آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص)
آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص)
تتبع الرخص أو اختيار الأيسر: فهو أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل.
وقد حكى الأصوليون في هذه المسألة ثمانية أقوال أذكرها بإجمال ثم أبين أقوى النظريات المقولة فيها.
1 - قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والباقلاني والآمدي: يخير الإنسان بأخذ ماشاء من الأقوال، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل.
2 - أهل الظاهر والحنابلة: يأخذ بالأشد الأغلظ.
4- يبحث عن الأعم من المجتهدين، فيأخذ بقوله.
5 - يأخذ بقول الأول، حكاه الرُّوياني.
6 - يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي.
7 - يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السَّمعاني، ومشى عليه الشاطبي في الموافقات. ،وهذا القول قريب من رأي الكعبي.
8 - إن كان الأمر في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور الماتريدي.
ويمكن القول بوجود آراء ثلاثة في الموضوع هي الأشهر
1 - قال الحنابلة ، والمالكية في الأصح عندهم ، والغزالي : يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، لأنه ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4]،
فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة.
ونقل عن ابن عبد البر: أنه لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً.
وعبارة الحنابلة في ذلك : إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما، لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ماخير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما » وفي لفظ «أرشدهما» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد، والأولى أن يعتبر ـ أي المستفتي ـ القولين ساقطين، لتعارضهما، ويرجع إلى استفتاء آخر.
وعبارة المالكية : الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، بأن يأخذ منها ماهو الأهون فيما يقع من المسائل.
وقيل: لايمتنع. وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص.
والأولى الاحتياط بالخروج من الخلاف بالتزام الأشد الأقوى، فإن من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبدع.
وعبارة الغزالي : ليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي، فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا.
2 - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت : يجوز تتبع رخص المذاهب، لأنه لم يوجد في الشرع مايمنع من ذلك، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بدليل أن سنة الرسول صلّى الله عليه وسلم الفعلية والقولية تقتضي جوازه، فإنه عليه الصلاة والسلام «ماخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثماً» وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يحب ماخفف عن أمته» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة»
وقال أيضاً: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه» .
وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله قد فرض فرائض وسن سننًا وحد حدوداً وأحل حراماً وحرم حلالاً، وشرع الدين فجعله سهلاً سمحاً واسعاً ولم يجعله ضيقاً » .وقال الشعبي: «ماخير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى» .
وقال القرافي في هذه المسألة: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، أي أن شرط جواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق أي ألا يكون موقعاً في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك ويلاحظ أن هذا القيد الذي ذكره القرافي وهو: ( ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم ) لادليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد متأخر، كما قرر الكمال بن الهمام في ( التحرير ). فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ماذهب إليه، كما بينا، جازت مخالفته في بعض ماذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير. ثم قال: وليس هناك دليل من نص أو إجماع يدل على أن الفعل إذا كانت له شروط، فإنه يجب على المقلد أن يتبع مجتهداً واحداً في هذه الشروط التي يتوقف عليها هذا الفعل، ومن ادعى دليلاً على ذلك فعليه الإتيان به.
وأما مانقل عن ابن عبد البر، من أنه «لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، فلا نسلم صحة هذا النقل عنه، ولو سلم فلا يسلم صحة الإجماع، إذ في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتان. وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولامقلد. وقال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إنْ قوي الدليل، أو كان عامياً، لايفسق. وفي روضة النووي حكاية عن ابن أبي هريرة: لايفسق . والخلاصة: أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وماجعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيراً ماقال العلماء: «من قلد عالماً فقد برئ مع الله» «اختلاف العلماء رحمة» وربما قال بعضهم: «حجَّرت واسعاً » إذا التزم العمل بالقول المشهور في جميع تصرفاته.
3 - رأي الشاطبي:
يرى الشاطبي رأي ابن السمعاني : وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد. ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال. وإلا كان متبعاً غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4].
ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب مايترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد:
أولها ـ الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة.
ثانيها ـ الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم.
ثالثها ـ اتباع رخص المذاهب اعتماداً على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذاً بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع ( أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها ). ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير سيَّالاً لاينضبط، وكترك ماهو معلوم إلى ماليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك انضباط معيار العدالة بين الناس وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها.
الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ للدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله
مسألة :فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه , ففي تفسيقه وجهان : قال أبو إسحاق المروزي : يفسق , وقال ابن أبي هريرة : لا , حكاه الحناطي في فتاويه " . [ ص: 382 ] وأطلق الإمام أحمد : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ , وأهل المدينة في السماع , وأهل مكة في المتعة كان فاسقا . وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها , وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد , لإخلاله بغرضه وهو التقليد . فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق , لأنه قلد من يسوغ اجتهاده . وفي " فتاوى النووي " الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص .
وقال في فتاوى له أخرى وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقا من غير تلقط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك . وسئل أيضا : هل يجوز أكل ما ولغ فيه الكلب أو شربه تقليدا لمالك ؟ فأجاب : ليس له أكله ولا شربه إن نقص عن قلتين إذا كان على مذهب من يعتقد نجاسته . انتهى . وفي " أمالي " الشيخ عز الدين : إذا كان في المسألة قولان للعلماء , بالحل والحرمة , كشرب النبيذ - مثلا - فشربه شخص ولم يقلد أبا حنيفة ولا غيره , هل يأثم أم لا ؟ لأن إضافته لمالك والشافعي ليست بأولى من إضافته لأبي حنيفة . وحاصل ما قال إنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف : فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم , وإلا لم يأثم . انتهى .
وعن " الحاوي " للماوردي أن من شرب من النبيذ ما لا يسكر مع علمه باختلاف العلماء ولم يعتقد الإباحة ولا الحظر حد . وفي " فتاوى القاضي حسين " : عامي شافعي لمس امرأة رجل ولم يتوضأ , فقال : عند بعض الأئمة الطهارة بحالها لا تصح صلاته , لأن بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي فلا يجوز له أن يخالف اجتهاده , كما إذا اجتهد في القبلة وأدى اجتهاده إلى جهة وأراد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لا يصح , ولو جوزنا له ذلك لأدى إلى أن يرتكب محظورات المذاهب وشرب المثلث والنكاح بلا ولي ولا سبيل إليه . انتهى .
[ ص: 383 ] وفي " السنن " للبيهقي عن الأوزاعي : من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام . وعنه : يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف , ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن , ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة , ومن قول أهل الكوفة النبيذ , قال : وأخبرنا الحاكم قال أخبرنا أبو الوليد يقول : سمعت ابن سريج يقول : سمعت إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم , فقلت : مصنف هذا زنديق , فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة , ومن أباح المتعة لم يبح المسكر , وما من عالم إلا وله زلة , ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه , فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب . ومن فروع هذه القاعدة : أنه هل يجوز للشافعي - مثلا - أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به ؟ صرح ابن الصباغ بأنه لا يجوز , وهو ظاهر كلام الأصحاب في ( كتاب الأقضية ) .
قالوا : ليس له أن يشهد على خط نفسه , والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف . ويدل عليه تصحيح النووي قبول شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار , وحكى الرافعي فيه وجهين بلا ترجيح . ومنها : أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار هل يجوز له ؟ وفيه وجهان : أصحهما : الحل . وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في ( كتاب الصلاة ) أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم . .
تتبع الرخص عرَّفه "الزركشي" بأنه: (اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه...)(1).
وعرَّفه "الجلال المحلي" بقوله: (أن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل)(2).
وهذه المعاني هي المعنية بهذا البحث، فالمقصود هو تتبُّع رخص العلماء باتِّباع الأسهل من أقوالهم في المسائل العلمية، بحيث لا يكون اتِّباع المكلف لهذه الرُّخص بدافع قوة الدليل وسطوع البراهين، بل الرغبة في اتِّباع الأيسر والأخف، سواء كان ذلك بهوى في النفس أو بقصد التشهي أو الجهل أو لأسباب أخرى سيأتي بيانها في العناصر التالية.
العلاقة بين التلفيق وتتبُّع الرُّخص:
لمسألة التلفيق(3) علاقة وثيقة بتتبُّع الرُّخص، ولذا فإنه يحسن أن نقف عندها، ونبين الفرق بين التلفيق وبين تتبُّع الرُّخص.
فالمقصود بالتلفيق عند العلماء هو: الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفِّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولّد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها أحد(4).
وقد اختلف العلماء في حكمه: فمنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه مطلقًا، والصحيح والله تعالى أعلم التفصيل في ذلك، وهذا هو الذي أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي(5)، وهو جواز التلفيق إلا أنه يكون ممنوعًا في الأحوال التالية:
1ـ إذا أدَّى ذلك إلى الأخذ بالرُّخص الممنوعة، كـ: تلفيق الشاعر "أبو نواس" في أبياته المشهورة، حيث زعم أن الإمام أبا حنيفة النّعمان قد أباح النبيذ، والشافعي قال: النبيذ والخمر شيء واحد، فلفّق من القولين قولاً نتيجته إباحة الخمر(6).
2ـ إذا أدَّى التلفيق إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.
3ـ إذا أدَّى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة(7).
4ـ إذا أدَّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه(8).
5ـ إذا أدَّى إلى حالة مركبة لا يقرُّها أحد من المجتهدين، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود، مقلّدًا الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلّدًا الإمام مالكًا في رواية له في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج.
فهذا الزواج غير صحيح؛ لأنه لا يجيزه الإمام أبو حنيفة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقة؛ لأنه تولّد منه قول آخر مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضًا؛ لأنه مخالف للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، ولأن الأصل في الأبضاع (الفروج) التحريم، ولا شك أن فيه تلاعبًا بالشريعة وخروجًا عن مقاصدها (9).
وبعد أن تبين لنا مفهوم التلفيق وحكمه نستطيع أن نبين الفرق بين التلفيق الممنوع وتتبُّع الرُّخص، فبينهما فروق من نواحي عديدة، منها (10):
1ـ أن التلفيق جمع بين أقوال العلماء وتصرف فيها بقول لا يصححه أحد من المجتهدين، وقد ينتج عن ذلك إحداث قول جديد في المسألة لم يقل به مجتهد، بينما الأخذ بالرُّخص ليس فيه إحداث قول جديد، وإنما يأخذ برخصة قالها أحد العلماء.
2ـ أن التلفيق قد يؤدي إلى مخالفة إجماع العلماء؛ بخلاف تتبُّع الرُّخص، فإنه يكون بأخذ قول أحد من العلماء.
حكم الأخذ بالرُّخص:
ويأتي على نوعين:
الأول: حكم الأخذ بالرُّخص الشرعية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
الثاني: حكم الأخذ برخص الفقهاء والعلماء التي من آرائهم واجتهاداتهم المخالفة للأدلة.
فإذا كان الأخذ والعمل برخص الشارع فإن جمهور العلماء(11) يرون أن الرُّخصة الشرعية تأتي على أنواع، منها(12):
ـ الرُّخصة الواجبة: كأكل الميتة للمضطر.
ـ الرُّخصة المندوبة: كالقصر في الصلاة في السفر إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
ـ الرُّخصة المباحة: كالسَّلَم (13)، والتكلّم بكلمة الكفر عند الإكراه مع طمأنينة القلب.
قال في شرح مختصر الروضة: (والرُّخصة قد تجب، كأكل الميتة عند الضرورة، وقد لا تجب ككلمة الكفر)(14)
ـ الرُّخصة التي على خلاف الأولى: ومثّلوا لها بفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم؛ لقوله تعالى : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184].
أما بالنسبة إلى النوع الآخر وهو حكم أخذ المكلّف برخص العلماء وزلاتهم والانتقاء من أقوالهم الأيسر والأخف في بعض أقوالهم المخالفة للأدلة النقلية الصحيحة، فهو مما نقل تحريمه بالإجماع كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم كابن حزم وابن عبد البر والباجي وابن الصلاح وغيرهم (15).
ولأجل هذا فقد جاءت عبارات العلماء شديدة في النهي عن فعل ذلك ومشنعة على من فعلها، مثل: قول الإمام الأوزاعي: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام)(16).
وقول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)(17)، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبين مدى خطورة العمل بهذه الرُّخص التي يؤدِّي العمل بها إلى آثار ونتائج معارضة لأصل الشريعة كما سنبينه في العنصر التالي، علمًا أن هذا الحكم خاص فيمن تتبَّع الرُّخص لمجرّد اتِّباع الهوى، أو بحث عن الحكم الأسهل، أو حاول الإعراض أو التجاهل للأدلة، أما إذا كان غير ذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الأخذ بالرُّخص بمراعاة الضوابط الشرعية التالية (18):
1ـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا ولم توصف بأنها من شواذّ الأقوال.
2ـ أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرُّخصة؛ دفعًا للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أو خاصة أو فردية.
3ـ أن يكون الآخذ بالرُّخصة ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
4ـ أن لا يترتّب على الأخذ بالرُّخص الوقوع في التلفيق الممنوع.
5ـ أن لا يكون الأخذ بالرُّخص ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
6ـ أن تطمئنَّ نفس المترخص للأخذ بالرُّخصة.
إشارة وتنبيه :
أوضح بعض العلماء كابن الصلاح والنووي وابن القيم وغيرهم (19)، أن من صح مقصده، واحتسب في تطلّب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجرّ إلى مفسدة للتخلّص مثلاً من ورطة يمين ونحوها، وهو ثقة، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف، كقول سفيان: (إن العلم عندنا الرُّخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد).
قال ابن الصلاح: (وهذا خارج على الشرط الذي ذكرناه، فلا يفرحن به من يفتي بالحيل الجارة إلى المفاسد) (20).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع :
(1) البحر المحيط (8/381).
(2) شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني (2/400).
(3) للتوسّع في هذه المسألة ينظر: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني، وهو مطبوع في مجلد، طبعة المكتب الإسلامية.
(4) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص91 وما بعدها.
(5) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص159، 160، وينظر: مجلة المجتمع، ع8 (1/41)، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص121، 122، فيض القدير (1/273).
(6) حيث يقول:
أباح العراقي النبيذ وشربه * * * وقال: حرامان المداومة والسكرُ
وقال الحجازي: الشرابان واحد * * * فحلَلت لنا من بين قوليهما الخمرُ
سآخذ من قوليهما طرفيهما * * * وأشربها لا فارق الوازر الوزرُ
ينظر: كتاب زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري، ص75، 76.
(7) ينظر أمثلة على ذلك في: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص121، 122.
(8) المرجع نفسه.
(9) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص121، 122، وينظر: كتاب الدرر البهية في الرخص الشرعية للصلابي ص91.
(10) ينظر: حاشية العطار على شرح المحلي (2/442)، وإعانة الطالبين (4/271)، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (159، 160)، ومجلة المجتمع، ع8، (1/41).
(11) المالكية والشافعية والحنابلة خلافًا للحنفية.
(12) ينظر: الدرر البهي في الرخص الشرعية للصلابي ص29.
(13) السَّلم: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويسمى سلمًا وسلفًا. وصورته: أن يقول رجل لرجل آخر فلاح ـ مثلاً ـ: خذ هذه عشرة آلاف ريال حاضرة بمائة صاع من التمر نوعه كذا تحل بعد سنة، فهذا هو السَّلم لأن المشتري قدّم سلمًا والمُسْلَم مؤخر. ينظر: المغني مع الشرح الكبير (4/338).
(14) شرح مختصر الروضة للطوفي (1/465).
(15) مراتب الإجماع ص58، وجامع بيان العلم (2/91)، وينظر: الموافقات للشاطبي مع الحاشية (5/82)، وأدب المفتي والمستفتي ص125.
(16) سير أعلام النبلاء (7/126).
(17) حلية الأولياء (3/32)، جامع بيان العلم وفضله (2/122).
(18) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص(159، 160)، ومجلة المجتمع، ع8، (1/41).
(19) أدب المفتي والمستفتي ص111، 112، وإعلام الموقعين (4/195)، والمجموع (1/46).
(20) أدب المفتي والمستفتي ص112.
تتبع الرخص أو اختيار الأيسر: فهو أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل.
وقد حكى الأصوليون في هذه المسألة ثمانية أقوال أذكرها بإجمال ثم أبين أقوى النظريات المقولة فيها.
1 - قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والباقلاني والآمدي: يخير الإنسان بأخذ ماشاء من الأقوال، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل.
2 - أهل الظاهر والحنابلة: يأخذ بالأشد الأغلظ.
4- يبحث عن الأعم من المجتهدين، فيأخذ بقوله.
5 - يأخذ بقول الأول، حكاه الرُّوياني.
6 - يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي.
7 - يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السَّمعاني، ومشى عليه الشاطبي في الموافقات. ،وهذا القول قريب من رأي الكعبي.
8 - إن كان الأمر في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور الماتريدي.
ويمكن القول بوجود آراء ثلاثة في الموضوع هي الأشهر
1 - قال الحنابلة ، والمالكية في الأصح عندهم ، والغزالي : يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، لأنه ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4]،
فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة.
ونقل عن ابن عبد البر: أنه لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً.
وعبارة الحنابلة في ذلك : إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما، لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ماخير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما » وفي لفظ «أرشدهما» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد، والأولى أن يعتبر ـ أي المستفتي ـ القولين ساقطين، لتعارضهما، ويرجع إلى استفتاء آخر.
وعبارة المالكية : الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، بأن يأخذ منها ماهو الأهون فيما يقع من المسائل.
وقيل: لايمتنع. وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص.
والأولى الاحتياط بالخروج من الخلاف بالتزام الأشد الأقوى، فإن من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبدع.
وعبارة الغزالي : ليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي، فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا.
2 - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت : يجوز تتبع رخص المذاهب، لأنه لم يوجد في الشرع مايمنع من ذلك، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بدليل أن سنة الرسول صلّى الله عليه وسلم الفعلية والقولية تقتضي جوازه، فإنه عليه الصلاة والسلام «ماخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثماً» وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يحب ماخفف عن أمته» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة»
وقال أيضاً: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه» .
وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله قد فرض فرائض وسن سننًا وحد حدوداً وأحل حراماً وحرم حلالاً، وشرع الدين فجعله سهلاً سمحاً واسعاً ولم يجعله ضيقاً » .وقال الشعبي: «ماخير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى» .
وقال القرافي في هذه المسألة: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، أي أن شرط جواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق أي ألا يكون موقعاً في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك ويلاحظ أن هذا القيد الذي ذكره القرافي وهو: ( ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم ) لادليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد متأخر، كما قرر الكمال بن الهمام في ( التحرير ). فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ماذهب إليه، كما بينا، جازت مخالفته في بعض ماذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير. ثم قال: وليس هناك دليل من نص أو إجماع يدل على أن الفعل إذا كانت له شروط، فإنه يجب على المقلد أن يتبع مجتهداً واحداً في هذه الشروط التي يتوقف عليها هذا الفعل، ومن ادعى دليلاً على ذلك فعليه الإتيان به.
وأما مانقل عن ابن عبد البر، من أنه «لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، فلا نسلم صحة هذا النقل عنه، ولو سلم فلا يسلم صحة الإجماع، إذ في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتان. وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولامقلد. وقال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إنْ قوي الدليل، أو كان عامياً، لايفسق. وفي روضة النووي حكاية عن ابن أبي هريرة: لايفسق . والخلاصة: أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وماجعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيراً ماقال العلماء: «من قلد عالماً فقد برئ مع الله» «اختلاف العلماء رحمة» وربما قال بعضهم: «حجَّرت واسعاً » إذا التزم العمل بالقول المشهور في جميع تصرفاته.
3 - رأي الشاطبي:
يرى الشاطبي رأي ابن السمعاني : وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد. ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال. وإلا كان متبعاً غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4].
ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب مايترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد:
أولها ـ الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة.
ثانيها ـ الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم.
ثالثها ـ اتباع رخص المذاهب اعتماداً على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذاً بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع ( أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها ). ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير سيَّالاً لاينضبط، وكترك ماهو معلوم إلى ماليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك انضباط معيار العدالة بين الناس وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها.
الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ للدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله
مسألة :فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه , ففي تفسيقه وجهان : قال أبو إسحاق المروزي : يفسق , وقال ابن أبي هريرة : لا , حكاه الحناطي في فتاويه " . [ ص: 382 ] وأطلق الإمام أحمد : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ , وأهل المدينة في السماع , وأهل مكة في المتعة كان فاسقا . وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها , وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد , لإخلاله بغرضه وهو التقليد . فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق , لأنه قلد من يسوغ اجتهاده . وفي " فتاوى النووي " الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص .
وقال في فتاوى له أخرى وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقا من غير تلقط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك . وسئل أيضا : هل يجوز أكل ما ولغ فيه الكلب أو شربه تقليدا لمالك ؟ فأجاب : ليس له أكله ولا شربه إن نقص عن قلتين إذا كان على مذهب من يعتقد نجاسته . انتهى . وفي " أمالي " الشيخ عز الدين : إذا كان في المسألة قولان للعلماء , بالحل والحرمة , كشرب النبيذ - مثلا - فشربه شخص ولم يقلد أبا حنيفة ولا غيره , هل يأثم أم لا ؟ لأن إضافته لمالك والشافعي ليست بأولى من إضافته لأبي حنيفة . وحاصل ما قال إنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف : فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم , وإلا لم يأثم . انتهى .
وعن " الحاوي " للماوردي أن من شرب من النبيذ ما لا يسكر مع علمه باختلاف العلماء ولم يعتقد الإباحة ولا الحظر حد . وفي " فتاوى القاضي حسين " : عامي شافعي لمس امرأة رجل ولم يتوضأ , فقال : عند بعض الأئمة الطهارة بحالها لا تصح صلاته , لأن بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي فلا يجوز له أن يخالف اجتهاده , كما إذا اجتهد في القبلة وأدى اجتهاده إلى جهة وأراد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لا يصح , ولو جوزنا له ذلك لأدى إلى أن يرتكب محظورات المذاهب وشرب المثلث والنكاح بلا ولي ولا سبيل إليه . انتهى .
[ ص: 383 ] وفي " السنن " للبيهقي عن الأوزاعي : من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام . وعنه : يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف , ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن , ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة , ومن قول أهل الكوفة النبيذ , قال : وأخبرنا الحاكم قال أخبرنا أبو الوليد يقول : سمعت ابن سريج يقول : سمعت إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم , فقلت : مصنف هذا زنديق , فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة , ومن أباح المتعة لم يبح المسكر , وما من عالم إلا وله زلة , ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه , فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب . ومن فروع هذه القاعدة : أنه هل يجوز للشافعي - مثلا - أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به ؟ صرح ابن الصباغ بأنه لا يجوز , وهو ظاهر كلام الأصحاب في ( كتاب الأقضية ) .
قالوا : ليس له أن يشهد على خط نفسه , والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف . ويدل عليه تصحيح النووي قبول شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار , وحكى الرافعي فيه وجهين بلا ترجيح . ومنها : أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار هل يجوز له ؟ وفيه وجهان : أصحهما : الحل . وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في ( كتاب الصلاة ) أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم . .
تتبع الرخص عرَّفه "الزركشي" بأنه: (اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه...)(1).
وعرَّفه "الجلال المحلي" بقوله: (أن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل)(2).
وهذه المعاني هي المعنية بهذا البحث، فالمقصود هو تتبُّع رخص العلماء باتِّباع الأسهل من أقوالهم في المسائل العلمية، بحيث لا يكون اتِّباع المكلف لهذه الرُّخص بدافع قوة الدليل وسطوع البراهين، بل الرغبة في اتِّباع الأيسر والأخف، سواء كان ذلك بهوى في النفس أو بقصد التشهي أو الجهل أو لأسباب أخرى سيأتي بيانها في العناصر التالية.
العلاقة بين التلفيق وتتبُّع الرُّخص:
لمسألة التلفيق(3) علاقة وثيقة بتتبُّع الرُّخص، ولذا فإنه يحسن أن نقف عندها، ونبين الفرق بين التلفيق وبين تتبُّع الرُّخص.
فالمقصود بالتلفيق عند العلماء هو: الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفِّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولّد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها أحد(4).
وقد اختلف العلماء في حكمه: فمنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه مطلقًا، والصحيح والله تعالى أعلم التفصيل في ذلك، وهذا هو الذي أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي(5)، وهو جواز التلفيق إلا أنه يكون ممنوعًا في الأحوال التالية:
1ـ إذا أدَّى ذلك إلى الأخذ بالرُّخص الممنوعة، كـ: تلفيق الشاعر "أبو نواس" في أبياته المشهورة، حيث زعم أن الإمام أبا حنيفة النّعمان قد أباح النبيذ، والشافعي قال: النبيذ والخمر شيء واحد، فلفّق من القولين قولاً نتيجته إباحة الخمر(6).
2ـ إذا أدَّى التلفيق إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.
3ـ إذا أدَّى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة(7).
4ـ إذا أدَّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه(8).
5ـ إذا أدَّى إلى حالة مركبة لا يقرُّها أحد من المجتهدين، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود، مقلّدًا الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلّدًا الإمام مالكًا في رواية له في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج.
فهذا الزواج غير صحيح؛ لأنه لا يجيزه الإمام أبو حنيفة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقة؛ لأنه تولّد منه قول آخر مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضًا؛ لأنه مخالف للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، ولأن الأصل في الأبضاع (الفروج) التحريم، ولا شك أن فيه تلاعبًا بالشريعة وخروجًا عن مقاصدها (9).
وبعد أن تبين لنا مفهوم التلفيق وحكمه نستطيع أن نبين الفرق بين التلفيق الممنوع وتتبُّع الرُّخص، فبينهما فروق من نواحي عديدة، منها (10):
1ـ أن التلفيق جمع بين أقوال العلماء وتصرف فيها بقول لا يصححه أحد من المجتهدين، وقد ينتج عن ذلك إحداث قول جديد في المسألة لم يقل به مجتهد، بينما الأخذ بالرُّخص ليس فيه إحداث قول جديد، وإنما يأخذ برخصة قالها أحد العلماء.
2ـ أن التلفيق قد يؤدي إلى مخالفة إجماع العلماء؛ بخلاف تتبُّع الرُّخص، فإنه يكون بأخذ قول أحد من العلماء.
حكم الأخذ بالرُّخص:
ويأتي على نوعين:
الأول: حكم الأخذ بالرُّخص الشرعية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
الثاني: حكم الأخذ برخص الفقهاء والعلماء التي من آرائهم واجتهاداتهم المخالفة للأدلة.
فإذا كان الأخذ والعمل برخص الشارع فإن جمهور العلماء(11) يرون أن الرُّخصة الشرعية تأتي على أنواع، منها(12):
ـ الرُّخصة الواجبة: كأكل الميتة للمضطر.
ـ الرُّخصة المندوبة: كالقصر في الصلاة في السفر إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
ـ الرُّخصة المباحة: كالسَّلَم (13)، والتكلّم بكلمة الكفر عند الإكراه مع طمأنينة القلب.
قال في شرح مختصر الروضة: (والرُّخصة قد تجب، كأكل الميتة عند الضرورة، وقد لا تجب ككلمة الكفر)(14)
ـ الرُّخصة التي على خلاف الأولى: ومثّلوا لها بفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم؛ لقوله تعالى : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184].
أما بالنسبة إلى النوع الآخر وهو حكم أخذ المكلّف برخص العلماء وزلاتهم والانتقاء من أقوالهم الأيسر والأخف في بعض أقوالهم المخالفة للأدلة النقلية الصحيحة، فهو مما نقل تحريمه بالإجماع كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم كابن حزم وابن عبد البر والباجي وابن الصلاح وغيرهم (15).
ولأجل هذا فقد جاءت عبارات العلماء شديدة في النهي عن فعل ذلك ومشنعة على من فعلها، مثل: قول الإمام الأوزاعي: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام)(16).
وقول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)(17)، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبين مدى خطورة العمل بهذه الرُّخص التي يؤدِّي العمل بها إلى آثار ونتائج معارضة لأصل الشريعة كما سنبينه في العنصر التالي، علمًا أن هذا الحكم خاص فيمن تتبَّع الرُّخص لمجرّد اتِّباع الهوى، أو بحث عن الحكم الأسهل، أو حاول الإعراض أو التجاهل للأدلة، أما إذا كان غير ذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الأخذ بالرُّخص بمراعاة الضوابط الشرعية التالية (18):
1ـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا ولم توصف بأنها من شواذّ الأقوال.
2ـ أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرُّخصة؛ دفعًا للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أو خاصة أو فردية.
3ـ أن يكون الآخذ بالرُّخصة ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
4ـ أن لا يترتّب على الأخذ بالرُّخص الوقوع في التلفيق الممنوع.
5ـ أن لا يكون الأخذ بالرُّخص ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
6ـ أن تطمئنَّ نفس المترخص للأخذ بالرُّخصة.
إشارة وتنبيه :
أوضح بعض العلماء كابن الصلاح والنووي وابن القيم وغيرهم (19)، أن من صح مقصده، واحتسب في تطلّب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجرّ إلى مفسدة للتخلّص مثلاً من ورطة يمين ونحوها، وهو ثقة، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف، كقول سفيان: (إن العلم عندنا الرُّخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد).
قال ابن الصلاح: (وهذا خارج على الشرط الذي ذكرناه، فلا يفرحن به من يفتي بالحيل الجارة إلى المفاسد) (20).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع :
(1) البحر المحيط (8/381).
(2) شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني (2/400).
(3) للتوسّع في هذه المسألة ينظر: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني، وهو مطبوع في مجلد، طبعة المكتب الإسلامية.
(4) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص91 وما بعدها.
(5) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص159، 160، وينظر: مجلة المجتمع، ع8 (1/41)، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص121، 122، فيض القدير (1/273).
(6) حيث يقول:
أباح العراقي النبيذ وشربه * * * وقال: حرامان المداومة والسكرُ
وقال الحجازي: الشرابان واحد * * * فحلَلت لنا من بين قوليهما الخمرُ
سآخذ من قوليهما طرفيهما * * * وأشربها لا فارق الوازر الوزرُ
ينظر: كتاب زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري، ص75، 76.
(7) ينظر أمثلة على ذلك في: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص121، 122.
(8) المرجع نفسه.
(9) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص121، 122، وينظر: كتاب الدرر البهية في الرخص الشرعية للصلابي ص91.
(10) ينظر: حاشية العطار على شرح المحلي (2/442)، وإعانة الطالبين (4/271)، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (159، 160)، ومجلة المجتمع، ع8، (1/41).
(11) المالكية والشافعية والحنابلة خلافًا للحنفية.
(12) ينظر: الدرر البهي في الرخص الشرعية للصلابي ص29.
(13) السَّلم: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويسمى سلمًا وسلفًا. وصورته: أن يقول رجل لرجل آخر فلاح ـ مثلاً ـ: خذ هذه عشرة آلاف ريال حاضرة بمائة صاع من التمر نوعه كذا تحل بعد سنة، فهذا هو السَّلم لأن المشتري قدّم سلمًا والمُسْلَم مؤخر. ينظر: المغني مع الشرح الكبير (4/338).
(14) شرح مختصر الروضة للطوفي (1/465).
(15) مراتب الإجماع ص58، وجامع بيان العلم (2/91)، وينظر: الموافقات للشاطبي مع الحاشية (5/82)، وأدب المفتي والمستفتي ص125.
(16) سير أعلام النبلاء (7/126).
(17) حلية الأولياء (3/32)، جامع بيان العلم وفضله (2/122).
(18) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص(159، 160)، ومجلة المجتمع، ع8، (1/41).
(19) أدب المفتي والمستفتي ص111، 112، وإعلام الموقعين (4/195)، والمجموع (1/46).
(20) أدب المفتي والمستفتي ص112.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق