناء ولا من القبة والمسجد، وإنما هو فرط الاعتقاد الذي قد ينشأ من ظهور الكرامات المتتابعة على يد ذلك الولي حتى يحصل بها التواتر وترسخ مكانته في نفوس الناس سواء الموجود في بلاده أو البعيد عنه، فلم يبق للمسجد والقبة في ذلك أثر أصلاً، وهؤلاء القرنيون النجديون قد هدموا القباب التي كانت بمكة والمدينة على الشهداء ومشاهير أهل البيت، وصيروا قبورهم مستوية بالأرض ومع ذلك فالناس يهرعون لزيارة تلك القبور ويتوسلون بها ويستغيثون عندها.
ولولا أن ابن سعود جاعل خفراء على مثل قبر حمزة سيد الشهداء (رضي الله عنه) يمنعون الناس من تقبيل القبر والسجود له ورفع الصوت بالاستغاثة به لما انقطع ذلك ولا ذهب بانهدام القبة فحمزة رضي الله عنه هو حمزة بقبة أو دون قبة وفاطمة الزهراء هي فاطمة بنت رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بقبة أو بدون قبة. وخديجة أم المؤمنين كذلك ومالك هو الإمام مالك. وهكذا سائر المدفونين بالبقيع والمعلاة من المشاهير لا دخل للبناء والقبة والمسجد في تعظيمهم وزيارتهم، وإنما الباعث على ذلك هو الاعتقاد الناشئ عن ولايتهم وصلاحهم ومكانتهم السامية عند ربهم الذي وضع لهم المحبة والاعتقاد في القلوب.
فكان على الجهلة القرنيين المبتدعة الضالين أن يهدموا الاعتقاد ويقلعوا أثره من النفوس ويقضوا على الصلاح والولاية والتقوى والخشية التي يكرم الله تعالى صاحبها، بوضع ذلك في القلوب حتى يستريحوا من تعظيم المخلوق والتوسل والاستغاثة به.
أم هدم البناء فلا يأتي لهم بنتيجة ولو أتى بها لما احتاجوا إلى حراس عند القبور يمنعون من ذلك بعد الهدم.
فأنا زرت قبر حمزة (رضي الله عنه) بعد هدم البناء الذي عليه بأزيد من خمس عشرة سنة ووجدت الحارس قائماً عند قبره يمنع الزوار من القرب من القبر والتمسح به وتقبيله، ولم يكف مضي خمس عشرة سنة على الهدم في قلع ذلك من النفوس.
وهكذا يبقى ذلك ما بقي الإيمان ومحبة الله تعالى ورسوله ومحبة أوليائه وأصفيائه. والمقصود أن البناء لا دخل له في تحقيق علة النهي وثبوتها في هذه العصور المتأخرة، بل ذلك قد زال من البناء وانتقل إلى المحبة والاعتقاد فلم يبق حكم متعلق بالبناء، وكان المتمسك بظاهر النهي المعرض عن تحقيق علته ومراد الشارع منه مخطئاً في حكمه غير مصيب في اجتهاده وفهمه.
فصل في معارضة الأحاديث في النهي
عن اتخاذ المساجد على القبور بأدلة أقوى
وأما المعارضة فإن القائل بالكراهية تمسك بالنهي ولم يلتفت إلى ما يعارضه من الأدلة، وذلك مما يوجب الخطأ في الحكم وعدم الإصابة في الاجتهاد. فإن الجمع بين الدليلين واجب مفترض والإعراض عن أحدهما دون ثبوت النسخ حرام والحكم باطل.
فإن النهي عن البناء ورد ما يعارضه مما هو أقوى منه ثبوتاً ودلالة فلا يقبل حكم مع الإعراض عنه وذلك الدليل متعدد نذكر منه هنا خمسة عشر دليلاً.
الدليل الأول على جواز بناء المساجد على القبور:
قول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف (كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قالوا الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) والذين غلبوا على أمرهم هم المؤمنون على الصحيح، لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون، وأما الكافرون فقالوا ابنوا عليهم بنيانا، والدليل من هذه الآية إقرار الله تعالى إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم، فإن الله تعال إذا حكى في كتابه عن قوم مالا يرضاه ذكر معه ما يدل على فساده وينبه على بطلانه إما قبله وإما بعده، فإذا لم ينبه على ذلك دل على رضاه تعالى به وعلى صحته إن كان عملاً وصدقة إن كان خبراً
كقوله تعالى: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) فإنه أعقبه بقوله: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)
وقوله تعالى: (وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) فإنه أشار إلى فساد ما زعموا بقوله بزعمهم
وبقوله تعالى: (سيجزيهم بما كانوا يعملون)
وقوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) فرده بقوله: (فقد جاءوا ظلماً وزوراً)
وقوله تعالى: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) فعقبه بقوله (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا) إلى غير ذلك من الآيات التي يطول ذكرها.
وإن من تأمل القرآن وجده لا يقر على باطل يحكيه قولاً كان أوعملاً إذ كتابه كله حق ونور وهدى وبيان وحجة لله على خلقه فلا يحكي فيه ما ليس بحق ثم يقره ولا ينبه على بطلانه فإذا ذكر نبأ وأقره دل على صحته وصدقه. ولهذا احتجوا في كثير من المسائل بمثل هذا، فاحتج أهل الأصول على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله تعالى حكاية عنهم (لم تك من المصلين ولم تك تطعم المسكين) الآية قالوا فلو كان باطلاً لرده عند حكايته، واحتج الفقهاء على جواز الجعل والضمان بقوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأن به زعيم) وعلى اعتماد قول القتيل دمى عند فلان بقصة البقرة، وعلى النكاح بالخدمة والمنافع بقوله تعالى حكاية عن شعيب (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) إلى غير هذا، فلما حكى الله تعالى عن هؤلاء القوم أنهم قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) ولم يرده ولا تعقبه بذم دل على أنه جائز لا حظر فيه.
فإن قيل هذا مسلم لو لم يرد شرعنا بذم ذلك، فقد صح عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: أن قال: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب) وصح عنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أنه قال – لأم سلمة (رضي الله عنها) حين ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما رأت فيها من الصور – ((أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)). وصح عنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: أنه قال: ((إلا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)).
فالجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول:
أن الله تعالى حكى ذلك عن المؤمنين والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكاه عن اليهود والنصارى وفرق بين حال الفريقين، فإن المؤمنين فعلوا ذلك للتبرك بآثار الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الآية وحفظ أرواحهم وأجسامهم تلك القرون الطويلة. واليهود والنصارى يفعلون ذلك للعبادة والإشراك مع الله تعالى. فالدليلان غير متواردين على محل واحد. فإن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إنما لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد يعبدون فيها تلك القبور ويسجدون إليها أو يجعلونها قبلة لاتخاذهم الأنبياء شركاء مع الله تعالى فيما يستحقه من العبادة. والدليل على هذا قوله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم في نفس الحديث: ((ولا يبقى دينان بأرض العرب)). أي لا تفعلوا مثلهم فتكفروا فيكون بأرض العرب دينان وقد حكم الله تعالى وأمر أن لا يبقى بأرض العرب إلادين واحد: دين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده والكفر لا يكون لمجرد اتخاذ المساجد على القبور ولو للتبرك، وإنما يكون باتخاذها للعبادة والإشراك بالله تعالى. هذا مما لا يشك فيه مسلم وإلا كانت الأمة كلها كافرة. ولم يصدق خبر الرسول صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بأنه لا يبقى دينان بأرض العرب فإن المساجد اتخذت على القبور بعده بقليل بل وفي حياته صلى اللهعليه وعلى آله وسلم كما سيأتي، واتخذ المسجد على قبره الشريف في عصر كبار التابعين وأفضل القرون بعد قرنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بشهادته. وأما الآية فأشارت إلى جواز اتخاذ المساجد على قبور الصالحين للتبرك بهم وزيارتهم وحفظ مآثرهم كما ذكره جمع من المفسرين فدليل الكتاب واد ودليل السنة في واد آخر يؤيده.
الوجه الثاني
وهو أنه لو كان كل من بنى على المسجد قبراً ولو للتبرك والزيارة ملعوناً كما في الحديث لكان هؤلاء المؤمنون الذي حكى الله عنهم ملعونين أيضاً داخلين في لعنة النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم على من فعل الذي حكاه الله عنهم، ولو كانوا كذلك لكا سكت الله تعالى عن ذمهم ولعنهم والإشارة إلى ضلالهم وخروجهم عن الصراط المستقيم فيما أتوا كما عرف من عادته في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن الباطل الإقرار على حكاية المحرم الملعون فاعله، فدل ذلك على أن ما فعله هؤلاء القوم هو غير ما يفعله اليهود والنصارى الذي لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم، وأن فعلهم جائز لا شبهة فيه، كما أنه لا شبهة لنا فيه لا من جهة إتباعهم فإنه لا يلزمنا شرعهم. ولكن من جهة ذكره في كتابنا المنزل بشريعتنا اللازمة لنا المأخوذة من منطوقه ومفهومه وتصريحه وتلويحه يؤيده أيضاً.
الوجه الثالث
وهو أنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تماثيل)). فاتخاذهم الصور والتماثيل فيه دليل على أنهم يفعلون ذلك لأجل عبادتهم، وقد شهد العيان بذلك وأثبت التاريخ مثله. وأنهم ابتدأوا عبادة الأصنام بعبادة صور الصالحين وقبورهم، وهذا لا يوجد منه شيء عند المسلمين.
الوجه الرابع
أن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء. والذين يتخذون القبور مساجد)) رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. وقد ثبت بالسنة أن الذين تدركهم الساعة وهم أحياء كلهم كفار مشركون عبدة أصنام، وأن الساعة لا تقوم حتى لا يبقى على وجه الأرض من يوحد الله تعالى ولا ينطق باسمه، وأن القرآن يرفع من الصدور، وتنفخ ريح حمراء فتقبض روح كل مؤمن ويبقى همج رعاع لا يدينون بدين فعليهم تقوم الساعة، فاقتران الذين يتخذون القبور مساجد بهم دليل على كفرهم ومشاركتهم إياهم في العلة التي بها كانوا شرار الخلق. وما يذكره أهل الأصول من ضعف دلالة الاقتران تمسكاً ببعض الصور المفيدة لذلك، هو أضعف من ضعف دلالة الاقتران في زعمهم فلا ينبغي الالتفات إليه لأنه مكابرة للحس.
فإن قيل إن الكفار كلهم شرار الناس إذ لا شر أعظم من الكفر بالله تعالى فكيف جاز تخصيص هؤلاء من بينهم.
فالجواب:
أن ذلك لا يغالهم في الشر والفساد واختصاصهم بجرائم وعظائم مضافة إلى الكفر، أما الذين تدركهم الساعة وهم أحياء فقد دلت السنة وذكرت من أوصافهم وفساد أخلاقهم وارتكابهم من الموبقات مالم يأته أحد من الكفار وما هو محرم في سائر الأديان، بل وما لا تساعد عليه الإنسانية بقطع النظر عن الديانة، فلذلك كانوا شرار الناس، وقد شهد العيان والحمد لله بصدق ما أخبر به النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فإن أشراط الساعة قد ظهرت، وأماراتها قد تتابعت، وظهرت طلائع أولئك الأشرار الذين عليهم تقوم، وهم العصريون المفسدون الزنادقة الملحدون، الذين يسمون المؤمنين المتمسكين بالدين جامدين رجعيين، فرأينا من كفرهم وإلحادهم ومروقوهم وفجورهم وفساد أخلاقهم وقلة حيائهم وشدة وقاحتهم وتهتكهم ومحاربتهم للدين، وعنادهم في كفرهم وازدرائهم بالدين وأهله ورفعتهم قدر من من يحارب الدين ويخرق حدوده ويهتك الشريعة ويسعى في القضاء عليها وإطرائه والمبالغة في مدحه، والكذب في وصفه بما ليس فيه، وغير ذلك من أوصافهم الممقوتة التي يشهد معها كل مؤمن بالله ورسوله أنهم شرار الخلق، هذا وهم في بداية أمرهم، فكيف إذا وصلوا إلى نهايته عند قيام الساعة. كما أننا نرى الكفار أيضاً قد مرقوا من دينهم الباطل وظهر من أخلاقهم الفاسدة وابتداعهم وتهتكهم وفجورهم مالم يكن في أسلافهم وما هو معدود في دينهم من الكفر والمروق والعصيان والفسوق فبذلك كانوا شرار الناس زيادة على كفرهم وأما الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد للسجود إلأيها وعبادتها فإنهم كفروا بعد الإيمان وأشركوا بعد التوحيد زجهلوا بعد العلم وارتدوا عن الدين بعد اعتناقه والتحقق من الحق ومعرفته فكانوا شر خلق الله تعالى ولذلك كان من ارتد بعد إيمانه يقتل ولا تقبل توبته، وكان اليهود مغضوباً عليهم والنصارى ضالين، وكان الكافر العالم أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
والوجه الخامس
إن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال في الذين يتخذون القبور مساجد ((أولئك شرار الخلق)) وثبت بالكتاب والسنة المتواترة أن أمته خير أمة أخرجت للناس، وأنها أشرف الأمم وأفضلها على الإطلاق، وأنهم عدول يتخذهم الله تعالى شهداء على الأمم السابقة ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)) ((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) وذكر الله لهم من الفضل ما رغبت الأنبياء والمرسلون فيه وتمنوا أن يكونوا من أمته صلى اللهعليه وعلى آله وسلم وأخبر صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أنهم لا يجتمعون على ضلالة، وإن من لم يتبع سبيلهم فهو من أهل النار ((ومن يتبع غير سبيل المؤمنين)) الآية. وأن ما رأوه حسناً فهو عند الله حسن وكثير من أمثال هذا وقد علم الله تعالى في سابق علمه وما قضاه وقدره في أزله أن هذه الأمة ستتفق وتجمع أولها عن آخرها على بناء المسجد على قبر نبيها أشرف الأنبياء وأفضل المرسلين، كم علم ذلك بإعلام الله تعالى إياه وأشار إليه كما سيأتي، وأنهم سيتفقون أيضاً سلفاً وخلفاً على اتخاذ المساجد على قبور الأولياء والصالحين والعلماء والعاملين، ومن أولئك الأولياء نفسهم من يتخذها على من قبله من شيوخه ويزره في حال بناء المساجد والقباب عليهم بل ويشد الرحال من البلاد البعيدة إلى زيارتهم، وقد شد الإمام النووي الرحلة من الشام إلى مصر لزيارة قبر الإمام الشافعي الذي عليه مسجد وقبة، وكم له من ألف نظير في المشرق والمغرب. فيلزم من هذا التناقض بين خبر الله تعالى وخبر الرسول، وأن تكون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وشر أمة أخرجت للناس تتفق على فعل المنكر وتبني على قبر نبيها المسجد، وكذلك على قبور الأولياء والصالحين منها، وتكون أمة وسطا عدولاً، وأمة فاسقة متفقة على عصيان الله تعالى ورسوله ومخالفة أمره جهراً، وتكون أمة مرحومة مغفوراً لها كما قال النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم وأمة ملعونة باتخاذها المسجد على قبرنبيها كما لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ويكون أولياء الأمة وعلماؤها العاملون أصحاب المناقب والكرامات الظاهرة أحباء الله تعالى وأصفياءه الذي لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، في حال كونهم أعداء الله تعالى وعصاته ومحاربيه بمخالفة أمره والاتفاق على المنكر المحرم الملعون فاعله، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة حتى يكون إجماعهاعلى لأمر حجة ودليلاً شرعياً كالكتاب والسنة، وأن الأمة تجتمع على الضلالة وتتفق على المنكر ومخالفة الله تعالى وأمر رسوله وهذا محال.
الوجه السادس
أنه معلل بخشية العبادة كما تقدم وكما هو مصرح به في الحديث نفسه فلا يكون تشريعاً عاماً في كل زمان بل هو التشريع المؤقت بزمن خشية وجود العلة، وهو زمن قرب عهد الناس بالإشراك دون الزمان الذي لم يعد أهله شركاً ولا دار في خلدهم شيء منه، بل نشأوا على الإيمان واليقين والتوحيد واعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، فهو غير معارض لدليل الكتاب العام في كل زمان، بل هو مخصص لعمومه بزمن ارتفاع خشية العبادة، وهو زمن استقرار الإيمان وانتشار التوحيد ورسوخ العقيدة رسوخاً لا يتطرق معه أدنى خلل ولا شك في وحدانية الله تعالى وتفرده بكل معاني الألوهية والربوبية.
ومثل هذا في الشريعة كثير جداً وهو التشريع المؤقت الذي يشرع لعلة ثم يزول بزوال علته، إلى أنه تارة يكون منصوصاً عليه من الشارع نفسه وهو الناسخ ,المنسوخ، وتارة لا ينص الشارع على زوال الحكم ونسخه لاحتمال وجود العلة في كل وقت، ولكنه يشير إلى أن ذلك الحكم غير لازم على الدوام إنما يلزم عند وجود علته فيقول أو يفعل ما يخالف الحكم الأول حتى يظن في بادئ النظر أن بين الأمرين تعارضاً، والواقع أن الحكم الأول كان عند وجود علته، والثاني وقع عند انتفائها، ولذلك كان بعض الصاحابة إذا أشكل عليه الأمر وقال للنبي: صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إنك يا رسول الله قد فعلت كذا أ, قلت كذا يعني مما يخالف قوله أو فعله الحاضر يجيبه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بقوله. إنما فعلت ذلك لأجل كذا، ولما رأيت من كذا. وهكذا يكون النهي الوارد عنه في حق من توجد منه علة النهي والإذن والجواز في حق من تنتفي عنه علته.
ومن النوع الأول:
نهيه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم عن زيارة القبور أولاً. لما كانوا قريبي عهد بالشرك، فلما استقر الإيمان في نفوسهم أباح لهم زيارتها للاعتبار والتذكر والزهد في الدنيا، ولكنه مع ذلك أمرهم أن لا يقولوا عند القبور من مخاطبة الأموات مالا يوافق التوحيد ولا يقره الإيمان فقال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) وفي حديث آخر ((فإنها تزهد في الدنيا)) قال ((ولا تقولوا هجراً)) وكذلك نهيه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وعن إدخارها لأجل مجاعة ألمت بالناس، فلما ذهبت قال ((كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وادخروا فإنما نهيتكم من أجل الدافة)) وكذلك نهى في أول الأمر عن القران بين التمرتين لما كان الحال بالمدينة ضعيفاً، ثم أباح ذلك لما وسع الله عليهم.
ومن النوع الثاني:
وهو الأكثر – نهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم النساء عن زياترة القبور فإنه لما أباحها للرجال خص النساء باستمرار النهي وشدد عليهن في ذلك لكونهن ناقصات عقل ويدن، ولأن تشبثهن بالعقائد الباطلة شديد فقال: ((لعن الله زوارات القبور)) وقال لنسوة رآهن في المقبرة ((أتدفن؟ أتحملن؟ ارجعن مأزورات غير مأجورات)) ولكنه مع ذلك مر يوماً بالمقبرة فوجد امرأة جالسة عند قبر ابنها تبكي فقال لها ((اتقي الله واصبري)) فقالت إليك عني فإنك لم تصبي بمصيبتي وكانت لم تعرفه فتركها وانصرف ولم ينهها عن زيارة اقبر كما قال لغيرها ارجعن مأزورات وذلك لأنها إنما زارت قبر ولدها لما تجد في نفسها من الحزن وعدم الصبر على فراقه فلم يتطرق إلى زيارتها ما يخشى من الفتنة بزيارة القبور المعظمة كقبور الشهداء التي كان غيرها من النسوة يزرنها وكذلك من يأتي منهن بعد ممن يزرن قبور الأولياء والصالحين فإن العلة وهي خشية الإفتتان موجودة فيهن فلذلك نهاهن ولعنهن ولم ينه زائرة قبر ابنها.
وكذلك نهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نعي الميت كما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث حذيفة بسند حسن حتى كان كثير من الصحابة والتابعين يوصي عند موته أن لا يعلم بموته تمسكاً بهذا النهي ولكن مه هذا نعى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه بالحبشة ونعى زياد وجعفر أيضاً لما قتلا كما في الصحيح فكان نهيه عن النعي أولاً لقطع عوائد الجاهلية وقلع أثرها من النفوس ثم نعى بنفسه لذهاب العلة وعدم وجودها.
ونهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الطيرة وسماها شركاً ونفى وجودها بالكلية فقال ((الطيرة شرك الطيرة شرك)) ثلاثاً وقال أيضاً ((لا عدوى ولا طيرة)) ومع هذا فكان، يحب الفال وهو من نوع الطيرة فقد قال عروة بن عامر القرشي ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال ((أحسنها الفال ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك)) رواه أبو داود وقال بريدة كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه أسمه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فذكر مثله في العامل رواه أبو داود. وقال أنس بن مالك قال رجل يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((ذروها ذميمة)) فنهى عن التطير وسماه شركاً لما كان يعتقده أهل الجاهلية من تأثير الأشياء بذاتها وطبعها، ومعتقد ذلك مشرك جاعل مع الله فاعلاً ومؤثراً غيره وكان مع ذلك يحب الفال الذي هو من نوعها لاعتقاده أنه مرسل كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((الفال مرسل والعطاس شاهد عدل)) رواه الحكيم في النوادر من حديث الرويهب، ومعناه أنه مرسل من قبل الله تعالى مبشراً للعبد بما سيحدثه الله تعالى له من خير وصلاح وبركة ونجاح،وكان يكره الفال القبيح لعلمه أن الله تعالى أراد خلاف ما يريده العبد منه، ولذلك كان لا يرجع عنده ويأمر بعدم الرجوع عند التطير لعلمه أن ما قدره الله تعالى وأمضاه هو واقع لا محالة سواء رجع المتطير عن ذلك الأمر أو أمضاه، بخلاف أهل الجاهلية فإنهم كانوا يعتقدون أن الحوادث مربوطة بذلك صادرةعنها وأنهم إذا رجعوا عند التطير لا يصيبهم شيء مما قدره الله تعالى وأمضاه.
وكذلك نفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم العدوى في أحاديث متعددة وقال مع ذلك ((فر من المجزوم فرارك من الأسد)) وقال ((لا يوردن ممرض على مصح)) ونفى الغول لما كان يعتقده فيه أهل الجاهلية من العقائد الباطلة وأثبته في حديث قال فيه ((إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان فإن الشيطان إذا سمع النداء أدبره وله حصاص)) وأمر أبا أيوب وأبا هريرة أن يمسكاه لما كان يدخل إلى بيتهما ويأكل لهما من تمر الصدقة ويقول له أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما هو معروف وثابت في السنن وغيرها.
ونهى عن الرقى والتمائم والتولة وسماها شركاً وأمر بها في أحاديث أخرى ونهى الله تعالى عن الاستقسام بالأزلام وشرع لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاقتراع بالعودة وهو نوع من الاستقسام إلا أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الأصنام هي التي كانت تختار لهم وما شرعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو لاعتقاد المؤمنين أن الله تعالى هو الذي يختار لهم بما يخرج من العود فهو خروج من مراد العبد واختياره، إلى مراد الله واختياره، وكم لهذا من نظير يطول ذكره ويتعذر إحصاؤه وعده، بل هو مفرد بالتآليف العديدة التي منها ما هو في عدة مجلدات وقد أراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم تأخر عن ذلك لكون القوم حديثي عهد بجاهلية، ولذلك لما قدم عهدهم بها هدمها عبد الله ابن الزبير وبناه كما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم عزم أن يبنيها عليه وقد ترجم البخاري في صحيحه للحديث الوارد بهذا بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا فيما هو أشد منه ثم أسند عن الأسود قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك كثيراً فما حدثتك في الكعبة؟ فقلت قالت: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((يا عائشة لولا قدم حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون)) ففعله ابن الزبير.
والمقصود أن مبنى الشريعة على مراعاة مصالح العباد الدينية والدنيوية ومن مصالحهم الدينية نهيهم عن كل ما يخل بعقيدتهم وإخلاص توحيدهم لله تعالى وإن كان مباحاً في نفس الأمر لقيام سبب به يؤدي إلى المحظور فإذا انتفى السبب رجع الفعل إلى إباحته الأصلية ومنه بناء المساجد على القبور.
الوجه السابع
وإذا ثبت أنها معللة بخشية العبادة واتخاذها قبلة عند الصلاة فالنهي حينئذ يكون خاصاً بما جعل القبر في قبلته، أما ما جعل القبر فيه ملاصقاً لجداره الغربي بحيث لا يمكن الصلاة إليه أصلاً فهو خارج عن النهي وكثير من المساجد على قبور الأولياء هي بهذه الكيفية.
فبان من هذه الوجوه عدم معارضة الأحاديث لدليل الآية وثبت المطلوب منها وهو الجواز وقد أجاب العلامة التميمي في رسالته عن حديث ((لعن الله اليهود والنصارى)) وحديث ((أولئك شرار الخلق عند الله)) السابقين بقوله: وأما الحديثان الشريفان
فالأول منهما النهي فيه عن بناء المساجد على القبر ليس صريحاً وإنما هو كما قال شيخ الإسلام لازم لاتخاذها مساجد كما اتخاذ المساجد عليها يلزمه اتخاذ القبور مساجد قال وبذلك طابق ترجمة البخاري فيفيد أن النهي عن بناء المساجد معلل بإفضائه إلى جعل القبر مسجداً المؤدى فيفيد أن النهي عن بناء المساجد معلل بإفضائه إلى جعل القبر مسجداً المؤدى إلى عبادته فيكون من باب الذرائع،
والحديث الثاني يفهم منه أن بناء المساجد ذمه معلل بما لزمه عرفاً من جعل التصاوير فيه وعبادة تلك الصور لأنه معنى مناسب للحكم وقد التفت إليه الشرع في غير هذا المحل فيحصل الوقوف بأنه العلة كما تقرر في مسالكها قال شيخ الإسلام في هذا الحديث إن الإمام الشافعي حمله على الكراهة وذلك يؤيد ما قلناه من سد الذرائع لأن الإمام لا يقول بالذرائع فلما وجد علة النهي راجعة إليها حمله على الكراهة لتلك القرينة الصارفة عن الحرمة وإذا كان النهي فيها لسد الذرائع فلا تعارض ما تقدم من دليل الجواز لأن سد الذرائع لا ينافي المشروعية فكثيراً ما يكون الشيء مشروعاً بالأدلة الواضحة ويجر إلى أمر ممنوع فيمنع من تلك الحيثية حتى إذا زالت رجع للأصل وعلى هذا يتنزل ما قاله الأستاذ ابن لب في بعض فتاويه من أن النهي في هذه المسألة مخافة أن تعبد القبور، كما اتفق لمن سلف قبل هذه الأمة وأفتى بناء مسجد بمقبرة اندثرت إذ أمن نبش القبور بأن يكون البناء فوقها دون حفر يصل إلى موضع العظام للأمن في هذه من خشية العبادة المعلل بها النهي وعلى هذا إذا بني المسجد على القبر بلصق الحائط المواجه للقبلة بحيث لا تمكن الصلاة فيه إلا أن يكون القبر خلف المصلي كما هو بزوايا كثيرة في بعض أعمال أفريقية جاز للأمن من الصلاة إليه. وإذا نظرت إلى أن عبادة غير الله تعالى علم من الدين ضرورة منعها وإخراجها المسلم من الدين كانت الذريعة هنا من القسم الملغى لأن ترتيب المقصد فيه على الوسيلة بعيد انتهى.
الدليل الثاني: أن الله قضى باتخاذ المسجد على قبر نبيه.
إن الله تعالى قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ربه جل وعز أعلى قدراً وأحمى جانباً من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله تعالى ملعون فاعله، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان فلو كان اتخاذ المسجد عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممنوعاً متخذه لحمى الله تعالى جانب نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم منه ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره فلما لم يفعل ذلك دل على أنه جائز ومطلوب ومن اعتقد خلاف هذا فهو قرني ممقوت لم يذق للإيمان طعماً ولا عرف من منزلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العيا ومكانته السامية عند ربه شيئاً فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان.
الدليل الثالث: أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يدفن في البناء
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يدفن في البناء فقال ((ما قبر نبي إلا حيث يموت)) وحدث بهذا الصديق رضي الله عنه حين اختلف الصحابة رضي الله عنهم في موضع دفنه فقال قوم في البقيع وقال آخرون في المسجد وقال آخرون يحمل إلى أبيه إبراهيم فيدفن معه فلما حدثهم الصديق رضي الله عنه بما عنده في هذا أجمعوا رأيهم واتفقوا عليه ودفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها وهو دليل صريح على وجود البناء حول القبر وأن النهي خاص بما كان فوقه لأنا بالضرورة نعلم أن النهي عن البناء ليس هو عن فعل الفاعل وبناء البناء، وإنما هو عن وجود نفس البناء على القبر وإذا جوز الشارع وجود الميت داخل البناء فقد جوز البناء إذ لا فارق بين أن يوجد بعد الدفن أو قبله لأن الغاية واحدة والصورة متفقة وهي وجود القبر داخل البناء وإذا جاز ذلك فلا فرق بين أن يكون البناء بيتاً أو قبة أو مدرسة لأن الكل بناء والعلة في ذاته لا في أشكاله وصوره فليس النهي متعلقاً بصورة القبة أو المدرسة بل بذات البناء كيفما وجد، وحيث أجاز الشارع الدفن في البيت الذي هو بناء علمنا أن النهي مخصوص بالبناء كيفما وجد، وحيث أجاز الشارع الدفن في البيت الذي هو بناء علمنا أن النهي مخصوص بالبناء الذي هو فوق القبر للعل السابقة غير عام في جميع البناء.
الدليل الرابع: أن أمره بالدفن في البناء
وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يدفن في بيته الذي هو بناء فقد تقرر في قواعد الفقه أن الرضي بالشيء رضى بما يؤول إليه ذلك الشيء، فالذي تزوج امرأة بعد علمه بمرض كذا فيها ثم تزايد ذلك المرض إلى حد يمنع من الاستمتاع فلا رجوع له لأنه رضي بمبادئه فكان راضياً بما يؤول إليه، وبيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ملاصقاً للمسجد وبابه شارعة إليه حتى كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اعتكف يخرج رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهي في البيت وهو في المسجد وقد علم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أمته ستكثر وأن المدينة ستتسع وتعظم حتى يصل بناؤها إلى سلع كما أخبر هو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وأمر بشد الرحلة إلى زيارة قبره الشريف وإلى مسجده للصلاة فيه ورغب في ذلك بقوله ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) و((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) ومسجده صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في عصره صغيراً لا يسع عشر معشار ربع من يقصده من أمته وقبره الشريف واقع في بيت عائشة الذي تسكنه وهو يعلم ضرورة أنه يتعذر على الأمة زيارته وهو في بيت مملوك لامرأة ساكنة فيه يجب تعظيمها واحترامها كما يجب ذلك في حق من يملكه ويسكنه من بعدها، كما أنه يعلم أن أمته ستدوم إلى قيام الساعة وأن قصدهم لزيارته سيدوم بدوام الأمة وأن البيت الذي سيدفن فيه لا يمكن عادة أن يدوم أكثر من مائة سنة لأنه مبني بالطين واللبن غير محكم البناء فهو يعلم علم اليقين أن بيته المذكور سيؤول أمره إلى أن يدخل في المسجد لإإذا علم ذلك وأمر بدفنه فيه فهو رضي منه بدخول قبره الشريف في المسجد الذي ستصير الأمة به متخذة على قبره مسجداً كما هو الواقع، ومن المحال المقطوع به أن يرضى صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو محرم ملعون فاعله لا سيما فيما يتعلق بجسده الشريف فدل على أن اتخاذ المسجد على قبره الشريف غير محرم ولا مكروه وإذا جاز ذلك في حقه جاز في غيره من باب أولى لأن ما يخشى من الفتنة بقبره أعظم مما يخشى من القتنة بقبر غيره لأن الفتنة إنما تقع من جهة التعظيم ولا يوجد في الأمة من يعظم قبراً أكثر من قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الدليل الخامس:
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده وزاد فأخبر بأن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة وهذا منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى استحباب إدخال قبره الشريف في المسجد لأنه ترغيب يدعو إلى ذلك، إذ المراد فضيلة الصلاة ما بين القبر والمنبر والترغيب فيها في ذلك الموضع إذا لم يكن القبر الشريف داخل المسجد لا تتصور الصلاة بين القبر والمنبر ولا يتأتى التعبير بقوله ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة لأنه إذا كان المنبر وسط المسجد والبيت الذي فيه قبره الشريف خارج المسجد لم يصح في العادة التعبير بالبينية خصوصاً عند إرادة الصلاة فإن البيت وسوره حاجز بين القبر والمنبر مانع من الصلاة في موضعه فلا يقول ما بين قبري ومنبري رياض من إيضا الجنة إلاوهو يريد أن القبر سيكون دخل المسجد ليس بينه وبين المنبر حاجز البيت.
فإن قيل: لفظ الحديث في أكثر طرقه إنما هو ((ما بين بيتي ومنبري)) حتى إن البخاري لما ترجم للحديث بباب فضل ما بين القبر والمنبر وأورد الحديث من حديث عبد الله ابن زيد المازني ومن حديث أبي هريرة بلفظ ((ما بين بيتي)) شرحه الحافظ في الفتح بقوله: ترجم بلفظ القبر وأورد الحديثين. بلفظ البيت لأن القبر صار في البيت وقد ورد في بعض طرقه بلفظ القبر.
قال القرطبي: الرواية صحيحة بيتي ويروى قبري وكأنه بالمعنى لأنه دفن في بيت سكناه اهـ. وقال في موضع آخر من الفتح قوله ((ما بين بيتي ومنبري)) كذا للأكثر ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري يدل بيتي وهو خطر فقد تقدم الحديث بهذا الإسناد بلفظ بيتي وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه. نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر. قلت: الجواب عنه من وجوه.
الوجه الأول
أن هذا بالنسبة لرواية البخاري فقط لا بالنسبة لسائر طرق الحديث كما صرح به الحافظ نفسه من كونه ورد بلفظ القبر من حديث سعد بن أبي وقاص بسند رجاله ثقات، وكذلك من حديث ابن عمر مع أنه لم يرد بلفظ القبر من حديث هذين. فقط بل ورد كذلك من حديث أم سلمة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب، ثم إن حديث ابن عمر الذي عزاه الحافظ للطبراني أخرجه أيضاً جماعة آخرون كلهم بلفظ القبر.
قال الطحاوي في مشكل الإثار حدثنا محمد بن علي بن داود حدثنا أحمد بن يحيى المسعود قال حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
وقال الخطيب في التاريخ أخبرني ابن علان حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد بن أخحمد بن تميم الأنماطي حدثنا موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري حدثنا مالك بن يحيى بن المنذر حدثنا مالك به مثله بلفظ القبر.
وقال أيضاً في المهروانيات أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل حدثنا أبو الحسين أحمد بن عثمان حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا مالك به مثله.
قال الطحاوي: وهذا من حديث مالك يقول أهل العلم بالحديث إنه لم يحدث به عن مالك أحد غير أحمد بن يحيى هذا، وغير عبد الله بن نافع الصائغ اهـ. وقال الخطيب في المهروانيات: هذا حديث غريب من حديث مالك عن نافع تفرد بروايته عنه أحمد بن يحيى الأحول وتابعه عبد الله بن نافع عن مالك.
قلت وهو ثقة من رجال الصحيح ومتابعنه أخرجها أبو نعيم في الحلية.
قال حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا إسحاق بن أبي حسان حدثنا القاسم ابن عثمان الجوعي حدثنا عبد الله بن نافع المدني عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وإن منبري لعلى حوضي)).
طريق آخر عننافع قال الدولابي في الكنى والأسماء حدثنا عن ابن معبد ابن نوح حدثنا موسى ابن هلال حدثنا عبد الله بن عمر أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) وقال: ((وما بين قبري ومنبري ترعة من ترع الجنة)).
وقال الطحاوي في مشكل الآثار حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا محمد عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)).
طريق آخر عن نافع قال أبو ناعيم في تاريخ أصبهان ثنا أحمد بن جعفر بن معبد ثنا عمر بن أحمد بن السني ثنا نصر بن علي ثنا زياد بن عبد الله عن موسى الجهيني عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: ((صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) قال وقال ابن عمر إن ما بين القبر والمنبر من رياض الجنة.
وحديث سعد بن أبي وقاص أخرجه أيضاً الخطيب في التاريخ من رواية ابنته عائشة عنه بلفظ القبر.
وحديث أم سلمة أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار قال حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ثنا سفيان بن عيينة عن عمر الدهني عن أبي سلمة عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وإن قوائم منبري هذا رواسب في الجنة)).
وحديث أبي سعيد أخرجه البخاري في التاريخ الكبير قال: اسحاق ابن شرقي مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي سمع أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن عمر عن عبد الله بن عمر عن أبي سعيد عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) قال لي الحرمي بن حفص وتابعه عفان عن عبد الواحد بن زياد سمع إسحاق.
قلت متابعة عفان أخرجها الخطيب في التاريخ عن أبي نعيم عن أبي الشيخ عن بن الجارود عن محمد بن أحمد بن جهور ثنا عفان ثنا عبد الواحد بن زياد ثنا إسحاق بن شرقي به مثله بلفظ القبر.
وأخرجها الطحاوي في مشكل الآثار ثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ومحمد بن علي بن داود قالا حدثنا عفان به مثله أيضاً بلفظ القبر.
وحديث عبد الله بن زيد قال الطحاوي أيضاً ثنا يونس ثنا ابن وهب أن مالكاً حدثه عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازني " أن رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
قال: وحدثنا الربيع الجيزي ثنا مطرف بن عبد الله ثنا مالك عن عبد اله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد الخطمي أن رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
قال: وحدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان جميعاً قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد قال حدثني بن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد أنه سمع رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: ((إن ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
وحديث أبي هريرة كذلك وقع في رواية مالك في الموطأ على بعض الروايات وهي النسخة المطبوعة مع شرح تنوير الحوالك للحافظ السيوطي:
وحديث جابر أخرجه الخطيب في التاريخ من طريق محمد بن كثير الكوفي ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
وحديث عمر أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر من رواية عطاء بن زيد الليثي حدثني سعيد بن المسيب عن عمر به ولفظه ((ما بين قبري واسطوانة التوبة روضة من رياض الجنة)). وفي لفظ ما بين قبري ومنبري.
الوجه الثاني
أن ما حكم به الحافظ من الخطأ على رواية ابن عساكر غيره مسلم ولو بالنسبة إلى رواية البخاري إذ يجوز أن يكون الصواب مع من قثال قبري، ويكون الذي قال بيتي أخطأ أو ذهب ذهنه إلى حديث آخر مما ورد بلفظ بيتي. فإن لفظه قبري وقعت كذلك في رواية للموطأ أيضاً، ويؤيد صحتها ترجمة البخاري بلفظ القبر وقد نص الطحاوي في مشكل الآثار على أن أكثر الروايات لهذا الحديث إنما هي بلفظ قبري لا بيتي، كما سأذكر نصه قريباً، وإذا كان ذلك كذلك فلا وجه لتخطئة من قال في رواية البخاري قبري.
الوجه الثالث
أن المراد بقوله بيتي في الروايات الأخرى هو قوله في هذه الأحاديث قبري لأننا بالضرورة ندري أن المنبر والبيت لم يكن لها هذا الفضل لمجرد أعواد المنبر وحجارة البيت وطينه فإنه لا فضل لخشب على خشب ولا لحجارة على حجارة بل ولا دخل لهما في وجود فضيلة في الدين البتة. وإنما ذلك لتشرف المنبر بوقوفه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم في الوعظ والتذكير وتبليغ أمر ربه ولوجود قبره الشريف في البيت. إذ المراد هو القبر لأن الفضل راجع إليه لا إلى البيت، فمن يحاول من أهل العصر أن ينكر وجود رواية قبري للتوصل إلى نفي ما يتعلق به من فضيلة قبره صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فإنما يحاول عبثاً ويخبط خبطاً عشوائياً. فالحدث سواء ورد بلفظ قبري أو بلفظ بيتي فمعنى اللفظين واحد وكلاهما راجع إلى القبر الشريف وعلى هذا المعنى نص أكثر المحدثين بل جل من تكلم على الحديث أو شرحه.
قال الطحاوي في مشكل الآثار وفي هذا الحديث معنى يجب أن يوقف عليه وهو قوله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) على ما في أكثر هذه الآثار وعلى ما في سواه منها ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) على ما في أكثر هذه الآثار وعلى ما في سواه منها ((ما بين بيتي ومنبري))، فكان تصحيحها يجب به أن يكون بيته هو قبره ويكون ذلك علامة من علامات النبوة جليلة المقدار ؛ لأن الله عز وجل قد أخفى على كل نفس (سواه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم) الأرض التي تموت بها لقوله عز وجل (وما تدري نفس بأي أرض تموت) فأعلمه الموت الذي يموت فيه والموضع الذي فيه قبره حتى أعلم بذلك في حياته وحتى علمه من علمه من أمته فهذه منزلة لا منزلة فوقها زاده الله تعالى بها شرفاً وخيراً. اهـ.
وقال ابنحزم في المحلى: قد أنذر عليه الصلاة والسلام بموضع قبره بقوله ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) واعلم أنه في بيته بذلك ولم ينكر عليه الصلاة والسلام كون القبر في البيت، ولا نهى عن بناء قائم، وإنما نهى عن بناء على القبر قبة فقط أي على نفس القبر ملتصقاً به على هيئة القبة كما جرت به عادة أكثر الناس. وهكذا نص على أن المراد بالبيت القبر كل شراح الحديث كما يعلم من مراجعه شروح البخاري ومسلم وغيرهما فلا نطيل بذكر نصوصهم.
الوجه الرابع
وعلى فرض أنه أراد نفس البيت لا القبر فقد علم صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بإعلام الله إياه أن بيته سيدخل في المسجد وأن قبره سيكون فيه فيكون القبر داخل المسجد وبه صار ما بين البيتوالمنبر روضة من رياض الجنة فكيفما دار الحديث دل على المطلوب وهو إذن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بإدخال قبره الشريف في المسجد والإشارة إلى ذلك بقوله: ((ما بين قبري ومنبري روضة منرياض الجنة)).
الدليل السادس:
إجماع الصحابة على دفنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم في بيته.
تم إجماع الصحابة واتفاقهم بعد الإختلاف في موضع دفنه على دفنه في بيته عملاً بما أخبرهم به أبو بكر (رضي الله عنه) عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فلو كان ذلك غير صحيح عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أو منسوخاً بما ذكره في مرض وفاته مع أن الخبر لا يدخله النسخ لما أجمع الصحابة عليه. وقد قام الدليل على حجية الإجماع ولا سيما إجماعالصحابة (رضي الله عنهم)
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور
تأليف العلامة الحافظ المغربي ابو الفيض احمد بن الصديق الغماري الحسني _رحمه الله تعالى _
-------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد فإنك سألت عن حكم البناء على القبور هل هو جائز كما جرى عليه عمل السلف والخلف شرقاً وغرباً أو هو ممنوع كما يذهب إليه القرنيون (1)[1] ومن يستصوب رأيهم ويستحسن مذهبهم من أهل هذه البلاد ممن خفي عليه أمرهم وراج عليه تمويههم فقام يدعو إلى هدم ما بني من القباب على قبور الأولياء والصالحين متمسكاً في ذلك بأحاديث أرسلها وهي.
ما رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة من حديث أبي الهياج الأسدي عن علي (عليه السلام) أنه قال له أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
وما رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ وكذلك هو عند أحمد ومسلم والنسائي بنحوه.
وما رواه أبو داود عن القاسم قال: دخلت على عائشة (رضي الله عنها) فقلت يا أمه بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرضة الحمراء.
وما رواه أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرفوعاً شبراً أو نحو شبر.
وما رواه الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن غنيم بن بسطام قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زمن عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع.
وذكرت أنه أشكل عليك أمر هذه الأحاديث ولم تدر وجه الجمع بينها وبين ما اتفقت عليه الأمة المعصومة في اتفاقها من الخطأ على بناء الأحواش والقباب والمساجد قديماً وحديثاً بمشارق الأرض ومغاربها على القبور، ورجوت أن نبين لك على وجه الجمع بين ذلك ونوضح لك الحق في المسألة، ونذكر لك من دلائل القول المختار ما يسفر عن وجه الصواب ويزيح عنه كل شك وارتياب.
فأجبناك إلى ما سألت على قدر الوسع والطاقة وما أرانا الله تعالى من وجه الصواب في المسألة ورسمناه لك في هذا الجزء الذي سميناه.
إحياء المقبور
من أدلة جواز بناء المساجد على القبور
ونرجو الله تعالى أن ينفع به كل من وقف عليه ممن تحلى بحلية الإنصاف وتخلى عن رذيلة التعصب والاعتساف إنه كريم وهاب.
تقديم
سيدي أحمد بن الصديق الغماري
فصل في جواز الدفن
أعلم أن البناء على القبر إما يكون قبل الدفن بأن يدفن الميت في بيت أو مسجد أو حوش أو قبة أعدها لدفنه، وإما أن يكون البناء حادثاً بعد الدفن، وهذا الأخير إما أن يكون على نفس القبر وإما أن يكون حول القبر قريباً منه على قدره أو بعيداً عنه متسعاً، وهذا الثاني إما أن يكون مسجداً يصلي فيه وإما أن يكون قبة أو حوشاً والميت إما من عامة الناس وإما من العلماء والأولياء الصالحين.
أما الدفن في البناء فلا شبهة في جوازه كما نص عليه الفقهاء إلا أحمد بن حنبل (رحمه الله) رأى مع الجواز أن الدفن في مقابر المسلمين أولى مراعاة لعمل أكثر الناس، ورأى أن دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البناء لأجل التمييز اللائق بمقامه الأرفع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا لا يخفي ما فيه لأنه تخصيص بدون مخصص.
وقد روى ابن سعد في الطبقات قال أخبرنا محمد بن ربيعة الكلابي عن إبراهيم بن زيد عن يحيى بن مهامة هو عثمان بن عفان قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " إنما تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح "، ومعلوم أن الأرواح تقبض غالباً في البيوت فمقتضى هذا أن الدفن في البناء أولى لكن وقع في هذه الرواية اختصار فقد روي الحديث من وجوه متعددة مرسلاً وموصولاً من حديث أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) مرفوعاً بلفظ " ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض " وفي لفظ " ما توفي الله نبياً قط إلا دفن حيث تقبض روحه " رواهما ابن سعد وغيره وهو صريح في عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وقد اتفق الصحابة على دفن أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق بعد هذا وجه لما قاله أحمد (رحمه الله).
فصل في البناء بعد الدفن
وأما البناء بعد الدفن إذا كان في الملك فكره الجمهور كراهة تنزيه إذا أمن نبش سارق أو سبع أو سيل وقصد به إحكام البناء والبقاء والزينة وإلا جاز عندهم، وزاد المالكية التصريح بحرمته إذا قصد به المباهاة وأجازه آخرون مطلقاً، ولو قصد به المباهاة كما في الدار المختار وحواشيه. وقيد الأكثرون جوازه إذا قصد به التمييز وصرح أكثرهم بحرمته ووجوب هدمه إذا وقع في الأرض الموقوفة للدفن ومنهم من قيده بما إذا كان كبيراً زائداً على قدر القبر وهذا أمر خارج عن حكم البناء نفسه، وفصل جماعة بين ما كان فوق القبر نفسه وبين ما كان حوله دائرً به كالحوش فأجازه الأكثرون، ومنهم من قيد بما إذا كان صغيراً على قدر الحاجة ولم يسقف ولم تطل أسواره ومنهم من صرح بجوازه ولو كان بيتاً وهو قول المحققين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال ابن حزم في المحلى: فإذا بني عليه بيت أو قائم لم يكره ذلك اهـ .
وقال ابن مفلح في كتاب الفروع من فقه الحنابلة: وذكر صاحب المستوعب والمحرر: لا بأس بقية وبيت وحظيرة في ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه اهـ وهو قول ابن القصار وجماعة من المالكية كما حكاه الحطاب في شرح المختصر.
فصل في نصوص علماء المذهب
وهذا في حق عامة الناس وأما الأولياء والصالحون فنص جماعة على جوازه، بل استحبابه في حقهم تعظيماً لحرمتهم وحفظاً لقبورهم من الامتهان والاندثار الذي يعدم معه الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم.
وقد أفتى العز بن عبد السلام بهدم القباب والبيوت والأبنية الكثيرة الواقعة في قرافة مصر، لأنها واقعة في أرض موقوفة على دفن المسلمين واستثنى من ذلك قبة الإمام الشافعي قال: لأنها مبنية في دار ابن عبد الحكم وهذا منه ذهاب إلى جواز بناء القباب على مثل قبر الإمام الشافعي (رضي الله عنه) إذا كان ذلك في الملك ولم يكن في أرض الحبس.
بل أفتى الحافظ السيوطي باستثناء قبور الأولياء والصالحين ولو كانت في الأرض المحبسة ووافقه جماعة ممن جاءوا بعده من فقهاء الشافعية وقد ذكر هو ذلك في جزئه الذي سماه " بذل المجهود في خزانة محمود " فقال: الوجه الرابع أن من قواعد الشرع أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه وذلك معلوم. فإذا كان هذا في نص الشارع ففي نص الواقف أولى فيقال إن مقصود الواقف تمام النفع وتمام الحفظ، فإذا وجد من يحتاج إلى الانتفاع بها في تصنيف وذلك لا يمكن على الوجه الأتم في المدرسة ووثق بتمام حفظه وصونه جاز الإخراج له، ويستثنى من المنع ويخص عموم لفظ الواقف بهذا المعنى المستنبط كما خصص عموم قوله تعالى: (أو لامستم النساء) واستثنى منه المحارم بالمعنى المستنبط وهو الشهوة، ولا دليل لاستثناء المحارم من آية أو حديث سوى هذا الاستنباط فكذلك هنا. وقد ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه أن في بعض السنين ببغداد منع معلمو الأطفال من تعليمهم في المساجد إلا رجلا واحدا كان موصوفاً بالخير فاستثنوه من المنع، وأنهم استفتوا الماوردي صاحب الحاوي من أئمتنا والقدوري من أئمة الحنفية وغيرهما فأفتوا باستثنائه واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم بسدل كل خوخة في السجد إلا خوخة أبي بكر فقاسوا استثنائهم لهذا الرجل على استثناء خوخة أبي بكر، وهذا الاستنباط دقيق لا يدركه إلا أئمة المجتهدون كالماوردي والقدوري ونحوهما. وقد استندت إلى قولهم هذا قديماً حين استفتيت في أبنية القرافة فأفتيت بهدمها كما هو المنقول إلا مشاهد الصالحين فاستندت في هذا الاستثناء إلى ما صنعه الماوردي والقدوري اهـ.
وهذا إنما هو لأجل كونها واقعة في الأرض الموقوفة وأما ما لم يكن فيها فقوله فيه الجواز مطلقاً.
وفي حواشي البجيرمي على شرح الخطيب على متن أبي شجاع: ولو وجدنا بناء في أرض مسبلة ولم يعلم أصله ترك لاحتمال أنه وقع بحق قياساً على ما قرروه في الكنائس. نعم استثنى بعضهم قبور الأنبياء والشهداء والصالحين ونحوهم قال البرماوي. وعبارة الرحماني: نعم قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقية لإحياء الزيارة والتبرك قال الحلبي ولو في مسبلة وأفتى به وقال أمر به الشيخ الزيادي مع ولايته اهـ.
وفي المنتزع المختار من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار يعني الزيدية مع حواشيه: والثاني من المكروهات الأناقة بقبر الميت وهو أن يرفع بناؤه زائداً على قدر شبر فإن ذلك مكروه، وإنما يكره إذا كان الميت غير فاضل مشهور الفضل ولا بأس بما يكون تعظيماً لمن يستحقه كالمشاهد والقباب التي تعمر للأئمة والفضلاء فلو أوصى من لا يستحق القبة والتابوت بأن يوضع على قبره قال المؤيد بالله يمتثل لأنه مباح وقيل لا اهـ (1)[2] .
وفي شرح العميري على العمل الفاسي والعمل بالبناء على القبور جاز أيضاً وقد كتب شيوخنا سيدي عبد القادر الفاسي: في ذلك بما نص المراد منه ولم ينزل الناس يبنون على مقابر الصالحين وأئمة الإسلام شرقاً وغرباً كما هو معلوم وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشي والحفر وغير ذلك، والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها، ولو وقعت المحافظة من الأمم المتقدمة على قبور الأنبياء لم تندرس وتجهل بل اندرس أيضاً كثير من قبور الأولياء والعلماء لعدم الاهتمام بها وقلة الاعتناء بأمرهم اهـ، ذكر ذلك لمن سأله عن البناء على ضريح مولانا عبد السلام بن مشيش نفعنا الله به وما يؤثر في النهي عن البناء على القبر إنما ذاك حيث يكون القصد به المباهاة والمفاخرة اهـ.
وفي مسائل المسناوي أنه سئل عن البناء على قبر الرجل والمرأة اللذين ترجى بركتهما في الحياة وبعد الموت بقصد التمييز والتعظيم لقبره ومقامه ويكون البناء حسناً بالتزليج هل يجوز ذلك أم لا؟ وعلى الجواز فهل من أنفق على ذلك البناء من ماله أو صنعه بيده يثاب على ذلك أو لا ثواب له؟. فأجاب إن البناء على من ذكر بقصد ما ذكر جائز بل مطلوب إذا كان في أرض مملوكة للباني لما ذكره بعض المحققين من شيوخ شيوخنا أن فيه جلب مصلحة الانتفاع بالصالحين ودفع مفسدة امتهانهم بالحفر والمشي وغير ذلك. إذ لولا البناء لاندرست قبورهم كما اندرست قبور الأنبياء عليهم السلام فتبطل زيارتهم وهي مطلوبة شرعاً – كما لا يخفى وقد أشار إلى مطلوبيتها وما فيها من الفوائد الشيخ الإمام العارف الرباني أبو إسحاق إبراهيم التازي الوهراني في قصيدته التي أولها.
زيارة أرباب التقى مرهم يبري ومفتاح أبواب السعادة والخير
وفي نوادر الأصول عن فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تأتي قبر حمزة (رضي الله عنه) في كل عام فترمه وتصلحه لئلا يندرس أثره فيخفى على زائره وفي فتاوى ابن قداح: إذا جعل على قبر من أهل الخير علامة فهو حسن والعلامة المميزة هو البناء الخاص لاشتراك غيره اهـ.
وفي شرح السجلماسي على العمل الفاسي: مما جرى به العمل لفاس وغيره تحلية قبور الصالحين بالبناء عليها تعظيماً، كما أفتى به الإمام سيدي عبد القادر الفاسي والد الناظم ثم ذكر فتواه السابقة، ثم قال جواز البناء على القبور منقول عن ابن القصار وإذا كان ذلك على مطلق القبور مع عدم قصد المباهاة كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعاً أجوز، بل حيث كان القصد بالبناء التعظيم ينبغي أن يكون مشرفاً بالبناء على البيوت بالنقش والتزويق، لأن ذلك كله من كمال التعظيم اهـ باختصار.
وفي شرح الرسالة لجسوس ويكره البناء على القبور وقد يجرم وقد يجوز إذا كان للتمييز ويستثنى قبور أهل العلم والصلاح فيندب لينتفع بزيارتهم.. بذلك جرى العمل عند الناس شرقاً وغرباً من غير نكير اهـ.
وفي شرح التوبشتي على المصابيح: وقد أباح السلف البناء على قبور المشايخ والعلماء المشهورين ليزورهم الناس وليستريحوا بالجلوس فيها اهـ.
وفي شرح زين العرب على المصابيح أيضاً: وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين يزورها الناس وليستريحوا إليها بالجلوس في البناء الذي على قبورهم مثل الرباطات والمساجد اهـ.
وفي مصباح الأنام وجلاء الظلام للعلامة علي بن أحمد الحداد: ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين مخالفاً للإجماع السكوتي على الأنبياء والصالحين عصور ودهور صالحة. قال تلميذ ابن تيمية الإمام بن مفلح الحنبلي في الفصول: القبة والحظيرة في التربة يعني على القبر إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبله كره للتضييق بلا فائدة ويكون استعمالاً للمسبلة فيما لم توضع له اهـ. قال ابن القيم الحنبلي: ما أعلم تحت أديم السماء أعلم في الفقه على مذهب أحمد من ابن مفلح اهـ. وقوله في المسبلة بلا فائدة إشارة إلى أن المقبور غير عالم وولي أما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام وينتفع الزائر بذلك من الحر والبرد والمطر والريح والله أعلم لأن الوسائل لها حكم المقاصد.
فصل في صحة الوقف لضرائح الأولياء
قال ابن حجر في التحفة في كتاب الوصايا: ويظهر أخذا مما مر ومما قالوه في النذر للقبر المعروف جواز صحتها كالوقف لضريح الشيخ الفلاني ويصرف في مصالح قبره والبناء الجائز عليه ومن يخدمونه أو يقرءون عليه. ويؤيد ذلك ما مر آنفاً من صحتها ببناء قبة على قبر ولي وعالم. أما إذا قال الشيخ الفلاني ولم ينو ضريحه ونحوه فهي باطلة أي الوصية اهـ، ونص أيضاً على أن القبة في غير مسبلة على العالم والولي من القرب، فقال في التحفة في باب الوصية: وإذا أوصى لجهة عامة فالشرط أن لا يكون معصية.. إلى أن قال وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة على قبر عالم في غير مسبلة اهـ. ومنعه في المسبلة على العالم ونحوه رده عليه الحلبي المحشي على المنهج وعبارته، واستثنى قبور الأنبياء (عليهم السلام) والصحابة (رضي الله عنهم) والعلماء والأولياء (رحمهم الله) فلا تحرم عمارتها في المسبلة لأنه يحرم نبشهم والدفن في محلهم، ولأن في البناء تعظيماً لهم وإحياء لزيارتهم ولا تغتر بما وقع لابن حجر كغيره في هذا المحل أي في المسبلة لا في المملوكة اهـ.
قال طاهر بن محمد العلوي: وإنما جعل ابن حجر وغيره القبة على الولي في غير المسبلة والموقوفة قربة لأن العلماء نصوا على أن تمييز العالم والصوفي حياً وميتاً مطلوب أخذا من قوله في حق نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقد علمت أن القبة من عصور وقرون عليهم وعلى الأنبياء (عليهم السلام) قال ابن حجر في شرح العباب: وأما المحرمات فلم يعهد في زمان من الأزمنة إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم عليها كيف وهذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة وإذا عصمت من ذلك كان إطباقهم جميعاً خاصتهم وعامتهم على أمر حجة على جوازه في أي زمان كان سواء الأزمنة الأولى أ, الأزمنة المتأخرة، وكلام الأصوليين صريح في أن الإجماع الفعلي حجة كالقولي اهـ.
فصل في جواز تزيين المساجد
وفي رسالة الشيخ الطيب ابن كيران: وقد اختار غير واحد من الشيوخ الجواز في بناء القباب على الصالحين وتعليق ستور الحرير وغيره وإيقاد المصابيح ونحو ذاك، ثم ذكر كلام الفاسي السابق وأقوال المالكية التي ذكرها الخطاب ثم قال: وفي مسائل الصلاة من نوازل البرزلي سئل عز الدين عن نصب الشموع والقناديل في المساجد للزينة لا للوقود وعن تعليق الستور فيها هل هو جائز أم لا؟. وكذلك فعل مثله في مشاهد العلماء وأهل الصلاح فأجاب: تزيين المساجد بالشمع والقناديل لا بأس به لأنه نوع من الاحترام والإكرام، وكذلك الستور وإن كانت من الحرير احتمل أن تلحق بالتزيين بقناديل الذهب والفضة واحتمل أن يجوز ذلك قولاً واحداً لأن أمر الحرير أهون من الذهب والفضة. ولذلك يجوز استعمال المنسوج من الحرير وغيره إذا كان الحرير مغلوباً ولا يجوز مثل ذلك في الذهب والفضة، ولم تزل الكعبة تستر إكراماً لها واحتراماً فلا يعد لحاق غيرها من المساجد بها وإن كانت الكعبة أشد حرمة من سائر المساجد. وأما مشاهد العلماء وأهل الصلاح فحكمها حكم البيوت فما جاز في البيوت جاز فيها وما لا فلا اهـ .
فصل في الخلاف في جواز البناء حول القبور
وفي رسالة الشيخ إسماعيل التميمي التونسي: وأما البناء على القبور إذا كان حولها كالقبة والبيت والمدرسة وكان في ملك الباني فذهب اللخمي إلى المنع وذهب ابن القصار إلى الجواز ووافقه ابن رشد على ذلك فنقل عنه المواق البناء على نفس القبر مكروه وأما البناء حوله فإنما يكره من جهة التضييق على الناس ولا بأس به في الأملاك اهـ. ومن المعلوم في المذهب تقديم قول ابن رشد على اللخمي قضاء وفتياً لا سيما وقد وافق في ذلك ابن القصار وهو من كبار الأئمة النظار، وقد أشار بن ناجي إلى ترجيحه واعترض على المازري تشهيره للمنع قائلاً: لا أعرف من قال به إلا اللخمي قال يمنع بناء البيوت لأن ذلك مباهاة ولا يؤمن أن يكون فيها من الفساد. ولقائل أن يقول لا خلاف بينهما، لأن اللخمي علل بالمباهاة وعدم أمن الفساد وابن القصار لا يخالفه في ذلك، والكلام مفروض في الجواز الذاتي إذا سلم المحل مما يؤدي إلى المنع. فالقولان في وفاق ويصير البناء على قبور الصالحين قبة أو بيتاً أو مدرسة أو نحوها جائزاً من حيث ذاته وظاهر كلام من تكلم على الجواز أنه يجوز بناء مسجد عليه. ونقل بعض شراح الرسالة عن جمال الدين الأفقهي أنه استثنى بناء المسجد ولعله لما ورد من النهي في ذلك، والنهي معلل بسد الذريعة لأنه يؤدي إلى الصلاة إلى القبر فيؤدي إلى عبادتها فالمنع فيه عرض يزول بزوال ذلك العارض وكلامنا في جوازه من حيث ذاته اهـ.
هذا محصل ما لفقهاء المذاهب الأربعة وغيرها في المسألة. والصحيح الذي يدل عليه الدليل ويقتضيه النظر أن البناء حول القبر جائز سواء كان حوشاً أو بيتاً أو قبة أو مسجداً، وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات أمر خارج عن حكم البناء في ذاته، لأنها عوارض لها حكم خاص بها يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها ككونه في الأرض الموقوفة أو المسبلة أو قصد به المباهاة أو الزينة ونحو ذلك مما يذكرونه فإنه لا تعلق له بحكم البناء فلا نتعرض له لأنه خروج عن الموضوع، وإنما المقصود بيان حكم البناء في ذاته وهو جائز حول القبر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس كما سنذكره بعد أن نقدم مقدمة تمهد السبيل لقبول تلك الأدلة وتزيح الأشكال الواردة عليها من النصوص المعارضة لها بتحقيق معناها وبيان مراد الشارع ومقصوده منها بياناً يجمع بين ما يبدو ظاهراً من التعارض بينها فنقول:
اعلم أن الخلاف في جواز البناء حول القبور إنما نشأ من الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أو لا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً. فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي لاتفاف بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف. ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته. واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع.
فصل في بيان الخطأ في فهم المعنى وفي فهم مراد الشارع
أما الخطأ في المعنى فإن القائل بالكراهة فهم أن النهي عن البناء عام والدليل يدل على أنه خاص بالبنا الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف على الموضوع للاستعلاء. فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة، فإن اللفظ لا يتناوله وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به (1)[3] وهي متعددة كما سأذكره.
وأما الخطأ في فهم مراد الشارع ومقصوده فإن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البناء على القبر على أقوال:
بيان العلة التي اختلف في النهي من أجلها
وسرد الأقوال فيها وهي ثمانية
القول الأول
إن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار. ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة، بل هو من الفقهاء من لا يقول بنسخه ويتمسك بوجوب الوضوء منه، ولهذا المعنى لم يخصصوا النهي بظاهر القبر بل كرهوا البناء بالأجر داخل القبر لأن العلة واحدة بل هي داخل القبر أولى لقرب ما مسته النار من الميت وملاصقته لجسمه، وكأنهم أخذوا هذا من وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجريدة الرطبة على القبرين وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ". فرأوا أن ما مسته النار أشد من اليابس بالشمس والهواء. وهذا القول حكاه الحافظ العراقي في شرح الترمذي وذكره جمع من الفقهاء في كتبهم.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أرقم وجماعة.
قال ابن أبي شيبة ثنا معتمر بن سليمان عن ثابت بن زيد قال حدثني حمادة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم قال: مات ابن لزيد يقال له سويد فاشترى غلام له أو جارية جصاً وآجره، فقال له زيد: ما تريد إلى هذا؟. قال: أردت أن أبني قبره وأجصصه. قال: جفوت ولغوت لا يقربه شيء مسته النار.
وقال أيضا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ليث عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً ولا تقربوني جصاً ولا آجراً ولا عوداً ولا تصحبنا امرأة.
وقال أيضاً حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره الآجرة. وقال أيضاً حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم.
حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر ويستحبون القصب ويكرهون الخشب.
القول الثاني
إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه. قالوا: ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه. ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه.
قال ابن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحق عن تمامة بن شفي قال خرجنا غزاة في زمن معاوية إلى هذا الدرب وعلينا فضالة بن عبيد، قال فتوفى ابن عم لي يقال له نافع فقام معنا فضالة على حفرته، فلما دفناه قال: خففوا عن حفرته فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر بتسوية القبر.
القول الثالث
إن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله.
قال ابن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي فزارة عن مولى ابن عباس قال: قال لي ابن عباس: إذا رأيت القوم قد دفنوا ميتاً فأحدثوا في قبره ما ليس في قبور المسلمين فسوه بين قبور المسلمين. ونص على هذا أيضاً بعض الفقهاء كالعدوي في حاشيته على شرح الرسالة وغيره.
القول الرابع
إن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد، كما رغب فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) رواه أحمد والطحاوي من حديث جرير. والأربعة من حديث ابن عباس. واللحد إذا وع البناء عليه لم يبق سبيل إلى دفن الغير فيه. ذكره بعض الفقهاء وشراح الحديث وأشار إليه السرخسي في المبسوط .
القول الخامس
إن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه. وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين ذكره ابن قدامة في المغني وأشار إليه ابن مفلح في الفروع.
القول السادس
إنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة، وهذا نص عليه الشافعي في الأم، والسرخسي في المبسوط، وابن قدامة في المغني، وكثير من الفقهاء الحنفية.
القول السابع
إنه يدعو إلى الجلوس على القبر. والجلوس عليه منهي عنه لما فيه من أذاية الميت بامتهانه ولهذا استحبوا أن يكون القبر مسنماً ولا يكون مسطحاً لأن التسنيم يمنه من الجلوس، ذكره بعضهم.
القول الثامن
إنه يحول بين الميت وسماع النداء والذكر وتلاوة ما يتلى على قبره من القرآن وسلام المسلم عليه. ذكره ابن قدامة في المغني ونقله الحطاب عن بعض فقهائهم.
وذكره جمع منالشافعية واستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((لا يزال الميت يسمع الأذان مالم يطين قبره)). وعلوم أن طمس القبر بالبناء أشد من طمسه بالطين والحديث المذكور هكذا يحتجون به من غير عزو ولا بيان حال وهو عند الحاكم في تاريخ نيسابور والديلي في مسند الفردوس من طريقه، ثم من رواية محمد بن القاسم بن مجمع ثنا أبو مقاتل السمرقندي ثنا محمد بن ثابت الأنصاري عن كثير بن شنطير عن الحسن عن عبد الله بن مسعود وكثيراً ليس بشيء وبأن أبا مقاتل قال ابن مهدي لا تحل الرواية عنه قال ابن الجوزي: غير أن المتهم بوضعه هو محمد بن القاسم فإنه كان عالماً رأساً في الذابين الوضاعين اهـ ولم يتعقبه الحافظ السيوطي بشيء وهكذا يحتج الفقهاء في أكثر مسائلهم بالموضوع والمنكر والواهي بعد اتفاقهم على عدم جواز الاحتجاج به.
فهذه العلل إنما يأتي أكثرها في البناء الواقع فوق القبر، لأنه الذي يقع به الثقل والطمس المانع من السماع والتشبه بالكفار ويمكن من الجلوس على القبر ويمنع من الدفن معه ويلتصق بالقبر وفوق الميت ما مسته النار لا مكان حول القبر بعيداً عنه كالقبة والبيت والمدرسة ونحوها. أما التعليل بكونه من الزينة التي لا تنبغي لأهل الآخرة فعله باطلة من وجهين:
أحدهما: أن البناء على القبر ليس من الزينة في شيء ولا يراد به الزينة وإنما يراد به حفظ القبر من الدوس والامتهان واندثار الأثر الذي لا يعرف معه القبر، وإذا قصد به بعضهم الزينة وفعل به ما هو منها فذاك أمر زائد على البناء، فيكون الحكم متعلقاً به لا بنفس البناء.
ويقال حينئذ في تزيين بناء القبر وتزويقه والتغالي فيه مكروه أو محرم لا أصل البناء
الآخر: أن كون الزينة الدنيوية لا تنبغي لأهل الآخرة دعوى مجردة عن الدليل فهي باطلة. فأن الشارع أم بتزيين الميت وتحسين كفنه وتطييبه. ونص الفقهاء على استحباب تقليم أظافره وإصلاح شعر لحيته ورأسه ونحو ذلك من أمور الزينة التي لم تطلب للحي إلا في العيدين والجمعة. وأيضاً فلو فرضنا أن البناء من زينة الدنيا فهو في الدنيا لأهل الدنيا، لأن ظاهر المقبرة من الدنيا، وإنما الآخرة باطنها فهو تعليل باطل. وكذلك التعليل بالتمييز فإن التمييز وصف لازم لكل شيء إذ ما من شيء إلا وله ما يميزه عن غيره، ولو سلمنا كراهته فإن ذلك خاص بما لا نفع فيه ولا حاجة تدعو إليه إلا قصد التمييز عن الناس والترفع عنهم، وليس البناء على القبر كذلك. نعم يقعالتمييز بالقباب للأولياء والصالحين، لأن الشرع أمر بتعظيمهم وحض على تمييزهم وتخصيصهم بالاحترام، بل أمر بتمييز كل من له رتبة ومنزلة ولو كانت دنيوية فقال: ((أنزلوا الناس منازلهم)) وكذلك كانت معاملته صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الخلق، ودلت أصول شريعته على ذلك ونص عليه الفقهاء والصوفية والأولياء الذين هم أبعد الناس من التصنع والتزلف كما بيناه في غير هذا الموضع، فلم يبق مقبولاً إلا العلل الأخرى وهي خاصة بالبناء الواقع على نفس القبر فوقه لا الذي حوله دائراً به، فلذلك كان مخطئاً من حمل النهي على العموم وأدخل فيه القباب والمدارس والأحواش، لأنها غير داخلة في النهي.
فصل في النهي عن بناء المساجد على القبور
وهذه العلل إنما هي في النهي الوارد في مطلق البناء، وأما النهي عن بناء المساجد على القبور فاتفقوا على تعليله بعلتين:
إحداهما: أنه يؤدي إلى تنجيس المسجد لأن غير المقبرة أطهر منها كما يقول الشافعي في الأم وغيره.
الأخرى: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة، لأنه إذا وقع في المسجد وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه ويؤدي بهم فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه إذا كان في قبلة المسجد فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك.
قال الشافعي في الأم: وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى ويصلى عليه وهو غير مسوى أو يصلى إليه وإن صلى إليه أجزأه وقد أساس. وأخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب)). فأكره هذا للسنة والآثار، وإنما كره والله تعالى أعلم أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً ، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد، ولئلا يوطأ ولأن مستودع الموتى من الأرض ليس بأنظف الأرض وغيره من الأرض أنظف اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها اهـ.
وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في الأصل الخامس عشر بعد أن أورد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاطمة عليها السلام: ((لو بلغت معهم الكدى – أي المقبرة – لما رأيت الجنة حتى يراها جدك أو أبيك)) ما نصه: بعث الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمحو آثار الجاهلية وكان من شأنهم إذا مات لهم ميت أن يخمشوا الوجوه وينتفوا الشعور ويشقوا الجيوب ويخرقوا البيوت فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((ليس منا من حلق أو خرق أو سلق)) ولعن في حديث آخر ناشرات الشعور واللاتي ينعين بأصوات الحمير ونهاهم عنزيارة القبور لحداثة عهدهم بالكفر لما في زيارة القبور من الفتنة حتى استحكم إسلامهم وصاروا أهل يقين وبر وتقوى وصارت القبور فزوروها فإن لكم فيها معتبراً)) وسكت عن ذكر النساء لضعفهن ورقتهم وسرعة افتتانهن، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمنعهن من حضور الجنائز. وفي حديث أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى نسوة في جنازة فقال لهن: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)) وعن أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جنازة فرأى نسوة فقال: ((أتحملنه)). قلن لا قال أتدفنه))؟ قلن لا قال: ((فارجعن مأزورات غير مأجورات)) وعن ابن عباس ((رضي الله عنهما)) قال: "" لعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) فبقى الحظر عليهم إلى آخر الدهر. فإن تخلت امرأة عن هذه الأمور فأتت قبراً لترمه أو تسلم أو تدعو أو تعتبر فهي خارجة من النهي، ثم روى (1)[4] عن فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تأتي قبر حمزة (رضي الله عنه)) في كل عام فترمه وتصلحه.وروى عن غير واحدة من النساء أنها كانت تأتي قبور الشهداء فتسلم عليهم.
فأما مرمة القبر فلئلا يندرس أثره فينبش عنه إذا ذهب رسمه فتبطل الزيارة وهي حق من الحقوق ليس كالذي يسلم من بعد، والتشديد الذي جاء في حديث فاطمة نراه في بدء الأمر ولا نعلم ذلك يحرم الجنة، لكن معناه أن من فعل ذلك كان يخاف عليه أن يسلبه الله الإيمان فإذا سلبه لم ير الجنة أبداً، وأعظم نعمة الله على عبده الإسلام وللإسلام سنن ومنا كمنار الطريق فإذا عمل عملاً يكون فيه إحياء سنن الجاهلية التي أطفأها الله تعالى بسيف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كفر منه الإسلام، والكفور ممقوت غير مأمون عليه السلب. فكأن إتيان المقابر من سنن الجاهلية فغلظ الزجر لتموت تلك السنن اهـ ولا يحصى من نص من الفقهاء وشراح الحديث على أن العلة في النهي عن اتخاذ المساجد على القبر هي خشية العبادة.
فصل في التعليل بخشية عبادة القبر
وإذا ثبت ذلك فالعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين وتنشئتهم على التوحيد الخالص واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والإيجاد والتدبير والتصريف. لا فاعل غيره ولا مؤثر في ملكه سواه وأن المخلوق الحي لا قدرة له على جلب منفعة لنفسه زلا دفع مضرة عنها إلا بخلق الله تعالى وإيجاده فضلاً عن الميت المقبور، وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين، فإن من يتخذها عليهم لا يفعل ذلك لأجل أن يعبدهم ويتخذ قبورهم مساجد يسجد إليها من دون الله تعالى، أو يجعلها قبلة يصلى إليها، بل هذا ما سمع في هذه الأمة ولا وجد قط من مسلم يدين بدين الإسلام.
وإنما قصد بتلك القباب مجرد الاحترام وتعظيم قبور الصالحين وحفظها من الامتهان والاندراس الذي ينعدم به الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم، فإذا فرض وجود من بنى قبة أو مسجداً على قبر ليعبده ويتخذه قبلة فهذا كافر مرتد يجب قتله وهدم ما بناه، لأنه لم يبن مسجداً بل بنى كنيسة في صورة مسجد مع أن شيئاً من هذا لم يقع في هذه الأمة والحمد لله.
وكون بعض جهلة العوام يأتي عند قبور الصالحين من التعظيم ما يشبه صورته صورة العبادة لا يكون موجباً لكراهة البناء، لأن ذلك لم يأت من جهة البناء ولا هو العلة فيه، إنما علته الجهل بطرق التعظيم والحد اللائق به شرعاً، ولو كان البناء هو علة ذلك للزم ألا يتخلف عند وجوده مع أن جل من يزور الأولياء المتخذ عليهم القباب والمساجد لا يوجد منه ذلك، وإنما يوجد من قليلين جداً من بعض جهلة العوام. كما أنه يلزم أن لا يوجد إلا عند القبور المبني عليها مع أننا نرى بعض الجهلة يفعل ذلك أيضاً ببعض قبور الأولياء التي لم يبن عليها مسجد ولا قبة ةليس عليهم بناء أصلاً، ونراهم يحلفون بهم وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولا شك.
وهم مع ذلك بعيدون عن قبورهم بل وعن مدنهم وعن أقطارهم فكثير من جهلة العوام بالمغرب ينطق بما هوكفر صراح في حق مولانا عبد القادر الجيلاني (رضي الله عنه) الموجود ضريحه ببغداد وبعد ما بين العراق والمغرب بعد بين المشرق والمغرب وكلهم لم يروا قبر الجيلاني ولا رأوا من رآه ولا من رأى من رآه إلى ما شئت من الإضافات، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء فيسجد له ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده ويجعل يديه من ورائه علامة على التسليم وفرط التضرع والإلتجاء ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى.
بل رأيت أنا من يفعل هذا بقبور الأولياء ورأيت من يفعله مع الأحياء منهم فلو كان جهلهم هذا يوجب تحريم البناء على القبر لأوجب تحريم الصلاح والولاية وتقوى الله تعالى التي ينشأ عنها اعتقادهم المؤدي إلى افتنان الجهلة بهم.
فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر مولانا عبد السلام ابن مشيش (رضي الله عنه) إنه الذي خلق الدين والدنيا !. ومنهم من قال والمطر نازل بشدة: يا مولانا عبد السلام ألطف بعبادك !!. فهذا كفر لم ينشأ عن مسجد ولا قبة فإن القطب ابن مشيش (رضي الله عنه) ليس عليه مسجد ولا زاوية ولا قبة، وإنما هو على رأس جبل بعيد عن الأبنية وحوله حوش بسيط غير مسقف، وداخل الحوش شجر وعشب وأحجار. والقبر لا يظهر له أثره ولا يعرف موضعه أحد، ومع هذا وصل اعتقاد العوام فيه إلى ما سمعت !. وكم من ولي عليه قبة عظيمة ومسجد ضخم واسع لا يزوره أحد بالإضافة إلى أنه يعتقد فيه إلى هذا الحد فإذا ليس ذلك من البناء ولا من القبة والمسجد، وإنما هو فرط الاعتقاد الذي قد ينشأ من ظهور الكرامات المتتابعة على يد ذلك الولي حتى يحصل بها التواتر وترسخ مكانته في نفوس الناس سواء الموجود في بلاده أو البعيد عنه، فلم يبق للمسجد والقبة في ذلك أثر أصلاً، وهؤلاء القرنيون النجديون قد هدموا القباب التي كانت بمكة والمدينة على الشهداء ومشاهير أهل البيت، وصيروا قبورهم مستوية بالأرض ومع ذلك فالناس يهرعون لزيارة تلك القبور ويتوسلون بها ويستغيثون عندها.
ولولا أن ابن سعود جاعل خفراء على مثل قبر حمزة سيد الشهداء (رضي الله عنه) يمنعون الناس من تقبيل القبر والسجود له ورفع الصوت بالاستغاثة به لما انقطع ذلك ولا ذهب بانهدام القبة فحمزة رضي الله عنه هو حمزة بقبة أو دون قبة وفاطمة الزهراء هي فاطمة بنت رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بقبة أو بدون قبة. وخديجة أم المؤمنين كذلك ومالك هو الإمام مالك. وهكذا سائر المدفونين بالبقيع والمعلاة من المشاهير لا دخل للبناء والقبة والمسجد في تعظيمهم وزيارتهم، وإنما الباعث على ذلك هو الاعتقاد الناشئ عن ولايتهم وصلاحهم ومكانتهم السامية عند ربهم الذي وضع لهم المحبة والاعتقاد في القلوب.
فكان على الجهلة القرنيين المبتدعة الضالين أن يهدموا الاعتقاد ويقلعوا أثره من النفوس ويقضوا على الصلاح والولاية والتقوى والخشية التي يكرم الله تعالى صاحبها، بوضع ذلك في القلوب حتى يستريحوا من تعظيم المخلوق والتوسل والاستغاثة به.
أم هدم البناء فلا يأتي لهم بنتيجة ولو أتى بها لما احتاجوا إلى حراس عند القبور يمنعون من ذلك بعد الهدم.
فأنا زرت قبر حمزة (رضي الله عنه) بعد هدم البناء الذي عليه بأزيد من خمس عشرة سنة ووجدت الحارس قائماً عند قبره يمنع الزوار من القرب من القبر والتمسح به وتقبيله، ولم يكف مضي خمس عشرة سنة على الهدم في قلع ذلك من النفوس.
وهكذا يبقى ذلك ما بقي الإيمان ومحبة الله تعالى ورسوله ومحبة أوليائه وأصفيائه. والمقصود أن البناء لا دخل له في تحقيق علة النهي وثبوتها في هذه العصور المتأخرة، بل ذلك قد زال من البناء وانتقل إلى المحبة والاعتقاد فلم يبق حكم متعلق بالبناء، وكان المتمسك بظاهر النهي المعرض عن تحقيق علته ومراد الشارع منه مخطئاً في حكمه غير مصيب في اجتهاده وفهمه.
فصل في معارضة الأحاديث في النهي
عن اتخاذ المساجد على القبور بأدلة أقوى
وأما المعارضة فإن القائل بالكراهية تمسك بالنهي ولم يلتفت إلى ما يعارضه من الأدلة، وذلك مما يوجب الخطأ في الحكم وعدم الإصابة في الاجتهاد. فإن الجمع بين الدليلين واجب مفترض والإعراض عن أحدهما دون ثبوت النسخ حرام والحكم باطل.
فإن النهي عن البناء ورد ما يعارضه مما هو أقوى منه ثبوتاً ودلالة فلا يقبل حكم مع الإعراض عنه وذلك الدليل متعدد نذكر منه هنا خمسة عشر دليلاً.
الدليل الأول على جواز بناء المساجد على القبور:
قول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف (كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قالوا الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) والذين غلبوا على أمرهم هم المؤمنون على الصحيح، لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون، وأما الكافرون فقالوا ابنوا عليهم بنيانا، والدليل من هذه الآية إقرار الله تعالى إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم، فإن الله تعال إذا حكى في كتابه عن قوم مالا يرضاه ذكر معه ما يدل على فساده وينبه على بطلانه إما قبله وإما بعده، فإذا لم ينبه على ذلك دل على رضاه تعالى به وعلى صحته إن كان عملاً وصدقة إن كان خبراً
كقوله تعالى: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) فإنه أعقبه بقوله: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)
وقوله تعالى: (وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) فإنه أشار إلى فساد ما زعموا بقوله بزعمهم
وبقوله تعالى: (سيجزيهم بما كانوا يعملون)
وقوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) فرده بقوله: (فقد جاءوا ظلماً وزوراً)
وقوله تعالى: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) فعقبه بقوله (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا) إلى غير ذلك من الآيات التي يطول ذكرها.
وإن من تأمل القرآن وجده لا يقر على باطل يحكيه قولاً كان أوعملاً إذ كتابه كله حق ونور وهدى وبيان وحجة لله على خلقه فلا يحكي فيه ما ليس بحق ثم يقره ولا ينبه على بطلانه فإذا ذكر نبأ وأقره دل على صحته وصدقه. ولهذا احتجوا في كثير من المسائل بمثل هذا، فاحتج أهل الأصول على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله تعالى حكاية عنهم (لم تك من المصلين ولم تك تطعم المسكين) الآية قالوا فلو كان باطلاً لرده عند حكايته، واحتج الفقهاء على جواز الجعل والضمان بقوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأن به زعيم) وعلى اعتماد قول القتيل دمى عند فلان بقصة البقرة، وعلى النكاح بالخدمة والمنافع بقوله تعالى حكاية عن شعيب (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) إلى غير هذا، فلما حكى الله تعالى عن هؤلاء القوم أنهم قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) ولم يرده ولا تعقبه بذم دل على أنه جائز لا حظر فيه.
فإن قيل هذا مسلم لو لم يرد شرعنا بذم ذلك، فقد صح عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: أن قال: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب) وصح عنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أنه قال – لأم سلمة (رضي الله عنها) حين ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما رأت فيها من الصور – ((أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)). وصح عنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: أنه قال: ((إلا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)).
فالجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول:
أن الله تعالى حكى ذلك عن المؤمنين والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكاه عن اليهود والنصارى وفرق بين حال الفريقين، فإن المؤمنين فعلوا ذلك للتبرك بآثار الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الآية وحفظ أرواحهم وأجسامهم تلك القرون الطويلة. واليهود والنصارى يفعلون ذلك للعبادة والإشراك مع الله تعالى. فالدليلان غير متواردين على محل واحد. فإن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إنما لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد يعبدون فيها تلك القبور ويسجدون إليها أو يجعلونها قبلة لاتخاذهم الأنبياء شركاء مع الله تعالى فيما يستحقه من العبادة. والدليل على هذا قوله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم في نفس الحديث: ((ولا يبقى دينان بأرض العرب)). أي لا تفعلوا مثلهم فتكفروا فيكون بأرض العرب دينان وقد حكم الله تعالى وأمر أن لا يبقى بأرض العرب إلادين واحد: دين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده والكفر لا يكون لمجرد اتخاذ المساجد على القبور ولو للتبرك، وإنما يكون باتخاذها للعبادة والإشراك بالله تعالى. هذا مما لا يشك فيه مسلم وإلا كانت الأمة كلها كافرة. ولم يصدق خبر الرسول صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بأنه لا يبقى دينان بأرض العرب فإن المساجد اتخذت على القبور بعده بقليل بل وفي حياته صلى اللهعليه وعلى آله وسلم كما سيأتي، واتخذ المسجد على قبره الشريف في عصر كبار التابعين وأفضل القرون بعد قرنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بشهادته. وأما الآية فأشارت إلى جواز اتخاذ المساجد على قبور الصالحين للتبرك بهم وزيارتهم وحفظ مآثرهم كما ذكره جمع من المفسرين فدليل الكتاب واد ودليل السنة في واد آخر يؤيده.
الوجه الثاني
وهو أنه لو كان كل من بنى على المسجد قبراً ولو للتبرك والزيارة ملعوناً كما في الحديث لكان هؤلاء المؤمنون الذي حكى الله عنهم ملعونين أيضاً داخلين في لعنة النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم على من فعل الذي حكاه الله عنهم، ولو كانوا كذلك لكا سكت الله تعالى عن ذمهم ولعنهم والإشارة إلى ضلالهم وخروجهم عن الصراط المستقيم فيما أتوا كما عرف من عادته في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن الباطل الإقرار على حكاية المحرم الملعون فاعله، فدل ذلك على أن ما فعله هؤلاء القوم هو غير ما يفعله اليهود والنصارى الذي لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم، وأن فعلهم جائز لا شبهة فيه، كما أنه لا شبهة لنا فيه لا من جهة إتباعهم فإنه لا يلزمنا شرعهم. ولكن من جهة ذكره في كتابنا المنزل بشريعتنا اللازمة لنا المأخوذة من منطوقه ومفهومه وتصريحه وتلويحه يؤيده أيضاً.
الوجه الثالث
وهو أنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تماثيل)). فاتخاذهم الصور والتماثيل فيه دليل على أنهم يفعلون ذلك لأجل عبادتهم، وقد شهد العيان بذلك وأثبت التاريخ مثله. وأنهم ابتدأوا عبادة الأصنام بعبادة صور الصالحين وقبورهم، وهذا لا يوجد منه شيء عند المسلمين.
الوجه الرابع
أن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء. والذين يتخذون القبور مساجد)) رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. وقد ثبت بالسنة أن الذين تدركهم الساعة وهم أحياء كلهم كفار مشركون عبدة أصنام، وأن الساعة لا تقوم حتى لا يبقى على وجه الأرض من يوحد الله تعالى ولا ينطق باسمه، وأن القرآن يرفع من الصدور، وتنفخ ريح حمراء فتقبض روح كل مؤمن ويبقى همج رعاع لا يدينون بدين فعليهم تقوم الساعة، فاقتران الذين يتخذون القبور مساجد بهم دليل على كفرهم ومشاركتهم إياهم في العلة التي بها كانوا شرار الخلق. وما يذكره أهل الأصول من ضعف دلالة الاقتران تمسكاً ببعض الصور المفيدة لذلك، هو أضعف من ضعف دلالة الاقتران في زعمهم فلا ينبغي الالتفات إليه لأنه مكابرة للحس.
فإن قيل إن الكفار كلهم شرار الناس إذ لا شر أعظم من الكفر بالله تعالى فكيف جاز تخصيص هؤلاء من بينهم.
فالجواب:
أن ذلك لا يغالهم في الشر والفساد واختصاصهم بجرائم وعظائم مضافة إلى الكفر، أما الذين تدركهم الساعة وهم أحياء فقد دلت السنة وذكرت من أوصافهم وفساد أخلاقهم وارتكابهم من الموبقات مالم يأته أحد من الكفار وما هو محرم في سائر الأديان، بل وما لا تساعد عليه الإنسانية بقطع النظر عن الديانة، فلذلك كانوا شرار الناس، وقد شهد العيان والحمد لله بصدق ما أخبر به النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فإن أشراط الساعة قد ظهرت، وأماراتها قد تتابعت، وظهرت طلائع أولئك الأشرار الذين عليهم تقوم، وهم العصريون المفسدون الزنادقة الملحدون، الذين يسمون المؤمنين المتمسكين بالدين جامدين رجعيين، فرأينا من كفرهم وإلحادهم ومروقوهم وفجورهم وفساد أخلاقهم وقلة حيائهم وشدة وقاحتهم وتهتكهم ومحاربتهم للدين، وعنادهم في كفرهم وازدرائهم بالدين وأهله ورفعتهم قدر من من يحارب الدين ويخرق حدوده ويهتك الشريعة ويسعى في القضاء عليها وإطرائه والمبالغة في مدحه، والكذب في وصفه بما ليس فيه، وغير ذلك من أوصافهم الممقوتة التي يشهد معها كل مؤمن بالله ورسوله أنهم شرار الخلق، هذا وهم في بداية أمرهم، فكيف إذا وصلوا إلى نهايته عند قيام الساعة. كما أننا نرى الكفار أيضاً قد مرقوا من دينهم الباطل وظهر من أخلاقهم الفاسدة وابتداعهم وتهتكهم وفجورهم مالم يكن في أسلافهم وما هو معدود في دينهم من الكفر والمروق والعصيان والفسوق فبذلك كانوا شرار الناس زيادة على كفرهم وأما الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد للسجود إلأيها وعبادتها فإنهم كفروا بعد الإيمان وأشركوا بعد التوحيد زجهلوا بعد العلم وارتدوا عن الدين بعد اعتناقه والتحقق من الحق ومعرفته فكانوا شر خلق الله تعالى ولذلك كان من ارتد بعد إيمانه يقتل ولا تقبل توبته، وكان اليهود مغضوباً عليهم والنصارى ضالين، وكان الكافر العالم أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
والوجه الخامس
إن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال في الذين يتخذون القبور مساجد ((أولئك شرار الخلق)) وثبت بالكتاب والسنة المتواترة أن أمته خير أمة أخرجت للناس، وأنها أشرف الأمم وأفضلها على الإطلاق، وأنهم عدول يتخذهم الله تعالى شهداء على الأمم السابقة ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)) ((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) وذكر الله لهم من الفضل ما رغبت الأنبياء والمرسلون فيه وتمنوا أن يكونوا من أمته صلى اللهعليه وعلى آله وسلم وأخبر صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أنهم لا يجتمعون على ضلالة، وإن من لم يتبع سبيلهم فهو من أهل النار ((ومن يتبع غير سبيل المؤمنين)) الآية. وأن ما رأوه حسناً فهو عند الله حسن وكثير من أمثال هذا وقد علم الله تعالى في سابق علمه وما قضاه وقدره في أزله أن هذه الأمة ستتفق وتجمع أولها عن آخرها على بناء المسجد على قبر نبيها أشرف الأنبياء وأفضل المرسلين، كم علم ذلك بإعلام الله تعالى إياه وأشار إليه كما سيأتي، وأنهم سيتفقون أيضاً سلفاً وخلفاً على اتخاذ المساجد على قبور الأولياء والصالحين والعلماء والعاملين، ومن أولئك الأولياء نفسهم من يتخذها على من قبله من شيوخه ويزره في حال بناء المساجد والقباب عليهم بل ويشد الرحال من البلاد البعيدة إلى زيارتهم، وقد شد الإمام النووي الرحلة من الشام إلى مصر لزيارة قبر الإمام الشافعي الذي عليه مسجد وقبة، وكم له من ألف نظير في المشرق والمغرب. فيلزم من هذا التناقض بين خبر الله تعالى وخبر الرسول، وأن تكون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وشر أمة أخرجت للناس تتفق على فعل المنكر وتبني على قبر نبيها المسجد، وكذلك على قبور الأولياء والصالحين منها، وتكون أمة وسطا عدولاً، وأمة فاسقة متفقة على عصيان الله تعالى ورسوله ومخالفة أمره جهراً، وتكون أمة مرحومة مغفوراً لها كما قال النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم وأمة ملعونة باتخاذها المسجد على قبرنبيها كما لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ويكون أولياء الأمة وعلماؤها العاملون أصحاب المناقب والكرامات الظاهرة أحباء الله تعالى وأصفياءه الذي لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، في حال كونهم أعداء الله تعالى وعصاته ومحاربيه بمخالفة أمره والاتفاق على المنكر المحرم الملعون فاعله، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة حتى يكون إجماعهاعلى لأمر حجة ودليلاً شرعياً كالكتاب والسنة، وأن الأمة تجتمع على الضلالة وتتفق على المنكر ومخالفة الله تعالى وأمر رسوله وهذا محال.
الوجه السادس
أنه معلل بخشية العبادة كما تقدم وكما هو مصرح به في الحديث نفسه فلا يكون تشريعاً عاماً في كل زمان بل هو التشريع المؤقت بزمن خشية وجود العلة، وهو زمن قرب عهد الناس بالإشراك دون الزمان الذي لم يعد أهله شركاً ولا دار في خلدهم شيء منه، بل نشأوا على الإيمان واليقين والتوحيد واعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، فهو غير معارض لدليل الكتاب العام في كل زمان، بل هو مخصص لعمومه بزمن ارتفاع خشية العبادة، وهو زمن استقرار الإيمان وانتشار التوحيد ورسوخ العقيدة رسوخاً لا يتطرق معه أدنى خلل ولا شك في وحدانية الله تعالى وتفرده بكل معاني الألوهية والربوبية.
ومثل هذا في الشريعة كثير جداً وهو التشريع المؤقت الذي يشرع لعلة ثم يزول بزوال علته، إلى أنه تارة يكون منصوصاً عليه من الشارع نفسه وهو الناسخ ,المنسوخ، وتارة لا ينص الشارع على زوال الحكم ونسخه لاحتمال وجود العلة في كل وقت، ولكنه يشير إلى أن ذلك الحكم غير لازم على الدوام إنما يلزم عند وجود علته فيقول أو يفعل ما يخالف الحكم الأول حتى يظن في بادئ النظر أن بين الأمرين تعارضاً، والواقع أن الحكم الأول كان عند وجود علته، والثاني وقع عند انتفائها، ولذلك كان بعض الصاحابة إذا أشكل عليه الأمر وقال للنبي: صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إنك يا رسول الله قد فعلت كذا أ, قلت كذا يعني مما يخالف قوله أو فعله الحاضر يجيبه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بقوله. إنما فعلت ذلك لأجل كذا، ولما رأيت من كذا. وهكذا يكون النهي الوارد عنه في حق من توجد منه علة النهي والإذن والجواز في حق من تنتفي عنه علته.
ومن النوع الأول:
نهيه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم عن زيارة القبور أولاً. لما كانوا قريبي عهد بالشرك، فلما استقر الإيمان في نفوسهم أباح لهم زيارتها للاعتبار والتذكر والزهد في الدنيا، ولكنه مع ذلك أمرهم أن لا يقولوا عند القبور من مخاطبة الأموات مالا يوافق التوحيد ولا يقره الإيمان فقال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) وفي حديث آخر ((فإنها تزهد في الدنيا)) قال ((ولا تقولوا هجراً)) وكذلك نهيه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وعن إدخارها لأجل مجاعة ألمت بالناس، فلما ذهبت قال ((كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وادخروا فإنما نهيتكم من أجل الدافة)) وكذلك نهى في أول الأمر عن القران بين التمرتين لما كان الحال بالمدينة ضعيفاً، ثم أباح ذلك لما وسع الله عليهم.
ومن النوع الثاني:
وهو الأكثر – نهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم النساء عن زياترة القبور فإنه لما أباحها للرجال خص النساء باستمرار النهي وشدد عليهن في ذلك لكونهن ناقصات عقل ويدن، ولأن تشبثهن بالعقائد الباطلة شديد فقال: ((لعن الله زوارات القبور)) وقال لنسوة رآهن في المقبرة ((أتدفن؟ أتحملن؟ ارجعن مأزورات غير مأجورات)) ولكنه مع ذلك مر يوماً بالمقبرة فوجد امرأة جالسة عند قبر ابنها تبكي فقال لها ((اتقي الله واصبري)) فقالت إليك عني فإنك لم تصبي بمصيبتي وكانت لم تعرفه فتركها وانصرف ولم ينهها عن زيارة اقبر كما قال لغيرها ارجعن مأزورات وذلك لأنها إنما زارت قبر ولدها لما تجد في نفسها من الحزن وعدم الصبر على فراقه فلم يتطرق إلى زيارتها ما يخشى من الفتنة بزيارة القبور المعظمة كقبور الشهداء التي كان غيرها من النسوة يزرنها وكذلك من يأتي منهن بعد ممن يزرن قبور الأولياء والصالحين فإن العلة وهي خشية الإفتتان موجودة فيهن فلذلك نهاهن ولعنهن ولم ينه زائرة قبر ابنها.
وكذلك نهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نعي الميت كما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث حذيفة بسند حسن حتى كان كثير من الصحابة والتابعين يوصي عند موته أن لا يعلم بموته تمسكاً بهذا النهي ولكن مه هذا نعى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه بالحبشة ونعى زياد وجعفر أيضاً لما قتلا كما في الصحيح فكان نهيه عن النعي أولاً لقطع عوائد الجاهلية وقلع أثرها من النفوس ثم نعى بنفسه لذهاب العلة وعدم وجودها.
ونهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الطيرة وسماها شركاً ونفى وجودها بالكلية فقال ((الطيرة شرك الطيرة شرك)) ثلاثاً وقال أيضاً ((لا عدوى ولا طيرة)) ومع هذا فكان، يحب الفال وهو من نوع الطيرة فقد قال عروة بن عامر القرشي ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال ((أحسنها الفال ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك)) رواه أبو داود وقال بريدة كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه أسمه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فذكر مثله في العامل رواه أبو داود. وقال أنس بن مالك قال رجل يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((ذروها ذميمة)) فنهى عن التطير وسماه شركاً لما كان يعتقده أهل الجاهلية من تأثير الأشياء بذاتها وطبعها، ومعتقد ذلك مشرك جاعل مع الله فاعلاً ومؤثراً غيره وكان مع ذلك يحب الفال الذي هو من نوعها لاعتقاده أنه مرسل كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((الفال مرسل والعطاس شاهد عدل)) رواه الحكيم في النوادر من حديث الرويهب، ومعناه أنه مرسل من قبل الله تعالى مبشراً للعبد بما سيحدثه الله تعالى له من خير وصلاح وبركة ونجاح،وكان يكره الفال القبيح لعلمه أن الله تعالى أراد خلاف ما يريده العبد منه، ولذلك كان لا يرجع عنده ويأمر بعدم الرجوع عند التطير لعلمه أن ما قدره الله تعالى وأمضاه هو واقع لا محالة سواء رجع المتطير عن ذلك الأمر أو أمضاه، بخلاف أهل الجاهلية فإنهم كانوا يعتقدون أن الحوادث مربوطة بذلك صادرةعنها وأنهم إذا رجعوا عند التطير لا يصيبهم شيء مما قدره الله تعالى وأمضاه.
وكذلك نفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم العدوى في أحاديث متعددة وقال مع ذلك ((فر من المجزوم فرارك من الأسد)) وقال ((لا يوردن ممرض على مصح)) ونفى الغول لما كان يعتقده فيه أهل الجاهلية من العقائد الباطلة وأثبته في حديث قال فيه ((إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان فإن الشيطان إذا سمع النداء أدبره وله حصاص)) وأمر أبا أيوب وأبا هريرة أن يمسكاه لما كان يدخل إلى بيتهما ويأكل لهما من تمر الصدقة ويقول له أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما هو معروف وثابت في السنن وغيرها.
ونهى عن الرقى والتمائم والتولة وسماها شركاً وأمر بها في أحاديث أخرى ونهى الله تعالى عن الاستقسام بالأزلام وشرع لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاقتراع بالعودة وهو نوع من الاستقسام إلا أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الأصنام هي التي كانت تختار لهم وما شرعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو لاعتقاد المؤمنين أن الله تعالى هو الذي يختار لهم بما يخرج من العود فهو خروج من مراد العبد واختياره، إلى مراد الله واختياره، وكم لهذا من نظير يطول ذكره ويتعذر إحصاؤه وعده، بل هو مفرد بالتآليف العديدة التي منها ما هو في عدة مجلدات وقد أراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم تأخر عن ذلك لكون القوم حديثي عهد بجاهلية، ولذلك لما قدم عهدهم بها هدمها عبد الله ابن الزبير وبناه كما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم عزم أن يبنيها عليه وقد ترجم البخاري في صحيحه للحديث الوارد بهذا بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا فيما هو أشد منه ثم أسند عن الأسود قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك كثيراً فما حدثتك في الكعبة؟ فقلت قالت: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((يا عائشة لولا قدم حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون)) ففعله ابن الزبير.
والمقصود أن مبنى الشريعة على مراعاة مصالح العباد الدينية والدنيوية ومن مصالحهم الدينية نهيهم عن كل ما يخل بعقيدتهم وإخلاص توحيدهم لله تعالى وإن كان مباحاً في نفس الأمر لقيام سبب به يؤدي إلى المحظور فإذا انتفى السبب رجع الفعل إلى إباحته الأصلية ومنه بناء المساجد على القبور.
الوجه السابع
وإذا ثبت أنها معللة بخشية العبادة واتخاذها قبلة عند الصلاة فالنهي حينئذ يكون خاصاً بما جعل القبر في قبلته، أما ما جعل القبر فيه ملاصقاً لجداره الغربي بحيث لا يمكن الصلاة إليه أصلاً فهو خارج عن النهي وكثير من المساجد على قبور الأولياء هي بهذه الكيفية.
فبان من هذه الوجوه عدم معارضة الأحاديث لدليل الآية وثبت المطلوب منها وهو الجواز وقد أجاب العلامة التميمي في رسالته عن حديث ((لعن الله اليهود والنصارى)) وحديث ((أولئك شرار الخلق عند الله)) السابقين بقوله: وأما الحديثان الشريفان
فالأول منهما النهي فيه عن بناء المساجد على القبر ليس صريحاً وإنما هو كما قال شيخ الإسلام لازم لاتخاذها مساجد كما اتخاذ المساجد عليها يلزمه اتخاذ القبور مساجد قال وبذلك طابق ترجمة البخاري فيفيد أن النهي عن بناء المساجد معلل بإفضائه إلى جعل القبر مسجداً المؤدى فيفيد أن النهي عن بناء المساجد معلل بإفضائه إلى جعل القبر مسجداً المؤدى إلى عبادته فيكون من باب الذرائع،
والحديث الثاني يفهم منه أن بناء المساجد ذمه معلل بما لزمه عرفاً من جعل التصاوير فيه وعبادة تلك الصور لأنه معنى مناسب للحكم وقد التفت إليه الشرع في غير هذا المحل فيحصل الوقوف بأنه العلة كما تقرر في مسالكها قال شيخ الإسلام في هذا الحديث إن الإمام الشافعي حمله على الكراهة وذلك يؤيد ما قلناه من سد الذرائع لأن الإمام لا يقول بالذرائع فلما وجد علة النهي راجعة إليها حمله على الكراهة لتلك القرينة الصارفة عن الحرمة وإذا كان النهي فيها لسد الذرائع فلا تعارض ما تقدم من دليل الجواز لأن سد الذرائع لا ينافي المشروعية فكثيراً ما يكون الشيء مشروعاً بالأدلة الواضحة ويجر إلى أمر ممنوع فيمنع من تلك الحيثية حتى إذا زالت رجع للأصل وعلى هذا يتنزل ما قاله الأستاذ ابن لب في بعض فتاويه من أن النهي في هذه المسألة مخافة أن تعبد القبور، كما اتفق لمن سلف قبل هذه الأمة وأفتى بناء مسجد بمقبرة اندثرت إذ أمن نبش القبور بأن يكون البناء فوقها دون حفر يصل إلى موضع العظام للأمن في هذه من خشية العبادة المعلل بها النهي وعلى هذا إذا بني المسجد على القبر بلصق الحائط المواجه للقبلة بحيث لا تمكن الصلاة فيه إلا أن يكون القبر خلف المصلي كما هو بزوايا كثيرة في بعض أعمال أفريقية جاز للأمن من الصلاة إليه. وإذا نظرت إلى أن عبادة غير الله تعالى علم من الدين ضرورة منعها وإخراجها المسلم من الدين كانت الذريعة هنا من القسم الملغى لأن ترتيب المقصد فيه على الوسيلة بعيد انتهى.
الدليل الثاني: أن الله قضى باتخاذ المسجد على قبر نبيه.
إن الله تعالى قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ربه جل وعز أعلى قدراً وأحمى جانباً من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله تعالى ملعون فاعله، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان فلو كان اتخاذ المسجد عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممنوعاً متخذه لحمى الله تعالى جانب نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم منه ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره فلما لم يفعل ذلك دل على أنه جائز ومطلوب ومن اعتقد خلاف هذا فهو قرني ممقوت لم يذق للإيمان طعماً ولا عرف من منزلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العيا ومكانته السامية عند ربه شيئاً فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان.
الدليل الثالث: أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يدفن في البناء
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يدفن في البناء فقال ((ما قبر نبي إلا حيث يموت)) وحدث بهذا الصديق رضي الله عنه حين اختلف الصحابة رضي الله عنهم في موضع دفنه فقال قوم في البقيع وقال آخرون في المسجد وقال آخرون يحمل إلى أبيه إبراهيم فيدفن معه فلما حدثهم الصديق رضي الله عنه بما عنده في هذا أجمعوا رأيهم واتفقوا عليه ودفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها وهو دليل صريح على وجود البناء حول القبر وأن النهي خاص بما كان فوقه لأنا بالضرورة نعلم أن النهي عن البناء ليس هو عن فعل الفاعل وبناء البناء، وإنما هو عن وجود نفس البناء على القبر وإذا جوز الشارع وجود الميت داخل البناء فقد جوز البناء إذ لا فارق بين أن يوجد بعد الدفن أو قبله لأن الغاية واحدة والصورة متفقة وهي وجود القبر داخل البناء وإذا جاز ذلك فلا فرق بين أن يكون البناء بيتاً أو قبة أو مدرسة لأن الكل بناء والعلة في ذاته لا في أشكاله وصوره فليس النهي متعلقاً بصورة القبة أو المدرسة بل بذات البناء كيفما وجد، وحيث أجاز الشارع الدفن في البيت الذي هو بناء علمنا أن النهي مخصوص بالبناء كيفما وجد، وحيث أجاز الشارع الدفن في البيت الذي هو بناء علمنا أن النهي مخصوص بالبناء الذي هو فوق القبر للعل السابقة غير عام في جميع البناء.
الدليل الرابع: أن أمره بالدفن في البناء
وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يدفن في بيته الذي هو بناء فقد تقرر في قواعد الفقه أن الرضي بالشيء رضى بما يؤول إليه ذلك الشيء، فالذي تزوج امرأة بعد علمه بمرض كذا فيها ثم تزايد ذلك المرض إلى حد يمنع من الاستمتاع فلا رجوع له لأنه رضي بمبادئه فكان راضياً بما يؤول إليه، وبيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ملاصقاً للمسجد وبابه شارعة إليه حتى كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اعتكف يخرج رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهي في البيت وهو في المسجد وقد علم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أمته ستكثر وأن المدينة ستتسع وتعظم حتى يصل بناؤها إلى سلع كما أخبر هو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وأمر بشد الرحلة إلى زيارة قبره الشريف وإلى مسجده للصلاة فيه ورغب في ذلك بقوله ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) و((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) ومسجده صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في عصره صغيراً لا يسع عشر معشار ربع من يقصده من أمته وقبره الشريف واقع في بيت عائشة الذي تسكنه وهو يعلم ضرورة أنه يتعذر على الأمة زيارته وهو في بيت مملوك لامرأة ساكنة فيه يجب تعظيمها واحترامها كما يجب ذلك في حق من يملكه ويسكنه من بعدها، كما أنه يعلم أن أمته ستدوم إلى قيام الساعة وأن قصدهم لزيارته سيدوم بدوام الأمة وأن البيت الذي سيدفن فيه لا يمكن عادة أن يدوم أكثر من مائة سنة لأنه مبني بالطين واللبن غير محكم البناء فهو يعلم علم اليقين أن بيته المذكور سيؤول أمره إلى أن يدخل في المسجد لإإذا علم ذلك وأمر بدفنه فيه فهو رضي منه بدخول قبره الشريف في المسجد الذي ستصير الأمة به متخذة على قبره مسجداً كما هو الواقع، ومن المحال المقطوع به أن يرضى صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو محرم ملعون فاعله لا سيما فيما يتعلق بجسده الشريف فدل على أن اتخاذ المسجد على قبره الشريف غير محرم ولا مكروه وإذا جاز ذلك في حقه جاز في غيره من باب أولى لأن ما يخشى من الفتنة بقبره أعظم مما يخشى من القتنة بقبر غيره لأن الفتنة إنما تقع من جهة التعظيم ولا يوجد في الأمة من يعظم قبراً أكثر من قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الدليل الخامس:
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده وزاد فأخبر بأن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة وهذا منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى استحباب إدخال قبره الشريف في المسجد لأنه ترغيب يدعو إلى ذلك، إذ المراد فضيلة الصلاة ما بين القبر والمنبر والترغيب فيها في ذلك الموضع إذا لم يكن القبر الشريف داخل المسجد لا تتصور الصلاة بين القبر والمنبر ولا يتأتى التعبير بقوله ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة لأنه إذا كان المنبر وسط المسجد والبيت الذي فيه قبره الشريف خارج المسجد لم يصح في العادة التعبير بالبينية خصوصاً عند إرادة الصلاة فإن البيت وسوره حاجز بين القبر والمنبر مانع من الصلاة في موضعه فلا يقول ما بين قبري ومنبري رياض من إيضا الجنة إلاوهو يريد أن القبر سيكون دخل المسجد ليس بينه وبين المنبر حاجز البيت.
فإن قيل: لفظ الحديث في أكثر طرقه إنما هو ((ما بين بيتي ومنبري)) حتى إن البخاري لما ترجم للحديث بباب فضل ما بين القبر والمنبر وأورد الحديث من حديث عبد الله ابن زيد المازني ومن حديث أبي هريرة بلفظ ((ما بين بيتي)) شرحه الحافظ في الفتح بقوله: ترجم بلفظ القبر وأورد الحديثين. بلفظ البيت لأن القبر صار في البيت وقد ورد في بعض طرقه بلفظ القبر.
قال القرطبي: الرواية صحيحة بيتي ويروى قبري وكأنه بالمعنى لأنه دفن في بيت سكناه اهـ. وقال في موضع آخر من الفتح قوله ((ما بين بيتي ومنبري)) كذا للأكثر ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري يدل بيتي وهو خطر فقد تقدم الحديث بهذا الإسناد بلفظ بيتي وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه. نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر. قلت: الجواب عنه من وجوه.
الوجه الأول
أن هذا بالنسبة لرواية البخاري فقط لا بالنسبة لسائر طرق الحديث كما صرح به الحافظ نفسه من كونه ورد بلفظ القبر من حديث سعد بن أبي وقاص بسند رجاله ثقات، وكذلك من حديث ابن عمر مع أنه لم يرد بلفظ القبر من حديث هذين. فقط بل ورد كذلك من حديث أم سلمة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب، ثم إن حديث ابن عمر الذي عزاه الحافظ للطبراني أخرجه أيضاً جماعة آخرون كلهم بلفظ القبر.
قال الطحاوي في مشكل الإثار حدثنا محمد بن علي بن داود حدثنا أحمد بن يحيى المسعود قال حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
وقال الخطيب في التاريخ أخبرني ابن علان حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد بن أخحمد بن تميم الأنماطي حدثنا موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري حدثنا مالك بن يحيى بن المنذر حدثنا مالك به مثله بلفظ القبر.
وقال أيضاً في المهروانيات أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل حدثنا أبو الحسين أحمد بن عثمان حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا مالك به مثله.
قال الطحاوي: وهذا من حديث مالك يقول أهل العلم بالحديث إنه لم يحدث به عن مالك أحد غير أحمد بن يحيى هذا، وغير عبد الله بن نافع الصائغ اهـ. وقال الخطيب في المهروانيات: هذا حديث غريب من حديث مالك عن نافع تفرد بروايته عنه أحمد بن يحيى الأحول وتابعه عبد الله بن نافع عن مالك.
قلت وهو ثقة من رجال الصحيح ومتابعنه أخرجها أبو نعيم في الحلية.
قال حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا إسحاق بن أبي حسان حدثنا القاسم ابن عثمان الجوعي حدثنا عبد الله بن نافع المدني عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وإن منبري لعلى حوضي)).
طريق آخر عننافع قال الدولابي في الكنى والأسماء حدثنا عن ابن معبد ابن نوح حدثنا موسى ابن هلال حدثنا عبد الله بن عمر أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) وقال: ((وما بين قبري ومنبري ترعة من ترع الجنة)).
وقال الطحاوي في مشكل الآثار حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا محمد عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)).
طريق آخر عن نافع قال أبو ناعيم في تاريخ أصبهان ثنا أحمد بن جعفر بن معبد ثنا عمر بن أحمد بن السني ثنا نصر بن علي ثنا زياد بن عبد الله عن موسى الجهيني عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: ((صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) قال وقال ابن عمر إن ما بين القبر والمنبر من رياض الجنة.
وحديث سعد بن أبي وقاص أخرجه أيضاً الخطيب في التاريخ من رواية ابنته عائشة عنه بلفظ القبر.
وحديث أم سلمة أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار قال حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ثنا سفيان بن عيينة عن عمر الدهني عن أبي سلمة عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وإن قوائم منبري هذا رواسب في الجنة)).
وحديث أبي سعيد أخرجه البخاري في التاريخ الكبير قال: اسحاق ابن شرقي مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي سمع أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن عمر عن عبد الله بن عمر عن أبي سعيد عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) قال لي الحرمي بن حفص وتابعه عفان عن عبد الواحد بن زياد سمع إسحاق.
قلت متابعة عفان أخرجها الخطيب في التاريخ عن أبي نعيم عن أبي الشيخ عن بن الجارود عن محمد بن أحمد بن جهور ثنا عفان ثنا عبد الواحد بن زياد ثنا إسحاق بن شرقي به مثله بلفظ القبر.
وأخرجها الطحاوي في مشكل الآثار ثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ومحمد بن علي بن داود قالا حدثنا عفان به مثله أيضاً بلفظ القبر.
وحديث عبد الله بن زيد قال الطحاوي أيضاً ثنا يونس ثنا ابن وهب أن مالكاً حدثه عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازني " أن رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
قال: وحدثنا الربيع الجيزي ثنا مطرف بن عبد الله ثنا مالك عن عبد اله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد الخطمي أن رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
قال: وحدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان جميعاً قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد قال حدثني بن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد أنه سمع رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: ((إن ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
وحديث أبي هريرة كذلك وقع في رواية مالك في الموطأ على بعض الروايات وهي النسخة المطبوعة مع شرح تنوير الحوالك للحافظ السيوطي:
وحديث جابر أخرجه الخطيب في التاريخ من طريق محمد بن كثير الكوفي ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)).
وحديث عمر أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر من رواية عطاء بن زيد الليثي حدثني سعيد بن المسيب عن عمر به ولفظه ((ما بين قبري واسطوانة التوبة روضة من رياض الجنة)). وفي لفظ ما بين قبري ومنبري.
الوجه الثاني
أن ما حكم به الحافظ من الخطأ على رواية ابن عساكر غيره مسلم ولو بالنسبة إلى رواية البخاري إذ يجوز أن يكون الصواب مع من قثال قبري، ويكون الذي قال بيتي أخطأ أو ذهب ذهنه إلى حديث آخر مما ورد بلفظ بيتي. فإن لفظه قبري وقعت كذلك في رواية للموطأ أيضاً، ويؤيد صحتها ترجمة البخاري بلفظ القبر وقد نص الطحاوي في مشكل الآثار على أن أكثر الروايات لهذا الحديث إنما هي بلفظ قبري لا بيتي، كما سأذكر نصه قريباً، وإذا كان ذلك كذلك فلا وجه لتخطئة من قال في رواية البخاري قبري.
الوجه الثالث
أن المراد بقوله بيتي في الروايات الأخرى هو قوله في هذه الأحاديث قبري لأننا بالضرورة ندري أن المنبر والبيت لم يكن لها هذا الفضل لمجرد أعواد المنبر وحجارة البيت وطينه فإنه لا فضل لخشب على خشب ولا لحجارة على حجارة بل ولا دخل لهما في وجود فضيلة في الدين البتة. وإنما ذلك لتشرف المنبر بوقوفه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم في الوعظ والتذكير وتبليغ أمر ربه ولوجود قبره الشريف في البيت. إذ المراد هو القبر لأن الفضل راجع إليه لا إلى البيت، فمن يحاول من أهل العصر أن ينكر وجود رواية قبري للتوصل إلى نفي ما يتعلق به من فضيلة قبره صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فإنما يحاول عبثاً ويخبط خبطاً عشوائياً. فالحدث سواء ورد بلفظ قبري أو بلفظ بيتي فمعنى اللفظين واحد وكلاهما راجع إلى القبر الشريف وعلى هذا المعنى نص أكثر المحدثين بل جل من تكلم على الحديث أو شرحه.
قال الطحاوي في مشكل الآثار وفي هذا الحديث معنى يجب أن يوقف عليه وهو قوله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) على ما في أكثر هذه الآثار وعلى ما في سواه منها ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) على ما في أكثر هذه الآثار وعلى ما في سواه منها ((ما بين بيتي ومنبري))، فكان تصحيحها يجب به أن يكون بيته هو قبره ويكون ذلك علامة من علامات النبوة جليلة المقدار ؛ لأن الله عز وجل قد أخفى على كل نفس (سواه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم) الأرض التي تموت بها لقوله عز وجل (وما تدري نفس بأي أرض تموت) فأعلمه الموت الذي يموت فيه والموضع الذي فيه قبره حتى أعلم بذلك في حياته وحتى علمه من علمه من أمته فهذه منزلة لا منزلة فوقها زاده الله تعالى بها شرفاً وخيراً. اهـ.
وقال ابنحزم في المحلى: قد أنذر عليه الصلاة والسلام بموضع قبره بقوله ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) واعلم أنه في بيته بذلك ولم ينكر عليه الصلاة والسلام كون القبر في البيت، ولا نهى عن بناء قائم، وإنما نهى عن بناء على القبر قبة فقط أي على نفس القبر ملتصقاً به على هيئة القبة كما جرت به عادة أكثر الناس. وهكذا نص على أن المراد بالبيت القبر كل شراح الحديث كما يعلم من مراجعه شروح البخاري ومسلم وغيرهما فلا نطيل بذكر نصوصهم.
الوجه الرابع
وعلى فرض أنه أراد نفس البيت لا القبر فقد علم صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بإعلام الله إياه أن بيته سيدخل في المسجد وأن قبره سيكون فيه فيكون القبر داخل المسجد وبه صار ما بين البيتوالمنبر روضة من رياض الجنة فكيفما دار الحديث دل على المطلوب وهو إذن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بإدخال قبره الشريف في المسجد والإشارة إلى ذلك بقوله: ((ما بين قبري ومنبري روضة منرياض الجنة)).
الدليل السادس:
إجماع الصحابة على دفنه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم في بيته.
تم إجماع الصحابة واتفاقهم بعد الإختلاف في موضع دفنه على دفنه في بيته عملاً بما أخبرهم به أبو بكر (رضي الله عنه) عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فلو كان ذلك غير صحيح عن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أو منسوخاً بما ذكره في مرض وفاته مع أن الخبر لا يدخله النسخ لما أجمع الصحابة عليه. وقد قام الدليل على حجية الإجماع ولا سيما إجماعالصحابة (رضي الله عنهم)
الدليل السابع: إجماع التابعين ومن بعدهم.
أجمع التابعون في عهد وجود كبار أئمتهم مثل عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وفقهاء المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها من أقطار الإسلام. ثم أجمعت الأمة بعدهم على إدخال بيته المشتمل على قبره داخل المسجد وجعله في وسطه. وإجماعهم حجة ولو كان ذلك منهياً عنه لاستحال أن تتفق الأمة في عصر التابعين على المنكر والإجتماع على الضلالة لولا أنهم فهموا من النهي أن المراد به علته التي زالت باستقرار الإيمان ورسوخ العقيدة. لا يقال إنهم سكتوا على ذلك لأجل ضرورة توسعة المسجد فإنه كان في الإمكان توسعته من جهة القبلة والجهة المقابلة لها والجهة الجنوبية لها دون الجهة الشمالية الواقع فيها قبره (عليه الصلاة والسلام) لا سيما والآمر بذلك خليفة العصر الذي اشترى البيوت بالمال لإدخالها في المسجد، فكان يمكنه أن يشتري البيوت الواقعة في غير جهة قبره صلى اللهعليه وعلى آله وسلم ويبقى بيت عائشة الذي فيه القبر الشريف خارج المسجد مجاوراً له، كما كان في عهده صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فلما فعل ذلك بمرأى من التابعين والأئمة ولم ينهه أحد منهم عن ذلك دل دلالة قاطعة على جواز واتخاذ المسجد على القبر. وأن المنهي عنه إنما هو قصد الصلاة إلى القبر المؤدي إلى عبادته والإشراك به. ولذلك لما أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد جعل البيت الذ فيه القبور مثلث الشكل حتى لا يمكن الصلاة إلى القبور.
الدليل الثامن: أن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياة صلى اللهعليه وعلى آله وسلم:
إن الصحابة بنوا على القبر مسجداً في حية النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فأقرهم على ذلك ولم يأمرهم بهدمه ويستحيل أن يقر النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم على باطل.
قال ابن عبد البر في الإستيعاب في ترجمة أبي بصير ما نصه – وله قصة في المعازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره ورواها عبد الرازق عن معمر عن ابن شهاب في قصة القضية عام الحديبية – قال: ثم رجع رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلت قريش في طلبه رجلين فقالا لرسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً فدفعه النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمرهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان فاستله الآخر وقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم حين رآه ((لقد رأى هذا ذعراً)) فلما انتهى إلى النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفت ذمتك قد رددتني إليهم فأنجانى الله منهم فقال النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم ((ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد)) فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، قال فوالله ما سمعون بعيراً خرجت لقريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم تناشده الله والرحم ألا أرسل إليهم فمن أتاك منهم فهو آمن. وكان أبو بصير يصلي لأصحابه ويكثر من قوله: الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصره. فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم واجتمع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس في بني غفار واسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة وهو مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير وكتب رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم فقدم كتاب رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بيده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً ازهـ.
باختصار وبلا شك يدري كل ذي حس سليم يعرف سيرة الصحابة مع النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أنه لا يمكن إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكرونه للنبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم وهو رسول الله تعالى وخليفته في خلقه والأمر أمره والحكم حكمه والصحابة كلهم جنده ونوابه ومنفذون أمره، وكذلك يستحيل أن يحدث مثل هذا من أصحابه الذين هم تحت حكمه وأمره ويكون ذلك حراماً ملعوناً فاعله يجر إلى كفر وضلال، ثم لا يعلمه الله تعالى به ولا يوحي يوحي إليه في شأنه، كما أعلمه بمسجد الضرار وقصد أصحابه من بنائه وأمره بهدمه بل وبما هو أدون من هذا وأقل ضررا بكثير فإذا لا شك أن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم اطلع على بنائهم المسجد على قبر أبي بصير ولم يأمرهم بهدمه إذ لو أمر بذلك لنقل في نفس الخبر أ, غيره، لأنه شرع لا يمكن أن يضيع بل يستحيل ذلك لخبر الله تعالى أنه حفظ الدين من أن يضيع منه شيء ولا يصل إلى آخر هذه الأمة ما وصل إلى أولها. فلما لم يأمر بهدمه دل ذلك على جوازه.
وأما كونه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم حذر بعد ذلك من اتخاذ المسجد على قبره الشريف بقوله: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا فإنما ذلك لما يخشى من الفتنة بقبره الشريف، لأن القوم كلهم كانوا أهل جاهلية وعبادة أوثان وصور وأحجار وعهدهم بذلك قريب فلما آمنوا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشاهدوا من معجزاته الظاهرة وكمالاته الباهرة وأحواله العجيبة الخارقة حتى صار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأنفسهم لم يأمن صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أن يفتتنوا بقبره بعد انتقاله.
وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهو من هو قد افتتن عند موته وأنكر أن يكون قد مات أو يلحقه الموت فأخذ سيفه بيده وجعل يقول من قال: إن محمداً مات ضربته بسيفي هذا وذلك لما وقر في نفسه من تلك الكمالات التي لا تتناسب الفناء والموت حتى ذكره الصديق (رضي الله عنه) بالآية الكريمة ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..)) الآية. فحينئذ ثاب إليه عقله وعلم أم العبد عبد والرب رب فلهذا حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اتخاذ المسجد على قبره في أول الأمر وأشار إلى جواز اتخاذه عند استقرار الإيمان كما فعلت الأمة فأدخلت قبره الشريف في مسجده بعد نحو تسعين سنة من انتقاله. وإنما لم يأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهدم المسجد الذي بني على أبي بصير لأن أبا بصير لا شهرة له بين الناس بفضل حتى يمكن أن يفتتنوا بقبره، وإنما هو فرد من أفراد المسلمين فلم يخش من المسجد على قبره أي ضرر وخلل في الاعتقاد.
الدليل التاسع: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس:
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس وأقطع تميماً الداري أرضا بالتحليل تحقيقاً لوعد الله وخبره بالفتح، وهو يعلم أن بالخليل قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام). وعلى هذه القبور معبد وقبة فلم يأمر أصحابه إذ أمرهم أن يدفعوا لتميم الداري الأرض التي أقطعه إياها أن يهدموا البناء الذي هو على قبر إبراهيم وعلى قبر غيره من الأنبياء الموجودين بفلسطين بالقدس والخليل وما بينهام. فدل على أن المراد التحذير من علة ذلك لا من نفس بناء المسجد والقبة.
الدليل العاشر أن لاصحابة فتحوا البلاد في زمن الخلفاء الراشدين:
أن الصحابة – رضي الله عنهم – لما فتحوا البلاد في زمن الخلفاء الراشدين لم يهدموا البناء الذي كان على قبور الأنبياء بالشام والعراق وغيرهما من أرض العرب مع قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ كل ما أمرت الشريعة به وما ينقل عن عمر – رضي الله عنه – في قبر دانيال فذاك خاص به لما وجد عند قبره من الكتابة التي تخبر بأمور وكوائن غيبية، وكان عمر – رضي الله عنه – يبالغ في التنفير من كل علم يخشى أن يفتتن الناس به ويعرضون معه عن الكتاب والسنة أو يعتقدون معه خلاف ما يجب أن يعتقد في ذلك المخلوق حتى كان إذا قبل الحجر الأسعد عند الطواف يقول رافعاً صوته ليسمع الناس إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقبلك ما قبلتك، وإنما كان يفعل هذا لأنه خشى على العرب وهم حديثوا عهد بجاهلية وعبادة الحجر أنهم لما يرون المسلمين يقبلون الحجر ربما اعتقدوا أن ذلك لتأثير عنده وتصرف كما كانوا يعتقدونه في الأحجار التي كانوا يعبدونها فلما وجد عند قبر دانيال لوحاً مكتوباً فيه أخبار عن أمور مغيبة وكوائن آتية خاف أن يفتتن الناس بذلك فأمر بهدم البناء الذي على القبر لأناللوح المذكور ملصق فيه أوالكتابة كانت على نفس البناء الذي على القبر، أما قبور غيره من الأنبياء فقد أقر عمر – رضي الله عنه – البناء الذي كان عليها ولم يهدمه لأنه لم يكن عليها شيء مما كان على قبر دانيال.
الدليل الحادي عشر: أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونين في المسجد الحرام
أنه جاء في عدة أحاديث وآثار أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام، وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن منهم نوحاً، وهوداً وصالحاً، وشعيباً، وأن قبورهم بين زمزم والحجر، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام، وهو أشرف مسجد على وجه الأرض هو ومسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلو كان وجود القبر في المسجد محرماً لذاته لنبش النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخرجهم فدفنهم خارج المسجد، فإنه أخبر الله أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم أحياء في قبورهم، كما أخبر الله تعالى – بمثل ذلك عن الشهداء، وأمرنا بأن لا نسميهم أمواتاً فنكون كاذبين في ذلك وهو أحياء ولكن حية برزخية تلائم الكون في القبر، ولا نتصور كنهها وحقيقتها لأنها من أمور الآخرة التي لا تصل إليها عقول أهل الدنيا.
فلما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك دل على أن وجود القبر في المسجد أو بناء المسجد على القبر ليس محرماً لذاته وإنما ذلك لعلته التي بانتفائها ينتفي حكمها، وإذا علمت أن أفضل المساجد على وجه الأرض مسجد مكة ومسجدالمدينة اللذان هما الحرمان الشريفان – وقد شاء الله تعالى – وحكم أن يكون في كل منها قبور متعددة، ففي حرم مكة قبور جماعة من الأنبياء، وفي حرم المدينة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقبر صاحبيه – رضي الله عنهما – ومعهما قبر رابع سيدفن فيه عيسى عليه السلام حين نزوله، كما ورد في بعض الأخبار – تعلم أن الدفن في المسجد أو اتخاذ المسجد في القبر من أشرف الأعمال تأسياً بالحرمين الشريفين، فكل مسجد ليس فيه قبر فهو ناقص الفضل قليل البركة عديم الأسوة بأفضل المساجد وأشرفها.
الدليل الثاني عشر: الوسائل لها حكم المقاصد
القاعدة المقررة في الفقه أن الوسائل لها حكم المقاصد واحترام قبر الميت المسلم وتعظيمه بعدم الجلوس عليه والمشي فوقه ونبشه وكسر عظامه مقصود شرعاً، وضده محرم منهي عنه أشد النهي حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، وورد نحوه بأسانيد صحيحة من حديث عبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر وغيرهما، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في الصحيح، بل بالغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعظيم قبور المؤمنين حتى أمر من رآه يمشي بينها بنعلين أن يخلعهما احتراماً لقبور المؤمنين.
وبالضرورة نعلم أن القبر إذا بقي دون بناء حوش حوله أو بيت أو قبة عليه فهو بلا شك معرض للمشي فوقه والجلوس عليه وادراس أثره، كما هو مشاهد بالعيان من مرور الناس فوق القبور التي لا بناء عليها. وربما يجهل أن هناك قبراً فيبول ويتغوط فوقه بخلاف القبور المحفوظة بالبناء، كما أننا شاهدنا مرات متعددة من يحفر قبراً في موضع لا يظنه قبراً فيجد فيه جمجمة ميت وعظام يده ورجليه، فمنهم من يحيد عن ذلك الموضع ويحفر في مكان آخر، ومنهم من يحملها فيدفنها في حفرة، ومنهم من يكسره ويرمي بها . وإنما يقع هذا بالقبور التي لا بناء عليها، أما المبنية فهي محفوظة من ذلك طول الدهر ما وجد ذلك البناء عليها. فإذا كان البناء فيه مصلحة المحافظة على حرمة الميت وحفظ حقه وفيه مصلحة الحي بامتثال أمر الشارع وعدم اعتدائه على الحدود، وكونه سبباً موصلاً إلى ذلك، كان مطلوباً لا محالة لأنه سبب موصل إلى المقصود فيكون له حكمه. وجل أحكام الشريعة والفروع التي شرعها الفقهاء ولم يرد بها نص إنما هي من هذا القبيل، أعني مأخوذة من طريق الاستدلال.
الدليل الثالث عشر: مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب.
القاعدة المقررة أيضاً، أن مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو المطلوب، وزيارة القبور مطلوبة. أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها ورغب فيها، وفي زيارة قبره المعظم، فقال في الأول ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة وتزهد في الدنيا))، وقال في قبره الشريف: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي))، وهو حديث صحيح له طرق متعددة أفردها الحفاظ بالتأليف ومنهم التقي السبكي وكتابه مطبوع متداول فلا نطيل بذكر أسانيده وبيان صحته بعد أن بسط ذلك الإمام تقي الدين المذكور، وكذلك رغب صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زيارة قبر الوالدين وزيارة قبر الأصدقاء والسلام عليهم، وذكر الأئمة والأولياء أن لزيارة القبور تأثيرراً عظيماً في تنوير الباطن، لا سيما قبور الأولياء والصالحين، وأن الدعاء عند قبور بعضهم مستجاب كما قال الإمام الشافعي – رضي الله عنه – في قبر موسى الكاظم عليه السلام:- ((إنه الترياق المجرب))، وجرب ذلك آلاف مؤلفة من الخلائق في سائر العصور عند قبر القطب ابن مشيش – رضي الله عنه – في المغرب وقبر القطب البدوي – رضي الله عنه – وقبر السيدة نفيسة – رضي الله عنها – بالقاهرة، وقبور أخرى لغيرهم من أكابر العارفين – رضي الله عنهم – بما إنكاره مكابرة للمحسوس ودفع للمشاهد المعاين الملموس، فلو لم يبن على قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يدخل في المسجد لاندرس كما اندرست قبور إخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين هم مع كثرتهم لا يعرف قبر عشرة، بل ولا خمسة منهم بسبب عدم البناء عليهم، ولم يبق محفوظاً إلا قبر إبراهيم – عليه السلام – ومن معه بسبب البناء أيضاً، ولحرم الناس منفعة زيارته صلى الله عليه وعلى آله وسلم الموجبة لشفاعته لهم ، كما حرموا بركة زيارة غيره من الأنبياء الذي اندرست قبورهم لعدم البناء عليها، فلما كان البناء موصلاً لهذا المطلوب الشرعي كان مطلوباً لا محالة.
وقد احتج العلماء بهذه القاعدة، والتي قبلها في كثير من المسائل الأصولية والفروعية، بل بنوا عليها جل ما شرعوه من الفروع ودونوه من أحكام الفقه وفعلوا ذلك في العقائد الإيمانية فغيروا فيها وبدلوا، بل نقضوا كل ما ورد في القرآن والسنة من صفات لله تعالى وأسمائه وخالفوه صريحاص، بل ألحدوا فيه إلحاداً ظاهراً بفتح باب التأويل الذي هو فرع التكذيب وإيجابه والحكم على من لم يتبعهم فيه بالكفر والضلال والبدعة بدعوى أنه لا يتوصل إلى التنزيه وعدم التشبيه إلا بذلك التأويل الباطل، بل الرد الواضح لكلام الله _ تعالى _ وكلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأدخلوا في الفرائض والسنن وسائر الأحكام مما لم يرد به كتاب ولا سنة ولا أثر ما لو جمع من المذاهب الأربعة لبلغ عدة مجلدات حاوية لآلاف المسائل، بل تجاوزا الحد في ذلك وتوسعوا فيه حتى أدخلوا في الدين ما ليس منه، بل ما تشهد نصوصه بأنه مناقض له فأجازوا للملوك أن يلبسوا الملابس الفاخرة من الحرير والذهب وأن يتخذوا الحرس المتعددة على الأبواب، وكذلك الحجاب والخدم بملابسهم الخاصة المتنوعة وضرب الطبول والموسيقى وأنواع الملاهي على أبوابهم وبين أيديهم عند الخروج روفع الجلوس على رؤوسهم وهو من الحرير المطرز بالذهب وغير ذلك من البدع والمحرمات التي إذا عدت بدار الملك بلغت الألف أو جاوزته، كل هذا أباحوه بدعوى أن ذلك تعظيم هيبتهم في النفوس فيتوصل بها إلى نفوذ الكلمة واحترام السلطنة وكل هذه البدع والمحرمات وأمثالها وأضعافها موجودة بأظهر معانيها وأجل مظاهرها وأفخر ملابسها في دار ابن السعود ملك القرنين وفي إدارته وهيأته وملابسه وحاشيته حتى قال بعض من دخل داره بنجد ورأى ما فيها من الرفاهية المحرمة ما كنا نظن أن ما تقرأه بكتاب ألف ليلة وليلة عن الملك وأبهته موجودة حقيقة حتى رأيناه بدار ابن السعود.
كل هذا يمر أي من شياطين علمائه وبعلمهم وهم الآمرون له بهدم قباب الأولياء والصالحين لأن ذلك بدعة منهي عنها وما يفعلونه هم وملكهم وأبناء ملكهم من المحرمات والموبقات والعظائم التي يستحي من ذكرها ليست بدعة ولا منهيا عنها، وكذلك أجاز الفقهاء نحو هذه الأمور للقاضي فأحدثوا له محكمة خاصة به وجعلوا له أعواناً يقفون بين يديه ويمشون أمامه إذا خرج وخلفه حاجباً يمنع الناس من دخولهم عليه إلا بإذنه في كثير من أمثال هذا مما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا الخلفاء الراشدون ولا الصحابة والتابعون ولا السلف الصالح واستحسنه هؤلاء ثم أوجبوه لحفظ حرمة القاضي وإبقاء هيبته التي بها تنفذ الأحكام في زعمهم الباطل وحصروا الشهود في عدد معين لا تقبل شهادة غيرهم ولو كان نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً، وكان العدل الرسمي شيطاناً مارداً وكافراً ملحداً وأوجبوا سجن من يتظلم من شاهد الزور منهم ويصرح له بأنه شهد عليه زوراً ولو كان أكذب خلق الله وأفسقهم على الإطلاق إبقاء على حرمتهم وعدالتهم التي يتوصل بها إلى حفظ الحقوق، ولو قال بملء فيه أن أبا بكر شهد الزور أو عمر لتعجبوا من مقالته دون أن يحكموا عليه بسجن واخترعوا أو اخترع لهم الشيطان تقييد المقال بدعوى أنه لا يتوصل إلى المطلوب، وهو حفظ مقال الخصوم وعدم رجوعه عنه إلا به، فكان سبباً في إضاعة الحقوق وهلاك المدعين واشترطوا في الخطيب شروطاً مضحكة لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا عمل السلف الصالح بدعوى أن ذلك مما يلقى هيبته في النفوس وإجلاله فتقبل على وعظه وتقبله ولا ترده عليه واستحبوا للعالم أن يلبس العمائم الضخمة والأكمال الواسعة والبرانس والأكسية المعلمة بالحرير الرقيقة الجيدة وغير ذلك من المحرمات والمكروهات بدعوى أن ذلك يتوصل به إلى تميز العالم عن العامي فيعرف حتى يسأل ويستفتي ويحترم ولا يهان ولا يؤذى، وأجازوا ضرب الطبول والنفخ في الزمارة وغيرها من العوائد المحرمة أو المكروهة في شهر رمضان لأنه يتوصل بها إلى معرفة أوقات السحور والإمساك، وأجازوا تزويق المساجد وفرشها بالحصر والزرابي لأنه أدعى للإحترام ولما فيه من مصلحة المصلين، مع أنه ورد النهي بل الوعيد على ذلك كالنهي والوعيد الواردين في اتخاذ المساجد على القبور وبنوا المنارات المطلة على بيوت الناس التي يتكشف المؤذن منها على عوراتهم لأنه لا يمكن إعلام الأباعد عن المسجد وسماعهم الأذان إلا بها ووضعوا فيها العلم الأبيض في سائر الأيام والأسود يوم الجمعة مع ورود النهي عن ذلك لأنه لا يمكن إعلام الأباعد جداً الذي لم يصلهم صوت الأذان إلا بها، وكم لهذا من نظير في سائر أبواب الفقه من عبادات ومعاملات ما أكثره أو كثير منه ليس له من الأسباب المجوزة له عشر ما لمسألة البناء على القبور من الأسباب، ومع هذا تجد الفجرة من المنتسبين إلى العلم يعدونه شرعاً لازماً وديناً منزلاً لعظيم جهلهم الناشئ عن تقليد أحبارهم، وكون ذلك موافقاً لهوى نفوسهم وعوائد بلادهم ؛ والمقصود أن قاعدة مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب من أعظم القواعد الفقهية التي ينبني عليها كثير من الأحكام والمصالح الشرعية، وإن كان الفجار قد يتوصلون بها إلى ما هو مخالف للدين، مناقض له من الأساس، كما هو حال فجرة العلماء وما ابتدعوه لملوكهم ووزرائهم وحكامهم، بل زاد فجرة العصر ففعلوا مثل ذلك مع الكفار المستعمرين نسأل الله اللطف والعافية بمنه.. آمين.
الدليل الرابع عشر: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع على قبر عثمان بن مظعون صخرة عظيمة.
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع على قبر عثمان بن مظعون – رضي الله عنه – صخرة عظيمة، وقال: ((أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي)) رواه أبو داود وابن ماجة وجماعة، فهذا تأسيس لوضع العلامة على القبر وتشريع لها وللمحافظة على القبر لا سيما قبور الصالحين والعلامة لا تنحصر في الصخرة، وإنما وضعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها كانت المتيسرة أمامه ساعة الدفن، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتكلف لشيء، بل يقضي بالموجود في كل شيء من طعام وملبوس ومركوب وغير ذلك.
فإن جازت العلامة على القبر لحفظه من الاندراس فلا فرق بين أن تكون بصخرة أو بغيرها كما أنه إذا جازت الصخرة جاز اثنان وثلاثة وأربعة بحسب ما تدعوه الحاجة إلى إثبات العلامة، وكذلك يجوز ربط تلك الأحجار بعضها ببعض بالطين والجير لئلا تتبعثر وكونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن البناء قد برهنا على أن المراد بالبناء الذي يكون فوق القبر لطمسه لا البناء الذي يكون حول القبر.
الدليل الخامس عشر: ارتفاع قبور الشهداء والصحابة
إن قبور الشهداء والصحابة كانت مرتفعة كما في صحيح البخاري عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان – رضي الله عنه – أن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما وضع عليه صخرة: وكون الشاب لا يستطيع أن يثب عليه إلا إذا كان قوياً شديداً يدل على عظم ارتفاعه وتباعد جانبيه وذلك لا يمكن بالتراب وحده ولا بالصخرة وحدها لوجوه:
أحدها: أن وضع التراب الكثير على القبر الزائد على الخارج منه مكروه.
ثانيها: أنه لا يمكن في العادة أن يبقى التراب الكثير مرتفعاً مجموعاً فوق القبر أزيد من ثلاثين سنة.
ثالثها: أن التراب المجلوب لا يمكن أن يرتفع هذا الارتفاع المشار إليه دون أن يخالطه حجارة وطين، كما أنه لا يمكن أن يدوم هذه المدة الطويلة.. فإنا نرى التراب الذي يجعل على القبر لا يمر عليه سنة أو سنتان حتى يذهب وتنسفه الرياح ويبقى القبر مسوى بالأرض.
رابعها: أن هذا لا يمكن أيضاً بالنسبة للصخرة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند قبره، لأنها وإن كانت كبيرة فهي لا تصل إلى هذا الحد الذي لا يستطيع أن يثب عليها إلا الشاب القوي. لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حملها بيده الكريمة ووضعها عند القبر، وأيضاً لو كان ذلك بالنسبة لها لقال: وإن أشدنا الذي يثب الصخرة التي على قبر عثمان مع أنه عبر بالقبر دون الصخرة فدل على أنه كان مبنياً في زمن الخلفاء الراشدين الذين فهموا من وضع العلامة على قبره الأذن في البناء عليه.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا وكيع عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر، قال رأيت قبر عثمان بن مظعون مرتفعاً، فهذا صريح في أنه كان مبنياً بناء مرتفعاً.
وقال ابن أبي شيبة أيضاً: حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي، قال: أتيت على قبور الشهداء بأحد فإذا هي شاخصة من الأرض والقبور المشخصة بالتراب لايمكن عادة أن تبقى من وقت عزوة أحد في السنة الثالثة إلا زمن التابعين.
خاتمة
فبان من هذه الأدلة جواز البناء على القبر إذا كان دائراً حوله سواء كان بيتاً أو مدرسة أو قبة أو مسجداً وأن الجمع الذي جمعنا به بين هذه الأدلة الدالة على الجواز وأحاديث النهي الدالة على المنع أو الكراهة جمع واجب متعين لنفي التعارض الواقع ظاهراً بين الأدلة وأن بذلك الجمع المؤيد بالدليل والبرهان، ارتفع الإشكال في الباب، وبقي الجواب عن الحديث الذي ذكره السائل أيضاً، وهو حديث علي – رضي الله عنه – وقوله لأبي الهياج أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) وهو من وجوه:
الوجه الأول: إنه خبر متروك الظاهر بالاتفاق لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر وعلى استحباب رفعه قدر شبر، بل عند الحنفية قول بوجوب ذلك.
الوجه الثاني: إنه مخالف للسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة بعده من رفع القبور وتسنيمها ومخالف لقبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي ذكرها حينئذ فلا بد من أحد أمرين: إما أن يكون غير ثابت في نفسه أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد.
الوجه الثالث: وإذا ثبت أنه على غير ظاهره وأنه يجب رده أو تأويله ليتفق مع الأحاديث الأخرى التي هي أقوى منه سنداً ومعنى، فقد أجاب عنه الأئمة والفقهاء كما ذكره غير واحد منهم النووي فقال في شرح المهذب: أجاب عنه أصحابنا قالوا لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأحاديث ا.هـ. أي فيكون حجة للشافعية ومن وافقهم فيما ذهبو إليه من أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، ولئن كان هذا المراد به فهو حجة ظاهرة قوية في تأييد مذهبهم.
الوجه الرابع: وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة – رضي الله عنهم – بدليل ذكر التماثيل معها وإلا فالسنة وعمل الصحابة على خلافه بالنسبة لقبور المسلمين، وقد مر أن قبور الشهداء كانت مرتفعة، وأن قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه – رضي الله عنهما – كانت مرتفعة كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي احتج بها المنتقد، وممن فعل ذلك بها علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – نفسه لأنه كان وقتئذ بالمدينة وهو من أهل الحل والعقد في الأمور. لا يفعل أمر مثل هذا إلا بموافقته ؛ ولو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور لما وافق على رفع قبره وقبر صاحبيه، فكيف يجوز مع هذا أن يأمر أبا الهياج بتسوية القبور، وقد سبق أيضاً أن الحكيم الترمذي روى عن فاطمة – عليها السلام – أنها كانت تأتي قبر حمزة فترمه وتصلحه، وكذلك رواه مسدد في مسنده ونقله عنه ابن عبد البر في التمهيد أنه كانت تتعاهد قبر حمزة – رضي الله عنه – كل سنة وترمه.
وهذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها لم تعش بعده إلا ستة أشهر، كما أنها ما كانت تخرج لذلك إلا بإذن من زوجها على بن أبي طالب وموافقته، فلو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور كما يقول أبو الهياج لما وافق زوجته على ذلك، وأيضاً لو كان عنده أمر بذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما تأخر عن تنفيذه لا سيما في زمن خلافتة وإفضاء الأمر إليه، وقد ثبت في الآثار السابقة وغيرها أن قبور الصحابة والشهداء كانت مرتفعة في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في زمان التابعين، فوجب أن يكون مراد علي – رضي الله عنه – قبور المشركين ولا بد أن يكون الخبر مردوداً، وغير هذا لا يكون أصلاً.
خطأ من يتمسك بالحديث المذكور
وبهذا تعلم خطأ من يتمسك بهذا الحديث ويذهب إلى وجوب تسوية القبور وهدم ما عليها من البناء والقباب كالقرنين الذين فعلوا ذلك بقبور الصحابة والشهداء والصالين بالمدينة ومكة وغيرهما مما احتلوه من البلاد، وأما أرضهم فلم يجعل الله منها ولياً ولا صالحاً منذ ظهور الإسلام إلى وقتنا وإنما جعل بها قرن الشيطان وأتباعه خوارج القرن الثالث عشر وما بعده فليتق الله من يغتر بهم وينصر مذهبهم الفاسد ورأيهم الباطل وضلالهم المنصوص عليه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سماهم كلاب النار وأخبر بأنهم شر من تحت أيم السماء وأنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وأنهم يقولون من خير قول البرية، وهو ما يتمشدون به من التوحيد والعمل بالسنة ومحاربة البدعة وهو والله غرقى في البدعة، بل لا بدعة شر من بدعتهم الواصلة بهم إلى المروق من الدين مروق السهم من الرمية مع اجتهادهم في العبادة والتمسك بالدين ظاهراً، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وصفهم ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم))، ولهذا امتنع صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الدعاء لنجد لما دعا لليمن والشام، فقال: ((اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا))، فقالوا: وفي نجدنا يا رسول الله، فأعاد الدعاء لليمن والشام، فأعادوا قولهم، فقال في المرة الثانية أوالثالثة مبيناً سبب عدم دعائه لنجد: ((هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان)) (1) فلم يظهر منها ممن حصلت به الزلازل والفتن في الدين إلا محمد بن عبد الوهاب الضال المضل فكان هو قرن الشيطان الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وامتنع من الدعاء لنجد من أجله ومن أجل الفتن الصادرة بسبب دعوته الإبليسية التي ما تمسك بها أحد إلا وكفر عياناً وكان خاتمة أمره الإلحاد والمروق من الدين كما هو مشاهد من سائر ملاحدة العصر المشاهير بالإلحاد فإن جميعهم كان ابتداء أمره التمسك بمذهب قرن الشيطان، كما هو معروف لأهل العلم والخبرة والاطلاع..
وهذا ما يسره الله – تعالى - في الجواب عن السؤال.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، والحمد لله رب العالمين.
أجمع التابعون في عهد وجود كبار أئمتهم مثل عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وفقهاء المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها من أقطار الإسلام. ثم أجمعت الأمة بعدهم على إدخال بيته المشتمل على قبره داخل المسجد وجعله في وسطه. وإجماعهم حجة ولو كان ذلك منهياً عنه لاستحال أن تتفق الأمة في عصر التابعين على المنكر والإجتماع على الضلالة لولا أنهم فهموا من النهي أن المراد به علته التي زالت باستقرار الإيمان ورسوخ العقيدة. لا يقال إنهم سكتوا على ذلك لأجل ضرورة توسعة المسجد فإنه كان في الإمكان توسعته من جهة القبلة والجهة المقابلة لها والجهة الجنوبية لها دون الجهة الشمالية الواقع فيها قبره (عليه الصلاة والسلام) لا سيما والآمر بذلك خليفة العصر الذي اشترى البيوت بالمال لإدخالها في المسجد، فكان يمكنه أن يشتري البيوت الواقعة في غير جهة قبره صلى اللهعليه وعلى آله وسلم ويبقى بيت عائشة الذي فيه القبر الشريف خارج المسجد مجاوراً له، كما كان في عهده صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فلما فعل ذلك بمرأى من التابعين والأئمة ولم ينهه أحد منهم عن ذلك دل دلالة قاطعة على جواز واتخاذ المسجد على القبر. وأن المنهي عنه إنما هو قصد الصلاة إلى القبر المؤدي إلى عبادته والإشراك به. ولذلك لما أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد جعل البيت الذ فيه القبور مثلث الشكل حتى لا يمكن الصلاة إلى القبور.
الدليل الثامن: أن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياة صلى اللهعليه وعلى آله وسلم:
إن الصحابة بنوا على القبر مسجداً في حية النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فأقرهم على ذلك ولم يأمرهم بهدمه ويستحيل أن يقر النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم على باطل.
قال ابن عبد البر في الإستيعاب في ترجمة أبي بصير ما نصه – وله قصة في المعازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره ورواها عبد الرازق عن معمر عن ابن شهاب في قصة القضية عام الحديبية – قال: ثم رجع رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلت قريش في طلبه رجلين فقالا لرسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً فدفعه النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمرهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان فاستله الآخر وقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم حين رآه ((لقد رأى هذا ذعراً)) فلما انتهى إلى النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفت ذمتك قد رددتني إليهم فأنجانى الله منهم فقال النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم ((ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد)) فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، قال فوالله ما سمعون بعيراً خرجت لقريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم تناشده الله والرحم ألا أرسل إليهم فمن أتاك منهم فهو آمن. وكان أبو بصير يصلي لأصحابه ويكثر من قوله: الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصره. فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم واجتمع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس في بني غفار واسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة وهو مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير وكتب رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم فقدم كتاب رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى اللهعليه وعلى آله وسلم بيده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً ازهـ.
باختصار وبلا شك يدري كل ذي حس سليم يعرف سيرة الصحابة مع النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أنه لا يمكن إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكرونه للنبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم وهو رسول الله تعالى وخليفته في خلقه والأمر أمره والحكم حكمه والصحابة كلهم جنده ونوابه ومنفذون أمره، وكذلك يستحيل أن يحدث مثل هذا من أصحابه الذين هم تحت حكمه وأمره ويكون ذلك حراماً ملعوناً فاعله يجر إلى كفر وضلال، ثم لا يعلمه الله تعالى به ولا يوحي يوحي إليه في شأنه، كما أعلمه بمسجد الضرار وقصد أصحابه من بنائه وأمره بهدمه بل وبما هو أدون من هذا وأقل ضررا بكثير فإذا لا شك أن النبي صلى اللهعليه وعلى آله وسلم اطلع على بنائهم المسجد على قبر أبي بصير ولم يأمرهم بهدمه إذ لو أمر بذلك لنقل في نفس الخبر أ, غيره، لأنه شرع لا يمكن أن يضيع بل يستحيل ذلك لخبر الله تعالى أنه حفظ الدين من أن يضيع منه شيء ولا يصل إلى آخر هذه الأمة ما وصل إلى أولها. فلما لم يأمر بهدمه دل ذلك على جوازه.
وأما كونه صلى اللهعليه وعلى آله وسلم حذر بعد ذلك من اتخاذ المسجد على قبره الشريف بقوله: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا فإنما ذلك لما يخشى من الفتنة بقبره الشريف، لأن القوم كلهم كانوا أهل جاهلية وعبادة أوثان وصور وأحجار وعهدهم بذلك قريب فلما آمنوا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشاهدوا من معجزاته الظاهرة وكمالاته الباهرة وأحواله العجيبة الخارقة حتى صار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأنفسهم لم يأمن صلى اللهعليه وعلى آله وسلم أن يفتتنوا بقبره بعد انتقاله.
وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهو من هو قد افتتن عند موته وأنكر أن يكون قد مات أو يلحقه الموت فأخذ سيفه بيده وجعل يقول من قال: إن محمداً مات ضربته بسيفي هذا وذلك لما وقر في نفسه من تلك الكمالات التي لا تتناسب الفناء والموت حتى ذكره الصديق (رضي الله عنه) بالآية الكريمة ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..)) الآية. فحينئذ ثاب إليه عقله وعلم أم العبد عبد والرب رب فلهذا حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اتخاذ المسجد على قبره في أول الأمر وأشار إلى جواز اتخاذه عند استقرار الإيمان كما فعلت الأمة فأدخلت قبره الشريف في مسجده بعد نحو تسعين سنة من انتقاله. وإنما لم يأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهدم المسجد الذي بني على أبي بصير لأن أبا بصير لا شهرة له بين الناس بفضل حتى يمكن أن يفتتنوا بقبره، وإنما هو فرد من أفراد المسلمين فلم يخش من المسجد على قبره أي ضرر وخلل في الاعتقاد.
الدليل التاسع: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس:
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس وأقطع تميماً الداري أرضا بالتحليل تحقيقاً لوعد الله وخبره بالفتح، وهو يعلم أن بالخليل قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام). وعلى هذه القبور معبد وقبة فلم يأمر أصحابه إذ أمرهم أن يدفعوا لتميم الداري الأرض التي أقطعه إياها أن يهدموا البناء الذي هو على قبر إبراهيم وعلى قبر غيره من الأنبياء الموجودين بفلسطين بالقدس والخليل وما بينهام. فدل على أن المراد التحذير من علة ذلك لا من نفس بناء المسجد والقبة.
الدليل العاشر أن لاصحابة فتحوا البلاد في زمن الخلفاء الراشدين:
أن الصحابة – رضي الله عنهم – لما فتحوا البلاد في زمن الخلفاء الراشدين لم يهدموا البناء الذي كان على قبور الأنبياء بالشام والعراق وغيرهما من أرض العرب مع قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ كل ما أمرت الشريعة به وما ينقل عن عمر – رضي الله عنه – في قبر دانيال فذاك خاص به لما وجد عند قبره من الكتابة التي تخبر بأمور وكوائن غيبية، وكان عمر – رضي الله عنه – يبالغ في التنفير من كل علم يخشى أن يفتتن الناس به ويعرضون معه عن الكتاب والسنة أو يعتقدون معه خلاف ما يجب أن يعتقد في ذلك المخلوق حتى كان إذا قبل الحجر الأسعد عند الطواف يقول رافعاً صوته ليسمع الناس إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقبلك ما قبلتك، وإنما كان يفعل هذا لأنه خشى على العرب وهم حديثوا عهد بجاهلية وعبادة الحجر أنهم لما يرون المسلمين يقبلون الحجر ربما اعتقدوا أن ذلك لتأثير عنده وتصرف كما كانوا يعتقدونه في الأحجار التي كانوا يعبدونها فلما وجد عند قبر دانيال لوحاً مكتوباً فيه أخبار عن أمور مغيبة وكوائن آتية خاف أن يفتتن الناس بذلك فأمر بهدم البناء الذي على القبر لأناللوح المذكور ملصق فيه أوالكتابة كانت على نفس البناء الذي على القبر، أما قبور غيره من الأنبياء فقد أقر عمر – رضي الله عنه – البناء الذي كان عليها ولم يهدمه لأنه لم يكن عليها شيء مما كان على قبر دانيال.
الدليل الحادي عشر: أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونين في المسجد الحرام
أنه جاء في عدة أحاديث وآثار أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام، وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن منهم نوحاً، وهوداً وصالحاً، وشعيباً، وأن قبورهم بين زمزم والحجر، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام، وهو أشرف مسجد على وجه الأرض هو ومسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلو كان وجود القبر في المسجد محرماً لذاته لنبش النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخرجهم فدفنهم خارج المسجد، فإنه أخبر الله أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم أحياء في قبورهم، كما أخبر الله تعالى – بمثل ذلك عن الشهداء، وأمرنا بأن لا نسميهم أمواتاً فنكون كاذبين في ذلك وهو أحياء ولكن حية برزخية تلائم الكون في القبر، ولا نتصور كنهها وحقيقتها لأنها من أمور الآخرة التي لا تصل إليها عقول أهل الدنيا.
فلما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك دل على أن وجود القبر في المسجد أو بناء المسجد على القبر ليس محرماً لذاته وإنما ذلك لعلته التي بانتفائها ينتفي حكمها، وإذا علمت أن أفضل المساجد على وجه الأرض مسجد مكة ومسجدالمدينة اللذان هما الحرمان الشريفان – وقد شاء الله تعالى – وحكم أن يكون في كل منها قبور متعددة، ففي حرم مكة قبور جماعة من الأنبياء، وفي حرم المدينة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقبر صاحبيه – رضي الله عنهما – ومعهما قبر رابع سيدفن فيه عيسى عليه السلام حين نزوله، كما ورد في بعض الأخبار – تعلم أن الدفن في المسجد أو اتخاذ المسجد في القبر من أشرف الأعمال تأسياً بالحرمين الشريفين، فكل مسجد ليس فيه قبر فهو ناقص الفضل قليل البركة عديم الأسوة بأفضل المساجد وأشرفها.
الدليل الثاني عشر: الوسائل لها حكم المقاصد
القاعدة المقررة في الفقه أن الوسائل لها حكم المقاصد واحترام قبر الميت المسلم وتعظيمه بعدم الجلوس عليه والمشي فوقه ونبشه وكسر عظامه مقصود شرعاً، وضده محرم منهي عنه أشد النهي حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، وورد نحوه بأسانيد صحيحة من حديث عبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر وغيرهما، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في الصحيح، بل بالغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعظيم قبور المؤمنين حتى أمر من رآه يمشي بينها بنعلين أن يخلعهما احتراماً لقبور المؤمنين.
وبالضرورة نعلم أن القبر إذا بقي دون بناء حوش حوله أو بيت أو قبة عليه فهو بلا شك معرض للمشي فوقه والجلوس عليه وادراس أثره، كما هو مشاهد بالعيان من مرور الناس فوق القبور التي لا بناء عليها. وربما يجهل أن هناك قبراً فيبول ويتغوط فوقه بخلاف القبور المحفوظة بالبناء، كما أننا شاهدنا مرات متعددة من يحفر قبراً في موضع لا يظنه قبراً فيجد فيه جمجمة ميت وعظام يده ورجليه، فمنهم من يحيد عن ذلك الموضع ويحفر في مكان آخر، ومنهم من يحملها فيدفنها في حفرة، ومنهم من يكسره ويرمي بها . وإنما يقع هذا بالقبور التي لا بناء عليها، أما المبنية فهي محفوظة من ذلك طول الدهر ما وجد ذلك البناء عليها. فإذا كان البناء فيه مصلحة المحافظة على حرمة الميت وحفظ حقه وفيه مصلحة الحي بامتثال أمر الشارع وعدم اعتدائه على الحدود، وكونه سبباً موصلاً إلى ذلك، كان مطلوباً لا محالة لأنه سبب موصل إلى المقصود فيكون له حكمه. وجل أحكام الشريعة والفروع التي شرعها الفقهاء ولم يرد بها نص إنما هي من هذا القبيل، أعني مأخوذة من طريق الاستدلال.
الدليل الثالث عشر: مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب.
القاعدة المقررة أيضاً، أن مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو المطلوب، وزيارة القبور مطلوبة. أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها ورغب فيها، وفي زيارة قبره المعظم، فقال في الأول ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة وتزهد في الدنيا))، وقال في قبره الشريف: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي))، وهو حديث صحيح له طرق متعددة أفردها الحفاظ بالتأليف ومنهم التقي السبكي وكتابه مطبوع متداول فلا نطيل بذكر أسانيده وبيان صحته بعد أن بسط ذلك الإمام تقي الدين المذكور، وكذلك رغب صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زيارة قبر الوالدين وزيارة قبر الأصدقاء والسلام عليهم، وذكر الأئمة والأولياء أن لزيارة القبور تأثيرراً عظيماً في تنوير الباطن، لا سيما قبور الأولياء والصالحين، وأن الدعاء عند قبور بعضهم مستجاب كما قال الإمام الشافعي – رضي الله عنه – في قبر موسى الكاظم عليه السلام:- ((إنه الترياق المجرب))، وجرب ذلك آلاف مؤلفة من الخلائق في سائر العصور عند قبر القطب ابن مشيش – رضي الله عنه – في المغرب وقبر القطب البدوي – رضي الله عنه – وقبر السيدة نفيسة – رضي الله عنها – بالقاهرة، وقبور أخرى لغيرهم من أكابر العارفين – رضي الله عنهم – بما إنكاره مكابرة للمحسوس ودفع للمشاهد المعاين الملموس، فلو لم يبن على قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يدخل في المسجد لاندرس كما اندرست قبور إخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين هم مع كثرتهم لا يعرف قبر عشرة، بل ولا خمسة منهم بسبب عدم البناء عليهم، ولم يبق محفوظاً إلا قبر إبراهيم – عليه السلام – ومن معه بسبب البناء أيضاً، ولحرم الناس منفعة زيارته صلى الله عليه وعلى آله وسلم الموجبة لشفاعته لهم ، كما حرموا بركة زيارة غيره من الأنبياء الذي اندرست قبورهم لعدم البناء عليها، فلما كان البناء موصلاً لهذا المطلوب الشرعي كان مطلوباً لا محالة.
وقد احتج العلماء بهذه القاعدة، والتي قبلها في كثير من المسائل الأصولية والفروعية، بل بنوا عليها جل ما شرعوه من الفروع ودونوه من أحكام الفقه وفعلوا ذلك في العقائد الإيمانية فغيروا فيها وبدلوا، بل نقضوا كل ما ورد في القرآن والسنة من صفات لله تعالى وأسمائه وخالفوه صريحاص، بل ألحدوا فيه إلحاداً ظاهراً بفتح باب التأويل الذي هو فرع التكذيب وإيجابه والحكم على من لم يتبعهم فيه بالكفر والضلال والبدعة بدعوى أنه لا يتوصل إلى التنزيه وعدم التشبيه إلا بذلك التأويل الباطل، بل الرد الواضح لكلام الله _ تعالى _ وكلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأدخلوا في الفرائض والسنن وسائر الأحكام مما لم يرد به كتاب ولا سنة ولا أثر ما لو جمع من المذاهب الأربعة لبلغ عدة مجلدات حاوية لآلاف المسائل، بل تجاوزا الحد في ذلك وتوسعوا فيه حتى أدخلوا في الدين ما ليس منه، بل ما تشهد نصوصه بأنه مناقض له فأجازوا للملوك أن يلبسوا الملابس الفاخرة من الحرير والذهب وأن يتخذوا الحرس المتعددة على الأبواب، وكذلك الحجاب والخدم بملابسهم الخاصة المتنوعة وضرب الطبول والموسيقى وأنواع الملاهي على أبوابهم وبين أيديهم عند الخروج روفع الجلوس على رؤوسهم وهو من الحرير المطرز بالذهب وغير ذلك من البدع والمحرمات التي إذا عدت بدار الملك بلغت الألف أو جاوزته، كل هذا أباحوه بدعوى أن ذلك تعظيم هيبتهم في النفوس فيتوصل بها إلى نفوذ الكلمة واحترام السلطنة وكل هذه البدع والمحرمات وأمثالها وأضعافها موجودة بأظهر معانيها وأجل مظاهرها وأفخر ملابسها في دار ابن السعود ملك القرنين وفي إدارته وهيأته وملابسه وحاشيته حتى قال بعض من دخل داره بنجد ورأى ما فيها من الرفاهية المحرمة ما كنا نظن أن ما تقرأه بكتاب ألف ليلة وليلة عن الملك وأبهته موجودة حقيقة حتى رأيناه بدار ابن السعود.
كل هذا يمر أي من شياطين علمائه وبعلمهم وهم الآمرون له بهدم قباب الأولياء والصالحين لأن ذلك بدعة منهي عنها وما يفعلونه هم وملكهم وأبناء ملكهم من المحرمات والموبقات والعظائم التي يستحي من ذكرها ليست بدعة ولا منهيا عنها، وكذلك أجاز الفقهاء نحو هذه الأمور للقاضي فأحدثوا له محكمة خاصة به وجعلوا له أعواناً يقفون بين يديه ويمشون أمامه إذا خرج وخلفه حاجباً يمنع الناس من دخولهم عليه إلا بإذنه في كثير من أمثال هذا مما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا الخلفاء الراشدون ولا الصحابة والتابعون ولا السلف الصالح واستحسنه هؤلاء ثم أوجبوه لحفظ حرمة القاضي وإبقاء هيبته التي بها تنفذ الأحكام في زعمهم الباطل وحصروا الشهود في عدد معين لا تقبل شهادة غيرهم ولو كان نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً، وكان العدل الرسمي شيطاناً مارداً وكافراً ملحداً وأوجبوا سجن من يتظلم من شاهد الزور منهم ويصرح له بأنه شهد عليه زوراً ولو كان أكذب خلق الله وأفسقهم على الإطلاق إبقاء على حرمتهم وعدالتهم التي يتوصل بها إلى حفظ الحقوق، ولو قال بملء فيه أن أبا بكر شهد الزور أو عمر لتعجبوا من مقالته دون أن يحكموا عليه بسجن واخترعوا أو اخترع لهم الشيطان تقييد المقال بدعوى أنه لا يتوصل إلى المطلوب، وهو حفظ مقال الخصوم وعدم رجوعه عنه إلا به، فكان سبباً في إضاعة الحقوق وهلاك المدعين واشترطوا في الخطيب شروطاً مضحكة لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا عمل السلف الصالح بدعوى أن ذلك مما يلقى هيبته في النفوس وإجلاله فتقبل على وعظه وتقبله ولا ترده عليه واستحبوا للعالم أن يلبس العمائم الضخمة والأكمال الواسعة والبرانس والأكسية المعلمة بالحرير الرقيقة الجيدة وغير ذلك من المحرمات والمكروهات بدعوى أن ذلك يتوصل به إلى تميز العالم عن العامي فيعرف حتى يسأل ويستفتي ويحترم ولا يهان ولا يؤذى، وأجازوا ضرب الطبول والنفخ في الزمارة وغيرها من العوائد المحرمة أو المكروهة في شهر رمضان لأنه يتوصل بها إلى معرفة أوقات السحور والإمساك، وأجازوا تزويق المساجد وفرشها بالحصر والزرابي لأنه أدعى للإحترام ولما فيه من مصلحة المصلين، مع أنه ورد النهي بل الوعيد على ذلك كالنهي والوعيد الواردين في اتخاذ المساجد على القبور وبنوا المنارات المطلة على بيوت الناس التي يتكشف المؤذن منها على عوراتهم لأنه لا يمكن إعلام الأباعد عن المسجد وسماعهم الأذان إلا بها ووضعوا فيها العلم الأبيض في سائر الأيام والأسود يوم الجمعة مع ورود النهي عن ذلك لأنه لا يمكن إعلام الأباعد جداً الذي لم يصلهم صوت الأذان إلا بها، وكم لهذا من نظير في سائر أبواب الفقه من عبادات ومعاملات ما أكثره أو كثير منه ليس له من الأسباب المجوزة له عشر ما لمسألة البناء على القبور من الأسباب، ومع هذا تجد الفجرة من المنتسبين إلى العلم يعدونه شرعاً لازماً وديناً منزلاً لعظيم جهلهم الناشئ عن تقليد أحبارهم، وكون ذلك موافقاً لهوى نفوسهم وعوائد بلادهم ؛ والمقصود أن قاعدة مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب من أعظم القواعد الفقهية التي ينبني عليها كثير من الأحكام والمصالح الشرعية، وإن كان الفجار قد يتوصلون بها إلى ما هو مخالف للدين، مناقض له من الأساس، كما هو حال فجرة العلماء وما ابتدعوه لملوكهم ووزرائهم وحكامهم، بل زاد فجرة العصر ففعلوا مثل ذلك مع الكفار المستعمرين نسأل الله اللطف والعافية بمنه.. آمين.
الدليل الرابع عشر: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع على قبر عثمان بن مظعون صخرة عظيمة.
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع على قبر عثمان بن مظعون – رضي الله عنه – صخرة عظيمة، وقال: ((أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي)) رواه أبو داود وابن ماجة وجماعة، فهذا تأسيس لوضع العلامة على القبر وتشريع لها وللمحافظة على القبر لا سيما قبور الصالحين والعلامة لا تنحصر في الصخرة، وإنما وضعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها كانت المتيسرة أمامه ساعة الدفن، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتكلف لشيء، بل يقضي بالموجود في كل شيء من طعام وملبوس ومركوب وغير ذلك.
فإن جازت العلامة على القبر لحفظه من الاندراس فلا فرق بين أن تكون بصخرة أو بغيرها كما أنه إذا جازت الصخرة جاز اثنان وثلاثة وأربعة بحسب ما تدعوه الحاجة إلى إثبات العلامة، وكذلك يجوز ربط تلك الأحجار بعضها ببعض بالطين والجير لئلا تتبعثر وكونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن البناء قد برهنا على أن المراد بالبناء الذي يكون فوق القبر لطمسه لا البناء الذي يكون حول القبر.
الدليل الخامس عشر: ارتفاع قبور الشهداء والصحابة
إن قبور الشهداء والصحابة كانت مرتفعة كما في صحيح البخاري عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان – رضي الله عنه – أن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما وضع عليه صخرة: وكون الشاب لا يستطيع أن يثب عليه إلا إذا كان قوياً شديداً يدل على عظم ارتفاعه وتباعد جانبيه وذلك لا يمكن بالتراب وحده ولا بالصخرة وحدها لوجوه:
أحدها: أن وضع التراب الكثير على القبر الزائد على الخارج منه مكروه.
ثانيها: أنه لا يمكن في العادة أن يبقى التراب الكثير مرتفعاً مجموعاً فوق القبر أزيد من ثلاثين سنة.
ثالثها: أن التراب المجلوب لا يمكن أن يرتفع هذا الارتفاع المشار إليه دون أن يخالطه حجارة وطين، كما أنه لا يمكن أن يدوم هذه المدة الطويلة.. فإنا نرى التراب الذي يجعل على القبر لا يمر عليه سنة أو سنتان حتى يذهب وتنسفه الرياح ويبقى القبر مسوى بالأرض.
رابعها: أن هذا لا يمكن أيضاً بالنسبة للصخرة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند قبره، لأنها وإن كانت كبيرة فهي لا تصل إلى هذا الحد الذي لا يستطيع أن يثب عليها إلا الشاب القوي. لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حملها بيده الكريمة ووضعها عند القبر، وأيضاً لو كان ذلك بالنسبة لها لقال: وإن أشدنا الذي يثب الصخرة التي على قبر عثمان مع أنه عبر بالقبر دون الصخرة فدل على أنه كان مبنياً في زمن الخلفاء الراشدين الذين فهموا من وضع العلامة على قبره الأذن في البناء عليه.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا وكيع عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر، قال رأيت قبر عثمان بن مظعون مرتفعاً، فهذا صريح في أنه كان مبنياً بناء مرتفعاً.
وقال ابن أبي شيبة أيضاً: حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي، قال: أتيت على قبور الشهداء بأحد فإذا هي شاخصة من الأرض والقبور المشخصة بالتراب لايمكن عادة أن تبقى من وقت عزوة أحد في السنة الثالثة إلا زمن التابعين.
خاتمة
فبان من هذه الأدلة جواز البناء على القبر إذا كان دائراً حوله سواء كان بيتاً أو مدرسة أو قبة أو مسجداً وأن الجمع الذي جمعنا به بين هذه الأدلة الدالة على الجواز وأحاديث النهي الدالة على المنع أو الكراهة جمع واجب متعين لنفي التعارض الواقع ظاهراً بين الأدلة وأن بذلك الجمع المؤيد بالدليل والبرهان، ارتفع الإشكال في الباب، وبقي الجواب عن الحديث الذي ذكره السائل أيضاً، وهو حديث علي – رضي الله عنه – وقوله لأبي الهياج أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) وهو من وجوه:
الوجه الأول: إنه خبر متروك الظاهر بالاتفاق لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر وعلى استحباب رفعه قدر شبر، بل عند الحنفية قول بوجوب ذلك.
الوجه الثاني: إنه مخالف للسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة بعده من رفع القبور وتسنيمها ومخالف لقبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي ذكرها حينئذ فلا بد من أحد أمرين: إما أن يكون غير ثابت في نفسه أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد.
الوجه الثالث: وإذا ثبت أنه على غير ظاهره وأنه يجب رده أو تأويله ليتفق مع الأحاديث الأخرى التي هي أقوى منه سنداً ومعنى، فقد أجاب عنه الأئمة والفقهاء كما ذكره غير واحد منهم النووي فقال في شرح المهذب: أجاب عنه أصحابنا قالوا لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأحاديث ا.هـ. أي فيكون حجة للشافعية ومن وافقهم فيما ذهبو إليه من أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، ولئن كان هذا المراد به فهو حجة ظاهرة قوية في تأييد مذهبهم.
الوجه الرابع: وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة – رضي الله عنهم – بدليل ذكر التماثيل معها وإلا فالسنة وعمل الصحابة على خلافه بالنسبة لقبور المسلمين، وقد مر أن قبور الشهداء كانت مرتفعة، وأن قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه – رضي الله عنهما – كانت مرتفعة كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي احتج بها المنتقد، وممن فعل ذلك بها علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – نفسه لأنه كان وقتئذ بالمدينة وهو من أهل الحل والعقد في الأمور. لا يفعل أمر مثل هذا إلا بموافقته ؛ ولو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور لما وافق على رفع قبره وقبر صاحبيه، فكيف يجوز مع هذا أن يأمر أبا الهياج بتسوية القبور، وقد سبق أيضاً أن الحكيم الترمذي روى عن فاطمة – عليها السلام – أنها كانت تأتي قبر حمزة فترمه وتصلحه، وكذلك رواه مسدد في مسنده ونقله عنه ابن عبد البر في التمهيد أنه كانت تتعاهد قبر حمزة – رضي الله عنه – كل سنة وترمه.
وهذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها لم تعش بعده إلا ستة أشهر، كما أنها ما كانت تخرج لذلك إلا بإذن من زوجها على بن أبي طالب وموافقته، فلو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور كما يقول أبو الهياج لما وافق زوجته على ذلك، وأيضاً لو كان عنده أمر بذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما تأخر عن تنفيذه لا سيما في زمن خلافتة وإفضاء الأمر إليه، وقد ثبت في الآثار السابقة وغيرها أن قبور الصحابة والشهداء كانت مرتفعة في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في زمان التابعين، فوجب أن يكون مراد علي – رضي الله عنه – قبور المشركين ولا بد أن يكون الخبر مردوداً، وغير هذا لا يكون أصلاً.
خطأ من يتمسك بالحديث المذكور
وبهذا تعلم خطأ من يتمسك بهذا الحديث ويذهب إلى وجوب تسوية القبور وهدم ما عليها من البناء والقباب كالقرنين الذين فعلوا ذلك بقبور الصحابة والشهداء والصالين بالمدينة ومكة وغيرهما مما احتلوه من البلاد، وأما أرضهم فلم يجعل الله منها ولياً ولا صالحاً منذ ظهور الإسلام إلى وقتنا وإنما جعل بها قرن الشيطان وأتباعه خوارج القرن الثالث عشر وما بعده فليتق الله من يغتر بهم وينصر مذهبهم الفاسد ورأيهم الباطل وضلالهم المنصوص عليه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سماهم كلاب النار وأخبر بأنهم شر من تحت أيم السماء وأنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وأنهم يقولون من خير قول البرية، وهو ما يتمشدون به من التوحيد والعمل بالسنة ومحاربة البدعة وهو والله غرقى في البدعة، بل لا بدعة شر من بدعتهم الواصلة بهم إلى المروق من الدين مروق السهم من الرمية مع اجتهادهم في العبادة والتمسك بالدين ظاهراً، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وصفهم ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم))، ولهذا امتنع صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الدعاء لنجد لما دعا لليمن والشام، فقال: ((اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا))، فقالوا: وفي نجدنا يا رسول الله، فأعاد الدعاء لليمن والشام، فأعادوا قولهم، فقال في المرة الثانية أوالثالثة مبيناً سبب عدم دعائه لنجد: ((هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان)) (1) فلم يظهر منها ممن حصلت به الزلازل والفتن في الدين إلا محمد بن عبد الوهاب الضال المضل فكان هو قرن الشيطان الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وامتنع من الدعاء لنجد من أجله ومن أجل الفتن الصادرة بسبب دعوته الإبليسية التي ما تمسك بها أحد إلا وكفر عياناً وكان خاتمة أمره الإلحاد والمروق من الدين كما هو مشاهد من سائر ملاحدة العصر المشاهير بالإلحاد فإن جميعهم كان ابتداء أمره التمسك بمذهب قرن الشيطان، كما هو معروف لأهل العلم والخبرة والاطلاع..
وهذا ما يسره الله – تعالى - في الجواب عن السؤال.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق